مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

هداية

بعد ما عرفت من امتناع اجتماع الواجب والحرام في مورد واحد في محلّ النزاع ، فهل الحكم في موارد اجتماعهما بحسب الظاهر هو الأخذ بالأمر والقول بعدم الحرمة أو العكس أو لا يحكم بشيء منهما والمرجع هو الأصل؟ وقد عرفت أوائل المبحث : أنّ الأصل يقتضي فساد الصلاة وإباحة الكون في المكان المغصوب حال الصلاة ، والملازمة الواقعيّة بين الإباحة والصحّة ممّا لا ينبغي مراعاتها بعد جواز التفكيك في الاصول الظاهريّة.

فنقول : إنّ ملاحظة الترجيح بحسب السند بين الروايتين اللتين يقتضيان الاجتماع موقوفة على ما قرّرنا في مباحث التعادل والتراجيح : من أنّ تعارض العامّين من وجه هل يمكن الأخذ فيه بالترجيح بحسب السند أم لا؟ وقد عرفت أنّ الأقوى الثاني ، لأنّ فيه تفكيكا لا يرتضيه العرف.

وأمّا الترجيح بحسب الدلالة ، فقيل : إنّه مرعيّ في المقام ، حيث إنّه يحكم بتقديم النهي في مورد الاجتماع ، لأنّ دلالة الأمر على مطلوبيّة محلّ الاجتماع بالإطلاق ودلالة النهي على مبغوضيّته بالعموم ، ولا شكّ أنّ العامّ أظهر من المطلق في استيعابه لأفراده.

ويمكن أن يقال : إنّ ملاحظة الترجيح في الدلالة يوجب المصير إلى أنّ مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره ، وهو يوجب فساد المورد بواسطة ارتفاع المطلوبيّة والأمر ولو حال الغفلة عن الحرمة ، وقد عرفت أنّ المانعين لا يلتزمون به.

٧٠١

وأمّا ملاحظة الترجيح بين المدلولين ـ كأن يؤخذ بالحرمة لكونها أسهل من الوجوب ـ فقد يظهر من بعضهم الأخذ بها في المقام من وجوه :

منها : ما عرفت من أنّ الحرمة لمكان كونها مستلزمة للترك أسهل من الوجوب.

وفيه : منه كونها أسهل ، ومنع جواز الأخذ بالأسهل على تقديره.

ومنها : ما تعارف بينهم من أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فالأخذ بالنهي أولى ؛ لأنّ في فعل المنهيّ عنه مفسدة.

وفيه ـ بعد الغضّ عن انحصار مصالح النهي في دفع المفسدة ومصالح الأمر في جلب المنفعة ، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون ارتكاب معصية صغيرة بفعل المنهيّ عنه أشدّ من ترك أعظم الواجبات ، لأنّ في تركها لا منفعة وفي فعلها مفسدة ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ـ أنّ ما نحن فيه ليس من موارد القاعدة لوجهين :

الأوّل : أنّها لا مسرح لها إلاّ في مورد يحكم فيه بالتخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح ، مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء في الشريعة وبين حرمته ـ كشرب التتن مثلا فيما لو فرض احتمال وجوبه ـ وما نحن فيه بعد عدم الترجيح لا وجه للأخذ بالتخيير ، لما عرفت من حكومة الأصل في موارد الشكّ من العامّين من وجه.

الثاني : أنّ من الظاهر أنّ القاعدة المذكورة إنّما يؤخذ بها فيما إذا كانت المنفعة والمصلحة متساويتين في ترتّبهما على الفعل والترك ، وليس كذلك فيما نحن بصدده ، فإنّ الوجوب المفروض في المقام ممّا يحصل المصلحة فيه بإتيان فرد آخر من الطبيعة الواجبة ، بخلاف الحرمة فإنّها عينيّة لا بدل لها.

لا يقال : إنّ ذلك يوجب تقديم الحرمة بوجه أولى.

لأنّا نقول : لسنا في صدد عدم تقديم الحرمة ، وإنّما ذلك منّا مناقشة في الطريق.

٧٠٢

ومنها (١) : الاستقراء ، فإن الشارع قد رجّح احتمال الحرمة على الوجوب في موارد ملاحظتها توجب الظنّ باطّراده ، كأمر الحائض بترك الصلاة المردّد بين الوجوب والحرمة استظهارا (٢) ، وكوجوب إهراق الإناءين في الشبهة المحصورة والأمر بالتيمّم لدوران الأمر بين الوضوء الواجب والحرام (٣).

وفيه ـ بعد الغضّ عن حجيّة الاستقراء وعدم تحقّقه على تقدير حجّيته بملاحظة موردين بل وموارد ـ : أنّ الموردين المذكورين ليس الأمر فيهما على ما تخيّل من تقديم جانب الحرمة على الوجوب عند دوران الأمر بينهما.

وتوضيح ذلك لعلّه موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ موارد ثبوت هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون على وجه يعلم ولو بواسطة الدليل أنّ وجه التقديم هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب حتّى يكون الموارد المشكوكة ملحقة بتلك الموارد بواسطة الغلبة ـ كما هو الشأن في جميع الموارد التي يدّعى فيها الاستقراء ـ إذ ما لم يعلم أنّ موارد الثبوت وجه التقديم فيها ذلك لا يصحّ الإلحاق بوجه ، فكيف بالموارد التي علم أنّ وجه التقديم فيها غيرها.

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجه في تقديم جانب الحرمة في مسألة الاستظهار ليس هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب على القول به. وأمّا على القول باستحبابه فلا يدلّ على المدّعى بوجه ، إذ الاستظهار إمّا أن يقال به بعد أيّام العادة ، وإمّا أن يقال به قبل العادة كما في المبتدئة والمضطربة. أمّا الأوّل فالوجه فيه قاعدة الإمكان واستصحاب الحيض ونحوه المستدلّ عليها في مقامه ، وليس من

__________________

(١) أي من وجوه الأخذ بالحرمة.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٥٥٩ ، الباب ١٤ من أبواب الحيض.

(٣) الوسائل ١ : ١١٣ ـ ١١٦ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢ و ١٤.

٧٠٣

القاعدة المذكورة فيه حظّ ونصيب ، ولذا لم يعوّل عليها من اعتمد على القول المذكور. وأمّا الثاني فالقائل بالوجوب أيضا يعتمد على قاعدة الإمكان ، كما أنّ غيره يعوّل على الاستصحاب.

وأمّا وجوب إهراق الماء فلا شهادة فيه على المدّعى ، أمّا على القول بأنّ الحرمة ليست ذاتيّة بل تشريعيّة فظاهر ، حيث إنّ التشريع يرتفع بالاحتياط. وأمّا على القول بالحرمة الذاتيّة فلأنّ المورد من موارد دوران الأمر بين الواجب والحرام (١) بواسطة اشتباه المكلّف به ، وليس من موارد الشكّ في التكليف ، والحكم فيه التخيير لا الترجيح ، فإنّ التخيير يوجب القطع بالموافقة ولو إجمالا وإن أوجب القطع بالمخالفة أيضا. بخلاف الترجيح ، فإنّ فيه موافقة احتماليّة ومخالفة احتماليّة ، والأوّل أولى. وفيه تأمّل ظاهر.

وبالجملة ، فالرواية دلّت على تقديم جانب الحرمة على الوجوب ولم يعلم منها أنّ الوجه في التقديم هو ترجيح جانب الحرمة ، بل المظنون أنّ وجه التقديم فيما نحن بصدده هو ثبوت البدل للوضوء وهو التيمّم ، كما أوضحنا سبيله في غير المقام.

والأوجه في المقام هو القول بأنّ النهي (٢) في مادّة الاجتماع إنّما هو ناظر إلى جهة الترخيص الثابت بالأمر في الفعل ، ومع ذلك لا وجه للقول بتقديم الأمر ، فالنهي حاكم على الأمر. كذا أفاده ( دام ظلّه ).

ويمكن المناقشة فيه بما استفدنا منه في غير المقام : بأنّ ذلك يرجع إلى كون النهي إرشادا إلى ترك الفرد المجامع ، ولا يصحّ ذلك فيما يكون بين العنوانين عموم من وجه.

__________________

(١) في ( ع ) : الوجوب والحرمة.

(٢) في ( ع ) زيادة : من الأمر.

٧٠٤

هذا كلّه فيما إذا كان الأمر والنهي ظنّيين. وأمّا لو كان النهي قطعيّا كأن يكون ثابتا بالإجماع ـ ولو في مورد الأمر ـ فلا كلام في تقديم النهي. وأمّا القطعيّان فلا يعقل التعارض بينهما على القول بالامتناع ، وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض أصلا.

٧٠٥
٧٠٦

هداية

قد عرفت فيما تقدّم اعتبار المندوحة في حريم النزاع ، كما عرفت أنّ الوجه في ذلك هو دفع ما قد يتوهّم من أنّ الاجتماع يوجب التكليف بما لا يطاق ، حيث إنّه بعد اعتبار المندوحة لا وجه لذلك. نعم ، فيما ليس للمكلّف مندوحة يلزم ذلك ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، فإنّه مأمور بالخروج ومنهيّ عن الغصب ومنه الخروج المذكور ، ولا يمكن انفكاك جهتي الأمر والنهي ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ ذلك إمّا أن يكون بتوسّط المكلّف وسوء اختياره أو لا يكون.

لا إشكال في امتناع التكليفين فيما إذا لم يكن الوجه في عدم الانفكاك هو التكليف على قواعد العدليّة ، لا بواسطة أنّه تكليف بالمحال ، بل بواسطة استحالة وجود التكليفين الراجعين عند العدليّة إلى الإرادة والكراهة.

وأمّا إذا كان الوجه في الانحصار وعدم الانفكاك هو المكلّف ، فالأقوال فيه ثلاثة :

فقيل بالجواز ، وهو المحكيّ عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلاّمة ، حيث أفاد في محكيّ النهاية : أطبق العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في قوله بأنّ الخروج تصرّف في المغصوب فيكون معصية فلا تصحّ الصلاة وهو خارج سواء تضيّق الوقت أم لا (١).

واختاره المحقّق القمّي رحمه‌الله ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخّري أصحابنا وظاهر

__________________

(١) نهاية الوصول : ١١٧.

٧٠٧

الفقهاء (١). والوجه في النسبة المذكورة هو قولهم (٢) بوجوب الحجّ على المستطيع وإن فاتت استطاعته الشرعيّة.

وأنت خبير بعدم دلالته على المطلب ؛ حيث إنّ وجوب الحجّ بدون الاستطاعة الشرعيّة عند التأخير عن زمن الاستطاعة ليس تكليفا بما لا يطاق ، لكفاية الاستطاعة العقليّة في دفعه. ويكفي في فساد النسبة المذكورة ذهاب المشهور من أصحابنا إلى عدم جواز الاجتماع فيما فيه المندوحة ، فكيف فيما ليس فيه مندوحة!

وقيل بالعدم ، وهم بين قولين : فقيل بأنّه منهيّ عنه وليس بمأمور به (٣). وقيل بالعكس مع جريان حكم المعصية عليه ، وهو المحكيّ عن الفخر الرازي (٤) وجنح إليه بعض المتأخّرين (٥). وقيل بأنّه مأمور به فقط وليس يجري عليه حكم المعصية أيضا ، وقد نسبه بعضهم إلى قوم (٦) ، ولعلّه الظاهر من العضدي كالحاجبي (٧) حيث اقتصرا على كونه مأمورا به فقط.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة (٨) ذهب إلى أنّه مأمور به ولكنّه معصية بالنظر إلى النهي السابق ، وعليه حمل الكلام المنقول من الفخر الرازي.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٣.

(٢) انظر القواعد ١ : ٢٢٩ ، والشرائع ١ : ٢٢٨ ، والدروس ١ : ٣١٦.

(٣) راجع نهاية الوصول : ١١٧ ، والمدارك ٣ : ١١٧ ، وضوابط الاصول : ١٥١.

(٤) حكاه المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٥٤.

(٥) الظاهر أنّ المراد به هو صاحب الفصول.

(٦) نسبه صاحب الفصول في الفصول : ١٣٨.

(٧) انظر شرح مختصر الاصول : ٩٤.

(٨) وهو صاحب الفصول في الفصول : ١٣٨.

٧٠٨

والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيّا عنه ، ولا يفترق فيه النهي السابق واللاحق. ولعلّه ظاهر الفقهاء حيث حكموا بصحّة الصلاة في حال الخروج ، كما عرفت في كلام العلاّمة (١). وقد صرّح صاحب المدارك : بعدم كون الخروج معصية وأنّ القول بجريان حكم المعصية عليه غلط صدر عن بعض الاصوليّين (٢). وقد عرفت ما نقلنا من كلام السيّد في الذريعة : فإنّه صريح في كون الخروج بنيّة التخلّص مأمورا به ، وكذا المجامع زانيا له الحركة بقصد التخلّص دون غيره (٣).

لنا على كون الخروج مأمورا به : أنّ التخلّص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ولا شكّ أنّ الخروج تخلّص عنه بل لا سبيل إليه إلاّ بالخروج فيكون واجبا على وجه العينيّة ، وعلى عدم كونه منهيّا عنه : ما ستعرف في تزييف احتجاج الأقوال المذكورة.

حجّة القول بكونه مأمورا به ومنهيّا عنه :

هو أنّ المقتضي ـ وهو إطلاق الأدلّة الدالّة على حرمة الغصب ووجوب التخلّص عنه ـ موجود ولا مانع منه ، لأنّ المانع إمّا اجتماع الضدّين أو التكليف بما لا يطاق ، وشيء منهما لا يصلح لذلك.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من إجداء الجهتين في اجتماعهما.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا نسلّم بطلان التكليف بما لا يطاق فيما إذا كان المكلّف سببا له ، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (٤).

__________________

(١) راجع الصفحة ٧٠٧.

(٢) المدارك ٣ : ٢١٩.

(٣) راجع الصفحة ٦١٠.

(٤) القوانين ١١٥٣ ـ ١٥٤.

٧٠٩

وفيه : أنّ كلّ واحد من المانعين موجود.

أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من أنّ تعدّد الجهة غير مجد.

وأمّا الثاني ؛ فلإطباق العقلاء كافّة على تخطئة من يكلّف عبده بالخروج وعدمه ، بل هو منسوب إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، من غير فرق بين أن يكون الوجه في ذلك هو المكلّف أو غيره ، كما يشهد بذلك حسن الذمّ على التكليف من غير توقّف على استعلام الوجه في ذلك من أنّ المكلّف هو السبب في امتناع الفعل أو غيره ، وهو ظاهر.

وأمّا القضيّة المشهورة : من أنّ « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » فليست واردة في مقام صحّة التكليف عند امتناع الفعل بواسطة الاختيار ، كما أوردها المستدلّ (١) ، بل الإنصاف أنّ هذه القضيّة كقولهم : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » مسوقة في مقام الردّ على أهل الجبر ، حيث إنّهم زعموا أنّ وجود العلّة التامّة للفعل يوجب ارتفاع الاختيار ومع عدمها يمتنع وجوده. فأجاب العدليّة عن ذلك : بأنّ الاختيار من جملة أجزاء العلّة التامّة لوجود الفعل وبذلك يصير الفعل اختياريّا فإنّ للاختيار مدخلا في وجوده (٢) ؛ ولذلك أردفها بعضهم بقوله : « بل يؤكّده » (٣) فمفاد تلك القضيّة هو : أنّ الاختيار السابق الذي يصير سببا لامتناع الفعل يكفي في كون الفعل الممتنع اختياريّا بمعنى جواز اللوم على تركه أو المدح عليه ، وأين من ذلك أنّ بعد اتّصافه بالامتناع بواسطة الاختيار يصحّ تعلّق التكليف به لكونه اختياريّا؟

__________________

(١) القوانين ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) انظر كشف المراد : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : ٣٤١.

(٣) لم نعثر عليه.

٧١٠

لا يقال : ليس شرط صحّة التكليف إلاّ استناد الفعل إلى الاختيار على وجه يقال : إنّ الفعل اختياريّ.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في الشرط المذكور هو العقل ، ولا ريب أنّ المعتبر عند العقل في الشرط المذكور هو كون الفعل بحيث يمكن صدوره من المكلّف. وأمّا صحّة إطلاق الاختياري على الفعل بواسطة الاختيار السابق فممّا لا مسرح له في صحّة التكليف ، ولعمري! أنّ ذلك إنّما هو في منار ، ولقد أبسطنا القول في تحقيق ذلك في بعض المباحث المتقدّمة.

وقد يورد عليه : بمنع المقتضي ، فإنّ الخروج أخصّ من الغصب في مورد الأمر ، فلا بدّ من تخصيص الغصب بالخروج.

وفيه ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : من أنّ الخروج ليس بمأمور به من حيث إنّه خروج بل لأنّه تخلّص عن الغصب. كما أنّ الكون في الدار المغصوبة ليس حراما إلاّ من جهة أنّه غصب ، والنسبة بين الغصب والخروج عموم من وجه. والظاهر أنّ ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ من الخروج وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ، فإنّ الظاهر أنّ العامّ الذي أفراده الموجودة منحصرة في فرد بحسب العادة ـ بل في نفس الأمر أيضا ـ لا يخرج عن كونه عامّا في باب التعارض ، فلو فرض ورود أمر بالخروج أيضا بالخصوص فالظاهر أنّه من جهة أنّه الفرد الغالب الموجود ، لإمكان التخلّص بوجه آخر ، إمّا بأن يحمله غيره على ظهره ويخرجه من دون اختياره أو غير ذلك (١) ، فليضبط فإنّه فائدة جليلة لم أقف على تصريح بها في كلامهم (٢).

__________________

(١) في ( ع ) زيادة : كأن ينقل إليه بناقل شرعي كالهبة والصلح والبيع.

(٢) القوانين ١ : ١٥٤.

٧١١

واعترض عليه في الإشارات أوّلا : بأنّ معاملة العموم من وجه في باب التعارض مع ما كان أفراده النفس الأمريّة منحصرة في الفرد ممّا لا وجه له ، فإنّ العام إذا كان منحصرا أفراده في الواقع في الفرد فالمراد منه ومتعلّق الخطاب إنّما هو ذلك الفرد. ومثله ما إذا انحصر في الفرد بحسب العادة ، فإنّ العادة مخصّصة ـ كما سيأتي ـ فلا يراد منه إلاّ الفرد العادي ، فلا وجه لمعاملة العموم معه في التعارض ، على أنّ معاملة العموم للوازمه ، وعمدتها قبول التخصيص ، فبانسلاخ لازمه عنه ـ كما فيهما ـ يرتفع فائدة التخصيص فيرتفع فائدة العموم في التعارض ، بل في العرف ليس مثله عامّا لعدم الاستغراق فيه عرفا بالفعل ، وعليه المدار.

وثانيا : بأنّ بفرض الانحصار العادي يرتفع إمكان التخلّص بفرد آخر كما مرّ ، إلاّ أن يكون ذلك الفرد أيضا عاديّا وهو خلاف الفرض ، مع أنّ الحمل إمّا بالاختيار أو بدونه ، والثاني خارج عن الأمر قطعا ، والأوّل لا يختلف النسبة به بالتدبّر ، بل يكون من الأفراد العاديّة.

وثالثا : بأنّ التصريح من القوم بالفائدة المذكورة موجود ، إلاّ أنّه يؤذن بخلاف ما ذكره (١) انتهى.

ويمكن أن يذبّ عن الاعتراض : بأنّ ملاحظة انحصار أفراد العامّ في مورد الاجتماع إنّما يجدي فيما لو قيل بالتعارض بين مفاد العامّين ، إذ على ذلك يجب التخصيص بغير ذلك المورد لئلاّ يلزم خلوّ ذلك العامّ المنحصر أفراده عن الفائدة. وهذا هو الذي يوجد عليه التصريح في كلامهم. وهو غير مؤذن بخلاف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه‌الله حيث إنّه ذهب إلى أنّه لا معارضة بين مفاد العامّين ، لإجداء الجهتين في الجمع بين الأمر والنهي. ولا ريب أنّ المدار في تعدّد الجهة إنّما هو المفهوم ، فإنّه متعلّق الأمر والنهي ، والأفراد خارجة عن ذلك بأسرها.

__________________

(١) إشارات الاصول : ١١٤.

٧١٢

وبالجملة ، فما أجاب عنه إنّما هو متوجّه بناء على ما ذهب إليه من جواز الاجتماع ؛ لما عرفت من أنّ المناط في ذلك هو تعدّد العنوان ، والمفروض حصوله في المقام.

وأمّا ما قد عرفت من تقييدهم محلّ التشاجر بما إذا لم ينحصر أفراد أحد العامّين في الآخر ، فهو بواسطة تخليص البحث عن لزوم التكليف بما لا يطاق. وهذا أيضا ممّا لا ضير فيه عنده إذا كان الوجه فيه هو المكلّف ، كما عرفت.

فالإنصاف : أنّ الوجوه المذكورة ممّا لا مساس لها بكلامه ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق بين الموارد التي يحكم بالتعارض في صورة الانحصار ، كما إذا كان العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي بقوله : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفاسق » وبين الموارد التي لا يحكم فيها بالتعارض ، كما إذا اعتبر العموم من وجه بين العنوانين. كما أنّ غيره أيضا مطالب بالفرق المذكور ، كما تقدّم.

حجّة القول بكونه منهيّا عنه غير مأمور به :

كما يظهر عن بعض الأفاضل في الإشارات (١) ، أمّا على كونه منهيّا عنه : فلأنّ الخروج تصرّف في ملك الغير وهو غصب عند عدم الإذن ، وهو منهيّ عنه. وأمّا على كونه غير مأمور به : فلأنّ الواجب هو عدم التصرّف ، والخروج إنّما هو مقدّمة له ، فهي ليست بواجبة.

والجواب عنه : أنّ عدم التصرّف بعد فرض انحصار مقدّمته في الخروج المحرّم لا يعقل وجوبه لكونه تكليفا بالمحال.

واحتجّ بعض الأجلّة على ما صار إليه : من أنّ الخروج مأمور به بالنسبة إلى الأمر اللاحق مع جريان حكم النهي السابق عليه ، فيكون معصية. وقد عرفت

__________________

(١) إشارات الاصول : ١١٤.

٧١٣

سابقا (١) حسبانه رجوع كلام الفخر الرازي إليه بقوله : أنّ المكلّف في الزمن الذي لا يتمكّن من الخروج فيما دونه لا يتمكّن من ترك الغصب فيه مطلقا ، فلا يصحّ النهي عنه مطلقا ، لأنّ التكليف بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلّف ، للقطع بكونه سفها. نعم ، يجري عليه حكم المعصية في تلك المدّة على تقدير الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب ـ أعني الدخول ـ لتمكّنه منه حينئذ.

وهذا حكم كلّي جار في جميع ذوات الأسباب التي لا يقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الإلقاء من الشاهق. ومثله ترك الحجّ عند الإتيان بما يوجبه من ترك المسير ، وغير ذلك ، فإنّ التحقيق في مثل ذلك أنّ التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع تمكّن المكلّف منه ، ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذمّ والعقاب جاريا عليه (٢).

ثمّ أورد على ما أفاده سؤالا في آخر المبحث : بأنّه لو صحّ ذلك لزم أن يكون الخروج إطاعة ومعصية ، وهو محال.

وأجاب عن ذلك : بأنّه لا ضير فيه عند عدم اجتماعهما في الزمان ، فإنّ الخروج معصية قبل الدخول وطاعة بعده.

وقال في توضيح ذلك : إنّ ترك الغصب مراد من المكلّف بجميع أنحائه التي يتمكّن من تركه إرادة فعليّة مشروطا بقاؤها ببقاء تمكّنه منه ، وحيث إنّه قبل الدخول يتمكّن من ترك الغصب بجميع أنحائه دخولا وخروجا ، فترك الجميع مراد منه قبل دخوله ، فإذا دخل ارتفع تمكّنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقّف التخلّص عليه ، وهو مقدار خروجه مثلا ، فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك ، وقضيّة

__________________

(١) انظر الصفحة ٧٠٨.

(٢) الفصول : ١٣٨.

٧١٤

ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا ، فيصحّ أن يتّصف بالوجوب لخلوّه عن المنافي ، والعقل والنقل قد تعاضدا على أن ليس ذلك إلاّ التصرّف بالخروج ، فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادّان : أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج ، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به ، وهما غير مجتمعين فيه ليلزم الجمع بين الضدّين ، بل يتّصف بكلّ.

ثمّ استدلّ على عدم التنافي بين الحكمين : بجواز وقوع البداء في حقّنا ، إذ لا يجوّزه إلاّ اختلاف الزمان.

ثمّ قال : ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن السابق ، لوجوده في علم العالم ولو بوجهه ، ولو لا ذلك لامتنع تحقّق الطلب إلاّ مع تحقّق موضوعه في الخارج ، وهو محال (١) ، انتهى ما أفاده قدس‌سره.

أقول : أمّا ما ذكره في الاحتجاج على كون الخروج مأمورا به ـ مطابقا لما ذكرناه في الاحتجاج على المختار ـ فهو كلام صحيح لا غبار عليه بجميع جزئيّاته ، سيّما منعه عن التكليف بالمحال مطلقا ، من دون تفصيل بين أن يكون المكلّف هو السبب في الامتناع أو غيره ، كما يقتضيه قواعد العدليّة.

والعجب من بعض المحقّقين ـ كسلطان العلماء ـ كيف اختفى ذلك على مثله! مع طول باعه في التحقيق. وأعجب من ذلك استناده فيه إلى دعوى لا يساعدها العرف والعقل من أنّ هذه الأوامر مرجعها إلى الإرشاد إلى وجود المصالح والمفاسد في نفس الأشياء مثل أوامر الطبيب ونواهيه ، من دون أن يكون هناك طلب حقيقيّ مثل وجوده في أوامر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ، وقد أشرنا إلى فساده في المباحث السابقة.

__________________

(١) الفصول : ١٣٩.

٧١٥

وأمّا ما ذكره : من جريان حكم النهي السابق على الخروج فيكون معصية بواسطة النهي (١) ، فهو كلام مختلّ النظام :

أمّا أوّلا : فلأنّ التصرّف في مال الغير ليس من العناوين التي لا يتبدّل حكمها بلحوق العناوين اللاحقة للأفعال ، ضرورة اتّصافه بالوجوب عند لحوق عنوان حفظ النفس مثلا بالتصرّف المذكور ، فيمكن أن يلحق بالتصرّف عنوان يكون ذلك العنوان مناطا لاختلاف حكم التصرّف المذكور ، مثل كونه تخلّصا عن الغصب على وجه الانحصار ، ولا شكّ أنّ موضوع التخلّص عن الغصب ممّا لا يختلف حكمه بعد الدخول وقبله وإن توقّف وجود الخروج في الخارج على الدخول بواسطة ترتيب طبيعي بين الدخول والخروج ، ومثل هذا التوقّف الوجودي لا يعقل أن يكون منشأ لاختلاف حكم ذلك الموقوف ، إذ الحكم تابع لعنوان ينتزع من ذات الفعل تارة بالذات واخرى بواسطة الاعتبارات عند وجوده في الخارج لكونه موردا للحسن والقبح ، ولا مدخل للامور التي يتوقّف وجود العنوان عليها في ذلك ، كما هو ظاهر على من له مسكة بالمطالب.

وإذ قد عرفت ذلك نقول : إنّ الحركات الواقعة في ملك الغير تارة تكون معنونة بعنوان الغصب ، واخرى معنونة بعنوان التخلّص عن الغصب. فعلى الأوّل يكون الأمر المعلوم المتصوّر عند الآمر هو الغصب فيلحقه طلبه على وجه النهي عنه ، وعلى الثاني يكون المتصوّر عنده هو التخلّص فيلحقه طلبه على وجه الأمر به من غير مداخلة لأحد العنوانين والمتصوّرين في الآخر ، فالغصب مبغوض دائما والتخلّص مطلوب من غير فرق بين قبل الدخول وبعده ، فلو فرضنا لحوق حكم النهي به يلزم أن يكون موضوع التخلّص طاعة ومعصية ، وهو محال.

__________________

(١) لم نعثر عليه في حاشية المعالم في المبحث ، نعم يوجد في مبحث المقدّمة ذيل قول المصنّف : « بعد القطع ببقاء الوجوب » ما يفيد ذلك.

٧١٦

وأمّا ما استند إليه في دفع ذلك من اختلاف الزمان ، ففيه خبط ظاهر لا يليق بأرباب النظر ، فكيف بمن هو بمنزلة ربّهم! فإنّ اختلاف الزمان إنّما يجدي في دفع التناقض فيما إذا كانت القضيّة السالبة واقعة في أحدهما والموجبة في الآخر ، مثل قولك : « زيد قائم أمس ، وليس بقائم في الغد » وأمّا إذا كان الزمان على وجه لو اعتبر في الفعل يصير عنوان الفعل مغايرا للعنوان الذي كان وجها للفعل وعنوانا له ، فلا يعقل أن يكون اختلاف الزمان في مثله رافعا للتناقض.

وتوضيحه : أنّ الحركات الواقعة في دار الغير وملكه ، في نفسها لا يلحقها حكم من الأحكام التكليفيّة ، كما هو الشأن في جميع الكلّيات التي يختلف أحكام أنواعها. نعم ، لو لوحظت على وجه الغصبيّة يتّصف بالحرمة ولو وقعت على وجه التخلّص عن الغصب يتّصف بالوجوب ، ولا مدخل للزمان فيما ذكرنا إلاّ في وجود (١) عنوان الواجب في الخارج ، فإنّ الحركة الخروجيّة لا توجد في نفس الأمر إلاّ بعد وجود الحركة الدخوليّة ، فالبعديّة إنّما تؤثّر في وجود عنوان الواجب وحصول موضوعه في الخارج ، وأين ذلك من الزمان الذي يؤخذ ظرفا لوقوع النسبة في القضيّة؟

وأمّا ما أفاد في التوضيح من أنّ جميع أنحاء الغصب مطلوب الترك ، ففيه : أنّه إن اريد من « أنحاء الغصب » جميع الحركات الواقعة في العين المغصوبة مع قطع النظر عن الوجوه اللاحقة لها التي تصير وجها في اختلاف أحكامها ، فمجال المنع فيما ذكره واسع. وإن اريد أنّ أنحاء الغصب على وجه الغصبيّة فهو سديد ، لكنّه غير مفيد ؛ لأنّ الكلام في الحركة التي تقع على وجه التخلّص. وإن اريد ما يعمّ الحركة الخروجيّة على وجه التخلّص فلا نسلّم أنّ الغصب في هذا النحو من وجوده مطلوب الترك ، بل العقل والنقل ـ على ما اعترف به ـ قد تعاضدا على كونه مطلوب الفعل.

__________________

(١) لم يرد « وجود » في ( ع ) ، ( ط ).

٧١٧

وبالجملة ، فالذي هو مطلوب الترك قبل الدخول هو ليس عنوان الخروج ، بل هو الحركة لا على وجه التخلّص وهو مطلوب الترك بعد الدخول أيضا ، والذي هو مطلوب الفعل هو عنوان التخلّص وهو مطلوب قبل الدخول وبعده أيضا ، وذلك لا يوجب مطلوبيّة الدخول ، كما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ اختلاف الزمان يجدي في دفع التناقض والتنافي في المقام ، نقول : إنّه قد قرّر في محلّه من أنّ اختلاف نفس الزمان من دون أن يكون رجوعه إلى اختلاف عنوان الفعل لا يصلح لأن يكون وجها لتعلّق الأمر والنهي بالشيء الواحد الشخصي ، فإنّ الحركة الخروجيّة لو لم تكن في الزمان الثاني عنوانها مغايرا لعنوانها في الزمان الأوّل ـ كالشيء الواحد الشخصي ـ لا يعقل توارد الأمر والنهي عليه ، كما نبّهوا على ذلك في مسألة عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّ القول بإجداء اختلاف الزمان ينافي ما هو بصدده من إجراء حكم النهي السابق عليه ، كيف! وقد فرض اختصاص النهي بالزمان السابق ، فلو فرض أنّ شرب الخمر كان في الأمس حراما لا وجه لإجراء حكم نهيه في اليوم أو في الغد.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ القول المذكور ساقط جدّا لما عرفت ؛ مضافا إلى أنّ استفادة الحكم المذكور من الدليل اللفظي الدالّ على حرمة الغصب مثل قولك : « لا تغصب » لا يخلو عن إشكال ، فإنّه يدلّ بعمومه على تحريم جميع أفراد الغصب في مرتبة واحدة. وأمّا الترتيب المذكور فممّا لا يعقل طريق استفادته من الدليل المذكور.

فإن قلت : ما ذكرت يوجب أن يكون الدخول واجبا لكونه من مقدّمات الخروج الواجب ، ولو قيل بأنّ الخروج إنّما يجب بعد الدخول فيكون وجوبه

٧١٨

مشروطا بالدخول ولا يجب المقدّمة الوجوبيّة ـ كما قرّر قبل ـ فيتمّ ما ذكره المستدلّ من عدم الوجوب قبل الدخول ومن وجوبه بعده.

قلت : القول بوجوب الخروج بعد الدخول لا يوجب المصير إلى ما ذهب إليه المستدلّ من تعلّق النهي بالخروج قبل الدخول والأمر به بعده وجريان حكم النهي عليه ، فإنّ غاية ما في الباب هو أنّه يلزم أن يكون الحركة الواقعة حال الخروج وجوبها مشروطا بلحوق عنوان بها لا يتحقّق ذلك العنوان إلاّ بعد الدخول. وما ذكرنا حكم كلّي يجري في جميع الموارد التي يدور الأمر فيها بين القبيح والأقبح ، فإنّه يجب حينئذ ارتكاب القبيح على وجه التنجّز (١) مطلقا عند الابتلاء من دون شائبة النهي.

نعم ، يصحّ النهي عن جعل الشخص نفسه مضطرا إلى ارتكاب القبيح عند الدوران وإن كان واجبا بعده ولو بواسطة سوء اختياره ، فالنهي عند التحقيق متوجّه إلى الأسباب الموجبة للاضطرار إلى ارتكاب القبيح ، لعدم معقوليّة النهي عن ارتكاب القبيح بعد ما يصير دافعا للأقبح.

ونظير ذلك في الأوامر ، فإنّه ربما لا يمكن الأمر بشيء ابتداء فيتعلّق الأمر بمقدّمته ثمّ يتعلّق بعد ذلك بذيها ، وذلك كما لو قلنا بعدم تكليف الغافل الصرف إلاّ بعد العلم التفصيلي ، فإنّ الآمر لو حاول طلب شيء منه يجب عليه أوّلا أن يطلب منه تحصيل العلم حتّى يتوجّه إليه التكليف بذي المقدّمة. ومن هنا ذهب جماعة إلى أنّ المكلّف المقصّر إنّما يعاقب على ترك تحصيل العلم (٢).

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : التخيير.

(٢) منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ١١٠ ، والسيّد العاملي في المدارك ٢ : ٣٤٥.

٧١٩

وإلى ما ذكرنا ربما يشير بعض الأخبار من المنع عن المسافرة إلى البلاد التي لا يتمكّن المسافر فيها على أداء أحكام الإسلام (١). وعلى ذلك قد استقرّ آراء العقلاء في امور معاشهم ، فيعاقبون على التسبيبات المذكورة معادلا لما يترتّب على نفس المسبّبات المحرّمة.

ولعلّ حمل كلام الرازي على ما ذكرنا أولى ممّا حمل عليه المستدلّ ؛ لما عرفت من فساده جدّا. كما أنّه يحتمل أن يكون ذلك مراد من قال بارتفاع التكليف خطابا ووجوده عقابا (٢) ، فإنّ العقاب على التكليف الذي يمتنع ثبوته قبيح ، فلا بدّ من أن يكون المراد منه هو العقاب على التسبيب المذكور.

ونظير ما ذكرنا في المقام ما ربما يقال في بعض المغالطات : من أنّه لو فرض أنّ وجود زيد يوجب محالا ـ وهو حماريّة عمرو ـ وعدمه أيضا يوجب ذلك المحال ، فلو ردّد الأمر بينهما فبأيّهما ينبغي أن يؤخذ؟ وجوابه : أنّه لا يمكن الفرض المذكور ، فلا نسلّم إمكان استلزام وجود الشيء وعدمه المحال المذكور.

والحاصل : أنّ مرجع النفي في القضيّة ليس إلى الوجود والعدم أو إليهما حتّى يلزم على الأوّل والثاني المحال ، وعلى الثالث ارتفاع النقيضين ، بل مرجعه إلى نفي التوصيف والتفكيك بين الصفة والموصوف ونفي الاتّصاف ، فلا يلزم شيء من المحاذير ، كما لا يخفى على من لاحظ وتدبّر.

وبمثل ما ذكرنا بنى العلاّمة في المختلف في ردّ الشيخ في لباس المصلّي إذا كان نجسا ، فلاحظ وتأمّل (٣).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤٩ ، الباب الأول من أبواب آداب السفر إلى الحج ، الحديث ٥.

(٢) قاله السيّد الأعرجي في الوافي : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٣) انظر المختلف ١ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

٧٢٠