مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

والوجود الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، وظاهر كلامهم يعطي أنّ المركّب موجود على وجه لا يشعر بأنّ الجزء الآخر هو الوجود في هذا المركّب.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تردّد في المقام : من أنّه لو كان الكلّي موجودا لكان إمّا نفس الجزئيّات أو جزئها أو خارجا عنها ، والأقسام بأسرها باطلة.

أمّا الأول : فلأنّه لو كان عين الجزئيّات يلزم أن يكون كلّ واحد من الجزئيّات عين الآخر في الخارج.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان جزءا منها في الخارج لتقدّم عليه في الوجود ، ضرورة أنّ الجزء الخارجي ما لم يتحقّق أوّلا وبالذات لم يتحقّق الكلّ ، وذلك يوجب انتفاء الحمل.

وأمّا الثالث : فضروريّ الاستحالة.

فإنّ لنا اختيار كلّ من الشقّين الأوّلين.

أمّا الأوّل ، فنختار أنّ الكلّي عين الأفراد في الخارج ، ولا يلزم اتّحاد الأفراد والجزئيّات ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم فيما لو سلّم ثبوت المقدّمة الخارجيّة في قياس المساواة ، وهي : « أنّ عين العين عين » وتلك المقدّمة غير مسلّمة ، فإنّ معنى عينيّة الكلّي الطبيعي للفرد هو أنّ الفرد عبارة عن الماهيّة الخارجيّة ، وحيث إنّ الوجود والماهيّة متّحدان في الخارج لا فاصل بينهما يكون أحدهما عين الآخر ، فالطبيعة عين الفرد ، وأين ذلك من اتّحاد الأفراد؟ لاختلاف الوجودات فيها.

وأمّا الثاني ، فنختار أنّ الكلّي جزء للأفراد ويكون الجزء الآخر هو الوجود الذي به يتحقّق الكلّي ، ولا يلزم تقدّم الجزء في الوجود على الكلّ فيما إذا كان أحد جزئي المركّب هو وجود الجزء الآخر.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الفرد ليس إلاّ وجود الكلّي والطبيعة الموجودة.

٦٨١

وإذ تقرّر ما ذكرنا من وجود الكلّي الطبيعي بالمعنى المذكور ، نقول في الجواب :

أوّلا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب العيني المتّصف به نفس الطبيعة ، فإنّ فرد الصلاة التي هي واجبة عينا ليس إلاّ وجود تلك الصلاة الواجبة في الخارج ، فهو الواجب العيني الموجود في الخارج ، بل وذلك ممّا لا مناص عنه ، إذ لولاه لما صحّ الامتثال ، إذ لا يعقل أن يكون المطلوب هو الفرد (١) وما يسقط به الطلب غيره.

وأمّا قولك : إنّ اتّصاف الفرد يوجب اتّصاف الجميع بالوجوب العيني أو عدم الإجزاء.

نقول : لا محذور في البين أصلا. أمّا الثاني فظاهر ، لأنّا لا نلتزم باتّصاف فرد واحد بالوجوب حتّى يلزم عدم الإجزاء ، كيف! وذلك ترجيح بلا مرجّح ، لاستواء الكلّ في حصول الماهيّة بها. وأمّا الأوّل ، فلأنّه إن اريد من اتّصاف الأفراد جميعها بالوجوب العيني أنّ واحدا منها غير مجز عن الآخر ، فالملازمة ممنوعة ، إذ الوجوب العيني الذي يتّصف به الماهيّة ليس إلاّ عدم كفاية ماهيّة اخرى عنها ، وعدم إجزاء فرد منها عن الفرد الآخر ليس ماخوذا في الوجوب العيني ، وهو بعينه موجود في جميع الأفراد ، لعدم كفاية فرد آخر للماهيّة المغايرة لتلك الماهيّة عنه. وإن اريد من اتّصافها بالوجوب العيني أنّ كلّ واحد منها عين الطبيعة الواجبة بالوجوب العيني وإن كان إتيان بعض أفرادها مسقطا للطلب المتعلّق بها ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة ، ولكن بطلان التالي ممنوع ، بل ولا بدّ أن يكون كذلك كما عرفت.

وثانيا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب التخييري العقلي الذي لا يرجع إلى خطاب تكليفي ، وهو يوجب المحال.

__________________

(١) في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الضرب.

٦٨٢

بيانه : أنّ اجتماع الضدّين يتصوّر على وجهين ، أحدهما : أن يكون شيء واحد شخصي باعتبار جهة واحدة متّصفا بالمتضادّين كالسواد والبياض مثلا. وثانيهما : أن يكون شيء واحد شخصي مصداقا لطبيعتين متغايرتين مفهوما ، ويكون كلّ واحدة من تينك الطبيعتين محلاّ لواحد من الضدّين. ولا فرق في الاستحالة بين القسمين ؛ ضرورة أنّ المتّصف بالضدّين على الثاني أيضا هو المصداق ، فإنّ الوجوب والحرمة كالبياض والسواد والحركة والسكون من الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار الوجود ، ولا ريب أنّ الطبيعتين متّحدتان وجودا وإن اختلفتا مفهوما.

وبعبارة اخرى : أنّ جهة اختلافهما ـ وهي جهة ملاحظتهما في الذهن على وجه التغاير ـ لا مدخل لها في اتّصافهما بالضدّين ، لأنّ الضدّين على ما هو المفروض من الأوصاف الخارجية للماهيّة. وجهة اتّحادهما ـ وهي مقارنتهما في الوجود الخارجي واتّحادهما فيه كما يكشف عنه حمل إحداهما (١) على الاخرى ـ يوجب المحذور المحال ؛ وعلى ذلك نقول : إنّ حصول الطبيعة المأمور بها في الفرد المحرّم كاف في الامتناع ؛ لأنّ ذلك أيضا من اجتماع الضدّين.

وقد يوجّه : بأنّ ذلك من اجتماع الضدّين في مورد باعتبار اتّصاف المورد بأحدهما بنفسه وبالآخر باعتبار حصول الطبيعة الاخرى فيه ، فإنّ ما نحن فيه يكون اتّصاف الفرد بالحرمة بنفسه ـ فإنّ النهي في الفرد المحرّم عيني ـ وبالوجوب باعتبار الصدق. والأقوى ما ذكرنا ؛ لأنّ الفرد المحرّم اتّصافه بالحرمة أيضا باعتبار الصدق ، كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الطبيعتان كلتاهما عرضيّتين للمورد الجامع بينهما ، أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة ، أو كلتاهما ذاتيّتين ، إلاّ أنّه لا يعقل

__________________

(١) أي : إحدى الطبيعتين ، وفي ( ع ) ، ( م ) : أحدهما على الآخر.

٦٨٣

العموم من وجه حينئذ كما هو ظاهر ، فلا بدّ أن يكون بينهما عموم مطلق ، إذ يكفي في اجتماع الضدّين المحال اجتماعهما في مورد واحد على ما هو مناط الحمل ، سواء كان المحلاّن المتّحدان أصيلين في المورد أم لا. ولا حاجة إلى اتّحادهما بوجه لو فرض انتفاء أحدهما يلزم انتفاء الآخر ، فإنّ ذلك ممّا لا يعقل مدخليّته في الاستحالة المذكورة.

فما قد يتوهّم : من أنّ الغصب والصلاة في محلّ الكلام يرتفع أحدهما مع بقاء الآخر ، كما لو أبطل الصلاة أو حصل له الإذن في الصلاة ، وذلك دليل تعدّد الوجود.

ليس في محلّه ؛ فإنّه كلام ظاهريّ خال عن التحصيل ، فإنّ مناط الحمل إمّا أن يكون موجودا أو لا يكون ، والثاني باطل ضرورة صحّة الحمل في المثال المفروض حال عدم الإذن ، والأوّل موجب للمحال ، فإنّ حمل الأسود على ما هو أبيض وحمل المتحرّك على ما هو ساكن وحمل الواجب على ما هو حرام محال جدّا.

ولعمري! إنّ فساد هذه المقالة أوضح من أن يحتاج إلى البيان. وأمّا حديث الارتفاع فهو مشترك الورود بين الذاتيّات والعرضيّات ، كما لا يخفى على المتأمّل ؛ ومع ذلك لا يجدي شيئا بعد ظهور المناط فيما يوجب المحال ، فكن على بصيرة وتدبّر حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير الأوّل في ارتفاع المانع ، فإنّ الفرد عين الكلّي في الخارج ، ولا يعقل أن يكون وجوب الكلّي تعبّديا والفرد توصّليا حتّى يقال بأنّ وجوب الفرد على تقدير وجوب المقدّمة توصّلي يجتمع مع الحرام.

وأمّا ما اشتهر عندهم : من أنّ تعدّد الجهات فيما إذا كانت تقييديّة مجد في عدم اجتماع الضدّين في محلّ واحد (١) ، فهو كلام غير خال عن شوب الإبهام والإجمال.

__________________

(١) انظر حاشية السلطان على المعالم : ٢٩٠ ، وهداية المسترشدين ٣ : ٦٦ ـ ٦٧ ، وضوابط الاصول : ١٣٢.

٦٨٤

وتحقيقه : أنّ التقييد ـ كالتقسيم ـ عبارة عن ضمّ قيود عديدة متباينة بأمر واحد لا يكون أحدها أو نقيضه معتبرا في حقيقة ذلك الأمر الواحد ليصحّ التقييد به وبما يضادّه كالفصول اللاحقة للأجناس ، أو بما يخالفه (١) في الجملة كما إذا كان بين القيدين مباينة جزئيّة ، كالبغدادي والأبيض العارضين للإنسان مثلا ، على ما هو المقرّر في محلّه. ولا يتحقّق حقيقة التقييد إلاّ فيما إذا كان المقيّد أمرا عامّا قابلا لورود القيود المعتورة عليه ، وإذا فرضنا اختلاف أحكام تلك القيود يجب أن يكون المقيّد بها خاليا عن تلك الأحكام ، مثل ما لو فرض وجوب أحد النوعين وحرمة الآخر ، فإنّه لا بدّ وأن يكون الجنس غير متّصف بالوجوب والحرمة ، وذلك من الامور الواضحة التي لا يكاد يعتريها ريب.

فإذا عرفت ذلك نقول : إنّ محلّ الكلام على ما مرّ إنّما هو في فرد جامع لعنوانين ، وتطبيق ذلك على الجهات التقييديّة غير معقول ، فإنّ ذلك الفرد الجامع ليس من الامور القابلة لاعتوار القيدين المختلفين عليه على وجه يحصل من انضمام كلّ واحد من القيدين به فرد ، كيف! وهو فرد لتينك الماهيّتين ، فلا يعقل تقيّده بهما على وجه يحصل فردان متمايزان. نعم ، يصحّ ذلك في مثل ماهيّة السجود الذي يحتمل وقوعه على وجه التعظيم لله والإهانة ، فإنّ التقيّد بكونه لله يوجب اختلافه معه فيما لو كان مقيّدا بكونه للشمس ، فيصحّ اختلاف الفردين في الحكم.

فما يظهر من بعضهم : من ابتناء المسألة على أن تكون الجهات المعتبرة في الواحد الشخصي تقييديّة فيجوز أو تعليليّة فلا يجوز ، إن أراد أنّه يمكن أخذ الجهة تقييديّة في الواحد الشخصي كما يمكن أخذها تعليليّة ، والكلام إنّما هو مبنيّ على تشخيص ذلك فإن كان اعتبار الجهة من التقييد فيجوز وإن كان من التعليل

__________________

(١) في ( م ) زيادة : ولو.

٦٨٥

فلا يجوز ، فهو كلام خال عن التحصيل ؛ لما عرفت من عدم معقوليّة التقييد فيما هو محلّ الكلام. وإن أراد أنّ الاجتماع في الكلّي القابل للقيدين جائز من حيث قبوله للقيدين ولا يجوز فيما اجتمع فيه المقيّدان ، فهو حقّ لكنّه ليس من مباني المسألة ، لأنّ الكلام إنّما هو في الثاني ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما إذا اجتمع الطبيعتان المقيّدتان في مورد واحد ، والقول بأنّ تينك الطبيعتين جهتان تقييديّتان لذلك المورد ممّا لا محصّل له. نعم ، تانك الطبيعتان من أصناف كلّي آخر فوقهما ، فيكون جهة اختلافهما من الجهات التقييديّة بالنسبة إلى ذلك الكلّي الفوق ، لا بالنسبة إلى فردهما وإن فرض كون الفرد أيضا كلّيا ، فإن فرض كلّية ذلك المورد يجوز لحوق قيد آخر به لا ما هو معتبر في فرديّته ، من غير فرق في ذلك بين كون الجهتين عرضيّتين أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة.

والحاصل : أنّ المجوّز إنّما يدّعي عدم التضادّ بين الأمر والنهي ، أو يدّعي جواز اجتماعهما في مورد واحد باعتبار جهتين على وجه لا يصير اختلاف الجهة موجبا لاختلاف المحلّ في الوجود الخارجي ، أو يدّعي أن الجهتين في المقام توجب التعدّد في الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : ففساده أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، فإنّ رفع التضادّ يوجب اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة مع أنّه ممّا لم يتفوّه به عاقل.

وأمّا الثاني : فقد مرّ ما يوضح فساده ، وحاصله : أنّ الوجوب والحرمة من الأوصاف المنتزعة من الأفعال باعتبار وجودها في الخارج كالحسن والقبح ، ولا سبيل إلى انتزاعهما من الأفعال الذهنيّة وإن تعلّق الطلب من الآمر بالطبائع حال وجودها في الذهن ، فإنّ المطلوب ليس تلك الماهيّات المتصوّرة ، وإلاّ لما توقّف الامتثال على إيجاد تلك الطبائع في الخارج ، فموارد انتزاع الوجوب والحرمة إنّما هي

٦٨٦

الأفعال الخارجيّة ، وبعد اتّحاد الموردين في الوجود الخارجي يلزم وجود الضدّين في ذلك الموجود الواحد وإن كان بواسطة اجتماع الطبيعتين ، وهو محال ، وإلاّ لزم اتّصاف جسم واحد ـ كزيد مثلا ـ بالسواد والبياض بواسطة اجتماع عنوانين موجودين فيه ، ككونه بغداديّا وكونه من بني أسد مثلا لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما لأحد الوصفين.

وأمّا الثالث : فبداهة فساده يصرفنا عن الإطالة في إبطاله ؛ ضرورة صحّة الحمل الذي مناطه هو اتّحاد الوجود ولو على وجه ، كما هو ظاهر.

الثالث

من وجوه احتجاجهم على الجواز

هو ما تمسّك به غير واحد منهم (١) : من قضاء العرف بحصول الإطاعة والعصيان فيما إذا أتى المكلّف بفرد جامع للعنوانين ، كما إذا أمر المولى بالمشي ونهاه عن الحركة في مكان خاصّ ، فإنّ العبد لو خالف المولى وأوجد المشي المأمور به في ضمن الحركة في ذلك المكان عدّ عاصيا ومطيعا يستحقّ بالأوّل اللوم والعقاب وبالثاني المدح والثواب. وليس ما ذكر بذلك البعيد ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يلاحظ الاستحقاق المذكور من دون شائبة إنكار.

والجواب عنه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا كان المطلوب بالأمر وجود الفعل المأمور به على أي وجه اتّفق كأن يكون توصّليّا ، وليس تعلّق النهي بالفعل موجبا

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٤٨ ، ومناهج الأحكام : ٥٦ ، وإشارات الاصول : ١١٠ ـ ١١١.

٦٨٧

لعدم حصول الماهيّة المأمور بها ، إذ لا يعقل في الأمر والنهي مدخل في وجود المأمور به والمنهيّ عنه ، كما هو ظاهر.

فإن اريد من الإطاعة التي اخذت في الدليل ما هي معتبرة في الأوامر ـ كما مرّ في بحث المقدّمة ـ ومرجعها إلى عدم المخالفة بواسطة حصول المأمور به ولو اتّفاقا أو بوجه محرّم ، فهو حقّ لا محيص عنه ؛ لما مرّ من أنّ النهي لا يوجب عدم تحقّق المأمور به. ولكنّه لا يجدي ، إذ مرجعه إلى سقوط الطلب بحصول المطلوب. وليس ذلك من الإطاعة والاجتماع في شيء ، ولا يترتّب عليه ثواب أبدا.

وإن اريد منها ما يترتّب على وجودها لوازم الامتثال من الثواب والمدح ونحوهما ، فلا نسلّم أنّ العرف قاض بحصولها ، فإنّ الحركة الخاصّة ليس إلاّ مبغوضا يترتّب عليها العقاب فقط ، ونحن كلّما نراجع وجداننا منصفا غير مسبوق بشبهة لا نرى في الوجدان ما يشبه الحكم بحصول الامتثال بالمعنى المذكور ، وكأنّ اشتراك الإطاعة بين الامتثال بالمعنى المذكور وبين عدم المخالفة أوجب التوهّم المذكور ، فلا تكن في غفلة.

وليس المقصود من الجواب المذكور أنّ الواجب التوصّلي يصحّ اجتماعه مع الحرام ، فإنّا قد أشبعنا الكلام في فساده فيما تقدّم ، وظهر ممّا قلنا في الجواب عن الوجه الثاني اتّحاد مناط الامتناع في القسمين ، بل المقصود القول بحصول الواجب مع اجتماعه مع الحرام لا على وجه الامتثال.

وقد ذكر غير واحد منهم في توجيه الدليل مثال الخياطة والكون في المكان المخصوص (١). فاعترض عليه :

تارة : بأنّه توصّلي يجتمع مع الحرام ، ولعلّ المراد منه ما ذكرنا ، فيندفع ما اورد عليه من اتّحاد المناط.

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٤٨ ، ومناهج الأحكام : ٥٦.

٦٨٨

واخرى : بأنّ محلّ النزاع هنا فيما إذا اتّحد متعلّق الأمر والنهي في الخارج كما مرّ ، ولا نسلّم اتّحاد الكون مع الخياطة ، فإنّ المراد بها إمّا الصفة القائمة بالثوب بعد صدور فعل الخياطة من الفاعل أو نفس الفعل ، لا ما يوجد بالفعل ، وعلى التقديرين ليس الكون في المكان ـ بمعنى التحيّز الراجع إلى مقولة الأين ـ جزءا منه.

وفيه : أنّ ذلك ليس من دأب المحصّلين ، كما هو ظاهر.

والجواب هو ما عرفت : من أنّ العرف إنّما يقضي بسقوط الطلب بواسطة حصول المطلوب ، وذلك إنّما يجدي في التوصّليّات ، حيث إنّ حقيقة المأمور به يمكن حصوله ولو مع اجتماعها وحصولها في فرد محرّم. وأمّا في التعبّديات فالنهي والتحريم إنّما ينافي وجود المأمور به في الخارج ، حيث إنّ التقرّب ممّا له مدخل في حصول المأمور به ولا يعقل التقرّب بالمحرّم ، وعلى تقدير عدم حصول المأمور به في الخارج لا يعقل صدق الامتثال ولا سقوط الطلب.

فإن قلت : قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّه يمكن أن يكون المقصود من الأمر المتعلّق بماهيّة أعمّ من المطلوب بواسطة قصور في الطلب ، فالأفراد المطلوبة متساوية مع الأفراد التي لا يتعلّق بها الطلب بواسطة قصور فيه في حصول غرض الأمر بها وإن لم تكن متعلّقة للطلب ؛ ولذلك قلنا بأنّ حصول الأفراد الغير الاختياريّة يوجب سقوط الطلب مع اختصاص الوجوب بالاختياري. وعلى هذا يمكن القول بأنّ مقصود الآمر ولو كان تعبّديّا هو حصول الماهيّة المأمور بها ولو كان في ضمن فرد محرّم ، ويمكن قصد التقرّب أيضا ، حيث إنّه يحصل لو كان الداعي إلى الفعل المحرّم هو تحصيل ما هو مقصود الآمر وإن لم يكن مطلوبه لامتناع طلب المحرّم ، ولذا يستحقّ المدح عرفا فيما لو كان الداعي في الفعل هو ما ذكرنا ، إذ لا دليل على اعتبار قصد القربة فيما هو زائد على القدر المذكور.

قلت : ما ذكر إنّما يتمّ في الأفراد التي تقع اضطرارا ، كما تقدّم الكلام فيه. وأمّا

٦٨٩

في الأفراد المحرّمة فلا بدّ من التقييد والقول باختصاص المقصود بالأفراد المباحة ، إذ لا دليل على التعميم في المقام ، بل النقل قاض بالتخصيص بالأفراد المباحة ، سيّما في التعبّديات التي لا تصحّ بدون الأمر ، فكيف بالأفراد التي نهى الآمر عنها؟

وبالجملة ، فالاكتفاء بالأفراد المحرّمة في التعبّديات دونه خرط القتاد! وأمّا مدح الآتي بالفرد المحرّم تحصيلا لغرض الآمر ، فإن اريد مدحه من حيث إيجاده الماهيّة المأمور بها فكلاّ ، حيث إنّها محرّمة صرفة ، ولا أمر فيما هو محرّم ، وبعد انتفاء الأمر لا تحصل القربة ، لأنّها عبارة عن موافقة الأمر ، فلا تكون الماهيّة المأمور بها موجودة حتّى يكون المدح لأجلها. وإن اريد مدحه من حيث إنّه في مقام الإطاعة وتحصيل غرض الآمر ، فذلك أمر لا يرجع إلى طائل فيما هو المقصود من حصول الواجب وإن كان حسنا في مقامه.

وتوضيح المطلب : أنّ لسقوط الأمر والطلب وجوها من التصوّر :

الأوّل : أن يأتي بالمأمور به على وجه يكون الداعي على إتيانه الأمر والإطاعة.

الثاني : إتيان ما هو مقصود الآمر وإن قصر طلبه عنه ، كإيجاد الضرب على وجه غير مقصود للضارب.

الثالث : إيجاد ما يشبه في الصورة المأمور به ، كإيجاد الضرب على وجه محرّم.

الرابع : إعدام الموضوع الذي يرتبط به الطلب ، كإحراق الثوب المأمور بغسله أو قتل الدابّة المأمور بتعليفها وسقيها ورعيها.

والإطاعة بمعناها الحقيقي صادقة في القسم الأوّل ، والتوصّليّات إنّما يتحقّق الواجب فيها بالقسم الثاني أيضا. وأمّا القسم الثالث فليس الحاصل فيه الواجب وإن كان يجدي في حصول التوصّلي ، فإن الفرد المحرّم خارج عن

٦٩٠

المقصود في أيضا ، وأمّا التعبّدي فليس الموجود في الفرد المحرّم شبيها له أيضا ؛ لما عرفت من عدم حصول الماهيّة المأمور بها فيه

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من أنّ الآمر لا بدّ وأن يكون الفرد المحرّم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا ، يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرّم ، بل بواسطة انتفاء الأمر كما هو قضيّة التقييد ، مع أنّ المشهور أنّ المانعين يحكمون بصحّتها ، وكذا صحّة نظائرها كصلاة الصبيّ ـ بناء على كونها تشريعيّة ـ في الدار المغصوبة ، وقد سمعت فيما تقدّم كلام المقدّس الأردبيلي (١) ( طيّب الله رمسه ).

قلت : إنّ المخصّص لو كان لفظا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » كان الوجه عدم وجوب إكرام زيد في جميع الأحوال. وأمّا لو كان المخصّص عقلا ، فلا بدّ من الاقتصار على قدر يقتضيه. وليس وجه التخصيص بالأفراد الغير المحرّمة في المقام إلاّ مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحّة والأخذ بإطلاق الأمر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كإنقاذ الغريقين ، فإنّ عدم تعلّق التكليف بكلّ واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس إلاّ بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع بينهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صحّ الأمر من غير إشكال.

وتوضيح المقال : أنّ النهي المتعلّق بعبادة إن كان بواسطة عنوان مجامع للعبادة مع كونه أخصّ منها فالظاهر أنّ ذلك تخصيص للأمر بخروج تلك العبادة مطلقا عن المأمور به ، وإن كان بواسطة عنوان بينهما عموم من وجه فيحكم بكونها فاسدة حال تعلّق النهي بها ، إذ لا قاضي بما يزيد على ذلك من دليل التخصيص.

__________________

(١) راجع الصفحة ٦١١.

٦٩١

أمّا الأوّل : فلأنّ مرجعه إلى التخصيص اللفظي ، كما فيما إذا قيل : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة. ولعلّ السرّ في ذلك أنّ النهي المذكور تابع لمفسدة ثابتة في الفرد الخاصّ فيتعلّق النهي به لكونه فاسدا ، وليس الفساد فيه تابعا للنهي ، فيجب الأخذ بمقتضى الفساد في جميع الأحوال. ونظيره الأوامر الواردة في مقام بيان ماهيّة العبادات المركّبة ، فإنّها قاضية بأنّ تلك الأجزاء ممّا لا يتخلّف عن مركّباتها عمدا وسهوا واضطرارا.

وأمّا الثاني : فلأنّ مرجعه إلى مزاحمة بين الطلبين على وجه لا بدّ من الالتزام بانتفاء أحدهما مع وجود مقتضي الطلبين ، وبعد القول بترجيح النهي في مورده على الأمر لا بدّ من القول بفساد العبادة ، فالفساد تابع للنهي ، وبعد ارتفاع النهي المانع من تعلّق الطلب الوجوبي مع وجود ما يقضي به يعود ذلك الطلب ، فيصحّ العمل لو وقع في حال السهو والنسيان من دون شائبة.

فإن قلت : إنّ ارتفاع الطلب التحريمي لا يكفي في صحّة المأمور به مع بقاء المفسدة التي ينبعث منها التحريم بناء على اصول العدليّة ، ولا سبيل إلى منع المفسدة على تقدير انتفاء الطلب ، فإنّ ذلك يستلزم اختلاف الفعل بواسطة الذكر والنسيان والجهل والعلم ، وهو التصويب كما لا يخفى ، ووجه اللزوم ظاهر.

قلت أوّلا : إنّ ما ذكر من وجود المفسدة إنّما يتمّ فيما إذا كان ذهاب النهي بالسهو والجهل ونحوهما ممّا يليق اختلاف الأحكام باختلافها. وأمّا الاضطرار فيصحّ اختلاف الأحكام والمفاسد والمصالح به ، فلا دليل على وجود المفسدة بعد ارتفاع الطلب.

وثانيا : سلّمنا وجود المفسدة في جميع الموارد ولكن لا نسلّم أنّ المفسدة تمنع عن تعلّق الطلب الوجوبي في موردها ، لأنّ المانع إمّا مجرّد اجتماع المفسدة والمصلحة كالأمر والنهي والحسن والقبح ، وإمّا اقتضاء اللطف عدم تعلّق الأمر والطلب بمورد وجد فيه المفسدة.

٦٩٢

أمّا الأوّل : فلا نسلّم امتناع اجتماعهما إن لم يكن المراد بهما الحسن والقبح الفعليّان ، ضرورة صحّة اجتماع المفسدة والمصلحة في شيء بالنسبة إلى جهات عديدة ؛ وذلك نظير اتّصاف شيء واحد بإضافات متقابلة كالابوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة ، لكن لا بالنسبة إلى شيء واحد بل بالنسبة إلى أشياء متعدّدة ، فيصحّ أن يكون السقمونيا مفسدة لأحد الأخلاط الأربعة ومصلحة لآخر منها ، وذلك أمر ظاهر. والوجه في ذلك : انتفاء التقابل بعد ملاحظة الجهات ، فإنّ ابوّة زيد لا تقابل بنوّة عمرو ، لا أنّهما متقابلان ويكفي في اجتماعهما واتّصاف المحل بهما وجود الجهتين. وإن اريد من المصلحة والمفسدة الحسن والقبح فالحقّ ارتفاعهما بارتفاع الطلب.

وأمّا الثاني : فلا نسلّم أنّ قضيّة اللطف عدم تعلّق الطلب بمورد يكون فيه المفسدة ، كيف! والوقوع في تلك المفسدة ممّا لا مناص عنه ، فإنّ المفروض أنّه ليس من الامور الاختياريّة ، بل المكلّف يقع في تلك المفسدة على وجه الاضطرار ، فلا مانع من إيصال المكلّف إلى مصلحة الفعل ولا يلاحظ فيه مساواة المصلحة للمفسدة وزيادتها عليها ، فإنّ المفسدة لازمة لا مناص عنها ، فيكون المصلحة بمنزلة ما لا معارض لها.

هذا ما وسعنا من الكلام في أدلّة المجوّزين والجواب عنها. وبعد ما عرفت في جوابها من ثبوت المانع من الأخذ بإطلاقات الأوامر والنواهي في مورد الاجتماع لا حاجة إلى إيراد احتجاج القول بالامتناع.

وقد يذكر في الدليل على الامتناع وجوه مرجعها إلى ما ذكر في الأجوبة المتقدّمة ، فإن أردتها فارجعها (١). والله الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « فراجعها ».

٦٩٣
٦٩٤

هداية

في ذكر احتجاج المفصّل بين العرف والعقل

كالسيّد الطباطبائي (١) ، ويظهر ذلك من سلطان المحقّقين أيضا في تعليقاته على المعالم (٢) ، والمحقّق القمّي في المسألة الآتية (٣) ، وقد عرفت فيما تقدّم نسبته إلى المقدس الأردبيلي (٤) بما فيها.

وكيف كان ، فالوجه في التفصيل المذكور لعلّه الجمع بين ما تقدّم من دليل المجوّز من جواز اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، وبين ما يفهم في العرف من التعارض بين الأمر والنهي في مادّة الاجتماع ، والحكم بلزوم تخصيص أحدهما بالآخر فيما لو ساعد عليه دليل ، وإلاّ فالحكم بالتساقط والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل.

والجواب عنه : أنّه لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع في حكم العقل بالجواز عين الموضوع المحكوم عرفا بالامتناع أو غيره.

لا سبيل إلى الأوّل لامتناع أن يكون حكم العرف على خلاف حكم العقل ، فلو فرضنا أنّ العقل يحكم بامتناع اجتماع المتناقضين لا وجه لتوهّم اختلاف العرف

__________________

(١) قد نقل عنه سابقا في الصفحة ٦١٢ ، بلفظ : وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا وكأنّه مسموع منه شفاها.

(٢) انظر حواشي السلطان على المعالم : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٣) القوانين ١ : ١٥٩.

(٤) راجع الصفحة ٦١١.

٦٩٥

للعقل والحكم بجوازه ، وكذلك العكس. والسرّ في ذلك : أنّ العرف لا حكومة له في قبال العقل ، بل العرف مرتبة من مراتب العقل وطور من أطواره ، حيث إنّ جهة الارتباط والاستيناس باستفادة المعاني من الألفاظ بواسطة العلم بأوضاعها أو قرائنها يسمّى بالعرف. ولا شكّ أنّ هذه أيضا من مظاهر العقل وجنوده ، وكيف يعقل اختلاف حكمي العقل والعرف في موضوع واحد مع أنّ العرف هم العقلاء؟ وذلك ظاهر.

وكذا لا سبيل إلى الثاني كأن يكون هناك موضوعان يحكم العقل في أحدهما بالجواز كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأوامر هو الطبائع وفرضنا جواز اجتماع حكمين متضادّين في فرد واحد من طبيعتين من تلك الطبائع ، ويحكم العرف في الآخر بالامتناع كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأمر والنهي خصوص الفرد الجامع للعنوانين ، فإنّه لا كلام في امتناع ذلك حتّى من المجوّزين ، ففي كلّ واحد من الموضوعين يتطابق العقل والعرف في الحكم بالامتناع والجواز ، لما عرفت من أنّه لا حكومة للعرف في قبال حكومة العقل.

وحينئذ نقول : إنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة من الأوامر والنواهي إمّا الموضوع الذي يحكم العقل فيه بالجواز كما تخيّله المجوّزون من تعلّق الأوامر بالطبائع وكفاية تعدّد الجهة في رفع التضادّ ، أو الموضوع الذي يحكم العرف فيه بالامتناع. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور ؛ لما عرفت من تطابق العقل والعرف في كلّ واحد من الموضوعين بالجواز والامتناع ، ومع ذلك لم يبق للتفصيل وجه يمكن التعويل عليه ويركن إليه.

فإن قلت : إنّ الوجه في التفصيل هو أنّ المستفاد من الأمر والنهي بمقتضى الوضع في اللغة هو المعنى الذي لا يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه كما مرّ في دليل المجوّزين ، وهذا المعنى ليس مستفادا عند العرف ، بل المستفاد عندهم هو

٦٩٦

المعنى الذي يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، كأن يكون المستفاد من الخطابات تعلّق التكاليف ابتداء بخصوص الأفراد ، فليس العرف حاكما في قبال العقل ، إلاّ أنّ استناد الامتناع إليه بواسطة أنّ موضوعه ممّا للعرف مدخل فيه ، ولو من حيث استفادة ذلك الموضوع من اللفظ.

قلت : إنّ وجه اختلاف المعنى اللغوي للمعنى العرفي ، إمّا الوضع الثانوي أو القرينة ، والأوّل معلوم العدم وظنّي أنّه لا يدّعيه المفصّل أيضا. والثاني إمّا أن يكون عقلا أو غيره من غلبة الاستعمال أو الوجود ممّا هو منشأ الاختلاف.

أمّا الأوّل : فلا نجد في العقل ما يقضي بأن يكون المستفاد من قول الشارع : « صلّ » و « لا تغصب » الموضوعين في اللغة لطلب طبيعة الصلاة والنهي عن طبيعة الغصب وجوب خصوص الفرد وحرمته حتّى يلزم المحذور ، فإنّ المفروض أن لا امتناع في ذلك ، فلا داعي للعقل في صرفه عن ظاهره. وعلى تقدير الامتناع فالوجه صرفه إلى معنى غير ممتنع ، لا إلى معنى أشدّ امتناعا من معناه الحقيقي ، كأن يحمل على الأفراد ، كما هو مقصود المفصّل.

وأمّا الثاني : فلا نعرف شيئا يقضي بأنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة غير مداليلها اللغويّة ، فضلا عن تعيين الأفراد حتّى يترتّب عليه التفصيل المذكور. فالحقّ أنّ ما ذكروه من قضاء العرف بالامتناع أعدل شاهد على أنّ اجتماع الوجوب والحرمة في مورد اجتماع الطبيعتين من الامور المستحيلة ؛ لما قد تقدّم من أنّ التخصيص لا يعقل بدون التعارض ، وهو عين الامتناع.

ثمّ إنّ ظاهر المفصّل هو ما قدّمنا دفعه من أنّ العرف حاكم بالامتناع في موضوع حكم العقل بالجواز ، ولذلك تعرّضنا لدفعه أوّلا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد يورد على المجوّزين : اتّفاقهم على التعارض فيما إذا كان العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ، كما في قولك : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق »

٦٩٧

ويظهر ذلك بالرجوع إلى كلمات الفقهاء في الأبواب الفقهيّة والاصوليّين في باب التعادل والتراجيح ، مع أنّه لا يعقل فرق بين أن يكون العموم من وجه بين العنوانين في الأمر والنهي بملاحظة نفس المفهومين ـ كالغصب والصلاة ـ أو بملاحظة متعلّقهما كما في المثال المذكور.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بمثل ما ذكرنا في وجه التفصيل.

وحاصله : أنّ العرف وإن قلنا بأنّه لا يقضى بتعلّق الطلب في مثل قولك : « صلّ » و « لا تغصب » بالفرد ، إلاّ أنّه قاض بتعلّقه بالفرد في قولك : « أكرم العالم » ولعلّ السرّ في ذلك هو : أنّ الوجه في اختلاف المأمور به والمنهيّ عنه هو تعلّق المأمور به والمنهيّ عنه بالعالم والفاسق ، وهما في المثال المذكور لا يراد بهما مفهوم العالم والفاسق على وجه يكون ثبوت الحكم لزيد العالم باعتبار ثبوت هذا المفهوم لزيد ، بل « العالم » عنوان لزيد على وجه يكون زيد متعلّقا للحكم ابتداء من دون سراية ، فيؤول الأمر إلى اجتماع وجوب الإكرام لزيد وحرمته له بواسطة جهتين تعليليّتين ، وذلك ممّا اتّفق المجوّز والمانع على امتناعه.

وفيه : أنّ اعتبار العالم لأفراده على وجه يكون عنوانا لها من غير سراية ويكون الحكم ثابتا لزيد ابتداء يشبه أن يكون من سخيف الكلام ، فإنّ الظاهر أنّ وجوب إكرام زيد من حيث إنّه فرد من أفراد العالم ، والمفروض حصول طبيعة الفاسق فيه أيضا ، فيحرم إكرامه ـ كما هو مفاد النهي ـ فالقائل بالجواز يلزمه القول بالجواز في المقام أيضا ، لأنّ العالم والفاسق طبيعتان مختلفتان تعلّق بإحداهما الوجوب وبالاخرى الحرمة ، وقد اجتمعتا في فرد واحد ، فيجب إكرام إحداهما ويحرم إكرام الاخرى ، فلو فرض إكرام مورد الاجتماع كان بذلك عاصيا من جهة إكرام الفاسق ومطيعا من جهة إكرام العالم ، فلو كانت الجهتان تعليليّتين فلم لا نقول به في مثل الغصب والصلاة؟

٦٩٨

فإن قلت : هب! أنّ العالم والفاسق مفهومان متغايران ، ولكن متعلّق الأمر والنهي واحد وهو الإكرام ، بخلاف « صلّ » و « لا تغصب » لاختلاف المتعلّقين فيهما.

قلت : إنّ المدار على الاختلاف في المعنى وإن اتّحد المتعلّقان في الصورة ، وهو حاصل في المقام ، فإنّ إضافة الإكرام إلى العالم والفاسق ونحوهما يوجب تنويع الإكرام إلى أفعال يصحّ تعلّق الأمر بأحدها والنهي بغيره ، كما يلاحظ في السجود المضاف إليه تعالى والسجود المضاف إلى الشمس ، وإلاّ فلا وجه للأمر والنهي في غير مورد الاجتماع أيضا ، مع أنّه لا كلام في صحّة الأمر بالإكرام بالنسبة إلى زيد العالم والنهي عنه بالنسبة إلى عمرو الفاسق ضرورة اشتراط اتّحاد الإضافة في التناقض.

فإن قلت : هب! أنّ الإضافة توجب اختلاف الإكرام ، لكن فرق بيّن بين اختلاف الصلاة والغصب وبين اختلاف الإكرامين بواسطة تعدّد الإضافة ، فإنّ مورد الاجتماع في الأوّل يوجد فيه فعلان مختلفان ، غاية الأمر أنّهما موجودان بوجود واحد ، ومورد الاجتماع في الثاني فعل واحد تعدّد إضافاته ، فالموجود والوجود في الثاني كلاهما واحد ، ولذلك لا يصحّ العطف فيه بالواو ، كأن يقال : إنّ المكلّف أوجد إكراما وإكراما ، كما يصحّ في الأوّل أن يقال : إنّه أوجد صلاة وغصبا ، فمرجع التغاير في الأوّل إلى التغاير الواقعي وفي الثاني إلى مغايرة اعتباريّة صرفة ، لا يصحّ فيها اجتماع حكمين متضادّين. ولعل السرّ في ذلك : أنّ الإكرام مثل السواد والبياض متعلّق بالموجودات الخارجيّة ابتداء ، فإنّ السواد الموجود في جسم واحد ـ كالعباء مثلا ـ لا يعدّ سوادان ، سواد الصوف وسواد العباء لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما السواد. ومن هنا يظهر وجه خروج المثال المذكور عن محلّ البحث أيضا.

٦٩٩

قلت أوّلا : لا نسلّم أنّ اختلاف الإكرام بالإضافة لا يوجب اختلاف الماهيّة ـ كما عرفت في مثال السجود ـ بل التحقيق أنّ الإضافة توجب تنويع الإكرام ، كما يكشف عنه صحّة حمل إكرام العالم وإكرام الفاسق على الإكرام الموجود ، وهو ظاهر.

وثانيا : أنّ الوجه في ركاكة العطف ليس اتّحاد الحقيقة ، بل اتّحاد الصورة قاض به ، حيث إنّ ظاهر العطف هو تعدّد الوجود ، ولذا لو انضمّ إليه قرينة الاتّحاد لا يلزم محذور. وأمّا حديث السواد فالوجه فيه : أنّ السواد من عوارض الجسم مع عدم اعتبار خصوصيّاته في عروضه له وإن كانت واسطة في ثبوته للمورد ، إذ بدونها لا قوام لها حتّى يتّصف بالسواد ، ولو فرض أنّ كلّ واحد من الصوفيّة والعبائيّة يقتضي لعروض السواد في المحلّ فلا نسلّم أنّه ليس هناك سوادان موجودان بسواد واحد.

ومن هنا يظهر أنّ الأقوى دخوله في محلّ النزاع ، ويكون ذهاب المجوّز إلى التعارض فيه مبنيّا على تخيّله أنّ المستفاد منه في العرف غير المستفاد من قولك : « صلّ » و « لا تغصب » كما عرفت في وجه المفصّل ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه دعوى لا يساعد عليها ضرورة ولا بيّنة. والله الهادي إلى سواء السبيل.

٧٠٠