مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ومن هنا يظهر لك الوجه في فساد ما استدلّ به صاحب المعالم على النفي : من انتفاء الدلالات (١) ، وفساد ما اعترض عليه بعض المحقّقين (٢) : من أنّ عدم الدلالة بواسطة القرينة ممّا لا ينافي ثبوت الوضع ، إلى غير ذلك من هذه الوجوه المنبئة عن كون البحث في المقام بحثا لفظيّا ونزاعا لغويّا ، فتدبّر.

__________________

(١) المعالم : ٦٢.

(٢) وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : ٦٠ ، ذيل كلام الماتن : لنا.

٢٠١
٢٠٢

هداية

المقدّمة لغة : اسم فاعل من « قدّم » ، أو اسم مفعول منه ، فعلى الأوّل لا بدّ من تمحّل ، إمّا بالقول بأنّها من كثرة ارتباطها إنّما قدّمت نفسها فيكون « قدّم » ـ على ما هو المعهود من استعماله ـ متعدّيا ، وإمّا بالقول بأنّ « قدّم » بمعنى « تقدّم » فيكون التفعيل للتكثير ، كما في قوله تعالى ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ )(١) وقولهم : « موّتت الإبل » وقولهم : « فرّح » بمعنى « تفرّح ». وعلى الثاني فلا إشكال ؛ لأنّها مأخوذة من مقدّمة الجيش ، وهي على الظاهر طائفة من الجيش تقدّم في المسير ليكون عيونا لهم من الأعداء ، فيكون التفعيل للتعدية ، لأنّهم قدّموهم على أنفسهم.

ومن هنا يظهر : أنّ التاء فيها للتأنيث من حيث اعتمادها على موصوف مؤنّث ، كما في قولهم : « باقية » و « سارية » و « باغية » و « طاغية » ، لاعتمادها على « النفس » المحذوفة لفظا. وليست للنقل ـ كما توهّم ـ لعدم ثبوت النقل أوّلا ، وعدم ثبوتها ثانيا. أمّا الأوّل : فلأنّ المنساق منها عرفا واصطلاحا وإن كان مختلفا ، فإنّ المراد منها اصطلاحا أخصّ ممّا هو المراد منها عرفا ؛ إذ لا يلاحظ الارتباط بين المقدّم والمؤخّر في العرف ، وفي الاصطلاح لا بدّ من ملاحظة الارتباط والتوقّف بينهما ، فوجود زيد وإن كان سابقا على وجود عمرو ، لا يكون مقدّمة لوجود عمرو اصطلاحا إذا لم يتوقّف وجوده عليه ، ويكون مقدّما عليه لغة وعرفا ، إلاّ أنّ مجرّد الاختلاف لا يقضى بالنقل. وأمّا الثاني : فلما قرّر في محلّه.

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

٢٠٣

وبالجملة : فالمقدمة بحسب مصطلح الاصوليّين عبارة عمّا يتوقّف عليه الشيء ، والمناسبة بين المعنيين ظاهرة.

وكيف كان ، فلها تقسيمات مختلفة باعتبارات متفاوتة :

منها : تقسيمها إلى الداخليّة والخارجيّة.

فالمراد بالأوّل : ما كان داخلا في ذيها ، كأجزاء الماهيّة المركّبة ، فإنّها ممّا يتوقّف عليها ، ضرورة احتياج الكلّ إلى الأجزاء (١) مع دخولها في حقيقته وماهيّته.

والمراد بالثاني : ما كان خارجا عنها فيما إذا كان ممّا يتوقّف عليه وجود ذيها. وهذا القسم في الواقع يقع على أنحاء : فتارة يكون على وجه يمتنع تخلّف ذيها عنها ، وتارة يكون على وجه لو لم يكن ما يمنع منه لكان مترتّبا عليه ، وتارة يكون ممّا يستند إليه بعد حصول الشرائط المعتبرة في تأثيره أو في تأثّر المحلّ منه ، وتارة يكون على وجه له مدخل ، في وجود ذي المقدّمة ، فتارة : بوجوده (٢) فقط ، واخرى : بعدمه فقط ، ومرّة : بهما معا.

وقد جرى اصطلاح أرباب النظر على تسمية القسم الأوّل بالعلّة التامّة ـ كما يظهر من مطاوي كلماتهم ـ والقسم الثاني بالمقتضي ، ويدلّ على ذلك ملاحظة موارد استدلالاتهم في المقامات المختلفة من وجود المقتضي وارتفاع المانع ، فلولا أنّ المقتضي هو مجموع ما يتوقّف عليه الشيء ما عدا المانع لم يكن الاستدلال موجّها ؛ لاحتمال انتفاء (٣) شرط من شروط التأثير.

ويظهر من بعضهم : أنّ السبب في مصطلح الفقهاء هو المقتضي. وليس كذلك ، بل الظاهر أنّ السبب في مصطلحهم هو القسم الثالث.

__________________

(١) في ( م ) و ( ع ) : افتقار الكلّ إلى أجزائه.

(٢) في ( م ) و ( ع ) : « لوجوده » ، وهكذا فيما يأتي : لعدمه ، لهما.

(٣) في ( م ) و ( ع ) بدل « انتفاء » : « فقد ».

٢٠٤

وعلى تسمية القسم الرابع (١) بالشرط ، والخامس بالمانع ، والسادس بالمعدّ.

ولا يخفى : أنّ ما ذكرنا ـ من انحصار المقدّمات في الامور الستّة ـ إنّما هو بملاحظة أوّلية ، وإلاّ فلا حصر في ذلك ؛ فإنّ جزء المقتضي أو السبب أو الشرط فيما إذا كان مركّبا لا يكون شيئا من الامور المذكورة ، مع أنّه من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المقصود من هذا التقسيم في المقام تشخيص ما هو مراد المفصّل بين السبب وغيره ؛ إلاّ أنّه لمّا كان منوطا بذكر الحدود التي هي مذكورة في كتب القوم لهذه الأنواع من المقدّمات ، فلا بأس بإيرادها وملاحظة ما يرد عليها ، ثمّ نذكر ما هو الظاهر من مراد المفصّل.

فنقول : قد عرّفوا السبب بأنّه : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ، وإنّما قيّد بقولهم : « لذاته » لئلاّ ينتقض عكس الحدّ بالسبب الذي لم يستلزم وجوده وجود المسبّب بواسطة وجود المانع أو عدمه العدم لقيام سبب آخر مقامه ، فإنّ السبب المجامع للمانع أو لعدم الشرط لا يوجب وجودا ، كما أنّ عدمه مع قيام مثله محلّه لا يورث عدما.

وهذا هو الذي اختاره المحقّق القمّي (٢) في المقام ، واعترض عليه بعض الأجلّة (٣) ـ بعد أنّ المعنى المذكور بعيد عن مراد المفصّل (٤) في المقام على ما ستعرف الوجه فيه ـ بأنّه : إن اريد بالاستلزام دوامه لم يتناول السبب الناقص ، وكذا إن أراد

__________________

(١) عطف على قوله : على تسمية القسم الأوّل.

(٢) القوانين ١ : ١٠.

(٣) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٨٤.

(٤) كالسيّد المرتضى في الذريعة ١ : ٨٣.

٢٠٥

الاستلزام بحسب الذات ـ كما هو الظاهر من لفظ الحدّ ـ لامتناع تخلّف ما بالذات عنها. وإن أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرط أيضا ، لأنّه قد يستلزم ذلك إذا اخذت بشرط المقارنة لغيرها.

وفيه : أنّ المراد بالاستلزام هو ما يقتضيه المقتضي لوجود الشيء الذي يجامع وجود المانع من غير اعتبار شيء زائد في المقتضي ، فلا يرتبط المقام بما زعمه من امتناع تخلّف ما بالذات ، فإنّ قولنا : « لذاته » ، تارة يعتبر على وجه يراد منه ملاحظة نفس الشيء وذاته من غير اعتبار شيء آخر فيه أو معه من وجود شيء آخر أو عدمه أو غير ذلك. وتارة يلاحظ على وجه يستفاد منه استناد الحكم المذكور في الكلام إلى ذات الشيء وحقيقته وهويّته. والمعترض إنّما خلط بين الوجهين ؛ فإنّ قولهم : « لذاته » في التعريف المذكور من قبيل الأوّل ، والمعترض إنّما حمله على الوجه الثاني ، فاعترض عليه بامتناع تخلّف ما بالذات ، كما لا يخفى.

واعترض أيضا بأنّ قوله : « ويلزم من عدمه العدم » مستدرك ، إذ ما يقيّد وجود الشيء به لا محالة يرتفع ذلك الشيء بارتفاعه ، فلا حاجة إلى ذكره.

فإن قلت : فلعلّ ذكره بواسطة إخراج المانع.

قلنا : ذلك واه جدّا ؛ لأنّه صرّح بخروج المانع من الجملة الاولى. هذا ما ذكره بعد التوضيح.

وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الجملة الثانية بمنزلة الجنس لماهيّة السبب وحقيقته ، واستيفاء ذاتيّات المعرّف أو ما هو بمنزلتها من الامور العامّة في صناعة التعريف. ثمّ ذكر الخواصّ المميّزة له عن مشاركات تلك الامور العامّة ليس بأمر عجيب ولا بشيء مرغوب عنه ، بل من الامور المستحسنة بل اللازمة. نعم ، يبقى في المقام بيان وجه تقديم ما هو بمنزلة الفصل على ما هو بمنزلة الجنس ، فإنّ الترتيب الطبيعي في

٢٠٦

التعاريف هو ذكر الجنس أوّلا ثمّ الفصل ـ كما هو ظاهر ـ فلعلّ الوجه في تقديم ذلك في المقام هو التنبيه على أنّ المقصود الأصلي من السبب هو الوجود أو غير ذلك من النكات. وبالجملة : فأمثال ذلك لا يعدّ من المستدرك. نعم ، لو كان ما هو بمنزلة الجنس ممّا يغني عمّا هو بمنزلة الفصل كان الإيراد بالاستدراك موجّها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما زعمه في توجيه كلامه في غاية السخافة ؛ إذ لا ينبغي لذي مسكة أن يتوهّم أنّ ذكر الجملة الثانية لإخراج المانع ؛ إذ هو ممّا يلزم من وجوده العدم ، فكيف يراد خروجه من قوله : « يلزم من عدمه العدم » وذلك أمر ظاهر.

نعم ، يرد على التعريف المذكور : أنّ السبب المجامع لعدم الشرط لو خلّي وطبعه لا يقتضي الوجود ؛ للفرق الظاهر بين عدم الشرط والمانع ، فإنّ المقتضي تامّ الاقتضاء مع وجود المانع. فيمكن القول بأنّ السبب لو خلّي وطبعه يلزم من وجوده الوجود ، بخلاف السبب المقارن لعدم الشرط ، فإنّ الشرط له مدخل في الوجود إمّا لكونه جزءا مؤثّرا ـ كما توهّم ـ أو لكونه شرطا في اقتضاء ما هو بعد احتفافه بالشرائط يكون مقتضيا ـ كما هو ظاهر ـ فلا وجه لإلحاق أحدهما بالآخر.

وأمّا ما ذكره : من إخراج الأسباب المتعدّدة من القيد المذكور في جانب العدم ، فيمكن أن يناقش فيه : بأنّ بعد ما هو المقرّر من امتناع ورود الأسباب المتعدّدة على مسبّب واحد ، ففي الموارد التي يتراءى تعدّده فيها ، إمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من تلك الأسباب إنّما يؤثّر في وجود مسبّب خاصّ على وجه لا يترتّب عليه غيره ، أو يقال : بأنّ السبب هو القدر المشترك بين الامور المتعدّدة. وعلى التقديرين لا وجه للقيد المذكور ، أمّا على الأوّل : فلأنّ قيام سبب آخر لا يجدي في ترتّب ذلك المسبّب الّذي فرض عدم سببه. وأمّا على الثاني : فلأنّ السبب لم يرتفع ؛ لأنّ ارتفاع الكلّي وانعدامه إنّما هو بانعدام جميع ما يصدق عليه ، وارتفاع الخاصّ لا يدلّ على ارتفاع العامّ ؛ وذلك أيضا أمر ظاهر.

٢٠٧

وعرّف الشرط في كلام المحقّق المذكور (١) : بأنّه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده.

واعترض عليه المعترض المزبور (٢) أيضا : بأنّه منقوض طردا بالمقتضي المجامع لعدم الشرط أو لوجود المانع ، وبأجزاء المقتضي والمشروط إن كان مركّبا. وعكسا بالشرط المتأخّر عن المقتضي ، كالإجازة في الفضولي على القول بحصول الانتقال حين الإجازة.

وفيه أوّلا : أنّ المقتضي عبارة عن العلّة المفيدة لوجود المعلول ما عدا المانع ، فلا وجه لإطلاق المقتضي على المجامع عدم الشرط.

وثانيا : أنّ من المقرّر في محلّه أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم الجزء السابق من الأجزاء المعدومة للعلّة التامّة ، ومع فرض انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فعدم المعلول مستند إلى عدم الشرط ووجود المانع ، ولا يلزم من عدم المقتضي حينئذ عدم المعلول ، إذ لا يعقل اللزوم فيما هو حاصل.

وأمّا النقض بأجزاء المشروط والمقتضي ففي محلّه ؛ ولذلك يجب أن يحافظ عليه ـ كما عرفت من تقسيم المقدّمة الخارجيّة إلى الأقسام المذكورة ، دون الداخليّة ـ ومع ذلك فالنقض بأجزاء المقتضي باق بحاله.

وأمّا ما أورده على عكسه : من خروج الشرط المتأخّر (٣) ـ كما في إجازة الفضولي ـ فكلامه غير محرّر فيه. والظاهر أنّه أراد به النقض بالشرط فيما إذا وقع جزءا أخيرا للعلّة التامّة ، فإنّه يصدق عليه أنّه يلزم من عدمه العدم ويلزم

__________________

(١) أي المحقّق القمي ، انظر القوانين ١ : ١٠٠.

(٢) أي صاحب الفصول ، انظر الفصول : ٨٣.

(٣) الفصول : ٨٣.

٢٠٨

من وجوده الوجود. وهو فاسد جدّا ، لأنّ لفظة « من » في الحدّ نشويّة ، والوجود حقيقة ناش من العلّة التامّة الحاصلة بوجود الجزء الأخير.

نعم ، يصحّ استناد المعلول إليه تسامحا ، والحدّ غير مبنيّ عليه.

وبذلك يظهر فساد ما قد يورد على تعريف السبب بالجزء الأخير وبما هو في مرتبة المعلول وعرضه في الاستناد إلى العلّة ؛ من حيث إنّ وجودها ملازم لوجود المعلول ، بل مقتضى التضايف أنّه كلّما وجد أحد المتضايفين يجب وجود الآخر ، فيلزم من وجود المعلول وجود العلّة ومن عدمه عدمها ، فينتقض التعريف بالمسبّب أيضا.

وجه الفساد : هو ما عرفت من أنّ الظاهر من لفظة « من » أن يكون المسبّب ناشئا منه (١) ، وليس الأمر كذلك فيهما.

لا يقال : فعلى ما ذكر من معنى لفظة « من » يكون التعريف دوريّا ، فإنّ العلم بالنشوء المذكور في مرتبة العلم بالسبب.

لأنّا نقول : هذه الحدود حدود لفظيّة لا يراد منها حصول معرفة جديدة غير حاصلة في الغريزة ، بل المقصود بها التنبيه على ما هو مسمّى تلك الألفاظ بين المعاني المرتسمة في الذهن ، وإلاّ فالواقع هو ما نبّهنا عليه من اختلاف مراتب التوقّف بحسب نفس الأمر والواقع ، وإنّما حاولوا بذلك التنبيه على تلك المراتب المختلفة.

هذا خلاصة الكلام في تحقيق معنى السبب والشرط ، ومنه يعرف الكلام في حدود ساير أنواع المقدّمة : من المعدّ والمانع.

ولنرجع إلى ما هو المقصود ، فنقول : إنّ النظر في موارد كلماتهم يعطي عدم إرادة العلّة التامّة ـ كما قد يراد منه العلّة في مصطلح أرباب المعقول ـ ويدلّك على

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : أن يكون نشويّة.

٢٠٩

هذا ملاحظة الحدود المذكورة في كلماتهم للسبب : من اعتبار القيد المذكور وتقسيم المقدّمة إلى السببيّة والشرطيّة ؛ مضافا إلى أنّ العلّة التامّة لأفعال المكلّفين لا محالة مشتملة على الامور الخارجة عن قدرة المكلّف واختياره ، ولا أقلّ من وجود الفاعل ، فإنّه من جملة ما يتوقّف عليه وجود الفعل قطعا ، وليس ممّا يحتمل أن يكون واجبا لكونه من أجزاء العلّة التامّة.

وظاهر كلام السيّد رحمه‌الله حيث حكم بامتناع أن يكون المقدّمة السببيّة شرطا للوجوب لاستلزامه إيجاب الشيء على تقدير وجوبه وطلب الحاصل (١) ، هو أنّ المراد بالسبب العلّة التامّة ، إذ الملازمة المذكورة متحقّقة بينها وبين المعلول دون بعض أجزائها ، وقد عرفت أنّ العلّة التامّة في وجود الأفعال الاختياريّة يمتنع أن يكون فعلا اختياريّا ؛ فلا وجه لأن يكون المراد بالسبب هو العلّة التامّة.

وأمّا كلام السيّد رحمه‌الله فغير محصّل المراد ؛ مع أنّ المذكور في « المعالم » (٢) من كلامه ما يمنع من أن يكون المراد به العلّة التامّة ، وهو قوله : « ما لم يمنع منه مانع » ؛ فإنّ فرض المانع ينافي العليّة التامّة ، اللهم إلاّ على تأويل بعيد ، كما ارتكبه بعض المدقّقين في كلامه ، قال : لعلّه يرى السبب من الملزومات العاديّة كضرب السيف لجزّ الرقبة ، فإنّه ملزوم له عادة ، لكن قد يمنع منه بطريق خرق العادة (٣).

وزعم بعضهم (٤) : أنّ المراد بالسبب هو الجزء الأخير من الأفعال الاختياريّة التي هي من جملة العلّة التامّة.

__________________

(١) الذريعة ١ : ٨٥.

(٢) المعالم : ٦١.

(٣) وهو المحقق الشيرواني في حاشيته المطبوعة في هامش المعالم ( الطبعة الحجرية ) : ٥٨ ، ذيل كلام الماتن : إلاّ أن يمنع مانع.

(٤) وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : ٨٤.

٢١٠

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالسبب هو ما يستند إليه الأثر في الأفعال الاختياريّة وإن كان بعد اجتماع الشرائط ورفع الموانع.

وقد يقال : إنّ المراد مجموع الأفعال الاختياريّة الّتي يترتّب عليها الفعل.

وعلى هذا فلا فائدة في التفصيل المذكور ؛ إذ لعلّه لا نزاع في وجوب أجزاء الواجب ، وبعد القول بوجوب الكلّ يلزم وجوب الأجزاء ؛ ومن هنا حكم بعضهم (١) بخروج المقدّمة الداخليّة من النزاع.

وتحقيق ذلك أن يقال : إنّ الجزء له اعتباران : أحدهما : اعتباره لا بشرط ، وهو بهذا الاعتبار عين الكلّ ومتّحد معه ؛ إذ لا ينافي ذلك انضمام سائر الأجزاء إليه ، فيصير مركّبا منها ، ويكون هو الكلّ. وثانيهما : اعتباره بشرط لا ، وهو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ.

ويمكن أن يكون النزاع متوجّها إليه في أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ هل يلازم وجوب الجزء أو لا؟ وحيث إنّ ذات الجزء لا يختلف بالاعتبارين ـ وإن كان نفس الاعتبارين مختلفين ـ فلا محالة يتّصف الجزء بالوجوب على الوجه الأوّل ، ضرورة وجوب الكلّ بالفرض ، فلا ثمرة في النزاع ؛ لأنّ الوجوب على ذلك الوجه قطعيّ ، وهو يغني عن النزاع في وجوبه على الوجه الثاني.

وربّما يتوهّم : أنّ وجوب الكلّ مركّب من وجوبات متعلّقة بأجزائه. وهو فاسد جدّا ؛ ضرورة أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ أمر بسيط ، وهي الحالة الطلبيّة

__________________

(١) لم نعثر على هذا البعض ، نعم نسب إلى السيّد نعمة الله وسلطان العلماء ، انظر توضيح القوانين المطبوع في هامش القوانين ١ : ١٠٨ ، وقال المحقّق القمّي في نفس الموضع من القوانين : « وربّما نفى الخلاف عن الوجوب في الجزء ... » ، وجاء في ضوابط الاصول : ٨٢ « ثمّ اعلم أنّ بعضهم ادّعى الإجماع على كون المقدمات الداخليّة واجبة ، وقال : إنّ النزاع في المقدّمات الخارجيّة ».

٢١١

والإرادة الفعليّة ؛ ولا يعقل التركيب فيها. نعم ، المراد مركّب تعلّق به الطلب من حيث إنّه مركّب وأمر وحداني.

وبالجملة ، فقد يظهر من بعضهم ـ على ما عرفت ـ اختصاص النزاع بالمقدّمات الخارجيّة. فإن أراد بذلك ما قلنا : من أنّ ثبوت الوجوب للمقدّمات الداخليّة باعتبار ممّا يغني عن النزاع عنه باعتبار آخر ، فهو سديد. وإن أراد بذلك أنّ النزاع فيها غير معقول ، فهو ممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد عرفت أنّ اعتبار الجزء بشرط لا اعتبار ظاهر ، وعلى تقديره يتّجه النزاع في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها.

ومن جميع ما ذكرنا

يظهر ما في كلام المحقّق القمّي في الثمرة المتعلّقة بدخول الجزء في محلّ النزاع وعدمه ، حيث حكى (١) عن العلاّمة جواز الصلاة في الدار المغصوبة على القول بعدم الوجوب ؛ من جهة أن الكون الذي هو جزء للصلاة غير واجب فلا ضير في كونه حراما ، وعدم صحّتها فيها على القول به بواسطة اجتماع الأمر والنهي. وذلك لأنّ الثمرة المذكورة ممّا لا يفرق على القولين.

دفع (٢) وهم وتنبيه :

لعلّك تقول : إنّه على القول بوجوب المقدّمة يلزم تكرار الطلب بالنسبة إلى الأجزاء ؛ إذ المفروض أنّ ذات الجزء يكون موردا للطلب حينئذ بالاعتبارين. بل ويمكن القول بذلك في المقدّمات الخارجيّة ؛ إذ الموصوف بالمطلوبيّة هو عنوان المقدّميّة ، ومن المعلوم تعدّد مراتب ذلك العنوان بواسطة اختلاف ما يمكن انتزاع

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٠٨ ، ولكنّ المحكي في القوانين يخالف المحكيّ هنا ، وراجع تهذيب الوصول : ٢٨.

(٢) لم يرد « دفع » في ( م ) و ( ط ).

٢١٢

تلك الصفة منه ، فإنّ العلّة التامّة مقدّمة مثلا ، وبعد انتزاع ذلك العنوان منه يتّصف بالمطلوبيّة عند العقل ويتعلّق به الطلب ، وكذا أجزاء العلّة التامّة ، فإنّ كلّ واحد منها منفردا أو ملحوظا مع غيره ممّا يصح انتزاع وصف المقدّميّة منه ، فيصير موردا للطلب. وكذا الكلام في السبب وأجزائه وشرائطه وفي المقتضي والشرط أيضا.

وحلّ ذلك : أنّه لا مانع من تكرار الطلب على الوجه المذكور ؛ إذ ليس ذلك انشاء جديدا متعلّقا بالمقدّمة في جميع مراتب اختلافها ليلزم التكرار على وجه يغني وجوده في مرتبة منها عنه في ساير المراتب ، بل التحقيق : أنّ العقل بعد إدراك وجوب شيء يحكم حكما إجماليّا بثبوت الملازمة بين وجوب ذلك الشيء وبين وجوب ما يتوقّف عليه وجود ذلك الشيء من المقدّمات ؛ فكما أنّ اتّصاف تلك الامور بعنوان المقدّميّة مكرّرا ممّا لا ضير فيه ، فكذلك اتّصافها بالمطلوبيّة.

والسرّ في ذلك : أنّ المطلوبيّة المقدّميّة كنفس المقدّميّة ونحوها ، عنوانات انتزاعيّة اعتباريّة يعتبرها العقل في تلك الامور بملاحظة توقّف شيء عليها أو غيرها ، فكلّما لاحظ العقل أمرا يتوقّف عليه المطلوب ينتزع منه المطلوبيّة الّتي حكم بها بواسطة توقّف المطلوب عليه ، فتارة يلاحظ أمرا واحدا ، وتارة مشاركا مع غيره على وجوه اختلاف صور المشاركة ، فليس هناك طلب آخر غير ما تعلّق بذي المقدّمة ، بل إنّما تعلّقه به صار واسطة لانتزاع العقل تلك الأوصاف المتعدّدة بحسب الاعتبارات المتّحدة بحسب الذات من محالّها بحسب اعتبارات عقليّة متعدّدة.

ونظير ذلك ما إذا قيل باستفادة العموم الجمعي من الجمع المحلّى باللام ، فإنّ الجماعات المتصوّرة في ذلك الجمع متكرّرة بواسطة اختلاف اعتبار آحادها ، فإذا قيل : « أكرم الناس » ولاحظنا زيدا مع بكر وخالد يجب إكرامهم مثلا ، وإذا لاحظناه مع خالد وعمرو أيضا يجب إكرامهم ، مع أنّه لا يتكرّر الطلب بالنسبة إلى زيد. والوجه في ذلك أيضا ما عرفت : من أنّ المنشأ لذلك أمر واحد ، واختلاف العنوانات والاعتبارات ممّا لا يوجب اختلاف ذلك المنشأ.

٢١٣

وإن كان بين المقامين فرق آخر من جهة اخرى ، هي أنّ الإكرام يتعدّد في الجماعات ، ولكن الإتيان لا يتعدّد في المقدّمات ، فالحركة الخاصّة المقدّميّة لا يجب إيجادها تارة لذاتها ، واخرى من حيث توقّف العلّة التامّة عليها. والخبير بمواقع الكلام يقدر أن يتنبّه ممّا ذكرنا بكيفيّة وجوب المقدّمة ، فتدبّر.

ومنها : تقسيم المقدّمة إلى العقليّة والشرعيّة والعاديّة :

فالعقليّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عقلا عليه ، كالعلوم النظريّة ، فإنّ حصولها على وجه النظر موقوف على العلم بالمقدّمات ، ضرورة امتناع حصول المعلول بدون العلّة المقتضية لذلك.

والعاديّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عادة عليه ، كنصب السلّم للصعود على السطح ، فإنّ العقل لا يستحيل عنده الصعود عليه بدون ذلك ، كأن يطير مثلا ، إلاّ أنّه خرق للعادة.

والشرعيّة : هي ما يتوقّف عليه الشيء شرعا ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، فإنّها موقوفة عليها شرعا ؛ إذ لا توقّف للحركات المخصوصة وجودا ولا عدما على الطهارة ، كذا يقال.

والتحقيق : أنّ المقدّمة الشرعيّة مرجعها إلى المقدّمة العقليّة ، بيان ذلك : أنّه لا يخلو الأمر من وجهين :

أحدهما : أن يكون المقدّمة المذكورة من القيود المعتبرة في المأمور به شرطا ، أو غير ذلك ، كأن يكون المأمور به في قوله : « صلّ » هي الصلاة المأخوذة مع الطهارة.

الثاني : أن لا يكون من القيود المأخوذة فيه.

وعلى التقديرين : فالمقدّمة الشرعيّة مقدّمة عقليّة ؛ أمّا على الأوّل : فلظهور امتناع حصول المقيّد بدون القيد ، فإيجاد القيد ممّا يتوقّف عليه إيجاد المقيّد. وأمّا

٢١٤

على الثاني : فلأنّ الفعل الصادر من الفاعل وإن كان بحسب الذات هي الحركة الخاصّة ، إلاّ أنّ من المعلوم اختلاف وجوهها ، ومن الممكن أن يكون وقوع الخاصّة على وجه خاصّ ممّا يتوقّف على وجود الطهارة ، فلو كان المأمور به هو الفعل على ذلك الوجه الخاصّ يمتنع حصول الفعل في الخارج على الوجه المذكور بدون الطهارة.

وإذ قد عرفت ما قلنا ، فاعلم : أنّ من المحقّق في مقامه (١) أنّ الأحكام الوضعيّة ممّا لا تقبل الجعل ، فإنّها امور واقعيّة قد كشف عنها المطّلع عليها ، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أنّ الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة ، فالصلاة الواقعيّة ممّا يمتنع حصولها بدون حصول الشرائط ، فمرجع المقدّمة الشرعيّة إذا لم يكن على وجه التقييد (٢) أيضا إلى المقدّمة العقليّة ؛ وذلك أمر ظاهر بعد الاطّلاع على ما هو المحقّق في محله.

ولا خفاء في دخول الأقسام الثلاثة كلّها في النزاع.

ومنها : تقسيمها إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم ومقدّمة الوجود.

والتحقيق رجوع الثلاثة الاول إلى الأخيرة ، فإنّ وجود الصحّة والوجوب والعلم موقوف على مقدّماتها ، إلاّ أنّهم لاحظوا الموصوف بهذه الأوصاف فاعتبروا تقسيم المقدّمة بالنسبة إليه ملاحظا فيه حال تلك الأوصاف ، فما يتوقّف عليه وجود ذلك الموصوف هي مقدّمة الوجود ، وما يتوقّف عليه الأمر به هي مقدّمة الوجوب ، وما يتوقّف عليه صحّته هي مقدّمة الصحّة ، وما يتوقّف عليه العلم بوجوده وتحقّقه هي مقدّمة العلم. والأمثلة ظاهرة ، كنصب السلّم ، والاستطاعة ، والطهارة ، وإيقاع الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٢٦ ـ ١٣٠.

(٢) في ( ع ) : التقيّد.

٢١٥

ثمّ إنّه لا شكّ في دخول مقدّمة الوجود في النزاع وخروج مقدّمة الوجوب ؛ إذ لا يعقل أن يكون مقدّمة الوجوب واجبة ، لأنّ وجوب ذيها متفرّع على وجودها ، فما لم يوجد لم يتحقّق وجوب ، وعلى تقدير وجوده لا يعقل وجوبه ؛ لامتناع طلب الحاصل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقدّمة الوجوب فقط أو كانت مع ذلك مقدّمة للوجود أيضا. ولا كلام في دخول مقدّمة الصحّة أيضا.

وهل المقدّمة العلميّة داخلة في حريم الخلاف مطلقا؟ أو فيما إذا كانت خارجة عن حقيقة الواجب ولم يحتمل أن يكون هو الواجب ، كمسح جزء من الكعبين وغسل جزء من الرأس وما فوق المرفق للعلم بحصول الواجب منها؟ وأمّا إذا كانت المقدّمة العلميّة ممّا يحتمل مدخليّتها في حقيقة الواجب شرطا أو شطرا ومن جهة احتمال كونها نفس الواجب فلا خلاف فيها ، لأنّها من موارد القاعدة الّتي قد أجمع الكلّ عليها : من أنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، أو تكون خارجة عن النزاع مطلقا لقطع العقل بوجوبها مطلقا؟ وجوه بل وأقوال.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا ينبغي النزاع في المقدّمة العلميّة مطلقا ، بل ينبغي أن يكون وجوبها مفروغا عنه على تقدير وعدم وجوبها كذلك على تقدير آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب المتنازع فيه في المقام إن كان المراد به ما يترتّب على فعل الواجب المتّصف به الثواب وعلى تركه العقاب ـ كما زعمه بعضهم (١) ـ فينبغي أن لا يكون المقدّمة العلميّة محلاّ للنزاع في عدم وجوبها. وإن كان المراد به الطلب الحتمي الّذي يكشف عنه العقل ـ على وجه يكفي في حامل التكليف نفس حكم العقل من دون مدخليّة لما يترتّب عليه من الثواب والعقاب ـ فالمقدّمة العلميّة ممّا لا ينبغي النزاع في وجوبها.

__________________

(١) الفصول : ٨٧ ، وراجع تفصيله في ضوابط الاصول : ٨٣.

٢١٦

بيان الأوّل يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : إنّ الطلب يقع على وجهين :

أحدهما : ما ينقدح في نفس الطالب والآمر ، من الإرادة المتعلّقة بالفعل على وجه المولويّة والآمريّة وإن كان الداعي إلى ذلك الطلب والأمر هو ما يترتّب على نفس الفعل المطلوب ، بناء على ما ذهب إليه العدليّة من الملازمة (١).

الثاني : ما يوجده الطالب على جهة الإرشاد إلى ما هو كامن في المأمور به ، لكن لا على وجه الآمريّة والمولويّة ، كما في أوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض ، فإنّها طلب حقيقيّ إلزامي لا يرضى بترك ما تعلّق به أصلا. ووقوع الطلب على هذين الوجهين ممّا لا ينبغي أن ينازع فيه.

ومن لوازم الأوّل : ترتّب الذمّ والعقاب عند المخالفة فيما إذا كان الأمر ممّن له أهليّة ذلك ، والمدح والثواب عند الإطاعة.

ومن لوازم الثاني : ترتّب ما هو مترتّب على نفس الفعل المطلوب من المنافع والمضارّ ؛ فقول الطبيب : « برّد » مثلا ينحلّ إلى جزء مادّيّ ـ وهو التبريد ـ وجزء صوريّ يفيد تعلّق إرادة الطبيب بوجود التبريد من المريض ، لما فيه من المنافع الملاءمة لطبيعة المريض ، ومخالفة قوله لا يترتّب عليها شيء عدا ما يترتّب على نفس ترك التبريد ، فالهيئة في الأمر لا يترتّب على مخالفتها شيء. وقول المولى للعبد : « اضرب زيدا » يترتّب على مخالفة الضرب ما هو من لوازم عدمه من المفاسد ، ويترتّب على نفس مخالفة المولى وترك ما هو مراده الذمّ والعقاب ، فالهيئة الأمرية الكاشفة عن الإرادة الحتميّة الطلبيّة لا يترتّب على مخالفتها شيء آخر سوى ما يترتّب على عدم (٢) نفس المادّة وانتفائه (٣) من المفاسد.

__________________

(١) انظر كشف المراد : ٣١٩.

(٢) لم يرد « عدم » في ( ط ).

(٣) كذا ، والظاهر : انتفائها.

٢١٧

وإذ قد تقرّر ذلك ، فاعلم : أنّ الإتيان بالمقدّمة العلميّة في مورد الاحتياط اللازم إنّما هو بواسطة تحصيل العلم بوجود ما هو المأمور به في الواقع ؛ والعلم بالامتثال وإن كان من الامور الواجبة التي يستقلّ بها العقل ، إلاّ أنّ ذلك الوجوب وجوب عقليّ إرشادي لا يترتّب على امتثاله مصلحة زائدة على مصلحة المأمور به ، ولا على مخالفته عقاب آخر غير العقاب اللازم على تقدير ترك المأمور به ، وإذا كان حال ذي المقدّمة على هذه المثابة فكيف يعقل أن يكون المقدّمة ممّا يترتّب على تركه العقاب أو على فعله الثواب ، فإنّ ذلك في الحقيقة راجع إلى وجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

ومن الامور التي ينبغي أن لا يخفى على أوائل العقول : أنّ الأمر بالإطاعة ولو كان أمرا شرعيّا يمتنع أن يكون أمرا تكليفيّا ، إذ الأمر الأوّل إمّا أن يكون كافيا في حمل المكلّف على التكليف أو لا يكون. فعلى الثاني : لا يكون الأمر الثاني أيضا كافيا لاستوائهما في الطلب ؛ واختلافهما في المادّة ممّا لا يفيد شيئا ، إذ الحامل على التكليف هو الكاشف عن الطلب ولا دخل للمادّة فيه. وعلى الأوّل : لا حاجة إليه ، ولا يعقل أن يكون تأكيدا للأوّل ؛ لأنّ المؤكّد إنّما يكون في مرتبة المؤكّد ، والأمر بالإطاعة إنّما هو متفرّع على الأوّل ، إذ الإطاعة عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، فلا يتحقّق لها مصداق إلاّ بعد تحقّق مصداق الأمر ، فكيف يكون اللفظ الدالّ على طلب الإطاعة مطابقا في المدلول للأمر الأوّل؟ كما في قولك : « اضرب ، اضرب » مثلا. نعم ، المطلوب منه في لبّ المعنى هو المطلوب في الأمر الأوّل ، وذلك هو معنى الإرشاد في هذه الأوامر.

٢١٨

وبالجملة ، فقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ )(١) لا يترتّب على مخالفته بترك الإطاعة سوى ما يترتّب على عدم مادّة الإطاعة التي هي عبارة عن موافقة الأمر الأوّل : من الذمّ المترتّب على ترك المأمور به والمفاسد المترتّبة على ترك نفس الفعل المأمور به في الأمر الأوّل ؛ ولا يترتّب على مخالفة الهيئة في هذا الأمر شيء آخر.

وحيث إنّ المرجع في وجوب الإتيان بالمقدّمة العلميّة إلى وجوب الإطاعة ـ كما عرفت ـ فلا وجه للقول بوجوبها على وجه لو تركها المكلّف يترتّب عليها العقاب بخصوصها بناء على أنّ النزاع في مثل هذا الوجوب ، إلاّ أنّ ذلك ضعيف ، كما ستقف عليه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يتخيّل : من انحصار الأوامر الإرشادية في الاستحباب ؛ فإنّ تحقّقها في الواجبات معلوم عقلا ـ كما عرفت في وجوب الإطاعة ـ وعرفا كما في أوامر الطبيب ، إذ لا نعني بالوجوب إلاّ بلوغ الطلب حدّا لا يرضى الطالب بترك الفعل المطلوب ، وذلك ضروريّ الوجود في موارده. وكذلك يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم : من أنّ وجوب الإطاعة شرعيّ (٢) ، إذ على ذلك التقدير لا ينتهي الأمر إلى حدّ ؛ وذلك ظاهر (٣).

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا : من أنّ وجوب الاحتياط عقليّ ، إنّما هو بناء على التحقيق عندنا : من أنّ الأخبار الواردة في مقام وجوب الاحتياط لا يزيد على ما هو مفاد حكم العقل. وأمّا على القول بأنّ الاحتياط في موارده واجب شرعيّ ـ كأن يكون الصلاة في أربع جهات مأمورا بها حال الاشتباه مع قطع النظر عن أنّ الواقع

__________________

(١) الأنفال : ٢٠.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : باطل.

٢١٩

في ضمنها ، أو قلنا بأنّ قضيّة الاستصحاب هو ذلك ـ فالعقاب لازم على ترك المقدّمة ؛ وذلك أمر ظاهر لا سترة عليه.

وبيان الثاني أيضا يحتاج إلى تمهيد. وهو : أنّ الشيء الواحد قد يكون مصداقا لامور متعدّدة باعتبارات مختلفة ومحكيّا عنه بحكايات متكثّرة بوجوه متفاوتة. وهذه الامور ينتزع من ذلك الشيء تارة على وجه لا ترتيب في انتزاع واحد منها عنه ، بل كلّ واحد منها في عرض الآخر ، وتارة على وجه لا ينتزع منه عنوان إلاّ بعد اعتبار عنوان آخر فيه وانتزاعه منه ، فيكون أحد العنوانين موقوفا على عنوان آخر ؛ فلو فرضنا أنّ الآمر تصوّر العنوان المترتّب على ذلك العنوان وأراد وقوعه من المأمور في الخارج ، فلا بدّ من أن يطلبه على ذلك الوجه ، والمكلّف لو أراد امتثال هذا الأمر لا بدّ له من إيجاد العنوان المأمور به ، وحيث إنّ المفروض توقّف العنوان المأمور به على العنوان الآخر فلا بدّ أوّلا من قصد ذلك العنوان وإيجاده ، وحيث إنّ ذات المعنون واحد فيهما بحسب الوجود الخارجي يلزم وجود العنوان المأمور به أيضا ، لأنّ وجوده عين وجوده في الواقع.

فالترتيب إنّما هو في لحاظ العقل ؛ وأمّا في الخارج فلا ترتيب ، بل الموجود منهما هو شيء واحد ، وذلك كما في الإلقاء في النار والإحراق ، فإنّ الموجود منهما هو الفعل الخاصّ والحركة الخاصّة ، مع أنّ عنوان الإحراق ممّا ينتزع عن الفعل الموجود في الخارج بعد اعتبار العنوان الأوّل ، وهو الإلقاء.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه ينبغي أن يكون في المقدّمات التي تباين ذيها في الوجود الخارجي والتحصّل الأصلي ، كما في مقدّمات الصلاة والصعود إلى السطح. وأمّا المقدّمات التي متّحدة مع ذيها وجودا وإن اختلفتا عنوانا وحكاية ، فلا ينبغي لعاقل الارتياب في وجوب هذه المقدّمات ، فإنّ الأمر بالإحراق لا يعقل أن لا يكون ملازما لوجوب الإلقاء في النار ، بعد أنّ ذات الإلقاء عين ذات الإحراق ؛ والمقدمة العلميّة من قبيل الثاني ، لا الأوّل.

٢٢٠