مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وأمّا في العبادات فإن كان الشك في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر ، فيمكن جريان الأصل المذكور أيضا ، لكنّه ليس على إطلاقه.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في مطابقة الأمر تارة بواسطة الشك في وجود الأمر رأسا ، واخرى بواسطة الشكّ في كون المشكوك فيه من أفراد المأمور به ، فتارة بواسطة إجمال المفهوم ، واخرى بواسطة الشك في تعميم المأمور به للفرد المشكوك فيه.

فعلى الأوّل ، لا شكّ في جريان الأصل المذكور ، لأنّ الشكّ في وجود الأمر ، والأصل عدمه ، وعدم الأمر ـ ولو بالأصل ـ يكفي في فساد العبادة ، لأنّ صحّتها موقوفة على العلم بالأمر ، فإنّها (١) عبارة عن موافقة الأمر بالفرض.

وعلى الثالث ، فالأصل أيضا يقضي بالفساد ، إذ مرجع الشك إلى أنّ طبيعة المأمور به هل تعمّ المشكوك أم لا؟ وهذا وإن كان لا يجري فيه الأصل ، إلاّ أنّ الأصل عدم حصول الامتثال به ، كما هو الشأن في كلّ مقام لا يجري في نفسه الأصل بواسطة التعارض ، فإنّه يرجع إلى أصل ثالث لازم لأحد المتعارضين ، كما قرّر في محلّه.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يعلم من ذلك المفهوم المجمل شيء معلوم ، أو لا يعلم ، وعلى الأخير لا بدّ من الأخذ بالبراءة أو الاشتغال ، على الخلاف. وعلى الأوّل فلا بدّ من إتيان ذلك المعلوم إجمالا كما عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة في شيء من العبادات كالصلاة ـ مثلا ـ بناء على ما هو التحقيق من البراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة. فالقول بذلك مع حسبان أنّ الأصل عند الشكّ في موافقة العبادة للأمر الفساد بأقسامها ـ كما رآه المحقّق القمّي رحمه‌الله (٢) ـ تناقض صرف. اللهم إلاّ

__________________

(١) في ( ع ) : فإنّ صحّة العبادة.

(٢) القوانين ١ : ١٥٥.

٧٤١

أن يقال : إنّ أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه أصل بها تثبت الصحّة ولا ينافي الفساد لو لا أصالة البراءة.

وبيانه : أنّ الشكّ في تعلّق الأمر بالصلاة بدون السورة إنّما هو بواسطة الشكّ في وجوب السورة ، فأصالة عدم تعلّق الأمر بهذه الصلاة تنقطع بإعمال أصالة البراءة في السورة ، فلذلك يجب الإتيان بالصلاة بدون السورة ، لارتفاع الشكّ بطريق شرعي ظاهري.

وإن كان الشكّ في صحّة العبادة بمعنى إسقاطها القضاء (١) فإن كان الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الأمر بأقسامه فقد مرّ الكلام فيه.

وإن كان الشكّ فيه بعد إحراز الأمر ، فإن قلنا بأنّ التفسيرين متلازمان وليس تفسير الفقهاء بأخصّ من تفسير المتكلّمين ، فيكون الشكّ في مسألة الإجزاء ، فلا وجه لأصالة الفساد في المقام ، سواء اخذ الأمر فيهما واقعيّين أو ظاهريّين ، وذلك ظاهر في الغاية ، فإنّ الأمر الظاهري أيضا يفيد الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الظاهري ، ولا يجب الإعادة بالطهارة المستصحبة قطعا. نعم ، للأصل المذكور وجه على القول بعدم الإجزاء.

وإن قلنا بأخصّية تفسير الفقهاء بأن (٢) قلنا بأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، فقد عرفت في مسألة الإجزاء أنّ الأصل يقضي بالإعادة لو كان الشكّ فيها بعد كشف الخلاف ، لعدم إفادة الأمر الظاهري الإجزاء ـ فلأصالة الفساد وجه. وأمّا لو كان الشكّ في القضاء ، فيحتمل القول بعدم وجوبه ، لاحتمال التدارك.

والفرق بين الإعادة والقضاء : أنّ الإعادة مطابقة للأصل لكونها ثابتة

__________________

(١) عطف على قوله : « فإن كان الشكّ في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر » في الصفحة السابقة.

(٢) « بأن » من هامش ( ط ).

٧٤٢

بمقتضى الأمر ، بخلاف القضاء فإنّه تكليف مستقلّ ، والأصل عدمه. ويحتمل القول بوجوبه أيضا ؛ لأنّ القضاء مترتّب على صدق « الفوات » وهو أمر عدميّ مطابق للأصل ؛ لأنّ الأصل عدم الإتيان بما هو الواقع.

وكيف كان ، فأصالة الفساد فيما لو كان الشكّ في الصحّة بمعنى إسقاط القضاء على إطلاقها ليس على ما ينبغي. إلاّ أن يقال : إنّ مقصود المحقّق أيضا ليس على إطلاقها. فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بحسب الأصل الأوّلي مع قطع النظر عمّا يقضى بخلافه. وأمّا بعد ملاحظة الأدلّة الواردة في جزئيّات الموارد أو أصنافها أو أنواعها أو غير ذلك ، فلا مجال للحصر في شيء ، كما لا يخفى على الفطن.

السابع : أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة ، أو جزءها ، أو وصفها الداخلي أو الخارجي ، مع اتّحادهما في الوجود أو مع اختلافهما فيه (١).

ولا ينبغي الإشكال في خروج القسم الأخير عن محلّ الكلام ، كقولك : « لا تنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة » والوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّ المستفاد من هذا النهي إمّا إراءة الطريق إلى ما هو الواقع من عدم تحقّق الصلاة بدون الترك المذكور ، فيكون دلالته على الفساد ممّا لا يكاد يخفى على أحد. وإن استفيد منه الحرمة الذاتيّة من دون تعلّق النظر بالصلاة ، فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد ، فتعلّق النهي بأمر خارج عن الماهيّة مع عدم الاتّحاد بين المأمور به والمنهيّ عنه وإن كان زمان النهي زمان الصلاة غير قابل للنزاع ، فإنّه على وجه لا ينكر اقتضاؤه الفساد ، كما في الأوامر المتعلّقة بالأجزاء أو الموانع ، وعلى وجه لا يتوهّم (٢) اقتضاؤه الفساد.

__________________

(١) في ( ط ) : مع اتّحادهما أو مع اختلافهما في الوجود الخارجي.

(٢) في ( ع ) : لا يتوجّه.

٧٤٣

وأمّا الأقسام الأخر ، فالكلّ يحتمل وقوع النزاع فيها.

أمّا الأوّل : فكالصلاة في زمان الحيض ، وهو مبنيّ على كون الصلاة منهيّا عنها مطلقا في ذلك الزمان ، وأمّا لو جعلناها منهيّا عنها باعتبار وقوعها في ذلك فهي من المنهيّ عنها لوصفها.

وقد يمثّل للمنهيّ عنه لنفسه في المعاملة بأمثلة كثيرة (١) ، كبيع الخمر والخنزير وبيع السفيه ونكاح الخامسة ، ولا سبيل إلى العلم بكونها منه ، لاحتمال أن يكون المعاملات فيها ملحوظة باعتبارات خاصّة ، فيكون من المنهيّ عنه لوصفه.

وأمّا الثاني : ففي العبادة قد يمثّل له بمثل قولك : « لا تصلّ الصلاة المشتملة على العزائم » أو قولك : « لا تقرأ العزائم » بناء على أنّ نهي الجزء يلازم النهي عن الكلّ ، ولا يلزم منه حرمة الشروع نظرا إلى أنّ الكلّ محرّم حينئذ ؛ لأنّ متعلّق النهي هو المجموع ، فإيجاد الجميع حرام ، وهو لا يصدق مع الشروع. مع أنّ التزام حرمة الشروع فيما لو قصد من أوّل الأمر قراءة العزائم غير بعيد ، لأنّ هذه الصلاة المفروضة غير مشروعة ، فيكون الشروع فيها محرّما على الوجه المذكور.

وأمّا في المعاملة فقد مثّل لها في القوانين ببيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول الناقلين ، فإنّ هذه المعاملة منهيّ عنها باعتبار جزئها وهو إيجاب الغاصب (٢).

وفيه أولا : أنّه لا دليل على حرمة الإيجاب من الغاصب ، فإنّ ذلك لا يعدّ تصرّفا في مال الغير كما قرّرنا في الفضولي ، وإن كان بينهما فرق من جهة توقّع لحوق الإجازة في الفضولي واستقلال الغاصب بالإيجاب في المقام ، إلاّ أنّه لم يعلم تأثير له في هذا المقام.

__________________

(١) لم يرد « كثيرة » في ( ط ).

(٢) القوانين ١ : ١٥٦.

٧٤٤

وثانيا : سلّمنا حرمة الإيجاب ، لكنّه لا يوجب النهي عن المعاملة المركّبة من الإيجاب الصادر من الغاصب والقبول الصادر عن الجاهل ، كيف! وهو جاهل لا يعقل الحرمة في حقّه. وتعلّق النهي بالجزء إنّما يسري إلى الكلّ فيما إذا كان الكلّ متعلّقا بعمل شخص واحد ، وأمّا إذا كان الجزء الآخر فعلا لغيره فلا وجه للحرمة. اللهم إلاّ أن يفرض الغاصب متولّيا لطرفي العقد مع لحوق الإجازة بعد تحقّق الإيجاب.

وأمّا بناء على القول بأنّه النقل (١) ، فقال في القوانين : إنّ الأمثلة كثيرة واضحة (٢).

وفيه ـ كما نبّه عليه بعضهم (٣) ـ : أنّ الكثرة والوضوح ربما توجب خفاء الأمر وعدم الاطّلاع ، وإلاّ فنحن لم نقف له على مثال واحد.

وربما يمثّل بصفقة واحدة مشتملة على بيع ما يملك وما لا يملك ، إلاّ أنّه أيضا لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، لأنّ النقل أمر بسيط لا يعقل التجزئة فيه وكونه حراما بواسطة جزئه وإن كان المنقول مركّبا.

وأمّا الثالث : فهو المنهيّ عنه لوصفه الداخل في (٤) العبادات ، فكالنهي عن الصلاة اللازم من النهي عن الإخفات في موارد الجهر أو العكس ، فإنّ الجهر والإخفات من الأوصاف الداخليّة للقراءة حتّى كأنّهما من الفصول المقوّمة لأنواع القراءة على وجه لا يتصوّر انفكاك القراءة من أحدهما. وفي المعاملة كبيع الربوي مثلا.

__________________

(١) عطف على قوله : « على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول » في الصفحة السابقة.

(٢) القوانين ١ : ١٥٦.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) في ( ع ) : من.

٧٤٥

وأمّا الرابع : وهو المنهيّ عنه لوصفه الخارجي ، فكالنهي عن الصلاة باعتبار الغصب. وفي المعاملة كالنهي عن البيع باعتبار تفويت الجمعة. وليس ذلك من موارد اجتماع الصلاة والغصب الغير الملحوظ في الصلاة بوجه ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تغصب » واتّفق اجتماعهما في فرد واحد ، فإنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بالصلاة باعتبار وصفه (١) الخارج المفارق المتّحد له (٢) في الوجود.

وهذا هو الوجه في إفرادنا الوصف الداخلي عن الوصف الخارجي بالذكر ، حيث إنّه لا يمكن إيجاد الجهر والإخفات في ضمن غير الصوت ، بخلاف الغصب فإنّه على تقدير تعلّق النهي به يمكن إيجاده في ضمن غير الصلاة ، فيلاحظ.

وقد يذكر ـ زيادة على الأقسام المذكورة ـ المنهيّ عنه لشرطه ، وهو يحتمل وجهين ، أحدهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار فقد الشرط ، كالنهي عن الصلاة باعتبار فقد الطهارة ، وثانيهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار حرمة الشرط ، وشيء من الوجهين لا يصلح أن يكون موردا للنزاع.

أمّا الأول : فلأنّ الفساد فيما لا يوجد في العبادة أو المعاملة شرطهما إجماعيّ لا يكاد يخفى على أحد كما هو قضيّة الاشتراط ، فإنّ ارتفاع المشروط عند ارتفاع الشرط من القضايا المعروفة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشرط تارة يكون متّحد الوجود مع المشروط ، أو لا يكون ، فعلى الأوّل حرمة الشرط تسري إلى حرمة المشروط وتوجب فساده ، إلاّ أنّه ليس قسما خارجا عن الأقسام المتقدّمة ، لرجوعه إلى المنهيّ عنه لوصفه المتّحد

__________________

(١ و ٢) كذا في النسخ ، والمناسب تأنيث الضميرين ؛ لرجوعهما إلى الصلاة.

٧٤٦

معه في الوجود ، فلا وجه لجعله قسما برأسه. وعلى الثاني فحرمة الشرط لا دليل على سرايتها في المشروط ، فلا يقتضي الفساد قطعا ؛ فإنّ النهي عن شيء مباين للشيء ، فكيف (١) يعقل اقتضاؤه الفساد! فكن على بصيرة من الأمر كيلا يختلط عليك الموارد. والله الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : كيف.

٧٤٧
٧٤٨

هداية

بعد ما عرفت مورد النزاع ، فاعلم أنّهم اختلفوا في مورد النزاع في دلالة النهي على الفساد على أقوال ربما تزيد على العشرة ، ثالثها : التفصيل بين العبادات والمعاملات ، ورابعها : الدلالة شرعا لا لغة ، وخامسها : الدلالة في العبادات لغة ، وفي المعاملات عرفا.

إلى غير ذلك من الأقوال التي لا محصّل في ضبطها وإيرادها والبحث عن صحّتها وفسادها. فلنقتصر على ما هو الحقّ في المقام ، ومنه يظهر الوجه في الإيراد على الأقوال المخالفة لما اقتضاه الدليل.

فاعلم أوّلا : أنّ جملة من هذه الأقوال ممّا لا نعرف له وجها ، فإنّ التفصيل بين العرف والعقل ممّا لا سبيل لنا إلى تعقّله. وأعجب من ذلك التفرقة بين الوضع واللغة ، كما يظهر من كلام بعض الأجلّة (١). ويظهر الوجه في ذلك ممّا تقدّم في المسألة السابقة. ويزيدك توضيحا ما ذكرنا في الأمر الأوّل في الهداية السابقة.

وإن شئت قلت : إنّ النزاع في المقام إمّا لفظيّ أو عقليّ ، فعلى الأوّل لا وجه للدلالة العقليّة ، وعلى الثاني لا وجه لعدّ الدلالة اللفظيّة في عداد الأقوال ، ثمّ الفرق بين العقل والعرف. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يسعنا الجمع بين مواردها والأخذ بمجامعها.

وكيف كان ، فالحقّ في المقام يذكر في موردين :

__________________

(١) انظر الفصول : ١٤٠.

٧٤٩

الأوّل في بيان التحقيق في العبادات

فنقول : إنّ النواهي الواردة في العبادة بأقسامها لا تخلو من قسمين :

أحدهما : ما هو منساق لبيان المانع ، كالأوامر الواردة في العبادات لبيان الأجزاء والشرائط. ولا إشكال في دلالة هذه النواهي على الفساد ، بل ذلك لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ الفساد الواقعي إنّما أوجب النهي عن العبادة المقارنة للمانع ، لا أنّ النهي اقتضى الفساد. فكلّما دل دليل على وجه الإطلاق أو العموم على مشروعيّة عبادة ، ثمّ تعلّق النهي بفرد خاصّ منه على وجه يستفاد منه وجود المانع عن الامتثال ، فلا إشكال في الحكم بكون العبادة فاسدة ، فإنّ النهي حينئذ يكون ناظرا إلى ذلك الإطلاق ويكون مقيّدا له ، ومع تقييد الإطلاق لا سبيل إلى دعوى الصحّة. وكأنّ هذا القسم من النهي أيضا لا كلام في اقتضائه الفساد.

وثانيهما : ما هو منساق لتحريم أصل العبادة ، من دون إرشاد إلى عدم وقوع الامتثال بها ، كقولك : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » غير قاصد بذلك رفع الإذن الحاصل من إطلاق الأمر بالصلاة. وينبغي أن يكون ذلك محلاّ للنزاع ، لما عرفت من عدم قبول القسم الأوّل للنزاع.

فالحقّ أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة في مورد شخصي ، فالنهي يلازم فساد ما تعلّق به. ولكن ليس الفساد الحاصل من النهي في المقام مثل الفساد في القسم الأوّل ؛ لأنّ الفساد في المقام تابع للنهي ، فمتى وجد النهي يمكن الحكم بالفساد ، ومتى انتفى النهي لمانع ـ كالغفلة والنسيان والضرورة ونحوها ممّا يرتفع معها التكليف ـ فلا فساد ، بخلاف الفساد في القسم الأوّل ، فإنّه ليس تابعا للنهي ، بل النهي إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فعند ارتفاع النهي بواسطة الضرورة ـ مثلا ـ لا يمكن

٧٥٠

الحكم بعدم الفساد ، وقد مرّ نظيره فيما مرّ مرارا. فلا إشكال في شيء من ذلك بعد ما عرفت من امتناع الاجتماع ، وإنّما الإشكال في تمييز هذين القسمين وبيان صغريات هاتين القاعدتين.

فنقول : لا إشكال في الموارد التي نعلم بدخولها في القاعدتين. وأمّا الموارد المشكوكة ، فقضية الظواهر وإن كانت تقتضي الحكم بالحرمة فقط ، ويتبعها الفساد اللازم منها ، إلاّ أنّه يمكن دعوى أنّ الغالب في النواهي الواردة في العبادات ـ على أقسامها ـ إنّما هي ناظرة إلى الإطلاقات القاضية بصحّة هذه العبادات. فيكون المقام مثل ما ذكروا في الأمر الوارد عقيب الحظر فإنّ المستفاد منه ليس الوجوب ، مع أنّ الظاهر بحسب اللغة هو الوجوب ، إذ لا فرق بين ورود الأمر عقيب النهي وبين ورود النهي عقيب الأمر ، فإنّهما في مرحلة سواء.

مع إمكان أن يقال : إنّ استعمال النواهي في الإرشاد ليس على خلاف الظاهر ، فإنّها مستعملة في الحرمة التشريعيّة. لكنّه بعيد جدّا ؛ فإنّ الحرمة التشريعيّة لازمة لعدم كون المنهيّ عنه مأمورا به ، ولو فرض عدم استعمال النهي في الإرشاد لا دليل على كونه غير مشروع بعد اقتضاء الإطلاق مشروعيّته ، فلا يعقل هناك حرمة تشريعيّة حتّى يستعمل النهي في تلك الحرمة.

المورد الثاني في المعاملات

وتوضيح الحال هو أنّ النواهي الواردة في المعاملات على أقسام :

أحدها : أن يكون النهي متعلّقا بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف ، فيكون إيجاد السبب والتلفّظ بالإيجاب والقبول ـ مثلا ـ وقت النداء مثل شرب الخمر محرّما ، من غير ملاحظة أنّ ذلك الفعل المحرّم يوجب نقلا وانتقالا. ولا ريب

٧٥١

في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد ، فإنّ غاية مدلوله التحريم وهو لا ينافي الصحّة ، فإنّ المعصية تجامع ترتّب الأثر ، كما يشاهد في الأسباب العقليّة بالنسبة إلى الآثار العقليّة ، والشرعيّة أيضا.

وثانيها : أن يكون مفاد النهي هو مبغوضيّة إيجاد السبب لا من حيث إنّه فعل من الأفعال المتعلّقة للأمر والنهي باعتبار المصالح والمفاسد ، بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود مسبّب مبغوض في نفسه ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ، فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمرا غير مطلوب مبغوض ، وهو سلطنة الكافر على المسلم بناء على القول بالصحّة ووجوب الإجبار على إخراجه عن ملكه.

وهذا القسم ـ أيضا ـ يمكن القول بعدم دلالة النهي فيه على الفساد ، إذ لا مانع من صحة البيع حينئذ ، غاية الأمر وجوب النقل وإجبار الناس له على عدم إبقاء ذلك المسبّب بحاله بواسطة النهي الكاشف عن المبغوضية. إلاّ أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقليّة قد اطّلع عليها الشارع وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد. وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعيّة إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة عنها ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضا.

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما حكي عن الفخر : بأنّ قضيّة اللطف عدم إمضاء المعاملات التي تكون مبغوضة عنده (١) ، فإنّ ذلك على إطلاقه ربما لا يساعده دليل ولا ضرورة.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٧٥٢

وثالثها : أن يكون مفاد النهي حرمة الآثار المترتّبة على المعاملة المطلوبة عنها ، مثل ما يدلّ على حرمة أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير مثلا. والفرق بين هذا القسم وسابقه ظاهر ، فإنّ المبغوض في الأوّل هو ملكيّة المسلم للكافر مثلا ، والمبغوض في هذا القسم هو حرمة التصرّف في الثمن والمبيع ونحو ذلك ممّا هو من الآثار المترتّبة على الملك على وجه لو حصل الملك لا وجه للمبغوضيّة ، فيدلّ ذلك النهي بالالتزام على عدم حصول الملك بهذه المعاملة ، وهو عين الفساد.

ورابعها : أن يكون النهي ناظرا إلى إطلاق دليل الصحّة ، فيكون لا محالة مقيّدا لإطلاقه ، ويكون مفاده التصريح بالدلالة على الفساد ، فكأنّه بمنزلة الاستثناء لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ـ مثلا ـ الدالّ على حصول الملك والنقل والانتقال بإحراز العقد وإتمام طرفيه. وهذا القسم نظير النهي المسوق لبيان المانع في العبادة.

فلا إشكال في عدم دلالة القسم الأوّل على الفساد ، لعدم ما يقضي به عقلا ولا لفظا. ويحتمل دلالة الثاني على الفساد وعدمه ، كما عرفت بناء على القولين على تأمّل أيضا. وأمّا الثالث والرابع ، فلا يبقى الإشكال في الدلالة على الفساد. هذا ما يتعلّق بهذه الموارد على تقدير العلم بها وتمييزها عن غيرها.

وأمّا عند الاشتباه فهل يحكم بعدم الدلالة حملا للنهي على ظاهره من تعلّقه بعنوان فعل المكلّف وإن كان ذلك معاملة ، أو بالدلالة حملا له على أحد الوجوه الباقية الدالّة؟

فنقول : إن قضيّة القواعد اللغويّة من إعمال أصالة الحقيقة هو المعنى الأوّل ،

__________________

(١) المائدة : ١.

٧٥٣

فيحكم بالحرمة دون الفساد. ثمّ إذا قامت قرينة على عدمه فالمصير إلى الثاني أقرب ، فإنّ استعمال النهي في الطلب الغيري لا يوجب تجوّزا ، وإن كان الظاهر هو النهي النفسي ، كما قرّر في محلّه.

ومنه يظهر أنّ الثالث أيضا في هذه المرتبة ، لاشتراكهما في استعمال النهي في معناه التحريمي ، غاية الأمر أنّ الباعث على ذلك التحريم في الأوّل حصول الملك المبغوض ، وفي الثاني الآثار المترتّبة على الملك ، كما عرفت.

لكن ذلك مع قطع النظر عمّا يقتضيه استقراء موارد النهي في المعاملات ، فإنّ الغالب في النهي المتعلّق بالمعاملة من حيث إنّها معاملة ـ لا من حيث إنّه فعل من الأفعال ـ هو المعنى الثالث والأخير. وتشخيص الموارد حقّ التشخيص موكول إلى ملاحظة الأطراف والجوانب.

ولا بدّ من تنزيل الإجماع المدّعى في كلامهم على دلالة النهي على الفساد في المعاملات على ما ذكرنا ، فإنّ دعوى عمومه حتّى في الموارد التي يتعلّق النهي بالمعاملة لا من حيث إنّها معاملة مجازفة صرفة.

ثم إنّه قد يكون هناك معاملة مشتملة على جهتين : إحداهما الحرمة الذاتيّة مثل سائر الأفعال المحرمة ، والاخرى عدم وقوع مضمونها وعدم ترتّب آثارها ، فإيجادها محرّم ، والأخذ بآثارها محرّم آخر. إلاّ أنّه لا بدّ من استفادة هذين النحوين من دليلين ، لا من دليل ، من غير فرق في ذلك بين أنّ الدالّ على التحريم هو صيغة النهي أو أحد الألفاظ المساوية له في إفادة المعنى المذكور ، كما في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(١) خلافا لبعض الأجلّة ، حيث خصّ الحكم بصيغة النهي ، زعما منه أنّه صريح في الدلالة على الفساد ، وإن فرض

__________________

(١) النساء : ٢٣.

٧٥٤

الكلام فيما إذا استند التحريم إلى العقد ، كأن يقال : « يحرم عقد كذا » فتوجّه النزاع المعروف إليه غير مسلّم (١). وأنت خبير بضعفه ، فلا حاجة الى تطويل الكلام فيه.

ثم إنّه قد يدلّ على المطلوب في المقام أخبار لا بأس بالإشارة إليها وبيان دلالتها والتعرّض لما قد يورد عليها.

فمنها : ما رواه الكليني في الصحيح في وجه ، والصدوق في الموثّق بابن بكير ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : « سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال : ذلك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك الله تعالى ، إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (٢).

ومنها : ما رواه الكليني بطريق فيه موسى بن بكير (٣) ، والصدوق عنه ، عن زرارة ـ مرسلا ـ عنه عليه‌السلام « سأله عن الرجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه؟ فقال : ذلك إلى مولاه ، إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا. وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله

__________________

(١) الفصول : ١٤٠.

(٢) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، الحديث ٣ ، والفقيه ٣ : ٥٤١ ، الحديث ٤٨٦٢ ، وعنهما في الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.

(٣) في المصادر : موسى بن بكر.

٧٥٥

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما عصى سيّده ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (١).

وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام إنّما فرّع الصحّة والفساد على معصية الله وعدمها ، وهو يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون المعاملة معصية لله من حيث إنّه فعل من الأفعال مع قطع النظر عن كونه معاملة موجبة لما هو المطلوب من إيقاع تلك المعاملة.

والثاني : أن تكون معصية لا من هذه الجهة ، بل من حيث إنّها منهيّ عنها شرعا على أحد الوجوه المتصوّرة في النهي عن المعاملة ، من حيث إنّها موجبة لترتّب الآثار المطلوبة عنها.

لا سبيل إلى الأول ، فإنّ عصيان السيّد ـ أيضا ـ عصيان لله ، فلا وجه لنفي العصيان عن الفعل الواقع بدون إذن السيّد على وجه الإطلاق. فلا بدّ من المصير إلى الثاني ، وهو يفيد المطلوب ، فإنّه يستفاد من التفريع المذكور أنّ كلّ معاملة فيها معصية لله فاسدة ، كما هو ظاهر الحصر. ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ المراد هو العصيان لا من حيث كون المعاملة فعلا من الأفعال : ما في ذيل الرواية الثانية من التمثيل بالنكاح في العدّة ، فإنّه ليس خارجا من الأقسام التي قلنا بأنّ النهي يدلّ فيها على الفساد.

وبالجملة ، أنّ المطلوب في المقام هو : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إذا كان نهيا عن إيجاد السبب من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّف لا يقتضي الفساد ، سواء كان تلك المعاملة مبغوضة في نفسها أو باعتبار اجتماعها مع عنوان غير مطلوب ، كالنهي

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، الحديث ٢ ، والفقيه ٣ : ٤٤٦ ، الحديث ٤٥٤٨ ، وعنهما في الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

٧٥٦

عن البيع وقت النداء ، فإنّ تحريمه بواسطة كونه موجبا لتفويت الجمعة. وإذا كانت منهيّا عنها من حيث كونها سببا ومعاملة موجبة لترتّب الآثار المطلوبة منها ـ على أحد الوجوه السابقة ـ يقتضي الفساد.

والروايتان صريحتان فيما قلنا. أمّا بالنسبة إلى الجزء الأوّل فيستفاد من قوله : « وإنّما عصى سيّده » المستلزم لعصيان الله ، لا من حيث إنّها موجبة للآثار المطلوبة ، فإنّ عصيان الله من جهة عصيان السيّد لا يعقل كونه من جهة الترتّب ، وذلك واضح. وأمّا بالنسبة إلى الجزء الثاني فيستفاد من تفريع الصحّة والبطلان على المعصية التي يجب أن تكون مخالفة للمعصية اللازمة من مخالفة السيّد ، فيكون على أحد الوجوه السابقة ، وهو المطلوب.

واعترض على الاستدلال بالرواية جماعة ـ منهم المولى البهبهاني (١) والمحقّق القمّي (٢) ـ : أنّ المراد من المعصية هو عدم مشروعيّة نوع المعاملة في أصل الشرع ، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

وتوضيحه : أنّ قوله عليه‌السلام : « إنّه لم يعص الله » لا يمكن حمله على ظاهره ، ضرورة أنّ عصيان السيّد يلازم عصيان الله ، فلا بدّ من الحمل على عدم الإذن ، فمفاد الرواية أنّ النكاح صحيح ؛ لأنّه إنّما أوقع ما هو مأذون فيه ومجعول في الشرع ، وإنّما يمنعه عن النفوذ عدم إذن المولى ، وبعد لحوق الإذن منه أيضا يتمّ المقتضي ويترتّب المعلول.

ويدلّ على ذلك : أنّ الأخذ بظاهر العصيان في كلام الإمام غير صحيح ، إذ المفروض أنّ العبد لم يعص السيّد أيضا ، لأنّ العصيان لا يتحقّق بدون

__________________

(١) انظر الفوائد الحائريّة : ١٧٦.

(٢) القوانين ١ : ١٦٢.

٧٥٧

النهي ، وعدم الإذن المفروض في السؤال أعمّ من النهي وعدمه. بل ومقتضى قول السائل في الرواية الثانية : « ثم اطّلع على ذلك مولاه » هو إرادة خصوص عدم الاطّلاع.

والقول : بأنّ مع عدم الاطّلاع أيضا يكون معصية لكونه تصرّفا في ملك الغير بغير إذنه ، مدفوع : بأنّ ذلك لا يعدّ تصرفا ، كما قرّرنا في الفضولي من أنّ مجرّد إيقاع العقد ليس محرّما. فلا بدّ من الحمل على أنّ النكاح صحيح لأنّه مشروع أصلا ، وليس ممّا لم يأذن الشارع بإيقاعه ، وإنّما هو لم يأذن سيّده بذلك ، وبعد لحوق الإذن منه يكون صحيحا يترتّب عليه الأثر.

فمفاد الرواية : فساد المعاملة التي لم يأذن الشارع بإيقاعها ، وهو من الامور الواضحة التي اتّفق عليها الفريقان.

وإلى هذا ينظر كلام القوانين : من أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد بالمعصية لا بدّ أن يكون هو مجرّد عدم الإذن والرخصة من الشارع ، وإلاّ فمخالفة السيّد أيضا معصية (١).

قوله : « على خلاف المطلوب أدلّ » يحتمل أن يكون نظره إلى أنّ الأخذ بظاهر العصيان اللازم من مخالفة السيّد يوجب الحكم بالفساد ، مع أنّ الرواية صريحة في الحكم بالصحّة مع الحكم بالعصيان من هذه الجهة ، إلاّ أنّه يجب حمله على ما ذكره من الجهة المذكورة.

والجواب عنه : أنّه لا يصلح حمل العصيان على عدم الإذن ، فإنّه خلاف معناه الحقيقي ، فلا يصار إليه. وما ذكره من الصارف من أنّ عصيان المولى أيضا معصية ، لا يوجب حمله عليه بعد احتمال ما ذكرنا من الحمل على العصيان من غير جهة أنّه

__________________

(١) القوانين ١ : ١٦٢.

٧٥٨

فعل من الأفعال ، مع كونه أظهر قطعا ، لدوران الأمر بين تقييد العصيان بما ذكرنا وبين كونه مجازا عن عدم الإذن ، ولا شكّ أنّ الأوّل أقرب.

وأمّا ما استند إليه : من أنّ عدم الإذن لا يوجب العصيان ، ففيه : أنّ الرواية الاولى ليست صريحة في عدم النهي ، فإنّ قولنا : « بغير إذن » قد يستعمل في مقام العصيان أيضا ، غاية الأمر عمومه لصورة عدم النهي أيضا ، وحمل « العصيان » في كلام الإمام على عدم الإذن مرجوح بالنسبة إلى حمله على صورة وجود النهي ، كما ربما يعاضده استقرار العادة على الاستيذان في مثل هذه الامور الخطيرة ، بل ربما يعدّ الإقدام على مثل النكاح بدون إذن المولى وإن لم يكن مسبوقا بالنهي عصيانا. ولا يقاس ذلك بالفضولي ، فإنّ الفرق بين إجراء الصيغة في المال المتعلّق بالغير وبين الإقدام على النكاح والدخول المستلزم لتعلّق المهر بذمّة العبد ـ كما هو مورد الرواية الثانية ـ في غاية الظهور.

وأمّا في الرواية الثانية فلا بدّ أيضا من حمل « عدم الإذن » على صورة النهي ، كما يدلّ عليه قول السائل : « فإنّه في أصل النكاح عاص » مع فرض السؤال في صورة عدم الإذن. ولا ينافيه قوله : « ثم اطّلع » فإنّه يلائم صورة النهي أيضا كما لا يخفى. مع أنّ حمل « العصيان » على عدم الإذن يوجب التفكيك.

وبيانه : أنّ الإذن في كلام المعترض ليس إذنا تكليفيّا ، فإنّ عدمه يكون عصيانا حقيقة ، فمراده الإذن الوضعي ، والإذن الوضعي ليس من شأن المولى ، بل إنّما هو شأن الشارع. فما ذكر في توجيه الرواية : من أنّ المراد أنّه ليس ممّا لم يأذنه الشارع وإنّما السيّد لم يأذنه ، يوجب حمل « الإذن » في الأوّل على الجعل والوضع ، وفي الثاني على التكليف ، وهو خلاف الظاهر. سلّمنا أنّ المراد عدم الإذن ، ولكنّه أيضا يدلّ على المطلوب ، فإنّ النهي يلازم عدم الإذن الموجب للفساد ، إلاّ أنّ ذلك ليس تعويلا على الرواية ، فإنّ الملازمة المذكورة ليست مستفادة من الرواية ، بل التعويل على ما ذكرنا من الغلبة والظهور في النواهي الواردة في المعاملات.

٧٥٩

وممّا مرّ يظهر التقريب في رواية اخرى رواها الكليني ، عن منصور بن حازم ، عن الصادق عليه‌السلام « في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال : عاص لمولاه. قلت : حرام هو؟ قال : ما أزعم أنّه حرام ، وقل له : أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه » (١) بل الإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر دلالة من غيرها ، فإنّ الظاهر أنّ الكبرى بعد إحراز العصيان عند الراوي معلومة ، لا حاجة إلى الفحص عنها.

وزعم بعض الأجلّة : أنّ هذه الرواية لا إشعار لها على المطلوب ، ولعلّ ذكرها في عداد الأدلّة وقع سهوا عن القلم (٢). وقد عرفت ما به يتمّ الوجه في الاستدلال بها ، فلعلّ ذلك سهو من قلمه.

وقد يستدل أيضا برواية البقباق ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « الرجل يتزوّج الأمة بغير علم أهلها؟ قال : هو زنى ، إنّ الله يقول : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ )(٣) » (٤).

وجه الدلالة ـ على ما قيل ـ : أنّ الإمام عليه‌السلام استند في الحكم بكون العقد على الأمة بدون علم أهلها فاسدا على انتفاء الإذن المشروط نكاحهنّ به ، ولا ريب في أنّه يدلّ على المدّعى بطريق أولى.

قلت : وهو عجيب فإن الحكم ببطلان المعاملة بواسطة انتفاء الشرط المستفاد من مفهوم القيد ممّا لا يرتبط بالمقام ، فضلا عن دلالته على المطلوب ، فضلا عن كونه بطريق أولى.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، الحديث ٥ ، والوسائل ١٤ : ٥٢٢ ، الباب ٢٣ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

(٢) الفصول : ١٤٤.

(٣) النساء : ٢٥.

(٤) الوسائل ١٤ : ٥٢٧ ، الباب ٢٩ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.

٧٦٠