مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

يوم عرفه ـ أتخوّف أن يكون يوم عرفه يوم النحر وليس بيوم صوم » (١) وقول أبي الحسن عليه‌السلام بعد السؤال عنه عن اليومين اللذين بعد الفطر أيصامان؟ : « أكره لك أن تصومهما » (٢) فإنّ التأويل المذكور في مثل هذه الأخبار ربما (٣) يقطع بفساده ، سيّما بعد ملاحظة تسمية الصائم في السفر عاصيا ، كما في رواية سماعة : « سألته عن الصيام ، فقال : لا صيام في السفر ، قد صام اناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمّاهم العصاة » (٤).

ويظهر ذلك في الغاية بعد ملاحظة قول أبي الحسن عليه‌السلام في جواب من سأله عن الصيام بمكّة ومدينة من دون قيام فيهما : « لا يصحّ » (٥) فإنّه ربّما يقطع بفساد التوجيه المذكور فيه ، مضافا إلى ما عرفت من عدم استقامة إرادة ذلك من النهي من دون طلب.

الثاني : ما أجاب به المحقّق القمّي رحمه‌الله ، فإنّه وإن لم يمنع من الاجتماع ، إلاّ أنّ الإشكال فيما نحن فيه وارد عليه أيضا كما عرفت ، فقال : وأمّا فيما لا بدل له فنقول : هي إمّا مباحة أو مكروهة على ما هو المصطلح عليه ، فيكون تركه راجحا على فعله ، بل الثاني هو المتعيّن هنا لئلاّ يخلو النهي عن الفائدة فيغلب المرجوحيّة الحاصلة بسبب الخصوصيّة على الرجحان الحاصل لأصل العبادات. ثمّ استشهد بترك الأئمة عليهم‌السلام لها ونهيهم عنها ، فإنّ ذلك خلاف اللطف.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٤٤ ، الباب ٢٣ من أبواب الصوم المندوب ، الحديث ٦.

(٢) الوسائل ٧ : ٣٨٧ ، الباب ٣ من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث ٢.

(٣) في ( ع ) بدل « ربما » : ممّا.

(٤) الوسائل ٧ : ١٤٢ ، الباب ١١ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ٧ : ١٤٤ ، الباب ١٢ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٢.

٦٤١

وأجاب عن لزوم الرجحان في العبادة ، وحصول القرب بها.

أمّا عن الأوّل : فبأنّه لم يقم دليل على لزوم الرجحان في جميع خصوصيّات العبادة ، بل يكفي في ذلك ثبوته للماهيّة.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ قصد التقرّب حاصل بالنسبة إلى الماهيّة وإن لم يحصل القرب في الخصوصيّة ، ولا ملازمة بين القصد إليه وحصوله ، وإلاّ لما صحّ أكثر عباداتنا ؛ مضافا إلى أنّ قصد التقرّب قد يراد به موافقة الأمر وهو حاصل ، فلعلّ صورة العبادة تكفي في صحّة قصد التقرّب ما لم يثبت لها مبطل من الخارج ، وإن لم يكن ممّا لم يحصل له ثواب (١).

ثم إنّه وجّه قصد القربة في الحاشية (٢) بوجه آخر ، وهو : قصده من حيث كونه متعبّدا وداخلا في زيّ المتعبّدين.

وفيه ، أوّلا : النقض بالحرام والواجب ، فكما أنّه لا مانع على ما زعمه من اجتماع الكراهة والوجوب وكفاية الرجحان في الماهيّة وعدم الحاجة إلى الرجحان في الخصوصيّة ، فكذلك لا مانع من ذلك في الوجوب والحرمة. فإن استند في ذلك إلى عدم إمكان الامتثال فيه ، فنقول : لا يمكن الامتثال في المكروه أيضا ، وإن استند إلى عدم التضادّ بين الوجوب والكراهة بخلافه في الإلزاميّين فهو ممّا لا يسعه عقولنا ، ضرورة وجود التناقض وفهمه عقلا وعرفا بين الأمر بماهيّة على وجه الإطلاق والنهي عن فرد خاصّ من تلك الماهيّة.

وأمّا الاستناد إلى أنّ الماهيّة تغاير إيقاعها في زمان خاصّ أو مكان مخصوص فيحتمل اختلافهما في الحكم ، فقد عرفت أنّه كلام ظاهريّ خال عن

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) انظر الحاشية المطبوعة في هامش القوانين ١ : ١٤٥ ، ذيل قوله : وإن لم يحصل القرب.

٦٤٢

التحصيل ، فإنّ الإيقاع ليس أمرا مغايرا لوجود تلك الماهيّة وإيجادها في الخارج ، غاية الأمر أنّه وأمثاله منتزع من الماهيّة باعتبارات عقليّة صرفة لا يناط بها حكم.

وأوضح فسادا من ذلك ما زعمه بعض الأجلّة في توجيه مرام المحقّق المذكور. وحاصله : أنّ العبادة المكروهة لها اعتباران وجهتان : من حيث الأجزاء ومن حيث الجملة ، فمن الاولى تشمل على جهتي الرجحان والمرجوحيّة وإن كان الرجحان مغلوبا ، ومن الثانية لا تكون إلاّ مرجوحة ، ويكفي في اتّصاف الشيء بالعبادة وجود جهة الرجحان وإن كانت مغلوبة (١). ووجوه فساده غير خفي على أحد (٢).

وثانيا : أنّه لم يعقل معنى لكون الفعل عبادة وعدم حصول التقرّب به على تقدير الإتيان بها على وجهها.

وثالثا : أنّ المراد بالقربة ـ على ما حقّقناه في مباحث المقدّمة (٣) ـ ليس إلاّ الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر والامتثال. فإن أراد من موافقة الأمر ذلك فهو سديد ، لكنّه غير مفيد له ، فإن الإشكال في وجود الأمر في المقام مع وجود المرجوحيّة المناقضة لما هو لازم الأمر. وإن أراد إيجاد عمل مشارك للعبادة في الصورة كما ربما يومئ إليه قوله : « ولعلّ ... » فهو أظهر فسادا من أن يحتاج إلى بيان.

وأمّا رابعا : فما أفاده أخيرا ، فإن أراد أنّ الدخول في زيّ المتعبّدين إنّما هو بواسطة نفس العمل ، فالكلام إنّما هو في صحّته. وإن أراد أنّه بواسطة الانقياد والبناء

__________________

(١) الفصول : ١٣٠.

(٢) لم ترد « على أحد » في ( م ).

(٣) راجع الصفحة ٣٠٠.

٦٤٣

على التعبّد ونحوه يدخل في زيّ المتعبّدين ، فهو فاسد أيضا ، فإنّ ما ينقاد به لا بدّ وأن يكون راجحا ولو من جهة ، والمفروض انتفاء الرجحان ، وهو ظاهر.

وقد يلتزم فيها بعد الأمر المفيد للتكليف ، نظرا إلى امتناع الامتثال لعدم المندوحة ، إذ لا فرق في اشتراط التكليف بإمكان الامتثال بين الإلزامي وغيره ، إلاّ أنّه مع ذلك حكم بالصحّة من حيث استفادة حكم وضعيّ من قوله : « الصلاة قربان كلّ تقيّ » (١) و « الصوم جنّة من النار » (٢) ونحو ذلك ، فيكون تلك العبادات صحيحة بواسطة مطابقتها للحكم الوضعي.

وفساده أيضا ظاهر بعد كونه أخصّ ، فإنّ وجود هذه الآثار فيها بعد وقوعها مطابقة لأوامرها ، والكلام بعد في تصحيح الأمر بها مع المرجوحيّة المفروض فيها.

الثالث : لا يبعد أن يكون حاسما لمادة الإشكال ، وهو : أنّه لا ضير في أن يكون طرفا النقيض من شيء واحد ولو من حيث اندراجهما تحت عنوان آخر ذي مصلحة مقتضية للأمر بهما ، كفعل الأكل المندرج تحت عنوان « إجابة المؤمن » وتركه المندرج تحت عنوان « الصوم » وحيث إنّه لا يسعنا الجمع بين المتناقضين فلا محالة يصير التكليف بهما تكليفا على وجه التخيير بين الفعل بعنوانه والترك بعنوانه ، ولا يلزم من ذلك إباحة الفعل ، فإنّه إنّما يتأتّى فيما لو فرض تساوي الفعل والترك مع قطع النظر عن لحوق عنوان آخر بهما ، والمفروض فيما نحن بصدده هو لحوق عنوان آخر بهما ، فالترك المطلق من غير لحوق عنوان به من الصوم والإجابة ممّا لا حسن فيه ولا يقتضي أمرا ولا نهيا ، وتقييده بمخالفة المؤمن يوجب النهي عنه فيصير الفعل مأمورا به ، وتقييده بالصوم يوجب الأمر به.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٠ ، الباب ١٢ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٩٠ ، الباب ٧ من أبواب الصوم المندوب ، الحديث ٨.

٦٤٤

ولا غائلة ؛ فإنّ الترك إمّا أن يكون وقوعه من المكلّف في الخارج من غير التفات إلى القيدين فلا يكون موردا لحكم من الأحكام الشرعيّة ، وإن وقع منه من حيث إنّه صوم يكون مأمورا به فقط ، وإن وقع منه بعد لحوق عنوان « مخالفة المؤمن » و « ترك إجابته له » فهو مكروه منهيّ عنه بواسطة حسن الإجابة وكراهة عدمها.

وذلك يشبه الحكم بالوجوب التخييري ولو بحكم العقل في إنقاذ الغريقين اللذين لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما ، فإنّه مخيّر بين فعل كلّ واحد منهما وتركه ، لا من حيث إنّ الترك ملحوظ بالقياس إلى الفعل ، بل من حيث إنّ ترك أحدهما مجامع لعنوان الإنقاذ في الآخر ؛ وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ فعل الإنقاذ في أحدهما ليس نفس عدم الإنقاذ في الآخر ، فإنّ وجود أحد الضدّين ـ مثلا ـ ليس عين عدم الآخر ، وأمّا فيما نحن فيه فترك الصوم وفعل الأكل هو عين عنوان الإجابة ، وهو ظاهر.

وبالجملة ، فلا ضير في اتّصاف طرفي النقيض بالمطلوبيّة باعتبار احتفاف عنوان بهما ، ولا محالة يكون تعلّق الطلب بهما على وجه التخيير لامتناع طلب المتناقضين عينا.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ الظاهر من ملاحظة النواهي الواردة في العبادات المكروهة التي لا بدل لها أنّها مكروهة بواسطة احتفافها بعنوان آخر ، كما يظهر بالتصفّح في مطاويها ، فإنّهم يحكمون بكراهة صوم الولد والزوجة مع نهي الوالد والزوج عنه ، وكراهة صوم العاشوراء ، وكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام (١) ...

__________________

(١) انظر الشرائع ١ : ٢٠٩ ، والقواعد ١ : ٣٨٤ ، والجواهر ١٧ : ١١٩ ، وكشف الغطاء ٤ : ٥٤ ، ومستند الشيعة ١٠ : ٥١٤.

٦٤٥

إلى غير ذلك ، إنّما هو بواسطة أنّ هذا الصيام قد احتفّ بعناوين مطلوبة الترك على وجه التنزيه ، كمخالفة الوالد والزوج والتشبّه ببني أميّة ( عليهم اللعنة والنيران ) وترك إجابة المؤمن ونحوها.

يرشد إلى ذلك فيما مرّ في بعض الروايات من التعليل بقوله : « أتخوّف أن يكون يوم عرفة يوم النحر » (١) فإنّه قد احتفّت (٢) به عنوان الاحتياط. وما في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن صاحبه ، ومن طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذن زوجها ، ومن صلاح العبد وطاعته ونصحه لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن مولاه وأمره ، ومن برّ الولد أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن أبويه وأمرهما ، وإلاّ كان الضيف جاهلا وكانت المرأة عاصية والعبد فاسقا والولد عاقّا » (٣) بناء على حملها على الكراهة دون الحرمة. وما في رواية فضل بن يسار قال رسول الله : « إذا وصل الرجل بلدة فهو ضيف ، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلاّ بإذنهم ، لئلاّ يعملوا له الشيء فيفسد عليهم ، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلاّ بإذن الضيف لئلاّ يحشمهم فيشتهي الطعام فيتركه لهم » (٤) وظاهرها ما عرفت : من أنّ الوجه في كراهة هذا الصيام ملازمة هذه العناوين المكروهة لها.

فإن قلت : ذلك لا يتمّ فيما لا يكون هناك عنوان مكروه ملازم للعبادة

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٤٤ ، الباب ٢٣ من أبواب الصوم المندوب ، الحديث ٦.

(٢) كذا ، والمناسب : احتفّ.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٩٦ ، الباب ١٠ من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث ٢.

(٤) علل الشرائع : ٣٨٤ ، الباب ١١٥ ، الحديث ٢. والوسائل ٧ : ٣٩٥ ، الباب ٩ من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، ذيل الحديث الأوّل.

٦٤٦

لمطلق (١) الصوم في السفر والصلاة في الأوقات المكروهة ونحوها ، فإنّ ظاهر النهي المتعلّق بها مطلوبيّة الترك على وجه الإطلاق.

قلت : بعد الغضّ عن إمكان انتزاع عنوان مكروه كالتشبيه (٢) بعبدة الشمس للصلاة وقت الطلوع مثلا ونحوه في جميع الموارد كما لا يخفى ، نقول : إنّ صريح العقل قاض بوجود عنوان مكروه ملازم لهذه العبادات بعد ملاحظة الامتناع ، فلا حاجة إلى معرفته تفصيلا.

لا يقال : فعلى ما ذكر لا حاجة إلى الأمر بالفعل المذكور والنهي عنه ، إذ المكلّف إمّا أن يفعل ذلك أو لا يفعل ، وعلى التقديرين فيفوز بالمصلحة المودعة في الفعل أو الترك.

لأنّا نقول : لعلّ وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الأمر والنهي لحصول الامتثال. وليس المفيد في المقام هو القربة كما زعمه بعض الأجلّة (٣) ، بل المفيد هو العنوان الخارج الملازم ، والقربة إنّما هي معتبرة فيه.

فإن قلت : إذا كان ذلك العنوان الملازم منهيّا عنه ـ كمخالفة الأب وترك الإجابة ونحو ذلك ـ فيصحّ ما ذكر من أنّ الوجه في الأمر والنهي وجودهما بداعي الأمر ، وأمّا إذا لم يكن مأمورا به بل ولا معلوما فكيف يحصل معه الامتثال؟

قلت : وجود النهي كاشف ، ولا حاجة إلى العلم بالعنوان تفصيلا ، فيكفي ترك العبادة من حيث اقترانها بعنوان محبوب واقعا وإن لم يعلم به تفصيلا ، لا غائلة في ذلك.

__________________

(١) في ( ع ) : كمطلق.

(٢) كذا ، والظاهر : التشبّه.

(٣) لم نعثر عليه.

٦٤٧

نعم ، يرد على الجواب المذكور أمران :

الأوّل : أنّ قضية ما ذكرنا هو تساوي الصوم وتركه ، لكونهما مندوبين تخييرا ، مع أنّ النصوص والفتاوى كادت أن تكون صريحة في ترجيح الترك على الصوم ، فما أوردنا على الشهيد رحمه‌الله (١) وارد عليه أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّه إن اريد من أنّ النصّ والفتوى قاضية (٢) بعدم الرجحان في الصوم فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المعلوم خلافه ، ضرورة كونها عبادة ولا يتحقّق بدون الرجحان. وإن اريد أرجحيّة تركه على فعله مع ثبوت الرجحان في الفعل أيضا فلا ينافي ما ذكرنا.

ويمكن استكشاف الأفضليّة ، أوّلا : من الروايات الواردة في مقام الكراهة ، فإنّ في بعضها : « أنّ إفطارك لأخيك المؤمن أفضل من صيامك تطوّعا » (٣).

وثانيا : أنّ التعبير بلفظ « النهي » كاشف عن المرجوحيّة ، كما ربما يساعده العرف والاعتبار أيضا.

وثالثا : يدلّ على الأفضليّة فعل من يكون الواقع حكاية عن فعله ، وهم أئمّتنا صلوات الله عليهم أجمعين.

وبالجملة ، فيكون النهي في هذه المقامات أيضا إرشاديّا. ولا ضير فيه ، حيث إنّه مختصّ بمورد الأمر كما هو المفروض ، فلا ينافي كون النهي عن ذلك العنوان في غير مورد الأمر حقيقيّا لا إرشاديّا.

الثاني : أنّ مناط هذا الإرشاد ربما يقال بتحقّقه في جميع العبادات المستحبّة مع أفضليّة أحدهما عن الآخر.

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٤٠ ـ ٦٤١.

(٢) كذا ، والمناسب : قاضيان.

(٣) الوسائل ٧ : ١٠٩ ، الباب ٨ من أبواب آداب الصائم ، الحديث ٣.

٦٤٨

ويمكن دفعه : بالتزامه فيما إذا كان مثل المقام ، كأن كان عنوان الأفضل في الخارج عين غير الأفضل كالإفطار مع الصوم ، بل وفيما إذا كان أحدهما مقارنا للآخر كالإنقاذ. ومن هنا تراهم يحكمون بكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام ، مع أنّ الرواية الواردة فيه هي ما عرفت : من أنّ « إفطارك لأخيك المؤمن ».

وبذلك يندفع مناقشة سيّد المدارك (١) على من حكم بالكراهة (٢) بواسطة الرواية المذكورة ، فإنّ الرواية تدلّ على الأفضليّة دون كراهة الصوم. هذا غاية توجيه المقام.

المقام الثالث

في تصوير الكراهة في العبادات التي بين عنوان المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه.

فأوجه الوجوه في توجيهه هو الوجه المذكور فيما لا بدل له ، فيقال : إنّ المكلّف مخيّر بين الصلاة وتركها في بيوت الظلام ، لا من حيث إنّ تركها ترك لها ، بل من حيث إنّ ذلك الترك محفوف بعنوان التصرّف في ملك مشتبه غير معلوم الحال من الإباحة والغصبية ، والأفضليّة إنّما تستفاد من الوجوه المذكورة فيما سبق. ولا يصحّ الحمل على الأقلّ ثوابا ؛ لما عرفت من لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. وليس التخيير شرعيّا ليكون النهي مستعملا في أكثر من معنى ، بل هو بحكم

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٧٨.

(٢) تقدّم عنهم في الصفحة ٦٤٠.

٦٤٩

العقل كالتخيير بين الإنقاذين ، وما ذكرنا (١) هو غاية توجيه أمثال المقام ، وإلاّ فالعالم بالسرائر مطّلع على حقائق الامور والوقائع. هذا تمام الكلام في توجيه اجتماع المكروه مع الواجب أو المستحبّ.

بقي الكلام في اجتماع المستحبّ مع الواجب ، فنقول :

لا كلام في امتناع اجتماع الاستحباب العيني مع الوجوب العيني ، بمعنى أن يكون الشيء بعينه مطلوب الفعل تارة على وجه الحتم واخرى مطلوبة لا على وجه الحتم على وجه يكون الطلبان قائمين بنفس الطالب ، والمطلوبيّة على الوجهين قائمة بالفعل.

واستحالة ذلك ممّا لا ينبغي أن يكون موردا للتأمّل ؛ فإنّ قيام الطلبين مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للوجوب والاستحباب بنفس الطالب يوجب اجتماع المثلين ، فإنّ حقيقة الطلب على القول باتّحاده مع الإرادة المفسّرة باعتقاد النفع ـ كما أفاده المحقّق الطوسي في التجريد وغيره (٢) ـ راجع إلى العلم ، ويكون اختلاف الوجوب والاستحباب حينئذ باختلاف المراد ، فإنّ الإرادة حينئذ حقيقة واحدة ولا يكون اختلافها إلاّ باختلاف الأفراد ، فوجود فردين منها في فعل واحد يوجب اتّصاف محلّ واحد ـ وهو النفس ـ بفردين من كيفيّة واحدة ، وهي الإرادة ؛ مضافا إلى لزوم المحذور المذكور أيضا في الفعل.

فإن قلت : إنّ المتّصف بالمطلوبيّة هو الماهيّة الذهنيّة ، لامتناع اتّصاف الماهيّة الخارجيّة بالمطلوبيّة ، لكونها موجودة ولا يعقل طلب الحاصل ، والماهيّة الذهنيّة تختلف باعتبار الملاحظات.

__________________

(١) في ( م ) : ما ذكره.

(٢) انظر كشف المراد : ٢٥٢.

٦٥٠

قلت : إن اريد من اختلاف الملاحظة اختلاف وجوه الماهيّة وعناوينها ـ كأن يكون الماهيّة المطلوبة وجوبا في الذهن مغايرة للماهيّة المطلوبة استحبابا مع تلازمهما في الخارج ، لئلاّ يخرج الكلام عمّا فرضناه من اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني في شيء واحد ـ فهو سديد ، إلاّ أنّ هناك أمرين ، أحدهما : ما يتعلّق به الطلب ويكون متصوّرا للطالب ، وهو فيما نحن بصدده العنوانان المختلفان في الذهن. وثانيهما : ما به يسقط ذلك الطلب المتعلّق بالماهيّة ، فإنّه أيضا لا بدّ وأن يكون منشأ لانتزاع وصف المطلوبيّة ، وإلاّ لما يعقل وجه لسقوط الطلب. ولا إشكال في أنّ ما به يسقط الطلب لا بدّ وأن يكون من الموجودات الخارجيّة التي ينتزع منها المطلوبيّة. واختلاف الفعل في الذهن إنّما يجدي في عدم لزوم اجتماع المثلين في الماهيّة المتصوّرة للطالب ، وأمّا ما يسقط الطلب الذي هو ينتزع منه المطلوبيّة فلا اختلاف فيه ، ويلزم فيه اجتماع المثلين. وبما ذكرنا (١) يظهر أنّ ذلك كاف في إبطال الاجتماع وإن لم يلاحظ حال الطالب حتّى يقال : إنّا لا نعقل كيفيّة الطلب الصادر من الله ، كما لا يخفى.

وإن اريد باختلاف الملاحظة أنّ ماهيّة واحدة من دون اختلاف وجوهها تارة يعقل ويتعلّق بها الطلب الوجوبي وتارة اخرى يتصوّر ويتعلّق بها الندبي ولا إشكال في اختلاف الملاحظتين ، فهو فاسد جدّا ، إذ اختلاف الملاحظتين مرجعه إلى تغاير التصوّرين ، والطلب إنّما يحتاج إلى اختلاف المتصوّرين ، وتعدّد التصوّر لا يجدي في تعدّد المتصوّر ، وهو ظاهر.

وأمّا على القول بمغايرة الإرادة والعلم (٢) ـ كأن يكون الإرادة كيفيّة اخرى

__________________

(١) في ( م ) : ذكره.

(٢) عطف على قوله : « على القول باتّحاده مع الإرادة » في الصفحة السابقة.

٦٥١

غير العلم ـ فما ذكرنا لازم أيضا ، كما لا يخفى على المتأمّل. كما أنّه لازم على القول بتغاير الإرادة والطلب أيضا ، فإنّ ما ذكرنا (١) لا يختلف باختلاف المذاهب في ذلك ، كما هو ظاهر.

نعم ، هنا شيء ينبغي أن يعلم ، وهو أنّ الظاهر أنّ اختلاف الطلب الوجوبي مع الاستحبابي عند عدم رجوع الطلب إلى الإرادة وعدم رجوعها إلى العلم يكون من قبيل اختلاف العلم والظنّ ، حيث إنّ اختلافهما ليس بواسطة المعلوم والمظنون ، بل باختلاف نفس العلم والظنّ كما هو ظاهر ، فتدبّر.

هذا مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للاستحباب عن الوجوب ، وأمّا بملاحظتها فيلزم من اجتماع الطلب الوجوبي مع الندبي في فعل واحد على وجه التعيين ـ سواء قيل بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد ـ اجتماع الضدّين ، ضرورة أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، وإلاّ لم يفترق أحدها عن الآخر ، كما هو المقرّر في محلّه من أنّ الفصول اللاحقة للجنس لا بدّ وأن تكون متضادّة حتّى يحصل بلحوق بعضها إليه نوع محصّل ممتاز عن سائر الأنواع ، وهو ظاهر. وبعد ما عرفت من اتّحاد منشأ انتزاع الطلبين فيما يسقط منه الطلب فالملازمة ظاهرة لا حاجة إلى بيانها.

فإن قلت : فما توجيه موارد اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني ، مثل الوضوء الواجب لغاية واجبة والمندوب لغاية مندوبة ، أو مع قطع النظر عن الغاية أيضا لاستحبابه في نفسه؟ إذ لا فرق فيما ذكر بين أن يكون الوجوب والندب نفسيّين أو غيريّين أو مختلفين ، لاتّحاد المناط في الكلّ.

__________________

(١) في ( م ) : ما ذكره.

٦٥٢

قلت : قد استوفينا الكلام في توجيه ذلك في بحث المقدّمة ، وحاصله : ما نبّه عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله : من عدم اتّحاد زماني الوجوب والندب (١).

فإن قيل : وجوب الغاية يكون مندوبا نفسيّا أو غيريّا عند استحباب الغاية ، ولا محذور من اجتماع الندبين فيه ، لما ستعرفه في الوجوبين ، وبعد وجوبها لم يبق الطلب الندبي بوجه ، فيكون واجبا محضا من غير شائبة الندبيّة.

وبالجملة ، فنحن نحكم بعدم اجتماع الطلبين في مورد واحد ، لاستلزامه إمّا اجتماع المثلين أو الضدّين ، والتالي من المستحيلات الأوّليّة ، والملازمة ظاهرة ممّا مر.

وممّا ذكرنا (٢) يظهر حال اجتماع الوجوبين ، مثل ما لو أمر الوالد بشيء مع تعلّق أمر الوالدة به أيضا ، فإنّ ذلك الفعل من حيث كونه منشأ لحصول إطاعة الوالد واجب ومن حيث إنّه يصير موردا لامتثال الوالدة أيضا واجب ، لكنّه لا يتّصف ذلك الفعل بوجوبين ولا يصير منشأ لانتزاع المطلوبيّة مرّتين ، بل التحقيق في ذلك هو تأكّد الطلب الناشئ من حصول الجهتين ، كما يظهر بالرجوع إلى الوجدان عند تعدّد جهات الطلب في مطلوب واحد ، من غير فرق بين وجودها فيه دفعة وبين حصولها متدرّجة في الوجود ، وبين العلم بها دفعة وبين الجهل ببعضها ، فإنّ ذلك لا مدخليّة له فيما نحن بصدده. ولا وجه للقول ببقاء أحدهما عند الله وارتفاع الآخر ، فإنّه غير آئل إلى حاصل ، فمقتضى وجود العنوانين اللذين تعلّق بكلّ واحد منهما طلب حتميّ تأكّد الطلب في الفرد الجامع لهما وزيادة الثواب.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٧.

(٢) في ( م ) : ممّا ذكره.

٦٥٣

فإن قلت : قضيّة كلّ واحد من العنوانين اجتماع الحكمين فعلا ، وبعد حكم العقل بامتناع ذلك يحصل التعارض بينهما لاقتضاء كلّ منهما انتساب الأثر إليه ، وحيث إنّه لا مرجّح بينهما فيتساقطان ، فلا يثبت وجوب فضلا عن تأكّده.

قلت : إنّ بعد تسليم اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا لا وجه لما ذكر أصلا ، فإنّ كلّ واحد من العنوانين على وجه الاستقلال يقتضي مرتبة خاصّة من الطلب ، واجتماعهما معا يقتضي مرتبة أشدّ من المرتبة التي كان كلّ واحد منهما مقتضيا لها ، فلا تعارض بينهما حتّى يقال بالتساقط. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ كلّ واحد من العنوانين يقتضي وجود الرجحان والمطلوبيّة ، فلا تعارض بينهما ، وإنّما التعارض في استناد الأثر إليهما على وجه الاستقلال ، وبعد التعارض يحكم بتساقط الاستناد إليهما استقلالا دون أصل الوجود ، فيكون المقام نظير ما لو عقد كلّ واحد من الأب والجدّ على البنت لشخص واحد ، دون ما لو عقد عليها كلّ واحد منهما لغير ما عقد له الآخر ، فتأمّل.

وبالجملة ، فلا محذور في القول بتأكّد الطلب [ و ] المطلوب ، سواء قلنا بوجود المصالح والمفاسد في المكلّف به ـ كما هو مذاق التحقيق ـ أو لم نقل به ، كما زعمه الأشعري (١).

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ الوجه في ارتفاع الطلبين هو استحالة وجودهما في محلّ واحد ، وذلك لا يقضي بارتفاع المصلحة والمفسدة ، فإنّ التخصيص عقليّ ، فيقطع ببقاء الجهة ، سيّما على ما قرّرنا من اقتضائهما مرتبة خاصّة من الطلب.

__________________

(١) انظر الإحكام في اصول الأحكام لابن حزم ٥ ـ ٨ : ٥٨٣ ، والإحكام للآمدي ١ : ١١٩ ـ ١٣٠.

٦٥٤

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ إنكارهم وجود المصالح والجهات المحسّنة ممّا لا ربط له بالقول بتأكّد الطلب بواسطة العنوانين ، وهو ظاهر.

وبمثله نقول فيما إذا اجتمع الوجوب والندب ، فإنّه يحصل به تأكّد الطلب نظير اجتماع السواد الشديد والضعيف ، فإنّ الثاني لا يتحقّق في مورد الشديد على وجه يغاير الشديد ؛ لما عرفت من لزوم اجتماع المثلين ، بل يشتدّ الشديد بلحوقه.

ولا بدّ أن يكون الحكم الفعلي في مورد اجتماعهما الوجوب دون الاستحباب ، لاضمحلال الضعيف في جنب الشديد دون العكس ، فإنّ وجود الجهة الناقصة لا ينافي ثبوت الوجوب.

وتحقيقه : أنّ الجهات التي لا تقتضي حكما إلزاميّا ـ كالإباحة والندب ونحوهما ـ إنّما يستند إليها فيما إذا لم تكن للشيء جهة ملزمة ، فإنّه يكفي في تحريم شيء اشتماله على جهة مقبّحة مقتضية لتركه على وجه الإلزام ، ولا حاجة إلى اشتماله على تلك الجهة من جميع الجهات ، ويكفي في إيجاب الشيء اشتماله على جهة مقتضية له وإن اشتمل على جهات أخر لا تقتضي ذلك ، وهو ظاهر.

فيحصل من جميع ما مرّ أنّ اجتماع الوجوب والاستحباب والوجوبين على اختلاف وجوههما من النفسيّة والغيريّة وغيرها (١) غير ممكن لو اريد به وجودهما فعلا ، وممكن لو اريد به وجود الآثار المستندة إليهما من الثواب والامتثال ، ولذلك قلنا بصحّة الوضوء في وقت وجوبه فيما لو نوى استحبابه في نفسه كما تقدّم في بحث المقدّمة (٢) ، لكنّه مبنيّ على القول باختلاف الوجوب والاستحباب بالشدّة والضعف ، كما هو الظاهر.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : غيرهما.

(٢) راجع الصفحة ٣٥٧.

٦٥٥

وربّما يكون الوجه في زيادة الثواب المترتّب على العمل شدّة الطلب المتعلّق به ، ويلزم من ذلك أن يكون الواجب أكثر ثوابا من المندوب ، كما لعلّه المشهور بينهم وورد فيه الروايات (١) ، إلاّ أنّ قضيّة ذلك عدم جواز الاستثناء من ذلك ، مع أنّهم ذكروا لقاعدة أفضليّة الواجب موارد مستثناة.

قال الشهيد في محكيّ القواعد : الواجب أفضل من الندب غالبا لاختصاصه بمصلحة زائدة ، ولقوله تعالى في الحديث القدسي « ما تقرّب اليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه » (٢) وقد تخلّف ذلك في صور : كالإبراء من الدين الندب ، وإنظار المعسر الواجب ، وإعادة المنفرد صلاته جماعة ، فإنّ الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ، فصلاة الجماعة مستحبّة وهي أفضل من الصلاة التي سبقت وهي واجبة. وكذلك الصلاة في البقاع الشريفة فإنّها مستحبة وهي أفضل من غيرها من مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة. والصلاة بالسواك والخشوع في الصلاة مستحبّ ويترك لأجله سرعة المبادرة إلى الجمعة وإن فات بعضها مع أنّها واجبة (٣) ، انتهى.

وقد يشكل ـ مضافا إلى ما عرفت من عدم جواز تخصيص القاعدة العقليّة ـ : أنّ المركوز في أذهان المتشرّعة زيادة ثواب جملة كثيرة من المندوبات من (٤) جملة من الواجبات ، كالصيام في الهجير بالنسبة إلى ردّ السّلام ، وكذا زيارة

__________________

(١) ستأتي الإشارة اليها.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٤٠٨ ، الحديث ٧٤ ، وانظر الوسائل ٣ : ٥٣ ، الباب ١٧ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ٦.

(٣) القواعد والفوائد ٢ : ١٠٦ ، القاعدة ١٨٥.

(٤) كذا ، والمناسب : « على ».

٦٥٦

الحسين عليه‌السلام ... إلى غير ذلك من الامور المندوبة ، كبناء المساجد والقناطر وغير ذلك من الامور الباقية مدى الدهر التي ينتفع منها عامّة العباد في أطراف البلاد.

فإمّا أن يقال : بأنّ تأكّد الطلب غير كاشف عن تأكّد المصلحة وزيادة الثواب ، أو يقال بأنّ الواجب أفضل من المندوب مطلقا ولا وجه للأخذ بالروايات الظاهرة في الزيادة المخالفة لحكم العقل ، فإنّها مطروحة أو مؤوّلة ، وليس تلك الروايات بقطعيّة ـ كالإجماع ـ حتّى نحتاج إلى توجيه في الجمع بين العقل والإجماع ، بدعوى اختصاص أحدهما بما لا مدخل للآخر فيه ونحوه ، كيف! والإجماع ـ كما نقله المحقّق البهائي في الأربعين (١) ـ على خلافه.

وقد يقال في التوجيه : إنّ المصلحة القاضية بالوجوب هو دفع المضرّة والمفسدة ، والحكمة الداعية إلى الاستحباب هو جلب المنفعة ، وقضيّة قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » (٢) هو حصول المنفعة للعبد بفعل المندوب فيما إذا قصده ودفع المضرّة عنه فيما إذا طلبه من فعل الواجب ، وهو لا ينافي فضل الواجب إذا اريد منه المصلحة أيضا.

وفيه أوّلا : أنّ دفع المضرّة في الواجب ملازم للمنفعة الداعية إلى تشريعه فيما لو اتي به على وجهه ، وإلاّ فلا يترتّب عليه دفع المضرّة أيضا.

وثانيا : أنّ الإشكال باق فيما لو فرضنا الإتيان بالواجب لأجل المنفعة على تقدير تعقّل الانفكاك.

وقد يدفع الإشكال عن الزيارة : بأنّ فضلها على كثير من الواجبات إنّما هو بواسطة كونها من مظاهر الولاية التي هي من أهمّ الواجبات ، فإنّها بالزيارة تتحقّق في الخارج.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.

٦٥٧

وفيه : أنّ مطلق الأعمال المستحبّة يمكن أن يقال بأنّها من مظاهر التعبّد لله الذي هو فوق الولاية في الوجوب. وبالجملة فهذه الكلمات لا تدفع الخصم.

ثمّ إنّه قد يظهر من بعضهم : أنّ إجزاء غسل واحد عن الجنابة الواجبة والجمعة المندوبة إنّما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد ، فيكون من موارد اجتماع حكمين متضادّين ، حتّى أنّ بعضهم قد جعله دليلا برأسه على الجواز ، كما حكاه الفاضل النراقي (١).

أقول : ومثله ما عن البعض من مطلق تداخل الأسباب في بعض الموارد ، كما في منزوحات البئر (٢) وأسباب السجدة (٣) ونحوها.

ولا بأس بتحقيق ذلك في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : ففي توضيح الحال في تداخل الأسباب على وجه يظهر أنّه ليس من موارد اجتماع الأحكام المتضادّة أو المتماثلة في شيء.

فنقول : إذا دلّ الدليل الشرعي على وجوب شيء عند حدوث شيء آخر ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضأ » و « إذا التقى الختانان وجب الغسل » فإذا لم يعلم بوجود سبب آخر لترتّب الجزاء المذكور فيحكم بحسب الظاهر بأنّ النوم علّة تامّة لوجوب الوضوء ، والالتقاء للغسل ، سواء كان جميع ما عداه موجودا أو معدوما ، وهذا هو معنى حجّية مفهوم الشرط.

وذلك الجزاء تارة يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إذا رأيت زيدا فأعطه درهما » فإنّ إعطاء الدرهم له ممّا يمكن أن يتكرّر وجوداته في الخارج ،

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٥٨.

(٢) مثل العلاّمة في القواعد ، انظر مفتاح الكرامة ١ : ١٢٢.

(٣) مثل الحلّي في السرائر ١ : ٢٥٨ ، فيما إذا كانت أسباب سجدتي السهو من جنس واحد.

٦٥٨

وإمّا أن لا يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إن زنى زيد فاقتله » فإنّ قتله ممّا لا يقع مكرّرا في الخارج.

فإن كان من الثاني فتكرار وجود السبب لا يقضي بتكرار القتل ، لامتناعه. نعم ، وجوب القتل ممّا يتأكّد بتكرّر أسبابه ، سواء كان أسبابه متعددا بواسطة تعدّد أفراده كما إذا زنى زيد ـ مثلا ـ مكرّرا ، أو بواسطة تعدّد أنواعه كما إذا كان السرقة أيضا ممّا يوجب القتل ، ولا يعقل اتّصاف القتل الواقع جزاء لوجوبات عديدة ؛ لامتناع اجتماع الأمثال.

فإن (١) كان من الأوّل فعند اتّحاد حقيقة المعلول والعلّة فالظاهر من الجملة الشرطيّة هو لزوم تكرّر أفراد المسبّب عند تعدّد أفراد السبب ، كما في قولك : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (٢) وقولك : « إذا وقع الخمر في البئر فانزح كذا » فإنّ الظاهر وجوب النزح متعدّدا عند تعدّد وقوع الخمر ، إذ القول بوجوب النزح مرّة واحدة يوجب تقييدا في الشرط ، كأن يكون المراد : إذا وقع الخمر الغير المسبوق بوقوع مثله في البئر فانزح كذا ، والأصل يقضي بعدم التقييد. اللهم إلاّ أن يعلم من الخارج بالتقييد المذكور فيحكم بتداخل الأسباب ، بمعنى أنّ تعدّد وجودات ماهيّة السبب ممّا لا يكون منشأ لتعدّد أفراد المسبّب ، كما علم ذلك بالنسبة إلى الوضوء ، فإنّ تعدّد مرّات النوم لا يوجب تعدّد أفراد الوضوء.

فإن قلت : إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب ـ كما هو المفروض ـ لا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيه بحمله على تعدّد أشخاصه عند تعدّد أشخاص المسبّب ، فيكون من قبيل تداخل المسبّبات ، كما في مثال القتل.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : وإن.

(٢) في ( م ) : للصلاة.

٦٥٩

قلت : إنّ بعد ما عرفت من إطلاق سببيّة أفراد السبب ووجوداته ، يستقلّ العقل بالحكم بتعدّد وجود ذات المسبّب ؛ نظرا إلى امتناع اجتماع العلل المتعدّدة المعلومة علّيتها بإطلاق الدليل على معلول واحد.

وما اشتهر : من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ليست بعلل حقيقيّة فيمكن اجتماعها على معلول واحد ، ممّا لا يجدي في المقام ، إذ لا إشكال في أنّ هذه الأسباب أسباب عقليّة بعد جعل الشارع للأحكام المترتّبة عليها من الوجوب ونحوه ، كما هو ظاهر.

وأمّا عدم وجوب قتل زيد مرّة ثانية فليس لأجل أنّ أسباب وجوبه ليست عللا حقيقيّة ، بل بواسطة وجود المانع ، وهو اتّصاف المحلّ بالمثل وامتناع اجتماع الأمثال ، فيقال : إنّ تلك الأسباب بشرط قبول المحلّ وعدم اتّصافه بالمثل علل تامّة للوجوب ، وهذا التقييد ممّا يقضي به العقل ، وأين ذلك من التقييد اللازم على تقدير تداخل الأسباب؟ فإنّه لا قاضي به.

وبالجملة ، فنحن لا نلتزم بتداخل المسبّبات إلاّ حيث يقوم دليل من العقل أو النقل على التداخل ، كما لا نلتزم بتداخل الأسباب أشخاصها أو أنواعها إلاّ بعد دلالة الدليل.

فإن قلت : هب! إنّ مقتضى إطلاق السببيّة تعدّد الوجوب عند تعدّد أفراد السبب وتكرّره ، ولكن لا نسلّم أنّه كلّما تكرّر الوجوب يجب إيجاد الواجب على حسب تكرّره ، وإنّما يلزم ذلك فيما لو استلزم تكرّر الوجوب تعدّد الواجب ، وليس كذلك كما في تعدّد الإيجاب ، إذ كثيرا ما يتعدّد الإيجاب ، مع وحدة الواجب ، كما في الأوامر الواردة بالصلاة والزكاة على جهة التأكيد ونحوه.

قلت : بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الإطلاق هو سببيّة كلّ فرد للوجوب ـ كما اعترف به ـ لا وجه لما ذكره أصلا ، إذ لا نعقل من تعدّد الوجوب الذي هو صفة

٦٦٠