مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ب ـ استخراج مصادر النصوص ، وعهد به إلى :

١ ـ حجّة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.

٢ ـ حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

٣ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.

٤ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

٥ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

٦ ـ حجّة الإسلام والمسلمين السيد حافظ موسى زاده الخلخالي.

٧ ـ حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد رضي الحسيني الاشكوري.

ج ـ تقويم النصّ ، وتولّى ذلك :

١ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة الله الرحمتي الأراكي.

٢ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد علي الأنصاري.

٣ ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

د ـ المراجعة العامة للكتاب ، وانبرى لها حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين الأحمدي الشاهرودي وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

كما نشكر حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ أمر الله الشجاعي لإعداده مقدّمة الكتاب.

ولقد تظافرت جهود هذه المجموعة من العلماء والفضلاء أصحاب الخبرة لتحقيق الكتاب بدقّة علمية عالية ، ومع كلّ ذلك ننوّه إلى اعتزازنا بالملاحظات البنّاءة التي ترفع من مستوى هذا العمل. راجين من الله تعالى أن يتقبّله منّا بقبول حسن ، إنه سميع الدعاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لجنة التحقيق / مجمع الفكر الإسلامي شوال ١٤٢٤ هـ

٢١
٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك اللهمّ على ما طهّرتنا من دنس الإشراك ، وفضّلتنا بعبادتك على ملأ الأفلاك ، مسترشدا إليك عمّا أضلّت العقول ، ومستهديا منك في تفريع الاصول ، لنحتذي حذو ما أمرت ، وننتحي نحو ما أردت.

واصلّي واسلّم على من أحيا موات القلوب بحكمه (١) الشافية ، ونقّاها عن صفات العيوب بكلمة الوافية ، ورفع عن فطرتها الرذائل وألبسها العافية ، ودفع عن نيّتها الزلازل بوقايته الكافية ، فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفجير صلودها ، ومبالغا في تخضير عودها ، حتّى اعشوشبت قفارها بالخشوع ، واحلولت ثمارها بالخضوع ، واستولت على أرجائها القنوع ، واشتكلت بهيئة الإيمان ، واشتملت على الحكمة والبرهان ، وامتثلت ما اقتضاه القرآن ، واختزل عن جنانها الشيطان ، وصار الملك يومئذ لله الواحد المنّان.

وعلى آله الذين أفصحوا عن مراده ، ودلّوا على صراطه ، خلفائه على الامّة ، وامنائه على الملّة والسنّة ، مناهج الحقّ ومسالك اليقين ، ومالكي الدين ، أئمّة

__________________

(١) الكلمة غير مقروءة ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٣

الخلائق ، وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ، صلاة كثيرة لا يحصيها العادّون ، ولا يبلغ غايتها المجتهدون ، ما اختلف الليل والنهار واعترف الربيع بالأزهار.

فإنّ العلم نور أشرقت له السماوات ، وانكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر المخلوقات. وهو المنهج الأشمّ ، والاسم الأعظم ، والترياق الأكبر ، والكبريت الأحمر ، والذروة العليا ، والجنّة المأوى ، والمدينة التي أنفت بالعلاء أركانها ، والحظيرة التي شرّفت بالسناء جدرانها ، وكلمة الله التي لو كان البحر مدادا لنفد البحر قبل ما يعتريها النفاد ، وحكمة الله التي أوتي خيرا كثيرا من اوتيها من العباد.

وهو السراج الوهّاج ، والماء الثجّاج ، وفضل الله ورحمته ، وصراط الحقّ وعصمته ، والمدّة في الحياة ، والعدّة بعد الممات ، والمنهاج الواضح المسالك ، والدليل إذا عميت المهالك ، وبه يقترب القاصي ، وينتدب العاصي ، وتملك النواصي ، وتستخلص الصياصي.

فلعمري إنّه الفضل الذي لا يجحد ، والشرف الذي لا يحدّ ، والرتبة التي لا ينالها إلاّ من اختاره الله وقدّمه ، أو الذي اصطفاه وولاّه وحكّمه.

أكرم به من أسماء علّمها آدم عليه‌السلام ، وأعظم به من أسرار جرت في ولده إلى خاتم ، خصّ بالتحيّة والإكرام.

فاستودعها صلى‌الله‌عليه‌وآله أطائب عترته ، واستأمن عليها أكارم أرومته ، تشييدا لقواعد الدين ، وتمهيدا لأساس اليقين ، وحفظا لحوزة المؤمنين ، وردعا لبادرة الكافرين.

فمن تداركه فضل من الرحمن اغترف من فضالتهم ، ومن أدركه عون من الديّان اقتبس جذوة من نبالتهم.

٢٤

فإذن ، العلماء معادن الحكمة وتراجمة الأوحاء (١) وأسفاط الفضيلة ومستودع الأنباء ، احتجّ الله بهم على العباد في دار الدنيا ويوم التناد. فقاموا بما استحفظوا ـ كثّر الله أمثالهم ـ خير القيام ، وقعدوا في تدوينه ـ شكر الله سعيهم ـ عن طيب المأكل والمنام ، وصبروا في نشره على الأذى والآلام ، وحسروا عن ذراع الهمّة لتمكين الخلائق في الحلال والحرام ، فتناولوه يدا عن يد ، وتداولوه واحدا بعد أحد.

فلم يزل ذلك دأبهم من قديم الزمان وديدنهم في كلّ وقت وآن ، حتّى انتهى الفضل إلى خاتمة المجتهدين ، وانحصر العلم في رأس الملّة والدين ، مرجع العلماء المحقّقين ، وفخر الفقهاء المتبحّرين ، معقل الأنام وكهف المسلمين والإسلام ، الكاشف بسنا أنواره غياهب الظلام عن وجوه الأحكام ، طود التقى ، بحر النهى ، ملاذ الورى ، علم الهدى ، مرتضى المصطفى ، مصطفى المرتضى ، مولى العصابة وعبد الباري ، المهاجر إلى الحقّ مرتضى الأنصاري ، أجزل الله في الدارين مثوبته ، ورفع في العلّيين [ درجته ](٢).

فارتقى في العلم مرتقى لم يسبقه الأوّلون ، واحتوى في الفضل رتبة ما أدركه الآخرون ، وفاز بمقام يغبطه العالمون ، فشخصت إليه الأبصار ، ورنت لديه الأنظار ، ومدّت نحوه الأعناق ، وألمت عنده الآفاق ، وانيخت بفنائه الركاب ، وأحدقوا به من كلّ باب ، روما للاغتراف من لجج بحاره ، وميلا للالتقاط من درر نثاره ، وطمعا في الاستنارة بتألّق أنواره ، وحرصا على اقتناء (٣) آثاره ، فامتلى كلّ إناء قدر ما وعاه ، وحكى كلّ زجاجة ما حاذاه ، ربّيون كثير ما وهنوا عن تناوش جداه.

__________________

(١) كذا ، فإنّ جمع « وحي » ، هو « وحيّ » بكسر الحاء وتشديد الياء ، لا « أوحاء » كما جاء في الخطبة.

(٢) الزيادة اقتضاها السياق.

(٣) في « ط » بدل « اقتناء » : « الثناء » ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٥

وحيث إنّ حكيم الفقهاء الربّانيّين ، وفقيه الحكماء الإلهيّين ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره وأوانه ، علاّمة العلماء والمجتهدين ، وكشّاف حقائق العلوم بالبراهين ، صاحب المفاخر والمكارم ، الحاج ميرزا أبو القاسم النوري الرازي ـ قدّس الله تربته وأعلى في الجنان رتبته ـ كان الذي اقتطفه من تلك الشجرة أحلاها ، وما التقطه من تلك الثمرة أزكاها ، وما استظهره من الحقائق أجلاها ، وما استنبطه من الدقائق أنقاها ، مشتملا على فوائد نفعها أعم ، ومحتويا لزوائد فيضها أتمّ ، تاقت نفوس الطالبين إلى مناله ، وراقت عيون المشتغلين رؤية مثاله ، فذهبت عليه نفسهم حسرات ، وطلبت نسخته من كلّ حاجز وآت.

فاعتنى لطبع هذا الكتاب المستطاب المسمّى بـ « مطارح الأنظار » ـ إعانة على البرّ واكتسابا للصواب ـ بعض من وفّقه الله لمراضيه ، وجعل مستقبل أيّامه خيرا من ماضيه ، عمدة الأخيار وزبدة التجّار ، المبرّأ من كلّ شين ، الآقا ميرزا محمّد حسين النوري ، أدام الله عزّه وإقباله.

فبحمد الله والمنّة خرج كتابا يسير في الأيدي مسير الصبا في الأمصار ، وصلّى الله على محمّد وآله الأطهار (١) (٢).

__________________

(١) لم ترد الخطبة في غير « ط ».

(٢) جاء في الذريعة ٢١ : ١٣٦ : « وقد رتّب مباحثه [ مطارح الأنظار ] وسمّاه بهذا الاسم ، وطبعه ولده الفاضل الحاج ميرزا أبو الفضل المتوفى : ١٣١٦ » فلعلّ المقدمة منه أيضا.

٢٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في الصحيح والأعم

٢٧
٢٨

قد اختلف أنظار أهل النظر في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام (١) للصحيح (٢) أو الأعم منه ومن الفاسد؟ (٣) على أقوال (٤).

ثالثها : التفصيل بين الأجزاء والشرائط (٥) ، بالمصير إلى الأوّل في الأوّل وإلى الثاني في الثاني.

وربما يعدّ من الأقوال في المقام ، ما أفاده الشهيد في قواعده بقوله : الماهيّات

__________________

(١) في « ع » و « م » : « أسامي ».

(٢) ذهب إليه جماعة ، منهم : صاحب الفصول وأخوه الشيخ محمّد تقي ، انظر الفصول : ٤٦ ، وهداية المسترشدين ١ : ٤٤٢ وما بعدها ، وكذا الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ١٠٣.

(٣) ذهب إليه جماعة اخرى ، منهم : المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤ ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : ٢٧ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٤ ، والقزويني في ضوابط الاصول : ٢٢.

(٤) انظر تفصيل الأقوال والقائلين في هداية المسترشدين ١ : ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، ومفاتيح الاصول : ٤٤ ، ومناهج الأحكام : ٢٧.

(٥) حكاه في الفصول : ٥٢ عن بعض متأخّري المتأخّرين ، وفي مناهج الأحكام : ٢٧ ، وهداية المسترشدين ١ : ٤٣٧ عن بعض.

٢٩

الجعليّة ـ كالصلاة والصوم وسائر العقود ـ لا يطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ (١) ... إلى آخر ما أفاده. وستعرف الكلام فيه إن شاء الله (٢).

ثمّ إنّ تحقيق المقام على وجه يرتفع غواشي الأوهام في طيّ هدايات :

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨.

(٢) انظر الصفحة ٣٨.

٣٠

هداية

لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهل جريانه موقوف عليه فلا يجري على تقدير عدمه أو لا؟ قولان.

ظاهر بعض الأفاضل (١) هو الأوّل ، وهو المحكيّ عن بعض الأجلّة (٢) ، تبعا لبعض أفاضل سادات المتأخّرين (٣).

والحقّ ـ وفاقا لصريح جماعة من المحقّقين (٤) ـ هو الثاني.

واستظهر الأوّل من ملاحظة العناوين ؛ فإنّ في التعبير بـ « الأسامي » تلويحا بل تصريحا بالوضع. ويؤيّده أدلّة الطرفين : من دعوى التبادر وغيره من خواصّ الحقيقة والمجاز ، مضافا إلى عدم تعقّل النزاع على تقدير عدم الوضع ؛ لأنّ القائل بالأعم حينئذ إن أراد صحّة استعمال اللفظ في الأعم أو وقوعه مجازا ، فهو ممّا لا سبيل لإنكاره ؛ فإنّ القائل بالصحيح يعترف في الجواب عن أدلّة الأعميّ بوقوعه وصحّته ، كما أنّه لا سبيل لإنكار استعمال اللفظ في الصحيح إذا (٥) لم يدّع القائل به أنّه على وجه الحقيقة خاصّة.

__________________

(١) كالفاضل النراقي في المناهج : ٢٦.

(٢) انظر الفصول : ٤٦.

(٣) وهو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٤.

(٤) منهم : المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٠ ، والشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين ١ : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، والقزويني في ضوابط الاصول : ٢١ ، والكلباسي في إشارات الاصول : الورقة ١٧.

(٥) في « ع » : « إذ ».

٣١

أقول : الوجه في اختصاص العنوان ـ بعد تسليم دلالة الاسم على الوضع ـ : أنّ عنوان النزاع إنّما هو من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وإنّما تبعهم في العنوان من لا يقول بها جريا على ما هو المعنون في كلامهم ، محافظة لما قد يتطرّق إليه من الاختلال (١).

ومنه يظهر الوجه في اختصاص الأدلّة ؛ فإنّها تابعة لما هو الواقع في العنوان ، ولم يظهر من النافي للحقيقة الشرعيّة ـ مع ذهابه في المقام إلى أحد الوجهين ـ التمسّك بما ينافي ما اختاره من العدم.

وأمّا ما ذكر (٢) في الإضافة ، فلا ينافي جريان النزاع على تقدير العدم ؛ لجواز اختلاف مراتب المجازات ، فيمكن أن ينازع في أنّ المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على وجه يحمل عليه اللفظ عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقي أو الأعم؟

وأمّا ما قد يتخيّل : من أنّ الغلبة ممّا لا وجه لادّعائها على القول بالصحيح ؛ ضرورة كثرة الاستعمال في الأعم على وجه لا يكاد ينكر غلبته على الصحيح أو مساواته له ، فهو على تقدير صحّته ينهض حجّة للقول بالأعم أو القول بالتوقّف حينئذ ، ولا يمنع من جريان النزاع على تقدير العدم ، كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في تصوير النزاع على تقدير العدم : إنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ الاستعمال في الفاسدة ليس مجازا غير اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، بل إنّما الاستعمال في الفاسدة من وجوه الاستعمال في الصحيحة ، تنزيلا لها منزلتها بوجه من وجوه صحّة التنزيل ، من (٣) تنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء والشرائط

__________________

(١) في « م » : « الاختلاف ».

(٢) في « ع » : « ما ذكره ».

(٣) في « ع » بدل « من » : « التي منها ».

٣٢

منزلة الموجود ، والقائل بالأعم يدّعي مساواتهما في المجازيّة. وما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، كما ستطّلع على تفصيله في توجيه (١) المختار (٢) ، وهو المعهود في أنواع المركّبات الكمّية في العرف والعادة.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتخيّل في المقام : من لزوم سبك المجاز عن مثله على تقدير جريان النزاع بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ولا ريب في كونه نادرا على تقدير صحّته ووقوعه ، فلا ينبغي حمل هذا النزاع المعروف على ما لم نجد له شاهدا في كلام العرب. وأمّا الملازمة ، فلأنّ استعمال اللفظ في الصحيحة حينئذ (٣) إنّما هو لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، من علاقة الإطلاق والتقييد أو غيرها ـ كما في الحجّ على ما قيل (٤) ـ واستعماله في الأعم لا بدّ وأن يكون بواسطة مشابهة ومشاكلة بينه وبين الصحيحة في الصورة ، فاستعماله فيه إنّما هو بواسطة علاقة بينه وبين المعنى المجازي ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : هو ما عرفت ، من أنّ ذلك ليس مجازا لفظيّا آخر غير ما هو اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، ولا نرى بعدا في وقوع مثل هذا التصرّف العقلي على تقدير المجازيّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يتّضح حال النزاع على تقدير ثبوت الحقيقة المتشرّعة (٥) ، فإنّه جار عليها بوجه أولى ؛ فإنّ النقل فيها لا بدّ وأن يكون تعيّنيّا ، وهو مسبوق بكثرة الاستعمال على وجه الغلبة بل الأغلبيّة ، فالقائل بالصحيح يدّعي أنّ ما هو الآن

__________________

(١) في « ع » بدل « توجيه » : « وجه ».

(٢) انظر الصفحة ٥٦.

(٣) لم يرد « حينئذ » في « ع ».

(٤) انظر المعالم : ٣٥ ، وستأتي الإشارة إليه في الصفحة ٣٥.

(٥) كذا ، والمناسب : « المتشرّعيّة ».

٣٣

حقيقة هو المستعمل فيه في عرف الشارع ؛ لأنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه ومرآة له ، والقائل بالأعم يدّعي خلافه في عرف الشارع ، نظرا إلى ادّعائه خلافه في عرف المتشرّعة الكاشف عن عرفه.

وهل هو موقوف على ثبوت تصرّف من الشارع في المعنى ، فلا وجه للنزاع بناء على ما نسب إلى الباقلاني (١) ، أو لا ، فيجري على مقالته أيضا؟ الظاهر هو الأوّل.

وتوضيح الحال : أنّ المعنى إمّا أن يكون بسيطا غير مربوط بشيء شطرا أو شرطا ، وإمّا أن يكون مركّبا ولو بملاحظة تقييده بأمر خارج عنه.

والأوّل غير قابل لأن يحرّر فيه النزاع ؛ لعدم قابليّة اتّصافه بالصحّة والفساد ، فإنّ الفاسد إمّا أن يراد به الناقص جزءا أو شرطا ، أو ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود منه. والأوّل خلاف المفروض من كونه بسيطا ، والثاني ممّا لا سبيل إليه ؛ إذ على تقدير وجوده واقعا فما هو المقصود منه واقعا لا يعقل عدم ترتّبه عليه ، وعلى تقدير عدمه لا يعقل ترتّبه عليه. فهو إمّا صحيح على الوجهين دائما وإمّا ليس بشيء.

والثاني إمّا أن يكون التركيب فيه بواسطة التقييد ويكون القيد خارجا ، وإمّا أن يكون القيد داخلا على وجه الجزئيّة كما في أنواع المركّبات ، وعلى التقديرين لا إشكال في صحّة إطلاق لفظ « الصحيح » ومقابله على ذلك المركّب ؛ فإنّ المعنى الملحوظ باعتبار دخول شيء فيه قابل لأن يتّصف بالصحّة والتماميّة التي يعبّر عنها بـ « درست » في الفارسيّة على تقدير وجوده مع ما اعتبر فيه ، وبالفساد على تقدير وجوده خاليا عمّا اعتبر فيه وإن اتّصف بالصحّة بالنسبة إلى نفسه ؛ إذ اتّصافه بالفساد من حيث التركيب لا ينافي صحّته من حيث نفسه.

__________________

(١) انظر ما نسب إليه في نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٠ ، وشرح مختصر الاصول : ٥٢ ـ ٥٣ ، والفصول : ٤٣ ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : ٩.

٣٤

وقد عرفت جريان النزاع على تقدير أن يكون المعنى مركّبا على القولين على الوجه الثاني ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون ذلك المعنى المركّب مباينا للمعنى اللغوي باعتبار مناسبة بينهما ، كما في لفظ « الحجّ » الموضوع لغة للقصد المنقول منه شرعا إلى المناسك المخصوصة ـ كما قيل (١) ـ أو يكون المعنى اللغوي جزءا من الأجزاء المعتبرة في ذلك المعنى ، كلفظ « الصلاة » الموضوعة لغة للدعاء ، المنقول إلى الأركان المخصوصة والماهيّة المعهودة.

وأمّا إذا كان الاختلاف بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي بالإطلاق والتقييد ، فإمّا أن نلتزم بالوضع والنقل ـ كما يدّعيه القائل بالحقيقة الشرعيّة ـ أو لا نلتزم ، فعلى الأوّل يجري النزاع دون الثاني.

أمّا الأوّل ، فلأنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ اللفظ إنّما هو منقول لخصوص المطلق الذي يحصل في ضمن القيد الخاصّ ، والقائل بالأعم يدّعي الوضع للمعنى الأعم من ذلك المطلق الذي هو فاسد شرعا ومن خصوص المقيّد ، فاستعمال اللفظ في خصوص المقيّد إنّما هو على وجه الحقيقة على القولين ، بخلاف ما إذا لم نقل بالحقيقة الشرعيّة ؛ فإنّ الاستعمال المذكور مجاز لابتنائه على إرادة الخصوصيّة من لفظ المطلق.

لا يقال : على القول بالأعم لا بدّ وأن يكون استعماله في خصوص المقيّد مجازا ؛ لأنّه يكون كسائر الألفاظ المطلقة ـ كما هو ظاهر ـ والقائل (٢) بالأعم لا بدّ وأن لا يلتزم بالوضع في هذا القسم ؛ إذ المعنى المنقول إليه هو المعنى المنقول منه حينئذ بعينه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) انظر المعالم : ٣٥.

(٢) في « ط » : « فالقائل ».

٣٥

لأنّا نقول : الظاهر من القائل بالأعم عدم التزامه بأنّ الصحيحة ليست موضوعا لها اللفظ على وجه الخصوصيّة ، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ـ كما سيظهر وجهه إن شاء الله (١) ـ وعلى التسليم فلا يمنع ذلك ما نحن بصدده من جريان النزاع ، غاية الأمر أنّ القائل حينئذ لا يلتزم بالوضع.

وأمّا الثاني ، فلأنّ القائل بالصحيح إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للمعنى الملحوظ على وجه التقييد ، أو يقول : بأنّه المستعمل فيه على وجه المجازيّة. والأوّل خلاف الفرض ؛ لأنّ الوضع للمطلق هو المسلّم عندهم ، وهو بعينه القول بالصدق عند عدم القيد اللازم للأعم ، فلا يعقل التنازع. والثاني ـ على تقدير تسليم إثباته ؛ لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد (٢) ـ لا يجدي ؛ فإنّ جواز استعمال المطلق في المقيّد على وجه المجاز ممّا لا سبيل إلى إنكاره لأحد ، فالفريقان فيه على شرع سواء.

ومن هنا يجوز لكلّ واحد منهما التمسّك بإطلاق اللفظ في دفع ما شكّ في اعتباره قيدا لتلك المطلقات ، وهو المصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين (٣).

والوجه فيه : أنّ المجاز اللازم من التقييد لا ينافي التمسّك بالإطلاق ؛ لما هو المقرّر في محلّه : من أنّه بمنزلة التخصيص في العام المخصّص لو كان مجازا ، فإنّه لا ينافي ظهوره في الباقي ، بل الأمر في التقييد أظهر ، كما لا يخفى. وذلك بخلاف المجاز اللازم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة مع تصرّف الشارع في المعنى ، كأن يكون المعنى اللغوي جزءا من المعنى الشرعي أو مباينا

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٤ و ٥٥.

(٢) العبارة في « ط » هكذا : « وكذا الثاني لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد وعلى تقدير التسليم ... ».

(٣) انظر الفصول : ٤٩ ، وضوابط الاصول : ٢٣ ، وهداية المسترشدين ١ : ٤٨٥.

٣٦

له ، فإنّه على القول بعدم (١) ثبوت الحقيقة الشرعيّة لا وجه للتمسّك بالإطلاق في هذا النحو من المجاز.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه بعضهم (٢) : من أنّ مقالة الباقلاني لا ينبغي أن تعدّ ثالث الأقوال في تلك المسألة ؛ لأنّها بعينها مقالة النافين للحقيقة الشرعيّة ، سيّما على ما ذهب إليه المشهور من أنّ التقييد بالمنفصل يوجب المجاز.

وجه الفساد : ما عرفت من الفرق بين المجازين ؛ فإنّه على مقالة القاضي لا مانع من التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ علاقة الإطلاق والتقييد لا ينافي الإطلاق من جهة اخرى ، وعلى مقالة النافي علاقة الكلّ والجزء أو علاقة اخرى ، ولا يبقى ظهور للمطلق بعد القول بالمجازيّة على هذا الوجه حتّى يعوّل عليه عند الشكّ ، مضافا إلى إمكان منع المجازيّة على مقالة القاضي ؛ بناء على ما هو التحقيق : من أنّ التقييد لا يوجب مجازا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد تلخّص ممّا تقدّم : أنّ مدار النزاع على أحد أمرين ، إمّا التصرّف في المعنى على وجه يكون المعنى اللغوي مغايرا للمعنى الشرعي غير (٣) المغايرة الحاصلة بين المطلق والمقيّد كما عرفت ، وإمّا التصرّف في اللفظ على وجه النقل من الكلّي والمطلق إلى الفرد والمقيّد ، كما تقدّم تفصيلا.

وهل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات ـ كما هو المأخوذ في العنوان ـ أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟

__________________

(١) في « ع » بدل « القول بعدم » : « تقدير عدم ».

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) لم يرد « غير » في « ع » و « م ».

٣٧

ظاهر جماعة (١) ـ منهم الشهيدان (٢) ـ هو الثاني ، وارتضاه (٣) بعض الأجلّة (٤).

قال الشهيد في قواعده : الماهيّات الجعليّة ـ كالصلاة والصوم وسائر العقود ـ لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ؛ لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة ، وهو الدخول فيهما (٥) ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. ويحتمل عدمه ؛ لأنّه لا يسمّى (٦) صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. وأمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع [ من الدخول ](٧) لم يحنث (٨) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وقوله : « لا يطلق » وإن كان ظاهرا في عدم الإطلاق مطلقا ، إلاّ أنّ بداهة إطلاقها على الفاسدة مانع عن الحمل المذكور ، فلا بدّ أن يقال : إنّه لا يطلق على وجه الحقيقة ـ كما أفاده بعض الأجلّة (٩) ـ إلاّ أنّ الاستثناء المذكور في كلامه لا يلائم ذلك ؛ فإنّ التعليل بوجوب المضيّ فيه لا بدّ وأن يكون علّة للوضع حينئذ ، وهو ممّا لا يرتبط ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٥٢ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٥٢.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩ ، والمسالك ١١ : ٢٦٣.

(٣) في « ع » و « م » بدل « وارتضاه » : « ولعلّه مختار ».

(٤) في « ع » و « م » زيادة : « على ما نقل » ، انظر مناهج الأحكام : ٢٦ ـ ٢٧.

(٥) كذا في المصدر ، وفي النسخ : « فيها » ، وكذا في ضمير « أفسدهما ».

(٦) في المصدر : « لأنّها لا تسمّى ».

(٧) من المصدر.

(٨) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٩) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٥٢.

٣٨

فالظاهر ـ بقرينة الاستثناء والتعليل ـ هو أنّ الفاسد في الشريعة غير مأمور به إلاّ في الحجّ ، فإنّ المضيّ في فاسده واجب ومأمور به ، كما يشير إليه المحقّق القمّي (١)(٢).

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٧.

(٢) في « ع » و « م » هنا زيادة ، كتب عليها في « ع » : « زائد » ، وهي كما يلي :

واعترض عليه بعض الأجلّة : بأنّه إن أراد بـ « الفاسدة » ما يكون فاسدا على تقدير عدم الأمر به ، فلا ريب أنّ جميع العبادات فاسدة بهذا المعنى ، وإن اعتبر الصحّة بحسب الواقع ، فلمانع أن يمنع لزوم تقدّمها على الأمر لجواز إنشائها به ، وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر ، فهذا ـ مع بعده عن مساق كلامه ـ لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث.

وفيه : أنّ المراد بـ « الفاسد » هو الناقص جزءا أو شرطا بالنسبة إلى ما هو المأمور به في الشريعة مع قطع النظر عن طروّ الفساد ، ولا بعد لذلك عن مساق كلامه.

مع أنّ قوله : « فلمانع » ، فيه : أنّ الصحّة في وجه لا بدّ أن تكون متأخّرة عن الأمر وفي وجه لا بدّ أن تكون متقدّمة ؛ لأنّها إمّا عبارة عن الصفة المشرعة عن المأتيّ به باعتبار موافقته للمأمور به فهي موقوفة على الأمر ووجود المأمور به في الخارج أو ملاحظة وجودهما ، ولا معنى لإنشائها بالأمر ، وإمّا عبارة عن كمال الموضوع الذي يتعلّق به الأمر وتماميّته فهي من الصفات المشرعة عن متعلّق الأمر المتقدّم على الأمر قطعا فلا يعقل إنشاؤها بالأمر ، مع أنّها أيضا غير محتاجة إلى الإنشاء على الوجهين كما تقرّر في محلّه ، مع أنّ هذه الترديدات لو تمّت فإنّما هو إشكال في معنى « الصحّة » و « الفساد » ولا مدخل له بكلام الشهيد كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر فساد ما تنظّر في كلام الشهيد ـ بعد النقض بفاسد الصوم ـ بأنّه لا ملازمة بين وجوب الإمضاء والوضع.

وجه الفساد : ما عرفت من أنّ كلام الشهيد يمكن حمله على الإطلاق في الأوامر الشرعيّة ، فلا وجه للإيراد بما ذكره المتنظّر فيه. وأمّا النقض بفاسد الصوم فيمكن دفعه : بأنّ الإمساك عن المفطرات واجب في شهر رمضان وإن لم يسمّ صوما. وأمّا تفريع مسألة الحنث في

٣٩

ثمّ إنّه يمكن أن يكون مراده رحمه‌الله : أنّ إطلاق ألفاظ العبادات والمعاملات لا ينصرف إلى ما هو معلوم الفساد ، كما أفاده المحقّق في الشرائع بقوله : إطلاق العقد ينصرف إلى الصحيح (١) ، وعن العلاّمة في قواعده : المطلب الرابع في العقد ، وإطلاقه ينصرف إلى الصحيح (٢). فلا دلالة في كلامه على الوضع وعدمه.

نعم يظهر من الشهيد الثاني في شرح ما عرفت من الشرائع ما هو صريح في إرادة الوضع ، حيث قال : إنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم : فلان باع داره ، وغيره ـ ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم تسمع إجماعا ـ وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد يقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة (٣) ، انتهى.

أقول : دعوى وضع ألفاظ المعاملات لخصوص ما أمضاه الشارع والحكم

__________________

كلامه فلا نعرف وجهه إلاّ إذا كان مراد الحالف والناذر مجرّد الشروع في العمل لا نفس العمل ؛ إذ على الثاني لا يفرق بين الأمرين على المذهبين ، وعلى الأوّل فعلى القول بالصحيح اكتفي بمسمّى الصحّة ، ولو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، وعلى القول بالأعم لو دخل في العبادة على وجه الفساد يحصل الحنث.

نعم ، التفريع المذكور يلائم ما ذكره بعض الأجلّة في تفسير كلامه قدس‌سره.

والإنصاف أنّه لم يظهر لنا من كلامه شيء يمكن التعويل عليه ، فتدبّر لعلّك تطّلع على أمر لم نقف عليه ، ومن هنا يمكن التأمّل في إسناد التفصيل المتقدّم في صدر المبحث إليه.

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٧٧.

(٢) قواعد الأحكام ٣ : ٢٧٥.

(٣) المسالك ١١ : ٢٦٣.

٤٠