مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

الثاني : إنّ من الامور المقرّرة في محلّه أنّ الأفعال الاختياريّة لا تقع اختيارية إلاّ بالقصد إليها ، وهي محالّ التكاليف الشرعيّة ؛ إذ الأفعال الاضطرارية خارجة عن مقدور المكلّف ، ويمتنع تعلّق التكليف بالأفعال الغير المقدورة ، فيجب أن يكون متعلّق التكليف هي العناوين المقصودة ، وهو المطلوب (١).

الثالث : ما نهجه بعض الأفاضل في مناهجه ، وهو : أنّه لا بدّ من (٢) نسبة العمل إلى شيء من كونه مؤثّرا فيه ، وهذا بديهيّ. والتأثير قد يكون مع المباشرة ، وقد يكون بالأمر والبعث كما يقال « قتل السلطان فلانا » ، والأفعال المطلوبة من المكلّف لمّا كانت مطلوبة ممّا هو انسان ، يعني النفس دون البدن ، وتأثيره لا يكون إلاّ بالأمر والبعث للبدن ، وهما لا يتصوّران إلاّ مع القصد والشعور ، فيلزم أن لا يصدر عمل عمّا هو المكلّف حقيقة إلاّ بالقصد (٣).

والرابع : قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » على أن يكون المراد من نفي العمل نفي الآثار بالنسبة إلى عنوانه الغير المقصود ، كسقوط التكليف ونحوه.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فقد عرفته.

وأمّا عن الثاني فيحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ الامور العارضة للمأمور به والقيود اللاحقة له على وجوه :

أحدها : ما يؤخذ فيه قبل لحوق الطلب به ، كتخصيص الضرب بمكان أو زمان أو فاعل أو نحو ذلك ممّا لا يحصى.

وثانيها : ما يلحقه بعد ملاحظة لحوق الطلب به ، كالامتثال على ما عرفته.

وثالثها : ما يعرض فيه بعروض نفس الطلب والأمر.

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.

(٢) كذا ، والمناسب : « لا بدّ في ».

(٣) لم نعثر عليه.

٣٢١

فالقيود التي من قبيل الأوّل لا مجال من اعتبارها في المأمور به ، على ما لا إشكال فيه. والقيود التي تعرضه بعد الأمر أيضا يلحقها حكمها على ما مرّ. وأمّا القيود التي تحدث بنفس الطلب في المأمور به فلا وجه لاعتبارها فيه ، إذ المطلوب إنّما هو الفعل من غير تقييد ، غاية الأمر أنّ الطلب حينما يتعلّق به يحدث فيه قيدا ، ولا دليل على اعتباره.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم : أنّ القدرة المعتبرة في المأمور به تارة تكون معتبرة فيه مع قطع النظر عن قبح تعلّق الطلب بالفعل الغير المقدور ، وتارة تكون بواسطة امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور. فإذا كان من القسم الأوّل لا بدّ من القول بعدم الاكتفاء فيما إذا أتى المكلّف بالغير المقدور ، لأنّ الواقع غير مأمور به ، والمأمور به غير واقع. وأمّا إذا كان من القسم الثاني فعلى ما عرفت لا يؤثّر في التقييد بعد إطلاق المادّة.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ الطالب إذا تصوّر فعلا غير مقيّد بقيد ولاحظ فيه ما يوجب وقوعه من المكلّف على وجه الإطلاق بالنسبة إلى ذلك القيد ، يتعلّق طلبه بذلك الفعل المطلق. وأمّا عدم وفاء نفس الطلب بجميع أفراده لا يؤثّر في دفع الإطلاق ، لأنّه قصور في الطلب لا تقييد في المطلوب.

وبعد ما عرفت ـ فيما تقدّم ـ من صدق العناوين التي يقع مأمورا بها على الأفعال الواقعة من جهة من الجهات اختياريّة ، لا ينبغي الإشكال في كفاية كلّ فرد من الأفراد التي ينطبق عليها عنوان المأمور به ، لسقوط التكليف وحصول المأمور به.

فالمستدلّ إن أراد من امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور أنّ مقصود الآمر هو الفعل المقيّد بالقدرة فلا سبيل له إلى إثباته ، فهو ممنوع. وإن أراد عدم تعلّق الطلب به بواسطة مضايقة حاصلة في نفس الطلب وقصور موجود فيه فهو مسلّم ، لكنّه لا

٣٢٢

يجديه ، إذ قد يكون ما أراد أن يطلبه الطالب أمرا عامّا لا يمكن أن يقع عليه الطلب على عمومه ، كما أنّه يمكن أن يكون أمرا مخصوصا لا يمكن إظهاره أوّلا بنفس الطلب ، كما في الأوامر التعبّديّة على ما عرفت.

فإن قلت : إنّ الفعل لا يكون واجبا إلاّ بالطلب ، والمفروض عدم تعلّقه ـ ولو بواسطة قصوره ـ إلى مطلق الفعل الشامل للمقدور ولغير المقدور ، فلا يكون الفعل بعمومه واجبا. وحينئذ لا معنى لسقوط التكليف به ، وإنّ (١) سقوط التكليف بغير الواجب لا بدّ له من دليل ، ولا دليل عليه.

قلت : إنّ سقوط التكليف بغير الواجب فيما إذا كان ذلك بواسطة قصور الطلب بعد معلوميّة أنّ ما أراد أن يطلبه هو الفعل المطلق ، ممّا لا يحتاج إلى دليل ، لحصول المقصود الحقيقي بذلك ، ولا يعقل طلب الحاصل.

فإن قلت : هب أنّ المطلوب مطلق ، ولكنّه يجب الأخذ بمقتضى الطلب وتقييداته.

قلت : ذلك ظاهر الفساد بعد أنّ الوجدان قاض بأنّ المطلوب هو الفعل المطلق فيما إذا كان القيد غير مأخوذ في المطلوب ، ضرورة لزوم اختلاف نسبة الطالب إلى الأفراد ولو (٢) كان المطلوب مقيّدا ، والمفروض خلافه لإطلاق المطلوب.

فإن قلت : لو علمنا بأنّ المقصود هو الأعمّ كان الوجه ما ذكر ، ومن أين لك العلم بالمقصود؟

قلنا : يستكشف ذلك من إطلاق المادّة ، حيث إنّ المقصود لو كان أمرا مخصوصا لكان على المتكلّم بيان ذلك.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : فإنّ.

(٢) في ( ع ) و ( م ) : ولو.

٣٢٣

قلت : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الإطلاق إنّما يعتبر بواسطة قبح ترك البيان مع ورود الكلام في مقامه. وأمّا إذا كان في المقام ما يصلح لأن يكون بيانا ، فهل ترى صحّة الاستناد إلى الإطلاق؟ حاشا! كما فيما نحن بصدده ، فإنّه لو كان المقصود هو الفعل الخاصّ المقيّد بالقدرة لا ضير في ترك التقييد به ، لجواز الاعتماد على ما يستفاد من نفس الطلب ، إذ المفروض أنّ الطلب ـ ولو بواسطة قصوره ـ يمتنع تعلّقه بغير المقدور.

مضافا إلى أنّه يمكن القول بأنّ القدرة مأخوذة في نفس الفعل قبل لحوق الطلب في الأحكام الشرعيّة ، لما تقرّر عند العدليّة من تبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات المحسّنة والمقبّحة ، فما لم يكن الفعل موردا للحسن لا يصير متعلّقا للطلب ولا يكون موردا للحسن إلاّ إذا كان فعلا اختياريّا ، فإنّه مهبط للحسن والقبح اتّفاقا ، ولا يكون فعلا اختياريّا إلاّ إذا كان مقدورا ، ولا يكون مقدورا إلاّ أن يكون مقصودا. اللهمّ إلاّ بالقول بأنّ الحسن والقبح أيضا يقتضيان الاختياريّة في الأفعال كنفس الطلب.

كذا أفاده الاستاذ بعد ما أوردت عليه ذلك ، إلاّ أنّه بعد في إجمال لا بدّ له من التأمّل ، فتأمّل (١).

وأمّا الجواب عن الثالث : فبأنّه فاسد عن أصله ؛ إذ نسبة النفس إلى الجوارح العمّالة ليست نسبة البعث والأمر ، بل إنّما هي آلات لوقوع أفاعيلها على حسب اختلاف دواعيها ، فالمباشر حقيقة في الأفعال الصادرة عنّا إنّما هو نفوسنا الناطقة بواسطة آلاتها الظاهريّة أو الباطنيّة ، دون الآلات.

أغمضنا عن ذلك ، ولكن يتمّ ما ذكره فيما إذا قيل بأنّ النفس مأمور بالأمر بالجوارح على أن يقع منها الأفعال ، حيث إنّ الأمر لا بدّ له من ملاحظة المأمور به ،

__________________

(١) العبارة في ( ط ) : ولا بدّ من أن يقع فيه التأمّل.

٣٢٤

إذ لولاه لامتنع أمره به ، إذ عند عدم تصوّره لا يجد من نفسه ما يدعوه إلى طلبه ، فلا يقع الطلب من دون تصوّر المطلوب. إلاّ أنّ ذلك بمراحل عن التحقيق ، لإمكان أن يقال على ذلك التقدير : إنّ النفس مأمور بالتسبّب وليس يلزم من التسبّب تصوّر الفعل المأمور به. كذا أفاد الاستاذ.

وفيه نظر ؛ إذ بعد فرض أنّ المباشر هو الآلة دون النفس وأنّ نسبة النفس إليها نسبة التسبّب (١) ، لا يعقل التسبّب (٢) مع عدم ملاحظة عنوان المأمور به ، إذ لا فرق بين التسبيب والبعث والأمر ، فإنّ دواعي التسبّب (٣) ليس يدعو إلاّ بالتسبيب بالنسبة إلى عنوان المأمور به ، لا مطلق الفعل ولو بعنوان آخر ، فتدبّر.

وأمّا الجواب عن الرابع : فبما مرّ في الهداية السابقة ، ومحصّله : أنّه لا يستفاد من الرواية بعد تعدّد الوجوه المحتملة فيها شيء ، بل لو كان ولا بدّ فيدلّ على اعتبار القصد في الأعمال العباديّة فقط ، ومن البيّن اعتبار القصد إلى العنوان فيها (٤).

فالتحقيق في المقام : أنّ الأوامر التي ثبت في الشرع أنّها من العبادات يجب فيها قصد العنوان ، لأنّ الداعي فيها لا بدّ وأن يكون هو الأمر ، وهو لا يدعو إلاّ بالعنوان الذي تعلّق به الطلب ، فلو فرض وجود الفعل في الخارج من غير أن يكون عنوان المأمور به مقصودا لا يعقل أن يكون هو الداعي إلى إيجاده ، فلا يتحقّق القربة ، والمفروض وجوبها. وهذا هو السرّ في عدم صدق الامتثال عرفا عند عدم القصد. وأمّا ما لم يثبت كونها من العبادات فلا يجب فيها قصد القربة على ما عرفت ، ولا قصد العنوان ؛ لعدم دليل يدلّ على ذلك.

نعم ، لو اريد الامتثال بالأوامر التوصّلية يجب قصد العنوان ، لتوقّف قصد القربة عليه. ولعلّه ظاهر.

__________________

(١ ـ ٣) في ( ع ) : التسبيب.

(٤) في ( ط ) زيادة : « وذلك ظاهر ».

٣٢٥

تذنيب :

قد قرع سمعك فيما تقدّم (١) : أنّ بعض المعاصرين تخيّل جواز اجتماع الحرام مع الواجب التوصّلي (٢) ، وبذلك توهّم امتيازه عن التعبّدي ، وقد نبّهنا فيما تقدم أنّ ذلك على تقدير صحّته ليس فرقا جديدا ، بل ويتفرّع على اعتبار قصد القربة. ونزيدك في المقام بما هو التحقيق عندنا في ذلك ، فإنّ ذلك كان منّا على سبيل التنزّل ومعارضة الباطل بمثله.

فنقول : لا ريب في عدم حصول الامتثال في الواجب التعبّدي بالإتيان بالفرد المحرّم ؛ إذ مع كونه حراما لا يعقل توجّه الأمر إليه ، ومع عدم الأمر يمتنع أن يكون الداعي في الإتيان هو الأمر. وأمّا الواجب التوصّلي فلا إشكال أيضا في عدم حصول الامتثال به إذا اريد الإتيان على ذلك الوجه ، وهل هو مسقط للتكليف لارتفاع موضوع الواجب إذا أوجده المكلّف في الفرد المحرّم أو أنّه الواجب حقيقة وإن لم يكن على وجه الامتثال؟ وجهان ، ظاهر المتوهّم المذكور هو الثاني.

والتحقيق هو الأوّل ؛ إذ لا وجه لإرادة الفرد المحرّم بالأمر الدالّ (٣) على الوجوب ، لأدائه إلى اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، وستعرف في محلّه بطلانه.

نعم ، يصحّ ذلك على القول بجوازه. وحينئذ لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي ، فإنّ القائل بالجواز يدّعي حصول الامتثال في التعبّديات أيضا. وبالجملة ، فعلى القول بالامتناع لا وجه للفرق بين أقسام الطلب على أيّ وجه يفرض ، كما ستقف عليه.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : قد عرفت فيما تقدّم أو قرع سمعك.

(٢) راجع القوانين ١ : ١٠١ و ١٠٣.

(٣) في ط بدل « بالأمر الدالّ » : ممّا دلّ.

٣٢٦

فإن قلت : يمكن له القول بأنّ الإتيان بالفرد المحرّم ليس مسقطا بواسطة انتفاء الموضوع ، بل هو الإتيان بالواجب نظرا إلى ما تقدّم من إمكان أن يكون المقصود أعمّ من المطلوب ، فيحتمل أن يكون عدم إرادة الفرد المحرّم بواسطة قصور الطلب مع وجود المصلحة فيه أيضا.

قلت : وذلك وإن كان يبدو في ظاهر النظر ، إلاّ أنّ الواقع خلافه ، فإنّ المتراءى من أوامرنا هو تقييد العنوان أوّلا بغير المحرّم ثمّ يعرضه الطلب ، لا أنّه يخرج الفرد المحرّم بعروض الطلب كما قلنا بذلك هناك. ويظهر الثمرة فيما لو أتى بالفرد المحرّم نسيانا ، كأن صلّى في الدار المغصوبة مع عدم التفاته إلى الغصبيّة والحرمة ، فعلى ما ذكرنا لا يصحّ صلاته فيها ؛ لخروج الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة من عنوان الأمر بالصلاة ، ويصحّ على ما ذكره. ولا اختصاص لذلك بالتوصّلي حينئذ كما لا يخفى ، لجريانه في غيره أيضا.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ الامور الراجعة إلى تصرّف الآمر على وجه لو لم نقل بذلك التصرّف يلزم نسبة القبح إليه ـ كإرادة الفرد المحرّم من المأمور به ـ معتبرة في المأمور به مع قطع النظر عن لحوق الأمر ، وإلاّ يلزم اجتماع الإرادة والكراهة في أمر واحد. وأمّا الامور التي لا مدخل لإرادة الآمر فيها ـ مثل العجز والجهل ونحو ذلك ـ فالظاهر أنّ اختصاص المطلوب بالمعلوم والمقدور بواسطة امتناع تعلّق الطلب من جهة قصور في نفس الطلب. فبان الفرق ، وفسد القياس.

لا يقال : يجوز تعلّق الطلب بالقدر المشترك بين الواجب والحرام ، إذ القبح إنّما يتأتّى بملاحظة خصوص الفرد المحرّم ، وبطلان الخاص من حيث الخصوصيّة لا يستلزم بطلان العامّ من حيث إنّه عامّ.

لأنّا نقول : إن اريد التسرية إلى الفرد المحرّم بذلك فغير سديد. وإن اريد مجرّد العموم وإن لم يسر الحكم إلى الفرد المحرّم فغير مفيد ، كما هو ظاهر لمن تبصّر.

وتفصيل الكلام في المقام موكول إلى بعض المباحث الآتية ، إن شاء الله تعالى.

٣٢٧
٣٢٨

هداية

ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاصّ ـ كما ستعرفه ـ إلى غيريّ ونفسيّ. وتحقيق القول في تحديدهما موقوف على تمهيد ، وهو :

انّ متعلّق الطلب قد يكون أمرا مطلوبا في ذاته على وجه يكفي في تعلّق الطلب تصوّره من غير حاجة إلى غاية خارجة عن حقيقة المطلوب ، فلا بدّ أن يكون ذلك غاية الغايات ، فإذن هو الداعي إلى كلّ شيء وهو المدعوّ بنفسه ، كما في المعرفة بالله الكريم والتقرّب إليه بارتكاب ما يرضيه والاجتناب عمّا يسخطه ، فإنّه هو الباعث على فعل الطاعات والداعي إلى ترك المناهي والسيّئات ، ويلزمه أن يكون المطلوب في الأمر حصوله في نفسه ، لا حصوله لأجل ما يترتّب عليه.

وقد يكون أمرا يترتّب عليه فائدة خارجة عن حقيقة المطلوب ، وهذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون ما يترتّب عليه أمرا لا يكون متعلّقا لطلب في الظاهر ، فيكون من قبيل الخواصّ المترتّبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف حتّى يتعلّق الأمر بها بنفسها.

وثانيهما : أن يكون الغاية الملحوظة فيه تمكّن المكلّف من فعل واجب آخر ، فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالأخرة وإن كانت الغاية الأوّليّة هو التمكّن المذكور.

وهذا القسم أيضا يتصوّر على قسمين ؛ لأنّ الفعل الآخر الذي يتوقّف على وجود الفعل المطلوب : قد يكون مطلوبا حال تعلّق الطلب بالفعل الأوّل ، كما في

٣٢٩

جميع المقدّمات الوجودية للواجب بعد دخول الوقت. وقد يكون مطلوبا بعد وجود الفعل الأوّل في الحال ، كما في المقدّمات التي يجب إيجادها قبل دخول وقت الواجب ، مثل ما عرفت في بعض المباحث الماضية. واللازم في هذين القسمين أن يكون الغير مطلوبا إمّا في وقت تعلّق الطلب بالفعل أو بعده ؛ إذ لا يعقل أن يتعلّق الطلب بفعل بواسطة التوصّل إلى فعل آخر مع عدم تعلّق الطلب بذلك الآخر أصلا (١).

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم : أنّه قد فسّر في كلام غير واحد منهم الواجب النفسي بـ « ما امر به لنفسه » والغيري بـ « ما امر به لأجل غيره » (٢) وعلى ما ذكرنا في التمهيد (٣) يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة أو أكثرها من الواجبات الغيريّة ، إذ المطلوب النفسي قلّ ما يوجد في الأوامر ، بل جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فيكون أحدهما غير منعكس ، ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد ، لانتفاء الواسطة.

لا يقال : المراد بكونه « مطلوبا لنفسه » أنّه مطلوب لأجل مصلحة حاصلة في نفسه ، فيكون المراد بالغيري ما امر به لأجل مصلحة حاصلة في غيره ، فيتمّ عكس الأوّل ، وبه يصحّ طرد الآخر أيضا (٤).

لأنّا نقول : ذلك فاسد جدّا ، ضرورة امتناع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء حاصلة في غيره ، غاية ما في الباب أنّ المصلحة في فعل المقدّمة هو الوصول إلى الغير الحاصل في نفسه ، وفي ذيها القرب الحاصل في نفسه. وذلك لعلّه ظاهر.

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : « وهو ظاهر في الغاية ».

(٢) راجع الفصول : ٨٠ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٨٩ ، ومناهج الأحكام : ٤٨.

(٣) راجع الصفحة ٣٢٩.

(٤) في ( ط ) : وبه يصحّ الطرد أيضا في الثاني.

٣٣٠

فالأولى في تحديدهما أن يقال : إنّ الواجب الغيري ما امر به للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسي ما لم يكن كذلك ، فيتمّ العكس والطرد.

فإن قلت : إنّ النفسي بهذا المعنى يشمل الواجب الذي امر به للغير مع عدم وجوب الغير.

قلت : قد عرفت استحالة ذلك. ومن هنا ينقدح لك أنّه لو لم يؤخذ في التحديد صفة الوجوب لكان كافيا ، إذ الأمر بالمقدّمة لأجل الغير لا ينفكّ عن وجوب الغير.

ثمّ إنّه قد نبّهنا فيما تقدّم أنّ النسبة بين كلّ من النفسي والغيري هو التباين ، وبين كلّ واحد منهما مع كلّ واحد من التوصّلي والتعبّدي عموم من وجه. والأمثلة الأربعة (١) غير خارجة عن الصلاة الصادق عليها النفسي والتعبّدي ، ومواراة الميّت الصادق عليها التوصّلي والنفسي (٢) ، وغسل الثوب الصادق عليه الغيري والتوصّلي ، والوضوء الجامع للتعبّدي والغيري على إشكال ستعرفه في محلّه ، إلى غير ذلك من الصور المفروضة فيها (٣).

ثمّ إنّه إذا علمنا بأحد القسمين فلا إشكال. وإذا شكّ في واجب أنّه من الواجبات الغيريّة أو النفسيّة فهناك صور.

ولا بدّ أن يعلم أنّ صور الشكّ في النفسية والغيرية : تارة يتعلّق القصد بتشخيص حال الغير الذي يشكّ في وجوب الواجب لأجله ، واخرى بتشخيص حال نفس الواجب الذي يشكّ في وجوبه للغير أو لأجل نفسه.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) بدل « الأربعة » : أيضا.

(٢) في ( ع ) و ( م ) بدل « والنفسي » : دون التعبّدي.

(٣) في ( ط ) زيادة « كما يظهر ذلك بأدنى ملاحظة ».

٣٣١

وحيث إنّ مرجع الأوّل إلى الشكّ في اشتراط الغير بشيء فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند الشكّ في الاشتراط والإطلاق من الأخذ بإطلاق اللفظ الدالّ على الوجوب ونحوه.

ولمّا كان مرجع الثاني إلى أنّ وجوب الشيء هل يقتضي النفسيّة أو الغيريّة ، فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند ذلك من الأخذ بإطلاق اللفظ.

وتحقيق الكلام في مقامين :

الأوّل : في أنّ قضيّة الاصول اللفظيّة هل هي النفسيّة أو الغيرية؟

فعلى الأوّل فالدليل الدالّ على وجوب الغير والدالّ على وجوب الواجب الذي شكّ في غيريّته متطابقان في نفي الغيريّة ، إذ كلّ منهما ظاهر في النفسيّة.

وعلى الثاني ينفرد دليل الواجب بإفادة الغيريّة ، ولا يعارضه إطلاق دليل الغير ؛ لأنّ اعتبار الإطلاق من جهة عدم البيان والأمر الدالّ على وجوب الواجب الظاهر في الغيريّة بيان لذلك ، فلا بدّ من الحكم بالاشتراط.

فكيف كان ، فيحتمل أن يكون ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي فيكون مجازا في الغيري ، أو العكس ، أو الاشتراك لفظا أو معنى مع انصراف الأمر إلى أحدهما ، أو مع عدمه.

والتحقيق : هو القول بأنّ هيئة الأمر موضوعة لخصوصيّات الطلب المنقدحة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ، ولا يختلف تلك الأفراد باختلاف الدواعي اختلافا يرجع إلى اختلاف الطلب نوعا حتّى يقال بالاشتراك المعنوي بين النوعين. وعلى تقدير التنزّل فليس مشتركا معنويّا ، إلاّ أن يراد به أنّ آلة الملاحظة حين الوضع هو القدر المشترك بين النوعين. فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي في المقام ما ذكرنا في الواجب المشروط : من عموم آلة الملاحظة حين الوضع فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، ولا حاجة إلى إقامة دليل على ذلك بعد شهادة الوجدان بأنّ

٣٣٢

المستفاد من الأمر خصوص أفراد الطلب ، من غير فرق بين اختلاف الدواعي التي تعتور باعتبارها (١) النفسيّة والغيريّة ، فلا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد.

نعم ، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه بمراحل عن الواقع ؛ إذ لا شك في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب ، فانّ الفعل يصير مرادا بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها. وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب.

نعم ، يصحّ التمسّك بالإطلاق من جهة المادّة ، حيث إنّ المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلّم الحكيم ، وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالإطلاق ويحكم بأنّ الواجب نفسيّ غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الإتيان به مع إمكانه. ومن هنا تعلم ضعف الاحتمالات التي تقدّم ذكرها.

أمّا الحقيقة والمجاز في النفسيّة والغيريّة ، فإن اريد في مدلول الهيئة فقد عرفت أنّه لا فرق فيها إلاّ اختلاف أفرادها التي لا يعقل مدخليّة الدواعي في كونها حقيقة ومجازا. وإن اريد في مدلول المادّة فهو مبنيّ على ما تقرّر في محلّه من أنّ التقييد حقيقة أو مجاز.

وأمّا الاشتراك اللفظي ، ففساده ظاهر ؛ لعدم ما يقضي به في مدلول الهيئة ، كأن يقال : إنّ الواضع جعل الهيئة تارة بإزاء خصوصيّات الطلب التي تدعو إليها دواعي الوجوب النفسي ، واخرى جعلها لخصوصيّات الأفراد التي تدعو إليها

__________________

(١) في ( ط ) : باعتوارها.

٣٣٣

دواعي الوجوب الغيري. وأمّا بالنسبة إلى مدلول المادّة ، فقلّ من احتمله ، بل لم يحتمله من يعتدّ بشأنه من العلماء.

وأمّا الانصراف ، فلا معنى له في مدلول الهيئة. وأمّا في المادّة فلا دليل عليه ، إذ التقييد على وجه الغيريّة كثير جدّا فلا شيوع حتّى يقال بالانصراف. وذلك أمر ظاهر.

ثمّ إنّ لفظ « الواجب » هل هو حقيقة في الواجب النفسي مجاز في الغيري ، أو مشترك بينهما معنى أو لفظا؟ وعلى الأوّل ، فهل ينصرف إلى النفسي أو لا؟ وجوه ، أقواها الاشتراك المعنوي ، فيكون مطلقا على نحو سائر المطلقات ، وعند عدم القيد ظاهر في المعنى المطلق ، فيكون المراد به النفسي ، إذ لو كان غيره لوجب أن يكون مقيّدا ، كما يقال : الوضوء واجب عند إرادة الصلاة ، ولا يصحّ إطلاق الواجب عليه من دون تقييد.

هذا إذا كان المراد من مادّة الوجوب مفهومها ، ولازم ذلك أن يكون الجمل التي يقع لفظ الوجوب فيها جملا إخباريّة دون الإنشائيّة ، إذ على تقدير إرادة الإنشاء من مادّة الوجوب لا يفرق مدلول الهيئة ، كما لا يخفى على المتفطّن.

ويظهر من بعضهم التفصيل بين المادّة والهيئة ، فقال بالظهور في النفسي من حيث الإطلاق وعدم البيان في مادّة الوجوب ، وبالانصراف في مدلول الهيئة ، ورام بذلك ظهور الثمرة فيما إذا وقع لفظ « الوجوب » في تلو الشرط ، فإنّه ينفي (١) الوجوب النفسي في طرف المفهوم فيما إذا كان الحكم في المنطوق إيجابيّا. بخلاف ما إذا وقع الأمر في تلو الشرط ، فإنّ المتبادر من المنطوق حينئذ بواسطة الانصراف هو الوجوب النفسي ، بخلاف الوجوب المنفيّ في طرف المفهوم.

__________________

(١) في ( م ) : ينتفي.

٣٣٤

وفساده على ما ذكرنا ـ من عدم الفرق بين المادّة والهيئة فيما إذا كان المراد منها إنشاء الوجوب ـ ظاهر. وأمثال هذه الكلمات لعلّها ناشئة من سوء التدبّر أو قلّته ، وإلاّ فما الّذي أوجب ارتكاب هذه المفاسد؟

فظهر ممّا مرّ : أنّه إذا كان دليل الواجبين لفظيّا ؛ نظرا إلى الأخذ بإطلاق المادّة يجب الحكم بكونهما واجبين نفسيّين. وأمّا إذا كان أحد الدليلين لفظيّا فيلحقه حكمه من الأخذ بإطلاق المادّة ، ويلزمه الحكم بالنفسيّة.

أمّا على تقدير أن يكون دليل الواجب المفروض لفظيّا فيحكم بكونه واجبا نفسيّا. وأمّا الغير ، فإن ثبت فهو تابع لدليله المفيد لوجوبه ، فإن كان الإجماع المفيد لوجوبه متحقّقا عند عدم الواجب أيضا فهو واجب نفسي أيضا ، وإلاّ فعند عدم الواجب الذي يحتمل اشتراطه به يحكم بعدم الوجوب ؛ لأصالة البراءة ، كما تقدّم.

وأمّا إذا كان دليل الغير لفظيّا دون دليل الواجب ، فإن تحقّق الإجماع على وجوبه ـ ولو عند سقوط التكليف من الغير ـ فلا شكّ في كونه واجبا نفسيّا ، وإن لم يقم إجماع على وجوبه ولو حال سقوط التكليف عن الغير ، فمرجع الشك إلى ثبوت التكليف به ، والأصل البراءة.

ويمكن إثبات الوجوب النفسي للواجب بعد العلم بوجوبه في الجملة مع الشكّ في كونه غيريّا أو نفسيّا بإطلاق الدليل الدالّ على وجوب الغير ، إذ لو كان ذلك واجبا غيريّا لوجب تقييد الإطلاق الأوّل ، وهو خلاف الأصل.

كذا أفاده الاستاذ ، ولعلّه لا يتمّ ، لا لما قد يتخيّل : من أنّ أصالة عدم التقييد لا يؤثّر في إثبات عنوان الوجوب النفسي للواجب لأنّها من الاصول التي يعوّل عليها وإن كانت مثبتة لما تقرّر في محلّه ، بل لأنّ الإطلاق لمّا كان ظهوره في الأفراد بواسطة عدم البيان فلا ينهض فيما إذا كان ما يصلح أن يكون بيانا موجودا في المقام ، فتأمّل.

٣٣٥

المقام الثاني : في أنّه هل الاصول العمليّة تقضي بالنفسيّة أو الغيريّة فيما إذا كان دليل الواجب ودليل الغير كلاهما لبّيين؟

فنقول : إنّه تختلف الصور أيضا في ذلك ، فربّما يقضى بالنفسيّة ، كما إذا قلنا بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، فيثبت عدم اشتراط الواجب به ، فنقول بالبراءة قبل دخول الوقت وبالاشتغال بعده ، إذ هو واجب قطعا بعد دخول وقته ، إمّا لنفسه وإمّا لغيره.

نعم ، لو ترتّب فائدة على اشتراط الغيريّة (١) لا يحكم بواسطة حكمنا بالبراءة ، مثل بطلان الواجب على تقدير تأخّره عن الغير مثلا.

ثمّ إنّه لو انقضى وقت الغير وشكّ في وجوب الواجب باعتبار النفسيّة والغيريّة ، فالاستصحاب قاض بوجوبه على مذاق القوم. وقد يجب الأخذ بالاحتياط بالجمع بين ما علم بوجوب أحدهما نفسا والآخر بواسطة الغير مع اشتباه أحدهما بالآخر في الوقت أو بعده مع وجوب قضاء الآخر ، وإلاّ فيرجع الأمر إلى البراءة ، كما لا يخفى وذلك ظاهر جدّا.

تنبيه : هل يجوز اتّصاف الواجب الغيري بالوجوب قبل وجوب الغير أو لا؟

وجهان ، قد تقدّم التحقيق فيهما فيما مرّ في الهدايات المتعلّقة بالوجوب الشرطي ، فراجعها. فلا حاجة إلى إطالة الكلام بإعادتها في المقام.

والموفّق هو الله وهو الهادي.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : الغير به.

٣٣٦

هداية

لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي ، ولا إشكال في ترتّب الثواب على امتثاله. ولا نعرف في ذلك خلافا بين العدليّة ، وإن كان قد يمكن المناقشة بعدم استقلال العقل على استحقاق الثواب على الامتثال فيما إذا فسّر الثواب بما يرجع إلى المنافع الاخرويّة ، لجواز الاكتفاء عنه بالنعم العاجلة. إلاّ أنّه لا منع في العقل عن ترتّبه في الآخرة ، فتحمل الأدلّة الدالّة على الثواب على ظاهرها من غير منافرة ولا حزازة.

وهل يصحّ ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة ، بمعنى استحقاق الآتي بالواجب الغيري وتاركه على وجه الامتثال والمخالفة للثواب والعقاب عقلا مطلقا ، أو لا يترتّب مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب أصليّ فيترتّب أو تبعي (١) فلا يترتّب ، أو يفصّل بين الثواب والعقاب ويقال بعدمه في الأوّل وبترتّبه في الثاني؟ وجوه ، بل لعلّه أقوال ؛ حيث ذهب جماعة إلى الأوّل.

منهم بعض أفاضل المتأخّرين في إشاراته ، قال : المشهور بين الاصوليّين ترتّب العقاب على ترك المأمور به شرعا على تقدير كون الأمر للوجوب. واستدلّ على ذلك بآية الإطاعة والعصيان. ثمّ أفاد بقوله : فما قيل من أنّ الواجبات الغيريّة واجبات اصطلاحيّة ومع ذلك لا عقاب عليها أصلا ، ليس على ما ينبغي. ثمّ قال :

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : بدل « أو تبعي » : وبين غيره.

٣٣٧

وممّن عاصرناهم من قال ـ بعد تقسيم الواجب إلى الواجب لنفسه ولغيره ـ : وترك الأوّل موجب للعقاب على نفس الترك ، وأمّا الواجب الغيري فالّذي يقتضيه النظر أنّ تركه يوجب العقاب من حيث إفضائه إلى ترك ما هو علّة في إيجابه ، لا على تركه في نفسه ، لأنّ المطلوب حقيقة هو الواجب النفسي الّذي يتوقّف عليه ، وإنّما وجب هذا لأجل التوقّف (١).

ثمّ إنّه رحمه‌الله بعد ما نقل كلام معاصره إلى حيث ما أراد ، أفاد : ويرد عليه أنّ ما دلّ على ترتّب العقاب على مخالفة الأمر ـ كما مرّ ـ يعمّ القسمين ، فإنّ بحصول المخالفة فيهما يحصل العصيان وعدم الطاعة ، وهو المناط في ترتّب العقاب نظرا إلى ظاهر الأدلّة ، مع تأيّدها بالشهرة التامّة ، مع عدم مانع من بقائه على حاله عقلا وشرعا. فتعيّن بقاء الظواهر بحالها كما في الوضوء ونحوه ، فلو تركه وترك الصلاة يترتّب عليه عقابان. ولا ينافيه كون المصلحة في الواجب الغيري في الغير ، فإنّ المفروض أنّه مطلوب في مرتبة ذاته ، غاية الأمر مصلحته في الغير ونحوه يأتي في الواجب لنفسه ، انتهى (٢). وهو كما ترى صريح في تعدّد الثواب والعقاب.

ومنهم السيّد الجليل البارع في المناهل (٣) ـ على احتمال في كلامه ـ حيث إنّه في مقام إثبات الوجوب الشرعي للطهارات ونفي الوجوب الشرطي ، استند إلى أمرين :

أحدهما : أنّ الظاهر من لفظ « الوجوب » في عرف الأئمّة واصطلاح الفقهاء هو المعنى المصطلح عليه ممّا يترتّب على تركه الذمّ والعقاب.

الثاني : أنّه لو كان المراد هو الوجوب الشرطي لم يستقم قولهم : « الوضوء للصلاة الواجبة واجب » إذ الاشتراط به ثابت في المندوب منها أيضا.

__________________

(١ و ٢) إشارات الاصول ، الورقة : ٤٤.

(٣) لا يوجد لدينا.

٣٣٨

فإنّ من المحتمل في كلامه أن يكون مراده نفي الوجوب الشرطي وإثبات الوجوب الشرعي في قباله ـ بمعنى أنّه مطلوب طلبا حتميّا ـ لا إثبات العقاب على تركه.

ويظهر من المحقّق القمّي التفصيل بين الخطاب الأصلي والتبعي. ولعلّه لا ينافي التفصيل بين الثواب والعقاب ، كما يشعر به أيضا كلامه ، لكنّه على خلاف ما اختاره الغزالي (١). قال : بل لا نضايق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة خصوص الأمر به وإن كان وجوبه للغير ، كما هو مدلول أصل لفظ « الأمر » (٢).

وعلّق بكلامه هذا ما هو لفظه : الذي ينادي بأنّ مرادهم في الوجوب الغيري هو الوجوب المصطلح وأنّه يترتّب على ترك المقدّمة العقاب إذا تعلّق به خطاب على حدة ، أنّهم قسّموا الوضوء والغسل وغيرهما إلى واجب ومندوب (٣).

ثمّ إنّه دفع توهّم ما يقال بصدق الوجوب المصطلح على المقدّمة باعتبار ترتّب العقاب على ذيها : بأنّ الظاهر ترتّبه على نفس الواجب لا لغيره. وهو صريح في التفصيل المذكور مع إشعار بالتفصيل الآتي على العكس. وحكى عن الغزالي التفصيل بين الثواب والعقاب.

قال المحقّق القمّي : وأمّا المدح والثواب على فعلها فنقله بعض المحقّقين عن الغزالي. ولا غائلة فيه ظاهرا ، إلاّ أنّه قول بالاستحباب. وفيه إشكال ، إلاّ أن يقال باندراجه تحت الخبر العام في : « من بلغه ثواب على عمل فعمله

__________________

(١) المستصفى ١ : ٧٢.

(٢) القوانين ١ : ١٠٨.

(٣) المصدر المتقدم.

٣٣٩

التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه » (١) فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ ، حتّى فتوى الفقيه. فتأمّل (٢).

وقال فيما علّق على هذا المقام : إشارة إلى أنّه يخرج عن المستحبّ المصطلح الّذي تسامح في أدلّته ، لكنّه لا مانع من التزامه إلاّ تسديس الأحكام أو تسبيعه ، إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في الأحكام الأصليّة فلا يضرّ حصول ذلك في التبعيّات (٣).

وكيف كان ، فهذه جملة ما حضر عندنا من كلمات القائلين بالثواب والعقاب على اختلاف مشاربهم وتباعد مذاقهم.

والتحقيق عندنا هو القول الثاني ، والّذي يدلّ على ذلك هو : أنّ الحاكم بالثواب والعقاب إمّا العقل أو النقل ، وليس في شيء منهما دلالة على ذلك في المقام.

أمّا العقل فهو مستقلّ بعدم استحقاق الآتي بالمقدّمة للثواب غير ما يترتّب على ذيها ، فضلا عن حكمه باستحقاقه له. والسرّ في ذلك : أنّ الثواب على ما هو المعقول عندنا هو النفع المترتّب جزاء على فعل الطاعات ، فهو إذا من فروع الامتثال ، والمعقول من الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر ، والأمر الغيري لا يصلح لأن يكون هو الداعي إلى إيجاد ما تعلّق به ، فإنّ الشيء المطلوب بواسطة الغير من حيث إنّه مطلوب بالغير لا داعي إلى إيجاده إلاّ التوصّل إلى ذلك الغير ، فالمطلوب الحقيقي هو الغير والامتثال بمقدّماته ليس الامتثال بذلك الغير. وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويستكشف ذلك بملاحظة أوامر الموالي المتعلّقة بمراداتهم في الموارد المختلفة ، فإنّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧.

(٢) القوانين ١ : ١٠٤.

(٣) راجع التعليق في القوانين ١ : ١٠٥.

٣٤٠