مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ثمّ إنّ الأمر والنهي ظاهران في الإلزاميّين منهما ، إلاّ أنّ المناط فيهما موجود في غير الإلزاميّين أيضا ، ومن هنا يتخيّل عموم النزاع ، وليس بشيء.

وهل المراد بالأمر والنهي الإلزاميّين جميع أقسامهما من العينيّين والتخييريّين والمختلفين والكفائيّين وغير ذلك ، أو يختصّ ببعض الأقسام؟

وتفصيل القول في المقام هو : أنّه لا إشكال عندهم في خروج العينيّين من هذا النزاع ، كما هو صريح كلّ من خصّ النزاع بما إذا كان للمكلّف مندوحة في الامتثال (١) دون ما إذا لم يكن مندوحة ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، وإن فرّط بعض المجوّزين حيث قال بالجواز فيه أيضا (٢). والحق أنّه ليس تفريطا بل هو قول بمقتضى مذهبه ، وإن كانت تلك المسألة خارجة عمّا نحن بصددها. كما أنّهم أيضا عنونوها بعد هذه المسألة ، كما ستعرفه.

وأمّا الأمر والنهي التخييريّين : سواء كان التخيير فيهما عقليّا أو شرعيّا ، فلا ينبغي التأمّل في جواز اجتماعهما ، كما في الأمر بتزويج إحدى الاختين والنهي عن الاخرى ، فإنّ مرجع ذلك إلى وجوب إحداهما والنهي عن الجمع ، هذا في الشرعي. وأمّا في العقلي كما لو فرض تعلّق الأمر بطبيعة باعتبار فرد والنهي عنها باعتبار فرد آخر ، إذ مرجعه إلى وجوب أحد الأفراد والنهي عن إلحاقه بفرد آخر.

وأمّا الأمر العيني والنهي التخييري : كأن يأمر بتزويج إحداهما عينا وينهى عنهما تخييرا ، فلا ينبغي التأمّل في عدم الجواز ، لكنّه ليس من المجوّز التزامه فيه أيضا بعيدا ، إذ لا مائز حقيقة في البين.

وأمّا الأمر التخييري والنهي العيني : فهو من محلّ النزاع إذا كان التخيير

__________________

(١) مثل الفاضل الأصفهاني في الفصول : ١٢٤.

(٢) لم نعثر عليه.

٦٠١

عقليّا ، وأمّا إذا كان شرعيّا فعلى تقدير تعلّق الطلب بكلّ واحد من الواجبين التخييريّين كأن يكون الطلب في أحدهما بدلا عن الطلب في الآخر ـ كما هو مذهب المعتزلة والإماميّة في الواجب التخييري (١) ـ فلا إشكال في عدم الجواز ، فإنّ مناط الامتناع في الواجب العيني موجود فيه أيضا. وأمّا على تقدير تعلّق الطلب بواحد ـ كأن يكون المطلوب بدلا عن مطلوب آخر ـ فمرجعه إلى التخيير العقلي ، إذ المطلوب هو القدر المشترك أيضا. ويحتمل دخوله في محلّ الكلام.

وأمّا العينيّان في قبال الكفائيّين : فلا يفرق فيه الكلام كالكفائيّين ، إلاّ أنّه هنا شيء لا بأس بالتنبيه عليه ، وهو أنّه في الواجب الكفائي لا يلاحظ فيه حال المكلّفين ، بمعنى أنّه لو قلنا بوجوب غسل الميّت موافقا كان أو مخالفا على سبيل الكفاية لا وجه للقول بحرمته العيني أو كراهته ، فإنّ ذلك من اجتماع الحرمة العينيّة مع الوجوب العيني في قبال الوجوب والتحريم التخييريّين. وقد عرفت أنّه لا كلام في خروجه عن محلّ النزاع.

ومن هنا يظهر الإشكال في حكمهم بكراهة تغسيل المخالفين بعد القول بوجوب غسلهم (٢) ، وحكمهم بكراهة القضاء بين الناس لمن لا يثق بنفسه (٣) ، فإنّ الإشكال فيهما زائد على الإشكال في مطلق العبادات المكروهة ؛ لأنّ الأمر فيها تخييري بخلاف الأمر فيهما ، فإنّه عينيّ وإن كان كفائيّا ؛ ولذلك قد يجاب عنه بما لا يجاب به فيها : من أنّ المكروه فيهما هو المبادرة إليهما مع وجود من يقوم بالواجب

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٨٨.

(٢) انظر الشرائع ١ : ٣٧ و ٣٩ ، والقواعد ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٣) لم نعثر عليه بعينه. نعم ، ذكر في الشرائع ( ٤ : ٦٨ ) : « الثانية : تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ».

٦٠٢

الكفائي ، بل لا بدّ في الواجب الكفائي من ملاحظة حال الفعل ، كالصلاة على الميت في المكان المغصوب ، فإنّه واجب تخييريّ كفائي ، فيكون من محلّ الكلام.

وأمّا سائر أقسام الأمر والنهي من الموسّعين والمضيّقين والمشروطين أو التعبّديّين والتوصّليين وغير ذلك ، فلعلّه لا فرق بينها في دخولها في محلّ الكلام لو لم يدّع ظهور الأمر والنهي في بعضها ، وعلى تقديره فالمناط فيها واحد ، كما في غير الإلزاميّين على ما عرفت.

وأمّا المراد من « الشيء الواحد » فقد ذكر غير واحد منهم (١) تبعا للعضدي (٢) أنّه هو الواحد بالوحدة الشخصيّة ، وأمّا الواحد بالوحدة الجنسيّة فلا نزاع في جواز الاجتماع فيه كما في السجود ، فإنّه مأمور به ومنهيّ عنه.

وفيه : أنّ ترك التقييد أولى ؛ لما فيه من إيهامه خلاف المقصود ، إذ لا إشكال في امتناعه في الواحد بالجنس أيضا من حيث إنّه واحد ، وإنّما يجوز فيه باعتبار كثراته في مراتب أنواعه ، وكذا في الواحد بالنوع فإنّه يمتنع في وحدته أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، وإنّما يصحّ باعتبار كثراته في أشخاصه ، فعند التحقيق لا يكون الجنس ولا النوع على تقدير اعتبار الأخصّ منهما في تعلّق الأمر والنهي مأمورا به ولا منهيّا عنه.

__________________

(١) مثل صاحب المعالم في المعالم : ٩٤ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٤٠ ، وصاحب الفصول في الفصول : ١٢٤.

(٢) شرح مختصر الاصول : ٩٢.

٦٠٣
٦٠٤

هداية

ينبغي أن يذكر أمام المقصود امور لعلّها مربوطة به.

الأوّل

أنّ متعلّق الأمر والنهي إمّا أن يكون متّحدا في الذهن والخارج ، أو يكون متعدّدا فيهما ، أو متّحدا في الخارج ومتعدّدا في الذهن ، ولا رابع لهذه الأقسام.

لا إشكال في امتناع الاجتماع في الأوّل فإنّه تناقض صرف ، وجوازه في الثاني مع عدم الملازمة بينهما في الوجود ، وأمّا معها فقد عرفت الكلام فيه ، وسنورد ما يوضحه أيضا.

وأمّا الثالث : فقد يكون أحدهما ملازما في الصدق للآخر كما في الإنسان والضاحك ، وقد لا يكون كأن يكون أحدهما أعمّ من الآخر مطلقا ، أو من وجه.

لا إشكال أيضا عندهم في امتناع الاجتماع في القسم الأوّل ، لاتّفاق كلمتهم على اعتبار المندوحة في الامتثال.

وأمّا الثالث ، فهو محلّ الكلام إن لم ينحصر أفراد أحدهما في فرد الآخر ، إذ على تقدير الانحصار يكون من الموارد التي لا مندوحة للمكلّف في الامتثال. ويظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله عند تعرّضه لبيان الحكم (١) المتوسّط في الدار المغصوبة : أنّ

__________________

(١) كذا ، والمناسب « حكم ».

٦٠٥

المدار على التعدّد الذهني فقط وإن انحصر مفهوم أحدهما في مصاديق الآخر (١). ولعمري! إنّه أخذ بلوازم مذهبه في الواقع ، كما ستعرف.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو العموم المطلق ـ فقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله أنّه خارج عن محلّ الكلام ، وجعل ذلك مناط الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد (٢).

واعترض عليه بعض الأجلّة (٣) : بأنّه لا وجه للتخصيص بذلك ؛ فإنّ أدلّة المجوّزين والمانعين يجري في العموم والخصوص المطلق ، ومجرّد كون المثال من العموم من وجه لا يقضي باختصاص البحث به بعد شمول العنوان والأدلّة لغيره أيضا. وجعل مدار الفرق بين المسألتين بأنّ الطبيعتين إن اتّحدتا حقيقة وتغايرتا اعتبارا بمجرّد الإطلاق والتقييد ـ بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد ـ فهو من المسألة الثانية ، وإلاّ فمن محلّ الكلام.

ولعلّ مراده أنّ مناط الفرق هو اتّحاد متعلّق الطلب وتعدّده ، كما في قولك : « صلّ ولا تغصب » ، « صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة » فإنّ الأوّل لكون المفهومين فيه متعدّدا يكون من محلّ الكلام ، والثاني لاتّحادهما يكون من المسألة الآتية. ولا فرق في ذلك بين كون النسبة عموما مطلقا ـ كما عرفت ـ أو عموما من وجه كقولك : « صلّ صلاة الصبح ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة ». كما أنّه لا فرق في محلّ الكلام بين كون النسبة عموما من وجه كما عرفت ، أو عموما مطلقا كقولك : « صلّ ولا تغصب حال الصلاة ». نعم ، يمكن إرجاع كلّ من الموردين إلى الآخر

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ١٤٧.

(٣) الفصول : ١٣٤.

٦٠٦

باعتبار في أحدهما ، كأن يقال بأنّ النهي عن الغصب حال الصلاة راجع إلى النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، وغير ذلك.

أقول : إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون اختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالاخرى.

وتوضيحه : أنّ المسئول في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة المطلوبة (١) فعلها والماهيّة المطلوبة (٢) الترك ، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فإنّه كما يصحّ السؤال عن هذه القضيّة فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه ، فكذا يصحّ فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » أو لم يكن كذلك. والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أنّ النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال؟ حيث إن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص الوضعي المستفاد من إطلاق الأمر أو لا؟ ولا ريب في أنّ هذه القضيّة كما يصحّ الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلّقين إطلاق وتقييد ، فكذلك يصحّ فيما إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان بينهما عموم مطلق.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بدّ من اختلاف جهة الكلام ، وعلى تقدير اختلافها لا حاجة إلى التجشّم المذكور في بيان الفرق. ولو لا ما ذكرنا لم ينطبق عليه الأقوال المذكورة في المقام الآتي ، كما لا يخفى.

__________________

(١ و ٢) كذا ، والأنسب : « المطلوب ».

٦٠٧

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص كلماتهم فيما نحن بصدده بما إذا كان العموم من وجه بين نفس الفعل المأمور به والفعل المنهيّ عنه ، كما في قولك : « صلّ » و « لا تغصب » حيث إنّ النسبة المأخوذة فيهما غير مستندة إلى أمر خارج عن الطبيعتين. بخلاف ما إذا كان العموم بينهما باعتبار متعلّقهما كما في قولك : « أكرم عالما » و « لا تكرم فاسقا » فإنّ الإكرام باعتبار الإضافة والتعلّق بالعالم والفاسق قد اختلفت ماهيّته على وجه العموم والخصوص من وجه ، كما هو ظاهر. ولعلّ الوجه في ذلك ـ على ما سيأتي ـ هو اختلاف متفاهم المثالين عند العرف.

وبما ذكرنا يمكن دفع ما ربما يورد على القوم : من التناقض بين الخلاف في المقام وبين إطباقهم في مباحث الترجيح على التوقّف والرجوع إلى الاصول في تعارض العامّين من وجه أو التخيير أو غير ذلك من غير احتمال الجمع ، إلاّ أنّ المجوّز بعد مطالب بالفرق بين المقامين. كما أنّه مطالب بذلك فيما إذا لم تكن مندوحة وبين غيره ، وقد عرفت (١) أنّ بعضهم قد طرّد الكلام فيه أيضا.

الثاني

في بيان الأقوال في هذه المسألة

فنقول : إنّهم اختلفوا فيها على قولين :

فذهب أكثر أصحابنا (٢) وجمهور المعتزلة (٣) وبعض الأشاعرة

__________________

(١) انظر الصفحة ٦٠٠.

(٢) منهم العلاّمة في نهاية الوصول : ١١٦ ، والفاضل التوني في الوافية : ٩١ ـ ٩٢ ، وصاحب الفصول في الفصول : ١٢٥.

(٣) انظر المعتمد ١ : ١٨١ ، والإحكام للآمدي ١ : ١٥٨.

٦٠٨

ـ كالباقلاني (١) ـ إلى الامتناع ، بل عن جماعة ـ منهم : العلاّمة (٢) ، والسيّد الجليل في إحقاق الحقّ (٣) ، والعميدي (٤) ، وصاحبي المعالم (٥) والمدارك (٦) ، وصاحب التجريد (٧) ـ : الإجماع عليه ، بل ادّعى بعضهم الضرورة (٨) ، وليس بذلك البعيد.

وأكثر الأشاعرة على الجواز ، ووافقهم جمع من أفاضل متأخّري أصحابنا ، كالمحقّق الخوانساري في تداخل الأغسال من المشارق (٩) ، وجمال الدين (١٠) ، والمدقّق الشيرواني (١١) ، والسيّد الشارح للوافية (١٢) ، والمحقّق القمّي رحمه‌الله (١٣) بل نسبه (١٤) إلى ظاهر

__________________

(١) راجع المستصفى ١ : ٧٧ ، وشرح مختصر الاصول : ٩٢.

(٢) نهاية الوصول : ١١٦.

(٣) حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : ٥٤.

(٤) حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : ٥٤ ، وانظر منية اللبيب : ١٢٣.

(٥) المعالم : ٩٣.

(٦) المدارك ٣ : ٢١٧ ، وحكاه عنه وعن صاحب المعالم في المناهج : ٥٤.

(٧) تجريد الاصول للنراقي لا يوجد لدينا وحكى عنه ابنه في المناهج : ٥٤.

(٨) راجع حاشية المعالم للملاّ صالح : ١١٨.

(٩) انظر المشارق : ٦١ ، ذيل قول المصنّف : وفي تداخل الأسباب.

(١٠) انظر حاشية اللمعة : ٢٠٦.

(١١) لم نعثر عليه في الحواشي المتعلّقة بالمبحث ، انظر المعالم والحواشي المتعلّقة بها في الصفحة ٩٨ ـ ١٠٠.

(١٢) انظر شرح الوافية للسيّد صدر الدين : ٦٥ ـ ٨٣.

(١٣) القوانين ١ : ١٤٠.

(١٤) نسبه إليهم في القوانين ١ : ١٤٠.

٦٠٩

السيّد في الذريعة (١) ، والأردبيلي (٢) بل حكاه عن الفضل بن شاذان (٣) مستظهرا من كلامه أنّه من مسلّمات الشيعة ، واستظهره من الكليني (٤) أيضا ؛ حيث نقل كلام الفضل ولم يطعن عليه.

والإنصاف أنّ الاستظهار من كلام الفضل ممّا لا وجه له ، لأنّه هو الذي نقله الكليني في كتاب الطلاق ، وهو يدلّ على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ، وهو أعمّ من القول بالجواز من وجوه أقلّها جريان العادة على عدم الحظر في الصلاة ، ويجري ذلك مجرى الإذن أو الأخبار الدالّة على أنّ للناس حقّا في الأرض (٥) ، أو القول بأنّ الكون خارج عن الصلاة بل إنّما هو من ضروريّات الجسم كما هو المحكيّ عن البهائي في حبل المتين (٦) والمحقّق في المعتبر (٧) ، أو القول بأنّ الصلاة من الواجبات التوصّلية التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

والمنقول من السيّد في الذريعة أظهر في عدم الجواز ، وهو قوله : « وقد يصحّ أن يقبح من المكلّف جميع أفعاله من وجه ويحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصحّ القول بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص وليس له التصرّف بنيّة الإفساد ، وكذلك المجامع زانيا له الحركة بنيّة

__________________

(١) الذريعة ١ : ١٧٨ و ١٩٤.

(٢) مجمع الفائدة ٢ : ١١٠.

(٣) الكافي ٦ : ٩٤.

(٤) القوانين ١ : ١٤٠.

(٥) لم نعثر عليها.

(٦) الحبل المتين : ١٥٧.

(٧) حكاه المحقّق النراقي في المناهج : ٥٤ ، ولكن لم نعثر عليه في المعتبر.

٦١٠

التخلّص وليس له الحركة على وجه آخر » (١). وهو ظاهر في أنّ حال كون الفعل مطلوبا لا يكون مبغوضا ، وقوله : « من وجه » يعني به من حيث دخوله تحت عنوان ، كما هو صريح المثال المذكور.

وقد ينقل في المقام قول ثالث ، وهو : التفصيل بين العقل والعرف ، فيجوز عقلا ولا يجوز عرفا. ونسبه بعضهم إلى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال : اعلم أنّ السبب لبطلان الصلاة في الدار المغصوبة هو النهي عنها المستفاد من عدم جواز التصرّف في مال الغير ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ولا الجاهل ـ إلى أن قال : ـ وإذا علم السبب تحقّق (٢) عدم بطلان عبادة ما لم تتّحدا وما لم يكن التصرّف في المكان عبادة ، مثل الصوم والزكاة ـ إلى أن قال : ـ أمّا الطهارة في المغصوب فإن قلنا : إنّ إجراء الماء على العضو تصرّف في ملك الغير حيث وقع في فضائه [ أو أنّه متّصل بالعضو الذي على المكان ، فإجراء الماء عليه مستلزم لتصرّف ما في المكان ](٣) لكنّه بعيد فلا يصحّ وإلاّ صحّت. ثمّ قال : ويمكن مجيء بطلان الوضوء من جهة أنّه مأمور بالخروج فاشتغل به عن ذلك فصار حراما فيبطل. وهو إنّما يتمّ لو فرض مانعيّته فيه من حيث هو عن الخروج حتّى يحصل المنافاة. ويمكن أن يقال : لا شكّ أنّه مأمور بالوضوء في المكان المباح ، إذ الشارع لا يجوّز الوضوء في المكان المغصوب ، وهو ظاهر ، والمفهوم عرفا ولغة في مثل هذا الكلام عدم الرضا بالوضوء وبطلانه ، ولأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا. نعم ، العقل يجوّز الصحة لو صرّح

__________________

(١) الذريعة ١ : ١٧٨.

(٢) في المصدر : وإذا تحقّقت أنّ سبب بطلانها حينئذ هو لزوم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه تحقّقت أيضا عدم بطلان عبادة ...

(٣) أثبتناه من المصدر.

٦١١

بأنّه لو فعلت في المكان المغصوب بعد نهيك عنه يصحّ وعوقبت بما فعلت. وبمثله يمكن القول بالبطلان في كثير من العبادات بل في بعض المعاملات والمناكحات (١) ، انتهى ما أفاده قدّس الله روحه.

ولعلّ موضع الاستفادة من هذا الكلام قوله : « لأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا ، نعم العقل يجوّز الصحّة لو صرّح » وأنت خبير بما في هذه الاستفادة ، إذ لم نجد لكلامه دلالة على المدّعى بوجه ، فإنّ ظاهر كلامه هو تعلّق النهي بالخارج عن العبادة ، ومع ذلك يستظهر إمكان فسادها عرفا مع إمكان الصحّة عقلا على تقدير التصريح ، فإنّ أوّل كلامه نصّ في الامتناع مطلقا ، ثمّ التفت إلى ملاحظة قاعدة الأمر بالشيء مع النهي عن ضدّه ، ولذلك بنى تماميّته على فرض المانعيّة ، ثمّ تفطّن في (٢) الاستدلال بإمكان استفادة البطلان من تعلّق النهي بالخارج ، نظرا إلى أنّ هذه العبارة في العرف ينساق منها الفساد وإن كان على تقدير التصريح جائزا.

ومنه يظهر حال النسبة فيما تقدّم أيضا.

وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا ، وكأنّه مسموع منه شفاها.

وكيف كان فلو كان هناك مفصّل ، فالذي ينبغي أن يراد هو أنّ هناك موضوعين :

أحدهما : أن يتعلّق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، غاية الأمر اتّحادهما في الوجود الخارجي ، ولا ضير في ذلك كما يراه المجوّز.

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر والنهي ابتداء بجزئي أو بجميع جزئيّات تينك الطبيعتين.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ١١٠ ـ ١١٢.

(٢) في ( ع ) بدل « في » : على.

٦١٢

ولا ريب في أنّ الثاني ممّا لا يجوّزه العاقل ، فاللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي وإن كان مفاده لغة تعلّق الأمر بالطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، وهذا الموضوع ممّا يجوّزه العقل ، إلاّ أنّ المنساق منه في العرف هو تعلّق الأمر والنهي بالفرد لا بالطبيعة ، وبعد استفادته من اللفظ ، فلا إشكال في الحكم بعدم الجواز عقلا أيضا في هذا الموضوع.

فظهر أيضا أنّ نسبة عدم الجواز إلى العرف ليس إلاّ بواسطة استفادة العرف موضوعا من اللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي يحكم فيه العقل بالامتناع ، وليس المراد هو أنّ العرف حاكم بعدم الجواز في مقابل العقل ، كما ظنّه بعض عوام الطلبة.

وبالجملة ، فالحاكم دائما هو العقل ، والعرف أيضا لا يمكن تخلّفه عن العقل من حيث الحكومة. نعم ، ليس العقل مستقلاّ في كيفيّة استفادتهم المطالب من الألفاظ ، بمعنى عدم الاكتفاء به فيها ، بل لا بدّ مع ذلك من العلم بالوضع وكيفيّات الاستعمالات في الموارد الخاصّة المستندة إلى القرائن المقاليّة والشواهد المقاميّة ونحوها. وأمّا في غير هذه الجهة فلا مجال لغير العقل فيها ، كما يظهر في الحكم بالمجاز والتخصيص والتقييد ، كما في قولك : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ العرف بعد استفادة معنى « الأسد » حقيقة واستفادة معنى « يرمي » يحكمون بواسطة عقولهم بالتناقض والتعارض بين المرادين ، ثمّ يستخرجون المراد منهما بتقديمهم الظهور الثابت في القرينة على الظهور الناشئ من الوضع لكونه أظهر منه. وهذه هي الطريقة المستقرّة في استخراج المطالب من العبائر واستكشاف المرادات من الضمائر ، وذلك نظير ما قلنا في بحث المقدّمة عند الاستدلال على وجوبها بعدم جواز التصريح بجواز تركها ، حيث إنّ المنساق من التصريح المذكور عرفا هو جواز الترك من كلّ الحيثيّات ، والمقصود جواز تركها من حيث نفسها ، فلا يمكن التصريح به لأجل هذه الحزازة ، لا من حيث إنّ المقدّمة واجبة.

٦١٣

والحاصل أنّ التفصيل المذكور ليس تفصيلا في الحاكم ، بل إنّما هو حكم من حاكم واحد في موضوعين (١) مختلفين ، وستطّلع بعد ذلك على وجوه فساده إن شاء الله تعالى.

الثالث

في بيان ثمرة النزاع

واعلم أنّه لمّا كانت هذه المسألة من المبادئ ، فالوجه أن تظهر الثمرة في مسألة اصوليّة ، وهي أنّ الأمر والنهي في مورد الاجتماع هل هما متعارضان أو لا تعارض بينهما؟ فعلى القول بالامتناع فالتعارض ثابت ، وعلى القول بالجواز فلا تعارض. ويترتّب على تلك المسألة استحقاق الثواب والعقاب والصحّة والفساد والموافقة والمخالفة فيما لو أتى المكلّف بالفرد الجامع للعنوانين.

وعلى تقدير التعارض ففي العموم المطلق لا بدّ من تقديم جانب الخاصّ كما هو المقرّر ، وفي العموم من وجه لا بدّ من الأخذ بالمرجّحات الداخليّة ، كقلّة أفراد أحد العامّين فيما لو ساعد العرف عليه ، أو المرجحات الخارجيّة ـ على اختلاف المشارب في تعارض الدلالتين ـ وعلى تقدير عدم المرجّح أو عدم الرجوع إليه في العامّين من وجه فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وقضيّة الأصل بعد التساقط هو الحكم بإباحة الكون المذكور وفساد الصلاة.

لا يقال : إنّه لا مانع من صحّة الصلاة إلاّ احتمال النهي ، وبعد الحكم بالإباحة فالوجه صحّة الصلاة.

__________________

(١) في ( ع ) ، ( م ) : موضعين.

٦١٤

لأنّا نقول : إنّه لا مانع من الحكم بالحرمة إلاّ من حيث إنّ الكون المذكور كون صلاتيّ ، وبعد الحكم ببطلانها فالوجه هو حرمة الكون.

وبعبارة واضحة : أنّ تعارض الخطابين وسقوطهما في مورد الاجتماع اقتضى الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والأصل العملي بالنسبة إلى الغصب ـ مثلا ـ بعد عدم العلم بحرمته يقتضي الإباحة ، وفي الصلاة ـ حيث إنّها شكّ في سقوط المكلّف به بالإتيان بهذا الفرد المشكوك وقوع الامتثال به ، نظرا إلى احتمال تعلّق النهي به مع فرض سقوط الإطلاق من جانب الأمر ـ يقتضي بقاء التكليف وعدم حصول الامتثال. والملازمة الواقعيّة بين الصحّة والإباحة لا يجدي في المقام بعد اختلاف مفاد الاصول ، فإنّ التفكيك في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان في المقام إطلاق فمجرّد احتمال تعلّق النهي لا يدلّ على المطلوب ، لأنّ الأصل عدمه ، إلاّ أنّ المفروض خلافه.

هذا على مذاق القائل بالاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة ، وعلى القول بالبراءة فلا يبعد الحكم بالصحّة ، إذ مرجع الشكّ إلى أن من شروط الصلاة وقوعها في غير المكان المغصوب وأصالة البراءة عن الزائد يقضي بالصحّة.

هذا ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الأخذ بالمرجّح من حيث الدلالة مثل تقديم الخاصّ على العامّ أو تقديم النهي على الأمر لقوّة الدلالة لا يلائم (١) مذاق المشهور المانعين ، حيث إنّهم ـ كما عرفت من كلام المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله (٢) ـ يقتصرون في التخصيص بصورة وجود النهي الفعلي ويحكمون بالصحّة في صورة النسيان والجهل ونحوهما ، وتخصيص العامّ بالخاصّ ليس من هذا القبيل ، بل مقتضاه خروج الفرد

__________________

(١) في ( ع ) و ( ط ) : لا يلازم.

(٢) انظر الصفحة ٦١١ ـ ٦١٢.

٦١٥

بجميع أحواله عن العامّ. ويزيد إشكالا فيما لو قلنا بأنّ لا فرق بين العموم من وجه المتحقّق في مثل الصلاة والغصب ، وبين المتحقّق في قولهم : « أكرم عالما ولا تكرم فاسقا » فإنّ المعهود بينهم هو التخصيص مطلقا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه فيما إذا لم يكن الشكّ في أصل مسألة الاجتماع. وأمّا على تقدير الشكّ فيه فقد يقال : إنّ الأصل هو الإمكان ، وقد عرفت في بعض مباحث الظنّ أنّه لا يترتّب على الإمكان الظاهري حكم. نعم ، أصالة الإطلاق بالنسبة إلى دليل الأمر والنهي حاكمة في أمثال المقام ، إذ الشك إنّما هو في مانع الإطلاق ، والأصل عدمه ، وسيأتي لما تقدّم زيادة توضيح. والله الهادي ، وهو الموفّق.

٦١٦

هداية

في حجج المجوّزين

وهي امور :

أحدها : لو لم يكن جائزا لكان بواسطة التضادّ بين الحرمة والوجوب ، إذ لا مانع سواه ، وهو لا يصلح للمنع ، وإلاّ لكان جاريا في جميع الأحكام لتضادّها بأسرها ، مع أنّه قد اجتمع الوجوب والكراهة في كثير من الموارد كالصلاة في الحمّام والمعاطن والوضوء بالماء المشتبه بالغصبيّة إلى غير ذلك من الموارد ، والوجوب مع الإباحة كالصلاة في الدار ، والوجوب مع الاستحباب كالصلاة في المسجد والمواضع المتبرّكة.

واجيب عن ذلك :

تارة بالنقض : بأنّ اللازم ممّا ذكرتم هو اجتماع الواجب التخييري الشرعي مع الحرام العيني أيضا ، مع أنّه لا يلتزم به أحد من المجوّزين.

وتوضيحه هو : أنّ المجوّز لا يقول بعدم التضادّ بين الأحكام ، بل إنّما يقول بأنّ تعدّد الجهة مجد في اجتماع المتضادّين ، والحرام مع الواجب التخييري العقلي لا يمتنع اجتماعهما من جهتين كما هو المطلوب ، فيطالب بالفرق بين الواجب التخييري الشرعي والعقلي حيث لا يجوّز الأوّل ويجوّز الثاني ، فإنّ وجه الجواز إن كان تعدّد الجهة مع إمكان الامتثال فهو موجود في الواجب التخييري الشرعي ، وإن كان غيره فلا بدّ من بيانه حتّى ينظر إليه.

٦١٧

وتارة بالحلّ : ويقع الكلام تارة في النواهي التي نسبتها إلى الأوامر عموم من وجه ، وتارة في النواهي التي نسبتها إليها عموم مطلق ، فإنّ موارد النقض من كلتا الطائفتين.

أمّا الاولى فكاستعمال الماء المشتبه في الطهارة ، والصلاة في بيوت الظالمين. وأمّا الثانية ، فكالصلاة في الحمّام ونحوها. وخروجها عن محلّ الكلام في المسألة نظرا إلى انعقادها في العامّين من وجه ـ كما قيل ـ ليس بضائر ، لاستلزام الجواز فيه الجواز فيما نحن فيه بطريق أولى.

أمّا الكلام فيما إذا كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا فمن وجوه :

الأوّل : ما ذكره جماعة (١) ، من أنّ الكراهة في هذه العبادات كاستحبابها وإباحتها ليست على حقائقها المصطلح عليها : من مرجوحيّة الفعل ورجحان الترك ، ورجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ، وتساويهما ، حتّى يلزم من اتّصاف الواجب بهذه الأوصاف اجتماع الضدّين ، بل المراد بها كون الواجب أقلّ ثوابا من الثواب المقرّر لطبيعة ذلك الواجب أو أكثر ثوابا منها أو مشتملا على ذلك الثواب فقط.

وأوضحه بعض المحقّقين في حاشية المعالم ، حيث قال : إنّ أقصى ما يقتضيه ذلك مرجوحيّة تلك التصرّفات بالنظر إلى ذواتها ، وهو لا ينافي رجحانها من جهة اخرى نظرا إلى وقوعها جزءا من العبادة الواجبة ، وحينئذ يقع التعارض بين الجهتين ، ومن البيّن أنّ مرجوحيّة المكروه لا يوازي رجحان الواجب ، فغاية الأمر أن يحصل هناك نقص في ثواب الواجب ويكون الفعل بعد ملاحظة الجهتين راجحا

__________________

(١) منهم الفاضل التوني في الوافية : ٩٥ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٤٢ ، والنراقي في المناهج : ٥٧ ـ ٥٨.

٦١٨

لا مكروها بمعناه المصطلح. نعم ، يثبت له الكراهة بالمعنى المذكور بالنظر إلى ذاته ، وذلك لا يستدعي ثبوت الكراهة في خصوصيّات الموارد مطلقا ، إذ قد يعرضه ما يوازي بسببه رجحان يوازي تلك المرجوحيّة فيزيد عليها فترتفع الكراهة المذكورة عن ذلك ، غاية الأمر أن يكون أقلّ ثوابا عن العاري عن تلك المنقصة. نعم ، لو قلنا حينئذ ببقاء المرجوحيّة بالمعنى المذكور صحّ ما ذكره من النقض.

ثمّ أجاب عن الإيراد على هذا الوجه من عدم الضابط ولزوم مكروهيّة جلّ العبادات : بأنّه ليس المراد بها مجرّد أقليّة الثواب بالنظر إلى غيرها ، بل المقصود كونها أقلّ ثوابا بالنظر إلى ما اعدّ من الثواب لتلك العبادة في حدّ ذاتها ، فقد يجيء هناك ما يزيد ثوابها من ذلك كما في المسجد ونحوه ، وقد يجيء ما يوجب نقصه كالصلاة في الحمّام (١) ، انتهى.

ومحصّل الكلام في تنقيحه هو : أنّ الكراهة الاصطلاحيّة التي هي عبارة عن طلب ترك الفعل على وجه التنزيه تابعة لجهة نقصان موجودة في نفس الفعل يقتضي هذا النحو من الطلب ، إلاّ أنّه ربما يمنع من ذلك الترتّب مانع ، مثل اشتمال ذلك الفعل على مصلحة تقتضي لطلبه على وجه الحتم والإلزام ، ضرورة أنّ تلك الجهة لا يوازي مصلحة الواجب ورجحانه ، فالكراهة بمعنى الطلب لا يكون موجودا ، وإنّما الموجود هي جهة الكراهة ، ولا إشكال في أنّ تلك الجهة يمكن أن تصير منشأ لنقصان مصلحة الواجب على وجه يكفي في الوجوب بعد النقصان أيضا. وهذا هو المراد من قلّة الثواب ، ولا وجه للقول بأنّ بعد تصادم الجهتين لا نسلّم وجود مصلحة كافية في الوجوب ، لأنّ الإجماع على تحقّق الوجوب كاشف عن ثبوت تلك المصلحة ولو بعد المصادمة.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٩٣ ـ ٩٤.

٦١٩

فإن قلت : فلا يجري هذا الجواب في العبادات المكروهة التي لا دليل على اشتمالها على مصلحة زائدة على مصلحة الوجوب ، فإنّ فيها لا وجه للوجوب بعد التصادم ، ولا دليل على أنّ هذه الموارد من العبادات المكروهة مشتملة على مصلحة زائدة ، كما هو الظاهر.

قلت : إنّ ثبوت الوجوب بعد ملاحظة الكراهة كاشف عن وجود المصلحة الزائدة ؛ على أنّ المجيب يكفيه احتمال ذلك ، فإنّ الدليل المذكور راجع إلى النقض بالعبادات المكروهة ، ويكفي في دفع النقض إبداء الاحتمال. نعم ، لو دلّ الدليل على كراهة عبادة نعلم بعدم اشتمالها إلاّ على مصلحة كافية في الوجوب فقط من دون زيادة كان ذلك وجها ، وأنّى لك بإثباته!

فإن قلت : إنّ ذلك لا يجري في المستحبّات المكروهة ، لأنّ بعد تصادم الجهتين لا وجه للاستحباب.

قلت : إن قام الدليل على استحبابه بعد ملاحظة اجتماعه مع الكراهة فذلك الدليل يكفي في إثبات مصلحة فائقة على تلك المنقصة على وجه يبقى بعد التصادم مقدار الكفاية ، وإن لم يقم دليل على ذلك فلا مورد للنقض ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فهذا الجواب مبنيّ على دلالة الدليل على امتناع الاجتماع ، فيجب صرف الظواهر التي مقتضاها الاجتماع عنها إلى ما لا دليل على بطلانها ، فإبداء احتمال لم يقم قاطع على فساده (١) كاف في المقام ، كما هو الظاهر على من مارس قليلا قواعد التوجيه والمناظرة.

هذا غاية توجيه المقام على وجه ربما يتوهّم خلوّه عن النظر ، وليس كذلك ؛ فإنّ فيه :

__________________

(١) في ( ع ) : خلافه.

٦٢٠