مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ثمّ إنّ جهات الضيق والتوسعة (١) ـ على المعنى الذي فسّرناهما به ( وهو الحقّ ) من كون الأوّل عبارة عن مطلق الحرج والثاني عبارة عن خلافه ـ يختلفان باختلاف الجهات والاعتبارات.

فمن وجوه الضيق والتوسعة : أن يكون زمان المأمور به مضيّقا وزمان الضدّ موسّعا. وهذا أظهر الوجوه وأشهرها ، ومثاله واضح.

ومنها : أن يكون المأمور به واجبا عينيّا مضيّقا بحسب الزمان ـ كالصوم مثلا ـ وكان الضدّ أيضا واجبا مضيّقا ولكن كان تخييريّا لا عينيّا ، مثل ما إذا كان على المكلّف كفّارة الخصال فورا وكان بعض أقسامها منافيا للصوم الذي فرض وجوبه عينيّا مضيّقا ، فإنّ الأمر بالصوم المزبور يقتضي النهي عن الضدّ المفروض وجوبه تخييريّا ، إذ يجب على المكلّف حينئذ اختيار الفرد الآخر الغير المنافي للصوم من أفراد الكفّارة. ومثل ما إذا وجب عليه السفر للزيارة بنذر مضيّقا وكان عليه إحدى الكفّارات على سبيل الضيق أيضا ، فإنّه يجب عليه اختيار غير الصوم من الكفّارة بناء على مضادته شرعا مع السفر ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن المضيّق أيضا إذا اختلفا من حيث العينيّة والتخييريّة.

ومنها : أن يكون الضدّ مستحبّا ، فإنّ الأمر الوجوبي المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه المستحبّ ولو كان مضيّقا أيضا. وغير ذلك من الوجوه التي لا تخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ التفصيل الذي ذكره بقوله : « وقد يفصّل » ممّا لا غبار عليه ؛ لأنّا نقول أيضا : إنّه إذا تزاحم المضيّق والموسّع فالترجيح للأوّل مطلقا ، وإذا تزاحم المضيّقان فالحكم هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع.

__________________

(١) في ( م ) و ( ط ) : في التوسعة.

٥٤١

ومن وجوه الأهميّة غالبا : كون أحدهما من حقوق الناس. ولكنّه ربما يكون الاهتمام في حقّ الله ـ كحفظ نفس الإمام وبيضة الإسلام (١) ـ أهمّ في نظر الشارع قطعا. والدليل على التخيير عند التساوي ، هو : أنّ الحكم بأخذ أحدهما معيّنا لا بدّ له من ترجيح ، وإلاّ لكان تحكّما وترجيحا بلا مرجّح ، والمفروض مساواتهما في الرجحان. وليس هذا التزام تخصيص في دليل أحدهما ، لأنّا نعلم قطعا ببقاء إطلاق الأمر فيهما معا ، ولكن الذي يدعونا إلى ترك أحدهما تخييرا هو تعذّر الامتثال بهما معا ، فكان العقل لمّا رأى (٢) مساواتهما في نظر الشارع والمصلحة الكامنة الموجبة للطلب ورأى (٣) عدم إمكان الجمع بين الامتثالين ، حكم بمعذوريّة المكلّف في ترك الامتثال بأحدهما لا على التعيين ، فخروج أحدهما من تحت الطلب الفعلي إنّما هو من جهة وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال ، لا فقدان المقتضي ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما واجد للمصلحة المقتضية للأمر حال المزاحمة نحو وجدانهما إيّاها في غير حال المزاحمة ، وإلاّ لخرج المقام عن مقام تعارض الواجبين المفروض وجوبهما معا في آن واحد ، ففرق إذا بين أن يكون الخروج من المطلوبيّة بسبب فقدان المقتضي مثل قوله : [ « أنقذ الغريق إلاّ زيدا الكافر » وبين أن يكون الخروج باعتبار وجود المانع عن الامتثال مع وجود المقتضي مثل قوله ](٤) : « أنقذ الغريق » الشامل لزيد وعمرو إذا فرض توقّف إنقاذ أحدهما على عدم إنقاذ الآخر ، فإنّ خروج أحدهما الكلّي من تحت الطلب الفعلي ليس باعتبار فقدان مقتضى الوجوب في أحد الإنقاذين ، بل باعتبار وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال.

__________________

(١) في ( ع ) : زيادة : إذا زاحمه أداء الدين ، فإنّ الأوّلين.

(٢) في ( ع ) و ( ط ) : فكان الفعل لما كان.

(٣) في ( ع ) و ( ط ) : وراء.

(٤) من هامش مصحّحة ( ع ).

٥٤٢

ولقد أغرب بعض الأفاضل (١) في المقام ـ على ما نقل ـ حيث جعل المرجّح في المقام ملاحظة أدلّة الواجبين حتّى خصّص عنوان البحث في هذه المسألة ، فقال : إنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي النهي عن الضدّ إذا كان دليل ذلك الأمر قطعيّا ـ كالإجماع والضرورة ـ ودليل وجوب الضدّ ظنّيا ، فإنّه لو كان الدليلان كلاهما قطعيّين فذاك فرض محال ، لأن الأمر بالضدّين في آن واحد ممتنع نحو امتناع اجتماعهما. وإن كان عكس الأوّل ـ بأن كان دليل الواجب ظنّيا ودليل الضدّ قطعيّا ـ فلا يقتضي الأمر الظنّي النهي عن الواجب القطعي الذي هو الضدّ. وإن كان دليل الواجب ودليل الضدّ كلاهما ظنّيين فيرجع إلى الترجيح ويؤخذ بالراجح ، فلا وجه لجعل أحدهما حينئذ ولو كان مضيّقا مقتضيا للنهي عن الآخر ولو كان موسّعا ، لاحتمال أن يكون الرجحان في طرف الموسّع.

ووجه غرابة هذا الكلام :

أوّلا : أنّ باب تزاحم الواجبين والحقّين باب آخر غير باب تعارض الأدلّة المطلوب فيها ملاحظة حيثيّة القوّة والضعف ؛ لأنّ الواجبين إنّما يكونان فردين من كلّي واحد ، كإنقاذ الغريقين الموقوف إنقاذ كلّ منهما على ترك إنقاذ الآخر. وهذا وإن كان ليس من موارد بحثنا في هذه المسألة ، ضرورة كونهما متساويين في الضيق والتوسعة حينئذ وكون الغرض الأصلي للاصولي متعلّقا بمزاحمة المضيّق والموسّع المقتضية للمغايرة بين الواجبين نوعا ودليلا ، إلاّ أنّه لا يبحث في هذه المسألة إلاّ عن حال الواجبين اللذين يبحث عنهما في تزاحم الحقوق من حيث كون العمل بكلّ من الدليلين مقطوعا به ولو كان أصل الدليل (٢) ظنّيا ، وحينئذ

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) في ( م ) : « الدليلين ».

٥٤٣

فلو كان دليل الواجب في كمال الضعف بالنسبة إلى فعل الضدّ كان كما لو تساويا في القوّة والاعتبار. وهذا واضح.

وثانيا : أنّ الغرض في عنوان هذه المسألة معرفة التنافي والمضادّة بين الأمر بالمضيّق والأمر بالموسّع ، فلا بدّ أوّلا من معرفة منافاتهما ثمّ الرجوع إلى الأدلّة في مقام العلاج بطرح ما كان دليله ظنّيا ، إلاّ أن يجعل الفرق بين القطعي والظنّي رفعا للمنافاة في صورة التساوي مثلا ، بأن يقال : إنّهما إذا كانا ظنّيين ـ مثلا ـ فلا يقتضي الأمر بالمضيّق منهما للنهي عن الموسّع ، أعني أنّه لا منافاة بينهما ، لأنّ المنافاة وعدمها لا يختلفان باتّفاق الدليلين في الاعتبار والقوّة واختلافهما ، فإن كان بين الأمر المضيّق والموسّع مضادّة فسواء كان دليلاهما قطعيّين أو ظنّيين أو مختلفين فهي ثابتة بينهما ، وإلاّ فلا وجه لملاحظة حال الدليلين في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ ، بل هو كلام في غاية البعد من الصدور عن الأفاضل ، ولذا تجد الكتب خالية عنه.

وكيف كان ، فالدليل على تقديم الأهمّ من المضيّقين على الآخر تتبّع أحوال الشارع وحكم العقل بذلك وقاعدة الاشتغال السارية في جميع المقامات التي يدور الأمر فيها بين التخيير والتعيين.

ودعوى صاحب الوافية أنّ الحقّ هو التخيير (١) أيضا فاسدة جدّا بعد العلم الضروري بأنّه إذا دار الأمر بين حفظ نفس الإمام وحفظ غيره فالأوّل أهمّ عند الشارع المقدّس وأوجب. اللهم إلاّ أن يكون مراده بالأهمّ ما هو راجح في نظر المكلّف لا في نظر الشارع ، فإنّ الرجحان الذي يراه المكلّف من دون استناده إلى ما يرجع إلى الشرع غير معتنى به جدّا ، فلا يحكم بالترجيح بل بالتخيير.

__________________

(١) الوافية : ٢٢٣.

٥٤٤

وطريق معرفة الأهمّية : تتبّع كلمات الشارع والآثار المترتّبة من قبله على ترك الواجب أو فعل الحرام ، فإنّا إذا رأيناه قد حكم بفسق الكاذب وكفر قاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علمنا أنّ حفظ نفسه الشريفة أهمّ في نظره المقدّس من الاجتناب عن الكذب. والظاهر أنّ الظنّ بالأهمّية كاف في الحكم بالتخيير ؛ لأنّ العقل وقاعدة الاشتغال أيضا ناهضان على الحكم بذلك ، بل لا يبعد الحكم بالتعيين بمجرّد احتمال الرجحان والأهمّية ولو لقاعدة الاشتغال المزبورة السليمة عن المعارض.

ثمّ المرجّح فعلا يقتضي وجوب الترجيح بل استحبابه ، ومنه ما لو دار الأمر بين الاجتناب عن سبّ الإمام ـ عليه آلاف التحية والسّلام ـ وحفظ نفس آدميّ ، فإنّه مقام التخيير بين الأمرين على ما عزي (١) إلى أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ مع استحباب مراعاة حفظ النفس ، سيّما في حق قدوة الناس ورئيسهم. ولا يتوهّم المنافاة بين قولنا بالترجيح الاستحبابي وقولنا المقدّم : من الحكم بالترجيح عند احتمال الرجحان ، لأنّ الفرق بين احتمال وجود الرجحان الملزم وبين القطع بعدمه ولوجود الرجحان الغير الملزم ما بين الأرض والسماء. وأمّا إنكار حسن الترجيح واستحبابه رأسا فممّا لا يصغى إليه لمكاذبته للوجدان والتتبّع.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٤٥

المقدّمة الثالثة

في معرفة المراد من « الشيء » و « النهي »

المشتمل عليهما عنوان البحث

أمّا الأوّل ، فلعلّ الظاهر منه الشيء الوجودي ، ويمكن أن يراد به ما يعمّ التروك أيضا ، فيدخل فيه مثل « اترك الزنا » وعليه يتّجه القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّ النهي عن ترك ترك (١) الزنا عبارة اخرى عن النهي عن فعله جدّا. كما يتّجه القول حينئذ بأنّ المراد بالنهي الذي يقتضيه الأمر بالشيء ما يعمّ الأصلي والتبعي ؛ لأنّ هذا النهي المستفاد من الأمر بالترك ليس إلاّ أصليّا ، كما أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة على القول بأنّ الأمر بها عين النهي عن أضدادها ـ حتّى أنّ الأمر بالسكون عبارة اخرى من النهي عن الحركة ـ يكون أيضا أصليّا ، فاتّضح المراد من النهي بأنّه يعمّ الأصلي والتبعي معا ، فمن خصّصه بالتبعي أو بالأصلي فقد سها.

ولعلّ ما أوقع المخصّص بالأصلي ـ كالقمّي طاب ثراه (٢) ـ في خياله هذا ما رآه في كلمات الأصحاب في ذكر الثمرات : من بطلان الضدّ المصادم لوقت المأمور به كالصلاة الواقعة في وقت الإزالة ، فإنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير كون النهي المتعلّق بالضدّ أصليّا ، إذ النواهي التبعيّة لا تقتضي الفساد خصوصا في المعاملات ، فحيث حكموا ببطلان الضدّ على القول بالاقتضاء علم أنّ النهي المتنازع فيه هو النهي الأصلي عندهم.

__________________

(١) في ( م ) و ( ط ) : تركه بترك.

(٢) القوانين ١ : ١١٤.

٥٤٦

ومن هنا ينقدح وجه كون الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب هو الوجوب الأصلي النفسي عنده رحمه‌الله كما تقدّم ؛ لأنّ حرمة الضدّ بزعمه إنّما تثبت من جهة المقدّميّة ، وإذ قد ثبت كون الحرمة هذه حرمة نفسيّة حاصلة من النهي النفسي الأصلي ثبت (١) أنّ الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب أصليّ شرعي.

والتحقيق عندنا ـ كما مرّ في ذلك المبحث ـ أنّ وجوب المقدّمة وجوب تبعيّ لا أصليّ ، وعلى هذا يلزم التعميم في النهي المتنازع فيه هنا ؛ لأنّ الحقّ الموافق للتحقيق والمشهور أيضا أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة ـ على القول به ـ ليس من جهة العينيّة ، بل من جهة الاستلزام أو المقدّميّة ، فلو خصّصناه بالنهي الأصلي فكيف ينطبق هذا على القول (٢)؟

وأمّا ما ذكر : من أنّ حكمهم بفساد الضدّ يدلّ على كون النهي المتنازع فيه نفسيّا ، ففيه : أنّ منشأ الفساد إنّما هي المبغوضيّة ، والنهي إنّما يقتضي الفساد من جهة كشفه عنها ، والمبغوضيّة ليست من خصائص النهي الأصلي ، إذ قد يجتمع مع النهي التبعي أيضا ولو كانت المبغوضيّة أيضا تبعيّة ، وقد لا يجتمع مع النهي الأصلي ، إذ قد يكون النهي الأصلي غيريّا ، وقد تقدّم في مقدّمة الواجب أنّ الأوامر الغيريّة غير واجدة للمصالح أصلا إلاّ الوصلة إلى الغير فكذا النواهي ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) في ( ع ) بدل « ثبت » : ظهر.

(٢) في مصحّحة ( ع ) : هذا مع هذا.

٥٤٧

المقدّمة الرابعة

في الضدّ

ومعناه لغة : المنافي والمعاند مطلقا (١) ، وفي اصطلاح أهل المعقول : أمر وجوديّ لا يجتمع مع وجوديّ آخر في محلّ واحد في زمان واحد (٢) ، فالمتناقضان يندرجان تحت الضدّ اللغوي دون الاصطلاحي ، لأنّهما ليسا أمرين وجوديّين ، بل أحدهما وجودي والآخر عدمي.

ويعتبر في التضادّ مضافا إلى ما ذكر جواز تواردهما على محلّ واحد ، فيخرج نحو السواد والعلم ، فإنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد لكن ليسا ممّا يتواردان على محلّ واحد ، لأنّ محلّ كلّ واحد منهما مغاير لمحلّ الآخر ، فإنّ محلّ العلم القلب ومحلّ السواد الجسم. وبعبارة اخرى : يشترط أن يكون المنافاة راجعة إلى المتضادّين بحيث لا يجتمعان على محلّ واحد قابل لورود كلّ واحد منهما ذاتا ، فما ليس كذلك لا يكون من التضادّ في شيء ، مثل العلم والسواد.

إذا عرفت ذلك فقد اطلق لفظ « الضدّ » هنا على امور :

منها : كلّ واحد من الامور الوجوديّة المنافية للمأمور به ، مثل الأكل ، والشرب ، والمشي بالنسبة إلى الصلاة ، وهي بالنسبة إلى الإزالة. ولا شك في إطلاق الضدّ عليها حقيقة بكلا المعنيين. نعم ، ربما (٣) يكون بعض الأفعال الوجوديّة من

__________________

(١) كما في القاموس ١ : ٣٠٩ ، والمصباح المنير : ٣٥٩ ، ومجمع البحرين ٣ : ٩٠.

(٢) كشف المراد : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) في ( ع ) و ( ط ) : إنّما.

٥٤٨

الموانع والنواقض بالنسبة إلى الآخر ، كمبطلات الصلاة ونواقض الطهارة وروافع الأحداث وموانع العقد ونحو ذلك. وإطلاق الضد على هذه الامور لا يخلو عن إشكال ومسامحة ، لأنّ نسبة كلّ واحد من الضدّين مثل نسبة الآخر إليه ، والأمر فيها ليس كذلك ، إذ المانع علّة لعدم الممنوع دون العكس ؛ مضافا إلى إشكال تصوير تواردهما على محلّ واحد ، فليتدبّر جدّا.

ومنها : أحد الأفعال الوجوديّة المنافية للمأمور به ، ويسمّونه بـ « الضدّ العامّ » ، وإطلاق الضدّ عليه أيضا خال عن حزازة ، بل هذا في الحقيقة راجع إلى الأوّل.

ومنها : الترك ، ويسمّونه بـ « الضدّ العامّ » أيضا ، وهذا أشهر وأصحّ. وإطلاق الضدّ عليه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ الترك أمر عدميّ والمأخوذ في الضدّ المصطلح أن يكون أمرا وجوديّا كما مرّ ، فهو نقيض للفعل لا ضدّ له ، ولو جعل الترك عبارة عن اختيار العدم لكان وجها ، لأنّ هذا الاختيار أمر وجوديّ مضادّ للفعل الذي هو عبارة عن اختيار الوجود. وعلى هذا يتصوّر الواسطة بين الفعل والترك ، وهي ما إذا ترك الفعل لا عن اختيار ، فإنّه ليس من الترك المفسّر باختيار العدم. ولا يرد أنّ هذا النحو من الترك أيضا نقيض للفعل ، لأنّ نقيض الوجود العدم ، والعدم قد يكون مسبوقا بالاختيار وقد لا يكون كذلك ، فالأوّل أيضا فرد من أفراد مطلق العدم الذي هو نقيض للوجود وفرد النقيض نقيض ، لأنّ الاختيار أمر وجوديّ لا يجوز جعله فردا من العدم المطلق الذي هو نقيض للوجود ، وكون المختار هو العدم لا يجعل نفس الاختيار عدميّا. وعلى أيّ حال فإن فسّرنا الترك بنفس « لا يوجد » كان نقيضا للفعل جدّا ، وإن فسّرنا باختيار عدم الإيجاد أمكن جعله من الضدّ المصطلح.

قيل : ولقد استراح من جعل الترك بمعنى الكفّ ؛ لكونه من الامور الوجوديّة التي لا تجتمع مع الفعل أبدا في محلّ واحد (١).

__________________

(١) راجع الفصول : ٩١.

٥٤٩

واعترض عليه : بأنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد ، ولكنّهما ليسا من المتضادّين المتواردين على محلّ واحد ، بل هما من قبيل العلم والسواد الذي قد عرفت خروجهما عن الحدّ بقيد التوارد ، لأنّ محلّ الكفّ هو النفس ومحلّ الفعل هو الجوارح.

وفي كلّ من الكلامين نظر.

أمّا في كلام المستريح : فلأنّ الترك الذي كلامنا فيه هو الذي أخذ منعه فصلا للوجوب في قولهم : « الوجوب طلب الشيء مع المنع من الترك » إذ المراد بالضدّ العامّ هو ترك المأمور به الذي منع منه بمجرّد إيجاب المأمور به ، ولم يظهر من القائلين بكون المطلوب من النهي هو الكفّ وأنّ معنى الترك المطلوب من النهي عبارة عن طلب الكفّ أنّ مادّة الترك التي يدخلها النهي مثل قولك : « لا تترك الصلاة » التي قد اعتبر المنع منها قيدا وفصلا للوجوب أيضا عبارة عن الكفّ. كيف! والذي دعاهم إلى إرجاع الترك المطلوب من صيغة النهي إلى الكفّ أنّ مجرّد الترك أمر عدميّ لا يجوز تعلّق الطلب عليه وجودا وعدما ، وهذا غير موجود في المقام ؛ إذ المطلوب من قولنا : « لا تترك الصلاة » المتولّد من قوله : « صلّ » هو بعينه طلب فعل الصلاة ، فلو فسّرنا قوله : « لا تترك الصلاة » بقولنا : « كفّ عن ترك الصلاة » فهذا يكفي في جعل المطلوب من النهي أمرا مقدورا ، ولا حاجة إلى تفسيره بقولك : « كفّ عن الكفّ عن الصلاة » بل لعلّ هذا من المستهجنات التي لا أظنّ قائلا بها.

ودعوى أنّ التروك سواء كانت مداليل الهيئة أو المادّة امور غير مقدورة ، فإنّ دليلهم المزبور على إرجاع مدلول النهي إلى الكفّ ، فلا يتفاوت فيه مدلول المادّة أو الهيئة حتّى أنّه يلزم على هذا التقدير أن يكون المراد من « اترك الزنا » كفّ عن الزنا ـ وهكذا سائر المقام [ آت ] ـ واضحة الفساد بما عرفت : من عدم تماميّة

٥٥٠

دليلهم المزبور في المقام وإن كان تماما في مثل « اترك الزنا » ؛ لأنّ الترك المنهيّ عنه في المقام أمر انتزع عن طلب الفعل ، فلا حاجة إلى إرجاعه إلى الكفّ بعد كون المراد من النهي عنه بعينه طلب فعل المأمور به.

وأمّا ما يقال : من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل فلا بدّ من كون المراد بقولنا : « لا تترك الصلاة » الحاصل من قوله : « صلّ » كفّ عن الكفّ وإلاّ لكان الذمّ على غير الفعل ، فهو أيضا أجنبيّ عن المقام ؛ لأنّه يكفي في تصحيح الذمّ هنا جعله مترتّبا على الكفّ عن الصلاة ، فلا حاجة إلى أن يفسّر « لا تترك الصلاة » بالكفّ عن الكفّ (١).

وكيف كان فلا وقع عند المتأمّل الفطن لكلام المستريح ، بل ولا أظنّ أحدا من القائلين بأنّ المطلوب من النهي هو الكفّ أن يقول بأن المراد بالترك المنهيّ عنه في المقام هو الكفّ ، فإنّ كلّ واحد من المقامين بمراحل عن الآخر. وهذا خلط فاحش وخبط بيّن ، فتفطّن.

وأمّا في كلام المعترض (٢) : فلأنّ منع مضادّة الكفّ مع الفعل بدعوى تغاير المحلّ ممنوع ، لأنّ الحقّ أنّ محلّ الكفّ والفعل كليهما هو النفس وإن كان أثرهما ظاهرا في الجوارح ، لأنّ الفعل عبارة عن بعث النفس للجوارح والكفّ عن إمساكها ، والإمساك والبعث كلاهما حالان وفعلان للنفس ، وأثرهما إنّما يظهر في الأعضاء والجوارح ، فإنّ النفس إذا بعثت الجوارح على العمل حصل منه حركات مخصوصة في الجارحة من الأعضاء المخصوصة ، وإذا أمسكتها حصل منه القبض والسكون فيها. فإن جعلت الفعل عبارة عن نفس حاصل الأثر فقابله بأثر الإمساك الذي هو

__________________

(١) في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وفيه : أنّه التزام بمقالة المستريح ، لأنّه لا يريد إلاّ جعل الضدّ العام الكف عن المأمور به.

(٢) عطف على قوله : « أمّا في كلام المستريح » في الصفحة السابقة.

٥٥١

الكفّ وهما متّحدا المحلّ جدّا ، وإن جعلت عبارة عن بعث النفس فقابله بنفس الإمساك على أيّ تقدير ، فالكفّ والفعل محلّهما واحد يمكن تواردهما على ذلك المحلّ. كيف! ولو كان محلاّهما مختلفين ـ كالعلم والسواد ـ لجاز اجتماعهما في محلّيهما نحو العلم والسواد ، والفعل والكفّ عنه أبدا لا يجتمعان في عالم الوجود.

كلّ ذلك فيما إذا أردنا جعل إطلاق الضدّ على الترك حقيقيّا. ولكنّ الظاهر أنّ هذا الإطلاق مجازيّ لعلاقة المجاورة ، لأنّ الأفعال الخارجيّة المقارنة لترك المأمور به لمّا كانت أضدادا حقيقيّة للمأمور به سمّي الترك بالضدّ مجازا. ووجه تسميته بالضدّ العام هو اجتماعه مع جميع الأضداد ، وذلك واضح.

٥٥٢

المقدّمة الخامسة

في بيان المراد من « الاقتضاء » المتنازع فيه

والمراد به ما يعمّ العينيّة وإن كان الظاهر منه التضمّن والالتزام. يدلّ عليه كلام صاحب المعالم في الضدّ العام ، حيث قال : « إنّه لا نزاع من حيث أصل الاقتضاء وإنّما النزاع في كيفيّته وأنّه هل من باب العينيّة أو التضمّن أو الالتزام » (١) إذ الصريح منه أنّ الاقتضاء المتنازع فيه ما يعمّ العينيّة. ويدلّ عليه أيضا إمكان القول بالعينيّة في الضدّ العامّ ، كما سنذكر.

وربّما يتوهّم من بعض العناوين كقولهم : « إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه » (٢) اختصاص النزاع بالعينيّة ، ولكن المراد به أيضا الأعمّ.

ثمّ الفرق بين العينيّة والدلالة المطابقة يظهر بالتأمّل في الفرق بين الاثنين ونصف الأربعة وبين دلالة لفظ الاثنين على معناه ، فإنّ الثاني على سبيل المطابقة والأوّل ـ يعني اتّحاد الاثنين ونصف الأربعة ـ من باب العينيّة. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

__________________

(١) المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) العدة : ١٩٦ ، ونهاية الوصول : ٩٦ ، والمعتمد ١ : ٩٧.

٥٥٣

[ الأقوال في المسألة ](١)

إذا تمهّدت المقدّمات ، فالأقوال في الضدّ العام خمسة :

أحدها : نفي الاقتضاء رأسا ، وهذا صريح العضدي (٢) والحاجبي (٣) والمنسوب إلى العميدي (٤) وجمهور المعتزلة (٥) وكثير من الأشاعرة (٦). ودعوى بعض ـ كصاحب المعالم (٧) ـ أنّه لا خلاف في الضدّ العام في أصل الاقتضاء بل في كيفيّته ـ كما تقدّم ـ لا أصل لها.

وثانيها : الاقتضاء على وجه العينيّة ، على معنى أنّ الأمر بالشيء والنهي عن تركه عنوانان متّحدان ممتازان بحسب المفهوم.

وثالثها : الاقتضاء على وجه التضمّن.

ورابعها وخامسها : الالتزام اللفظي والعقلي.

ولا إشكال في تصوّر العينيّة والتضمّن. وأمّا تصوّر الالتزام فيتمّ بدعوى عدم كون المنع من الترك جزءا من ماهيّة الوجوب ، بجعله عبارة عن مجرّد طلب الفعل على جهة الالتزام الذي هو في المرتبة العليا من الطلب وتحته الطلب الندبي الذي لا إلزام فيه. ولا بعد فيه ، بل إنّما البعد في كون الوجوب مركّبا عن طلب الفعل والمنع من

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢ و ٣) راجع شرح مختصر الاصول : ١٩٩.

(٤) نسبه إليه الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين ٢ : ٢٠٠ ، وراجع منية اللبيب : ١٢٥.

(٥) نسب إليهم في الإحكام للآمدي ٢ : ١٩١ ، والمستصفى ١ : ٨١ ، والمعتمد ١ : ٩٧.

(٦) انظر نهاية الوصول : ٩٦ ، ومنية اللبيب : ١٢٥.

(٧) المعالم : ٦٢.

٥٥٤

الترك ، لأنّ ذلك يستلزم تركّب كلّ واحد من الأحكام الخمسة من الحكمين ، لأنّ الوجوب حينئذ يتضمّن النهي عن الترك الذي يقتضي التحريم ، والتحريم نهي عن الفعل ويتضمّن إيجاب الترك ، والإباحة مركّبة من الإذن في الفعل والإذن في الترك ، فيكون الإباحة مركّبة من الإذنين والإباحتين ... وهكذا.

وما يقال : من أنّ الوجوب طلب فعل مع المنع من الترك ، فلا يراد به الترك ، بل إنّما يراد به أنّ الوجوب مرتّبة من الطلب لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، بخلاف الاستحباب ، فإنّ فيه من الطلب ما لو التفت إلى الترك لكان راضيا به ، فعدم الرضا بالترك من اللوازم الغير البيّنة للوجوب ، لا جزئه ولا عينه.

ومن هنا ظهر دليل القول بعدم الاقتضاء رأسا ، كما ذهب إليه الحاجبي والعضدي وغيرهما ، لأنّ لهم دعوى عدم كون هذا النحو من المنع التعليقي نهيا ، نحو دعوى النافين لوجوب المقدّمة لعدم كون الإرادة الإجماليّة التي أثبتنا للمقدّمات بحكم العقل والوجدان وجوبا.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الأحكام الخمسة بسيطة لا تركّب فيها ـ فإنّ الوجوب والاستحباب عبارتان عن المرتبتين من الطلب ليس إلاّ ، والحرمة والكراهة عبارتان عن المرتبتين من النهي والمبغوضيّة ليس إلاّ ، والإباحة عبارة عن رخصة بسيطة في الفعل ـ ليس ببعيد عن الصواب. وعلى هذا اتّجه تصوير القول بالاقتضاء على وجه الالتزام ، كما يتّجه نفي الاقتضاء رأسا.

وفي الضدّ الخاصّ أربعة ، إذ لم نجد ولا حكي عن أحد القول بالتضمّن ، وإن كان القول به ليس بأبعد من القول بالعينيّة وأنّ معنى « حرّك » (١) عين قوله : « لا تسكن » و « صلّ » عين قوله : « لا تمش » الذي يظهر من بعض العامّة.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « تحرّك ».

٥٥٥

وفي الضدّ الخاصّ قول آخر للبهائي رحمه‌الله ، وهو : أنّ الأمر بالشيء لو قيل : « إنّه يقتضي عدم الأمر بالضدّ » مكان « النهي عنه » لكان أولى (١).

والذي دعاه إلى هذا : أنّ الثمرة المترتّبة على النهي من فساد العبادة الموسّعة الواقعة في وقت المضيّق على هذا القول أوضح ، إذ ربّما أمكن دعوى الصحّة مع (٢) النهي كما يجيء في الاستدلال ، ولا يمكن دعواها مع عدم الأمر. مضافا إلى أنّ اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بالضدّ أقرب في الاعتبار والاستدلال من اقتضائه النهي عنه.

وهذا القول في بادئ النظر يخالف القول باقتضائه النهي عن الضدّ ، ولكنّ التحقيق أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى القول المشهور ففي غاية البعد من التحقيق.

بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ المصحّح للامتثال في العبادات على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد إنّما هو تعلّق الأمر بعنوان وأفراد مقدّرة مندرجة تحته على نحو صدق الكلّي على الفرد ، ولا حاجة إلى تعلّق الأمر بخصوص ما يأتي به المكلّف من تلك الأفراد ، بل يكفي في صحّته اندراجه تحت ذلك الكلّي المأمور به. فلو ورد أمر بعتق رقبة أو إتيان رجل فذلك الأمر المتعلّق بكلّيّ العتق يقتضي الإجزاء والصحة في الفرد الذي يأتي به المكلّف في مقام الامتثال من غير أن يكون بذلك الفرد بخصوصه أمر بخصوصه ، بل معنى كونه مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مأمورا به ، فيكون احتياج أفراد العبادات إلى الأوامر احتياج كلّيّاتها إليه ، ثمّ عدم ورود تخصيص يوجب خروجه عن ذلك الكلّي نحو الصفة بحال متعلّق الموصوف.

__________________

(١) زبدة الاصول : ٨٢.

(٢) في ( م ) زيادة : إمكان.

٥٥٦

وحينئذ فعدم صحّة بعض الأفراد ـ بمعنى عدم كونه مجزئا في مقام الامتثال بذلك الكلّي ـ لا بدّ وأن يكون ناشئا من منع المولى من الإتيان به في ذاك الفرد ، إذ لا حاجة لذلك الفرد من حيث كونه مجزئا مسقطا عن التكليف بذلك الكلّي إلى الإذن من المولى والأمر به ، وإلاّ لكان أفراد الماهيّة الواحدة التي يتعلّق بها أمر عيني واجبات عينيّة ، ضرورة عدم معقوليّة التفكيك بين الأمر المتعلّق بالكلّي والأوامر المتعلّقة بالأفراد من حيث العينيّة والسنخيّة بعد فرض سريان أمر ذلك الكلّي إلى الأفراد الواجد كلّ واحد منها للكلّي بتمامه ، فحيث ما نحكم ببطلان بعض الأفراد فلا بدّ لنا في ذلك من الاستناد إلى المنع في مقام الامتثال ، وإلاّ فيكفي في الحكم بالصحّة أمران : تعلّق الأمر الشرعي بكلّي ذلك الفرد ، واندراجه تحت ذلك ، من غير الاحتياج إلى أمر المولى بخصوص ذلك الفرد.

إذا تحقّق ذلك فظهر فساد قول البهائي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الأضداد الموسّعة للمأمور به ، ولا ريب في أنّ الواجبات الموسّعة كلّيّات بحسب الأزمان ذات أفراد كثيرة ، فالحكم بفساد بعض أفرادها المصادم لزمان المأمور به المضيّق لا بدّ أن يستند إلى المنع والنهي. فلو قيل بأنّ الأمر بالمضيّق يقتضي المنع والنهي من الفرد من (١) الموسّع الواقع في وقته ، اتّجه الحكم بالفساد كما يقول به المشهور ، وإلاّ فمجرّد عدم كونه مأمورا به لا يحكم بفساده ، كيف! وليس شيء من الأفراد بمأمور به ومأذون فيه غير الإذن العقلي الذي ينشأ عن انطباق الكلّي المأمور به عليها ، سواء وقعت في وقت واجب مضيّق أم لا ، فلو كان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ فلا فائدة في القول بأنّه يقتضي عدم الأمر به بعد أن كان مقطوعا به مع قطع النظر عن ذلك الأمر المضيّق.

__________________

(١) لم يرد « من » في ( ع ).

٥٥٧

نعم ، يتمّ كلام البهائي بعد ثبوت أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون الأمر المضيّق بمنزلة التخصيص أو التقييد اللفظي لعنوان الضدّ الموسّع بغير الفرد الذي وقع في زمان ذلك المضيّق ، على أن يكون وجوب الإزالة فورا بمنزلة الاستثناء من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) حتّى يصير بمنزلة قولك : « إلاّ الزمان الذي فرض فيه شيء فورا » كالإزالة ، فإنّه لو تمّ أنّ الأمر المضيّق يوجب مثل هذا التخصيص في عنوان الضدّ لتمّ قوله بأنّ عدم الأمر يكفي في الفساد ؛ لأنّ الفرد الواقع وقت الإزالة حينئذ لم يكن أوّلا داخلا تحت المراد من « أقم الصلاة » ، فلم يكن الأمر المتعلّق بالصلاة كافيا في حجّيّة هذا الفرد الخارج أوّلا من غير الاحتياج إلى المنع والنهي. ولكن أنّى له بإثبات مثل هذا! إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بالشيء لو اقتضى النهي أو عدم الأمر فإنّما يقتضيهما من حكم العقل واستحالة التكليف بالأمرين في وقت وتقديم المضيّق ، والاستحالة هذه لا تقتضي التخصيص والتقييد في عنوان الصلاة بحسب المراد ، بل إنّما يقتضي المنع العقلي الذي هو في حكم المنع الشرعي عن الإتيان بغير الواجب الفوري من الصلاة وغيرها.

وثانيهما : أن يكون التخيير في أفراد الموسّع بحسب الوقت تخييرا شرعيّا مثل التخيير في الواجبات التخييريّة ، فإنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر دون النهي ، يفيد حينئذ مفاد القول بأنّه يقتضي النهي ؛ لأنّ الأفراد حينئذ قد امر بها شرعا بخصوصها ، فمتى قلنا : إنّ الأمر المضيّق يوجب خروجها عن صفة المأمور به ، اتّجه الحكم بالبطلان من دون أن يكون هناك نهي.

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

٥٥٨

ولكن التحقيق عندنا : أنّ التخيير في الواجبات الموسّعة بحسب الأوقات تخيير (١) عقلي نحو التخيير بين أفراد الكلّي المأمور به ، لا تخيير شرعي كالتخيير في الواجبات التخييريّة. هذه هي الأقوال في المسألة.

وأمّا ثمرة هذا النزاع : فلا بأس بأن نشير إليها قبل الشروع في ذكر الأدلّة.

منها : ترتّب العقاب على فعل الضدّ وعدمه. والأولى تبديل « العقاب » بـ « العصيان » لأنّ ترتّب العقاب في النواهي الغيريّة غير معلوم ، بل إنّما المعلوم خلافه ، كما مرّ تحقيقه في الواجب الغيري. وأيضا « العقاب » أمر اخروي راجع أمره إلى الله تعالى ، فلا فائدة في جعله أثرا في شيء من المسائل ، بخلاف « العصيان » فإنّه لا يتفاوت فيه بين النفسي والغيري والأصلي والتبعي من الأوامر والنواهي. وله آثار شرعيّة أيضا إذا كان الضدّ من الامور التي توجب العصيان فيه حكما من الأحكام كالسفر ، بل ربما يوجب الفسق لو قيل بأنّ العصيان هذا من موانع العدالة ، وإن كان الحقّ خلافه.

ومنها : فساد العبادة الواقعة في وقت المأمور به على القول بالاقتضاء. والظاهر أنّ هذه الثمرة من المسلّمات بين أكثر الأصحاب سيّما القدماء منهم ، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وفتاويهم في أبواب الفقه ، كما في باب قضاء الصلاة ، فإنّ كثيرا من القدماء ـ كالشيخين (٢) والسيّدين (٣) والقاضي (٤) والحلّي (٥) والآبي (٦) على ما حكي

__________________

(١) في ( ط ) و ( م ) بدل « تخيير » : غير.

(٢) المقنعة : ١٤٣ ، ٢١١ ، والمبسوط ١ : ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٣) رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : ٣٨ ، والغنية : ٩٨ ـ ٩٩.

(٤) المهذّب ١ : ١٢٦.

(٥) السرائر ١ : ٢٧٢.

(٦) كشف الرموز ١ : ٢٠٩.

٥٥٩

عنهم وعن غيرهم (١) ـ ذهبوا إلى فوريّة القضاء وفساد الحاضرة قبل الإتيان بالفائتة مستندين إلى أخبار دالّة على وجوب المسارعة إلى الفائتة (٢) ، ولم يعترض عليهم أحد من المتأخّرين القائلين بعدم الفساد : بأنّ النهي عن الضدّ المتولّد من الأمر لا يقتضي الفساد ، بل أجابوا عنها بقدح الدلالة على الفوريّة أو بقدح السند.

فلذا قد صرّح المحقّق في محكيّ المعتبر بأنّ القول بالمضايقة يقتضي الحكم بتحريم جميع الأشياء ، قال فيما حكى عنه : إنّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل شبعا وأن ينام زائدا على الضرورة ولا يتعيّش إلاّ لاكتساب قوت يومه له ولعياله وأنّه لو كان معه درهم ليومه حرم عليه الاكتساب ، والتزام ذلك مكابرة صرفة والتزام سوفسطائي. ولو قيل : قد أشار أبو الصلاح الحلبي إلى ذلك (٣) ، قلنا نحن نعلم من المسلمين كافّة خلاف ما ذكره ، فإنّ أكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة ، فإذا صلّى الإنسان شهرين يومه استكثره الناس (٤) ، انتهى.

ويستكشف من كلامه هذا أنّه لا مناص من الحكم بفساد الحاضرة قبل الفائتة على القول بالمضايقة ، مع أنّ اقتضاء النهي المتولّد من الأمر المضيّق الفساد لو كان عندهم محلّ مناقشة لكان الإشارة إلى منع الفساد من أمتن الدليل على الصحّة. اللهم إلاّ أن يكون نظرهم في خصوص حرمة الضدّ من الواجبات والمباحات ، لا في صحّته وفساده إذا كان من العبادة.

__________________

(١) مثل ابن أبي عقيل والإسكافي ، كما حكى عنهما العلاّمة في المختلف ٣ : ٤.

(٢) راجع الوسائل ٣ : ١٧٤ ، الباب ٣٩ من أبواب المواقيت ، الحديث ١ و ٢ و ٤ و ١٦ والصفحة : ٢٠٩ ، الباب ٦٢ من الأبواب ، الحديث ٢ و ٥ والصفحة : ٣٤٧ ـ ٣٥٠ ، الباب ١ و ٢ من أبواب قضاء الصلوات وغيرها.

(٣) انظر الكافي في الفقه : ١٥٠.

(٤) المعتبر ٢ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

٥٦٠