مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ـ كما هو مقتضى الموضوعيّة ـ يحتاج إلى دليل ، وعند عدمه ـ كما هو ظاهر ـ فالأصل عدم سقوط الواقع بعد الإتيان بما هو أجنبيّ عنه ، فإنّ الصلاة بدون السورة ـ بعد فرض وجوبها معها ـ ممّا لا ربط لها بالواقع ، فيشكّ في كونها مجزية عنها ، والأصل بقاء الواجب وعدم سقوطه بذلك.

وبالجملة : فالقول بالسقوط ملازم للتصويب ، ولذا فرّع في تمهيد القواعد وجوب الإعادة والقضاء على مسألة التخطئة والتصويب (١).

الثاني : ما قد قيل : من أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين (٢) ، ولعلّ المراد به منع الدليل الدال على وجوب اتّباع الأمارة الثانية في الواقعة المجتهد فيها ، وإلاّ فهو بظاهره ممّا لا يكاد يعقل. وقد عرفت فيما تقدّم فساده بما لا مزيد عليه (٣).

الثالث : أن يقال ـ بعد تسليم عدم الموضوعيّة ، والقول بكون الأمارات الظاهريّة طرقا إلى الواقع ، ودلالة الدليل على لزوم اتّباع الآخذ بها في جميع ما يستفاد منها ـ : إنّه يكفي في صحّة الأعمال الواقعة على حسب الأمارة الاولى ـ سواء كانت عبادة أو معاملة ، كالصلاة بدون السورة والعقد على المرضعة عشر رضعات ـ وقوعها عند العامل حال صدور العمل على الوجه الصحيح وإن اعتقد بعد ذلك فساده ، فالزوجيّة وسقوط القضاء من آثار النكاح الصحيح والصلاة الصحيحة ، والمفروض وقوع الصلاة الصحيحة والنكاح الصحيح حال وقوعهما لدى العامل ، فلا يجب عليه الإعادة (٤) ولا على وليّه القضاء بعد موته وإن كان الولي ممن يرى فساد الصلاة بلا سورة بحسب اجتهاده أو تقليده.

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٢٣.

(٢) قاله صاحب الفصول في الفصول : ٤٠٩.

(٣) راجع الصفحة ١٥٦ ـ ١٥٩.

(٤) لم يرد « الإعادة » في « ع ».

١٦١

وربما يؤيّد ذلك بما أفاده الفخر في الإيضاح (١) ، حيث استدلّ على صحة نكاح الكفّار حال كفرهم ، بقوله تعالى : ( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ )(٢) وقوله : ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )(٣) فإنّ التعبير عنهما على وجه الإضافة كاشف عن تحقّق نسبة الزوجيّة الواقعيّة بينهما وبين بعليهما. ولكنّه بعيد جدّا ؛ لإمكان كون الإضافة على وجه المناسبة ، وذلك ظاهر (٤).

وكيف كان ، فهذا الوجه أيضا أضعف من سابقيه (٥) ؛ إذ بعد ما هو المفروض : من أنّ الطرق الظاهريّة من قبيل المرايا للواقع ولا يعقل فيها اعتبار الموضوعيّة ، لا معنى للقول بأنّه يكفي في ترتيب الآثار وجود الفعل عند العامل صحيحا حين صدور العمل ، فلا يجوز لمن يرى خلافه بمرآة معتبرة عنده ترتيب الآثار المرتّبة عليه ، سواء في ذلك العامل وغيره ، فإنّ العلقة الواقعيّة والرابطة الحقيقيّة بين المرء وزوجه لا تتحقّق في الواقع إلاّ فيما لم يتحقّق بينهما الرضاع المحرّم ، ولا مدخل لاعتقاد الزوج والزوجة في ذلك ، فإنّ تأثير العلم في الواقعيّات التي يتعلّق بها غير معقول ؛ لكونه دورا ظاهرا ، غاية الأمر رفع العقاب عن الجاهل بعد عدم التقصير ؛ لعدم تحقّق مقتضيه ، وهي المخالفة التي لا واقع لها إلاّ بعد العلم.

فالاجتهاد والتقليد وغيرهما طرق إلى الواقع ، ولا يترتّب على الطريق شيء بعد كشف فساده على وجه منزّل منزلة العلم ، وهي الأمارة الثانية ـ كما هو المفروض ـ مضافا إلى أنّ ذلك يقتضي القول بالإجزاء على تقدير كشف الفساد على

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ١٠٢.

(٢) القصص : ٩.

(٣) المسد : ٤.

(٤) لم يرد « وذلك ظاهر » في « م » و « ع ».

(٥) في « ع » و « م » : « سابقه ».

١٦٢

وجه القطع ، ولا فارق بينهما. ولعلّه لا ينبغي الالتزام به ، وإن كان ممّن يقول بالإجزاء في مثل المقام على مقتضى القاعدة ليس بذلك البعيد.

وليت شعري! كيف يعقل أن يقال : إنّ العصير العنبي الموجود بين أيدينا إنّما كان طاهرا قبل قيام الأمارة الثانية على نجاسته ، فيحكم بطهارة ملاقيه قبل ذلك ، ولكنّه نجس بعد قيام الأمارة فيجب الاجتناب (١) عنه وعن ملاقيه؟!

الرابع : استصحاب الآثار المترتّبة على ما قامت عليه الأمارة الثانية ، من الطهارة والنجاسة وجواز الأكل والبيع والوطء ، فإنّ قبل قيامها كانت تلك الأحكام ثابتة ، ولا يعلم تميّز بينهما بعد قيام الأمارة ، فيجب (٢) الحكم بالاستصحاب بعده.

وفساده ممّا لا يكاد يخفى على أوائل (٣) العقول ؛ إذ من المعلوم عدم ترتّب تلك الآثار بنفسها ، بل إنّما كان ذلك (٤) بواسطة قيام الأمارة الاولى ، والمفروض ظهور فسادها بما هو منزّل منزلة العلم ، فلا وجه للاستصحاب ، وذلك ظاهر في الغاية.

الخامس : أنّ الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع المترتّبة على الوقائع السابقة دون الأمارة الاولى ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بدون ما يقضي به ؛ فإنّ المفروض أنّ الأمارتين كلتاهما ظنّيتان ، فلا يعلم بمطابقة إحداهما دون الاخرى للواقع ، ولا وجه للأخذ بإحداهما دون الاخرى.

قال الشيخ الأجل كاشف الغطاء عن وجوه التحقيقات ـ بعد كلام له في المقام ـ ما لفظه : على أنّه لا رجحان للظنّ على الظنّ السابق حين ثبوته ، انتهى (٥).

__________________

(١) في « م » بدل « الاجتناب » : « الاحتياط ».

(٢) في « ع » بدل « فيجب » : « فينسحب ».

(٣) في « ع » و « م » بدل « أوائل » : « أهل ».

(٤) لم يرد « ذلك » في « م ».

(٥) كشف الغطاء ١ : ٢١٧.

١٦٣

قلت : وفساد هذا الوجه ممّا لا يكاد يخفى :

أمّا أوّلا : فلأنّ المفروض قيام الدليل على اعتبار الظنّ الثاني ، ومعنى اعتباره ـ على ما هو ظاهر تنزيله منزلة العلم ـ أنّه يجب الأخذ به على حسب كشفه عن الواقع ، ومن المعلوم عدم سقوط الواقع بمقتضى كشف الظنّ الثاني عن الواقع ، فيجب الإتيان بما هو مسقط عنه عقلا ونقلا. فإن اريد من عدم الترجيح عدم دلالة الأمارة الثانية على فساد العمل الواقع أوّلا على حسب الأمارة الاولى فهو في غاية السقوط ؛ فإنّ ذلك أمر قهريّ لازم من الظنّ بجزئيّة السورة. وإن اريد عدم دلالة دليل على اعتبار الظنّ بالنسبة إلى غير الواقعة الغير المرتبطة بسابقتها فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه بعد فرض عدم الترجيح لأحد الظنّين على الآخر لا وجه للأخذ بالأمارة الاولى فيها أيضا.

لا يقال : إنّ ذلك طريق جمع بينهما.

لأنّا نقول : كلاّ ، بل ذلك طرح للأمارة الثانية ، ولا قاضي بالجمع بعد كشف فساد الاولى بالثانية.

وبالجملة : فمطالبة الترجيح ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ فإنّ ذلك إنّما يستقيم عند التعارض ، ولا يعقل التعارض في المقام ، سواء قلنا بأن الأمارات المعمولة في الأحكام مغيّرة للواقع أم لا نقول به. أمّا على الأوّل فهو ظاهر ؛ إذ لا يعارض (١) بعد اختصاص كلّ منهما بموضوع لا يرتبط بموضوع الآخر. وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ قضيّة اعتبار الثاني فساد الأوّل ، ولا تعارض بين الدليل وما ليس بدليل.

وأمّا ما يمكن أن يكون وجها لخروج ما نحن بصدده عن القاعدة المقرّرة ، فوجوه :

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « لا تعارض ».

١٦٤

أحدها : وهو عمدة ما يتمسّك به في عدم جواز الأخذ بالأمارة الثانية ، من أنّ ذلك يوجب حرجا عظيما ويورث عسرا شديدا ، وهو منفيّ في الشريعة السمحة السهلة.

وبيان اللزوم : أنّ من رأى طهارة الغسالة وجواز العقد بالفارسيّة وعدم وجوب السورة وعدم نشر الحرمة بعشر رضعات في أوائل بلوغه بواسطة تقليد أو اجتهاد ، وعمل بتلك الوقائع في مدّة مديدة ، فلم يجتنب عن الغسالة وصاحب مع ذلك جمعا كثيرا وجمّا غفيرا ، واشترى عقارا كثيرا بالعقود الفارسيّة ، وصلّى جميع دهره بلا سورة ، وعقد على المرتضعة المذكورة أو مرضعتها ، ثمّ بدا له ـ باجتهاد أو تقليد ـ نجاسة الغسالة وفساد العقود الفارسيّة ووجوب السورة ونشر الحرمة ، إلى غير ذلك من الأحكام في الموارد المختلفة ، لو وجب عليه النقض بالنسبة إلى تلك الآثار ، كأن يجب عليه قضاء الصلاة التي صلّى مع عدم الاجتناب عن الغسالة ، وتطهير ثيابه وغيرها من عقاره ومنقوله ، ويكون أملاكه معزولة عنه ، والمرأة بائنة عنه من دون طلاق ، إلى غير ذلك ، كان ذلك عسرا شديدا وحرجا أكيدا يقطع بنفيه في هذه الشريعة.

والجواب عن ذلك ـ بعد النقض بصورة العلم بالخلاف فإنّه يجب حينئذ نقض الآثار السابقة قطعا ، وما (١) لو وقع الأعمال السابقة منه على وجه النسيان فإنّ بعد التذكّر لا ينبغي الإشكال في وجوب الأخذ بما يراه طريقا ، ولزوم نقض الأحكام التي رتّبها على المنسيّ فيه حال النسيان ، كما لو نسي نجاسة الشيء الفلاني أو أوجد عقدا فارسيّا بواسطة نسيانه فساده ، فإنّه يجب الأخذ بأحكام النجاسة وعدم الملك ونحو ذلك ـ : بأنّ الحرج قد يكون شخصيّا فيدور سقوط التكليف مدار ثبوته ، وقد

__________________

(١) في « ع » و « ط » بدل « وما » : « بما ».

١٦٥

يكون نوعيّا ، كأن يكون تشريع الحكم عسرا في الغالب على الغالب ، فلا يكون سقوطه دائرا مدار ثبوته في شخص الواقعة.

فإن اريد من لزوم الحرج لزومه في شخص بعض الوقائع لبعض الأشخاص ، فذلك لا يقضي بالقول بالإجزاء وعدم النقض على وجه الاطّراد ؛ فإنّ بعض الوقائع ـ لو لم نقل بأكثرها ـ ممّا لا يوجب ذلك ، كما إذا عمل بالأمارة وقت الفريضة فصلّى بلا سورة ثمّ اطّلع في الوقت على أمارة اخرى دالّة على وجوبها ، فإنّه لا ريب في عدم الحرج في إعادة صلاة واحدة.

وإن اريد منه الحرج الغالبي :

فلا نسلّم ثبوته أوّلا.

ولا دليل على اعتبار الحرج الغالبي في نفي الأحكام ثانيا.

أمّا بيان الثاني فتفصيله موكول إلى غير المقام ـ كما أومأنا إليه في الشبهة المحصورة ـ وملخّصه هنا : أنّ الأدلّة الدالّة على رفع العسر والحرج يستفاد من ظاهر ما هي العمدة منها إناطة الرفع بوجود العسر والحرج وجودا وعدما ، فيكون العسر من قبيل العلّة دون الحكمة ، وإن كان قد يستأنس لكونه من قبيل الحكمة ببعض الآثار الواردة فيه التي مضمونها : أنّ التكاليف وضعت على حسب أقلّ الناس طاقة (١) ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه لجعل مثل هذه الآثار حاكمة على الأدلّة الواقعيّة في غير مورد العسر والحرج.

وأما بيان الأوّل ففي غاية الظهور ؛ إذ لا إشكال في أنّ القول بالنقض لا يوجب العسر على الغالب.

وتوضيحه : أنّ موارد الرجوع وظهور الخلاف على قسمين : فتارة

__________________

(١) في « ع » بدل « طاقة » : « طاعة ».

١٦٦

يكون الرجوع من الأحوط إلى غيره ، كما إذا رجع المفتي بنجاسة الغسالة إلى الإفتاء بطهارتها.

واخرى يكون الرجوع من غير الأحوط إلى الأحوط ، كما إذا رجع القائل بالطهارة إلى النجاسة.

والقسم الثاني أيضا على قسمين : فتارة يكون العمل مطابقا للاحتياط ، واخرى يكون مخالفا للاحتياط. والقسم الثاني أيضا ينقسم إلى قسمين ؛ إذ العمل به إمّا أن يكون على وجه الاجتهاد أو التقليد.

لا ينبغي التأمّل في عدم لزوم الحرج فيما إذا رجع عن الاحتياط إلى غيره ، وفيما إذا رجع عن غيره إليه مع العمل بالاحتياط ، وفيما إذا عمل بغير الاحتياط على وجه التقليد مع إمكان العمل بقول من يطابق رأيه رأي المفتي بخلاف الاحتياط ، فينحصر فيما إذا رجع عن غير الاحتياط إلى الاحتياط مع العمل بخلافه مع كونه مجتهدا ، أو (١) انحصار المجتهد في القائل بالنجاسة بالنسبة إلى المقلّد.

وهذا أيضا على قسمين ؛ لأنّ العمل به قد يكون في زمان قليل وقد يكون في مدّة طويلة ، والقول بالنقض في الأوّل لا يوجب عسرا وحرجا جدّا ، وفي الثاني على تقدير استلزامه فهو قليل في الغاية ، وهو لا يستلزم رفع الحكم عن جميع الموارد التي لا يوجب الحرج ؛ كيف! ولو لا ذلك لكان أكثر الأحكام الثابتة في الشريعة منفيّة ؛ إذ ما من حكم منها إلاّ ويمكن فرض استلزامه في بعض الصور والفروض عسرا ، كما يلاحظ في الوضوء والصلاة والحجّ والزكاة ونحوها.

وبالجملة : فالقول بأنّ عدم الإجزاء والنقض يلازم الحرج الغالبي على غالب الناس ، فيه منع قوي ، بل التحقيق أنّ التعويل على عموم نفي

__________________

(١) في « ط » بدل « أو » : « إذ ».

١٦٧

الحرج في الموارد التي يتحقّق فيها الحرج شخصا (١) من دون أن يكون موردا لعمل الأصحاب في غاية الإشكال.

الثاني من الوجوه : جريان السيرة على عدم النقض.

ومخالفته للواقع يظهر ممّا مرّ : من ندرة الوقوع ، فإنّ ما هو المعلوم بحسب السيرة هو الأخذ بالوقائع السابقة وعدم ترتّب آثار خلافها ، وهو أعمّ من المدّعى من وجوه شتّى ، فإنّ ذلك ربّما يكون بواسطة عدم الرجوع ، وعلى تقديره فربّما لا يكون من موارد النقض ، وعلى تقديره فربّما لا يكون العمل مطابقا للمنقوض ، وعلى تقديره فربّما ينتقل من تقليده إلى تقليد موافق للأوّل. وفي مورد الانحصار أو رجوع المجتهد لا نسلّم جري السيرة على عدم النقض ، بل الظاهر جريانها على النقض.

هذا ، مضافا إلى ندرة تحقّق الرجوع لا سيّما بالنسبة إلى أرباب الأنظار الصائبة التي تعسر اجتهادهم ، فإنّ العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ مع اشتهاره باختلاف الفتاوى في كتبه ممّا لا سبيل إلى اثبات الرجوع في فتاويه المختلفة على الوجه المذكور.

الثالث : أنّ ذلك يوجب رفع الوثوق والهرج والمرج.

وفيه : أنّه إن اريد بذلك ما يكون رجوعه إلى قاعدة اللطف الواجب على الحكيم في مقام التشريع ، فهو يوجب القول بالعصمة. وإن اريد ما هو أهون من ذلك ، فهو وجه استحسانيّ لا نقول به مطلقا ، ولا سيّما في قبال الأدلّة الواقعيّة القاضية بالإعادة والقضاء.

ومنه يظهر الوجه في فساد ما قد يوجد في كلمات الشيخ الأجل كاشف الغطاء (٢) : من خلوّ الخطب والمواعظ عن ذلك ؛ فإنّ ذلك لا يرجع إلى دليل.

__________________

(١) في « م » : « شخصيّا ».

(٢) كشف الغطاء ١ : ٢١٧.

١٦٨

الرابع : ما يظهر من البعض (١) ، من دعوى كونه ظاهر المذهب ، بل قد ادّعى بعض من لا تحقيق له (٢) الإجماع بل الضرورة.

وفيه ـ مع كونه معارضا بدعوى الإجماع من العميدي (٣) والعلاّمة (٤) على خلافه ـ : أنّ ذلك ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبّع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ؛ إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك ، كما ستطّلع عليه (٥) ، مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع غلبة (٦) تركها منه ، إلى غير ذلك.

وبالجملة : فعلى تقدير كون الطرق الظاهريّة طرقا إلى الواقع لا وجه للقول بالإجزاء إلاّ بواسطة دليل خارج ، وقد عرفت انتفاء ما يصلح لذلك.

وفي المقام وجوه من التفصيل لا بأس بإيرادها :

فمنها : ما زعمه بعض الأجلّة في الفصول ، قال :

« إن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ، فيترتّب عليه لوازمها بعد الرجوع ؛ إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين ؛ لعدم دليل عليه ؛ ولئلاّ يفضي إلى العسر والحرج المنفيّين عن الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد غالبا

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٧١١.

(٢) في « م » بدل « من لا تحقيق له » : « المحقّقين عليه ».

(٣) منية اللبيب : ٣٦٤.

(٤) نهاية الوصول : ٤٤٠.

(٥) انظر الصفحة ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٦) في « ط » بدل « غلبة » : « علمه ».

١٦٩

على رأي واحد ، فيؤدّي إلى الاختلاف (١) فيما يبني فيه عليها (٢) من الأعمال ؛ ولئلاّ يرتفع الوثوق في العمل ، من حيث إنّ الرجوع في حقّه محتمل ، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

ولا يعارض ذلك بصورة القطع ؛ لندرته وشذوذه ؛ ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ولا قطع بارتفاعها بعده ؛ إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخّر فيها ، فإنّ القدر الثابت من أدلّته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير ذلك ، فيستصحب.

وأمّا عدم جريان الأصل بالنسبة إلى نفس الحكم ـ حيث لا يستصحب بالنسبة إلى الموارد المتأخّرة عن زمن الرجوع ـ فلمصادمة الإجماع ، مع اختصاص مورد الاستصحاب ـ على ما حقّقناه ـ بما يكون قضيّته البقاء على تقدير عدم طروّ المانع ، وليس بقاؤه بعد الرجوع منه ؛ لأنّ الشكّ فيه في تحقّق المقتضي ، فإنّ العلّة في الثبوت الظن ، فأصالة بقاء الحكم يعارضه أصالة عدم علّة اخرى ، والقول بأنّ العلّة في المقام إعداديّة وربّما يستغنى عن العلل الإعدادية في البقاء ، غير مجد ؛ لأنّ الأصل بقاء الحاجة. ولا يتوجّه مثله في استصحاب بقاء الآثار ؛ فإنّ المقتضي لبقائها حينئذ متحقّق ، وهو وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، وإنّما الشكّ في مانعيّة الرجوع.

وبالجملة : فحكم رجوع المجتهد من الفتوى حكم النسخ من حيث بقاء آثار موارده المتقدّمة ، فلو بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة وعدم شرطيّته ، فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع ، بنى على صحّة ما أتى به ، حتّى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثمّ رجع بعد تجاوز المحل بنى على صحّتها

__________________

(١) في المصدر : « الاختلال ».

(٢) في « م » : « عليه ».

١٧٠

من جهة ذلك ، أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب ثمّ رجع ولو في الأثناء إذا نزعها (١) قبل الرجوع ، وكذا لو بنى على طهارة شيء ثمّ صلّى في ملاقيه (٢) ورجع ولو الأثناء ، فلا يلزمه الاستئناف.

وكذلك الأمر في بقيّة مباحث العبادات وسائر مسائل العقود ، فلو عقد بصيغة يرى صحّتها ثمّ رجع بنى على صحّتها واستصحاب أحكامها ، من بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحريّة وغير ذلك.

ومن هذا الباب حكم الحاكم ، فالظاهر أنّ عدم انتقاضه موضع وفاق.

ولا فرق بين بقاء حكم فتواه التي فرّع عليه الحكم وعدمه.

فمن الأوّل : ما لو ترافع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح فحكم بالزوجيّة ، أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة ، فإنّ حكم فتواه التي يتفرّع عليها الحكم ـ وهي صحّة هذا العقد ـ يبقى بعد الرجوع.

ومن الثاني : ما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان بقول الحاكم بحلّيته ، فترافعا إليه فحكم بصحّة العقد وانتقال المثمن إلى المشتري ، ثمّ رجع إلى القول بالتحريم ، فإنّ الحكم بصحة العقد وانتقال الثمن إلى البائع يبقى بحاله ، ولا يبقى الحكم بحلّيته في حق المشتري بحاله ، وهكذا.

وقد يتخيّل : أنّ الحاكم إذا حكم بطهارة (٣) ماء قليل لاقاه النجاسة ـ أو ما أشبه ذلك من الأحكام ـ ثمّ رجع ، لم ينتقض حكمه بالطهارة بالنسبة إلى ذلك الماء ؛ للإجماع على أن الحكم لا ينتقض بالرجوع.

__________________

(١) في « ع » و « م » بدل « إذا نزعها » : « أو انتزعها ».

(٢) كذا في « ق » ، وفي سائر النسخ والمصدر : « ملاقيها » ، وهو سهو لرجوع الضمير إلى « شيء ».

(٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ : « بنجاسة » وهو سهو.

١٧١

وهو غير جيّد ؛ لأنّ المراد بالحكم هناك ما يتعلّق بالدعاوى والمرافعات ، ولهذا لا يلزم متابعته في الحكم بالطهارة.

ولو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن (١) أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ؛ كما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع ، بنى على تحريم المذكّى منه وغيره (٢). أو على طهارة شيء ـ كعرق الجنب من الحرام ـ فلاقاه ثمّ رجع ، بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده. أو على عدم تحريم الرضعات العشر فتزوّج من أرضعته ذلك ثمّ رجع ، بنى على تحريمها ؛ لأنّ ذلك كلّه رجوع عن حكم الموضوع ، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده ، فإذا رجع ارتفع ، كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ.

وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد (٣) ، فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع ـ كالملاقاة ـ أو من المتفرّعات على حكم الموضوع ـ كالتذكية والعقد ـ فلا أثر فيها (٤) في بقاء حكم الموضوع » (٥).

ثمّ أطال في دفع ما استدلّ به على عدم النقض في القسم الأوّل بجملة من الإيرادات المذكورة فيما سبق.

ولعمري ، إنّ التفصيل المذكور ممّا لا يرجع إلى معنى معقول ؛ فإنّا وإن بالغنا في التأمّل في كلامه لم نجد له معنى محصّلا على وجه ينطبق عليه الأمثلة المذكورة في الموردين.

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي النسخ بدل « لا يتعيّن » : « لا ينتقض ».

(٢) في « م » : أو غيره.

(٣) في المصدر زيادة : « السابق ».

(٤) في المصدر بدل « فيها » : « لها ».

(٥) الفصول : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

١٧٢

ولعلّ مراده رحمه‌الله على ما يظهر من تفسير (١) القسمين مع قطع النظر عن الأمثلة ـ أنّ الوقائع على قسمين :

قسم : يتعيّن فيه الأخذ بمقتضى الاجتهاد والتقليد على وجه لو وقع من العامل التارك للطريقين لا يقع صحيحا ، سواء كان العمل مطابقا للواقع أم لا.

وقسم : يعتبر فيه مطابقة الواقع ولا يلاحظ فيه الاجتهاد والتقليد على وجه لو صدر من الجاهل نقول بصحّته فيما لو طابق الواقع.

ففي القسم الأوّل لا نقض ؛ إذ المقتضي للصحّة ـ وهو وقوع الواقعة على طبق الاجتهاد والتقليد ـ واقع ، ولا مدخل للواقع في ذلك ، فيكون من قبيل النسخ من حيث ارتفاع حكم المنسوخ عن الموارد المتأخّرة دون المتقدّمة.

وأمّا في القسم الثاني فلمّا كان المدار على الواقع (٢) وإنّما يكون الاجتهاد طريقا إليه ـ لو وقع الفعل على طبق الاجتهاد ـ كان الحكم بالنقض في محلّه.

ولو فرض أنّ مراده هو ما ذكرناه ، ففيه أنّه :

إن اريد من اعتبار وقوع الواقعة على وجه الاجتهاد أن يكون الاجتهاد موضوعا لثبوت الأحكام المترتّبة عليه ، من صحّة الصلاة والزوجيّة والبينونة والحرّية والرقّية والملكيّة ونحوها ـ كما كنّا نقول به فيمن علم بنجاسة ثوبه بين الصلاة بالنسبة إلى العلم ـ فهو القول بالتصويب ؛ إذ لا واقع في البين حينئذ.

وإن اريد من اعتبار وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى أن يكون وقوعها صحيحة في الخارج متوقّفا على الأخذ بالاجتهاد والفتوى ـ ولازمه وجود الواقع إلاّ أنّ

__________________

(١) في « ط » ، « ق » و « م » بدل « تفسير » : « نفس ».

(٢) في « ع » زيادة : « دائما ».

١٧٣

الطريق إليه لا بدّ وأن يكون الاجتهاد ـ فهذا خلاف الإجماع على ما حكي أوّلا بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كما في المعاملات ، فإنّها من قبيل الأسباب التي لا مدخل للاجتهاد والتقليد في صحّتها ، فلو أوقع المكلّف بيعا مشتملا على جميع ما يعتبر فيه من دون اجتهاد أو تقليد ، فالحقّ هو الصحّة.

ولعلّ المفصّل المذكور ـ أيضا ـ مذعن بالصحّة في غير المقام.

بل التحقيق ـ على ما بسطنا فيه الكلام في محلّه ـ : أنّ المدار في جميع الأحكام هو وقوعها مطابقة للواقع ـ سواء كانت عبادة أو معاملة ـ ولا مدخل للاجتهاد والتقليد فيها بعد إحراز مطابقتها للواقع.

سلّمنا أنّ الاجتهاد ممّا يؤثّر في صحة العمل ، ولكنّه ما الفرق بين القسمين ، حتى أنّه التزم بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني؟ إذ لا مائز بينهما في الواقع.

سلّمنا وجود المائز بينهما ، ولكن اشتراط صحّة العمل بوقوعه على طبق الاجتهاد لا يلازمه عدم النقض ؛ إذ المفروض عدم كون الاجتهاد موضوعا صرفا ، على وجه يكون الواقع غير ملحوظ فيما وقع على طبق الاجتهاد. نعم ، غاية ما يلزم من ذلك فساد العمل على تقدير المخالفة وإن طابق الواقع ، وأين ذلك من الحكم بالصحّة وعدم النقض بعد الكشف بفساد الاجتهاد على وجه معتبر؟

ثمّ إنّ ما استند إليه في القول بعدم النقض في القسم الأوّل من الوجوه المذكورة ، قد عرفت أنّها لا ينبغي أن يعوّل عليها في قبال ما ذكرنا من القاعدة القاضية بالنقض.

وأمّا ما (١) فصّله بين استصحاب الحكم واستصحاب الآثار المترتّبة على الاجتهاد الأوّل ، فزعم عدم جريانه في الأوّل وجريانه في الثاني ، فهو ممّا لا يقضي

__________________

(١) لم يرد « ما » في « ط » و « م ».

١٧٤

به فاضل ؛ فإنّ جواز التصرّف في المثمن بواسطة وقوع العقد الفارسي أو جواز وطي المعقودة أو جواز بيع المملوك ـ ونحوها من الأحكام التي يتفرّع على موضوعاتها ـ بواسطة الظنّ المعتبر عند العامل القائم على وجود تلك الموضوعات المستتبعة لتلك الآثار ؛ إذ لا ريب في أنّها أحكام ظاهريّة من حيث وقوع الظنّ واسطة فيها ، وبعد انتفاء الواسطة لا معنى لاستصحاب تلك الأحكام ، كما اعترف به في نفس الحكم.

وأمّا ما زعمه : من أنّ تلك الآثار من مقتضيات وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، فلم نعرف له وجها ؛ فإنّ ذلك الوقوع من مقتضيات الظن ، وبعد ارتفاعه لا وجه لاستصحاب مقتضاه ؛ من جهة ارتفاع الموضوع ، لا من جهة الشك في المقتضي.

واحتمال وجود موضوع آخر لتلك الآثار ـ بعد كونه غير معقول أصلا ؛ إذ ليس ذلك من الاستصحاب في شيء أصلا ـ مدفوع بأصالة العدم ، مع أنّه جار في نفس الحكم أيضا ، كما تفطّن إليه ودفعه بمثل ما ذكرنا.

وأمّا ما أفاده إجمالا بقوله : « وبالجملة فحكم رجوع المجتهد حكم النسخ » ففيه : أنّه من سخيف القول ؛ إذ الناسخ إنّما يكشف عن فساد الحكم من حينه ، ولو فرض مدلول الناسخ مثل ما نحن فيه ـ من كشفه عن فساد العمل على الوجه (١) الواقع قبل حدوث النسخ ـ كان الوجه في النسخ أيضا لزوم (٢) النقض. اللهم إلاّ بالقول بعدم اعتبار تلك الأمارة بالنسبة إلى الوقائع المتقدّمة ، وقد عرفت دفعه بما لا مزيد عليه.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتوهّم : من أنّه إذا أثّر السبب في إيجاد المسبّب فلا وجه لتعطيل الأحكام المترتّبة على المسبّب بعد ارتفاع حكم السبب ، نظرا إلى أنّ

__________________

(١) في « ع » بدل « على الوجه » : « في ».

(٢) لم يرد « لزوم » في « ع ».

١٧٥

ذلك إنّما يقضي بعدم تأثيره في إيجاد مسبّب آخر ، ولا مدخل فيه بالنسبة إلى آثار المسبّب الأوّل ، نظير ما (١) لو صار الوكيل معزولا ، فإنّ تصرفاته قبل العزل ماضية وإن لم يجز له التصرّف بعد العزل.

وجه الفساد : أنّ ذلك يتمّ في الأسباب الواقعيّة الموجودة حقيقة على وجه صحيح ، كما في مثال الوكالة. وأمّا لو فرض فساد الوكالة عن أصلها ، فلا يعقل القول بإمضاء تصرّفاته. وما نحن بصدده من هذا القبيل ، كما هو ظاهر على من ألقى السمع وهو شهيد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ الوجه المذكور لو تمّ ، لكان مقتضاه عدم النقض في صورة القطع بالخلاف ؛ فإنّ المقتضي للصحّة ـ وهو وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى ـ موجود فيه. ونحن لا نجد فارقا بين القطع بالخلاف والظنّ المعتبر القائم على خلاف العمل الواقع أوّلا.

وأمّا اعتذاره عن ذلك بندرة وقوعه فهو لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ لأنّ ندرة الوقوع لا ينافي جواز استصحاب الأحكام الثابتة للحكم السابق ، غاية ما في الباب أنّ التعليل المذكور إنّما يدفع عدم الوثوق ، وأمّا الحرج فهو أيضا ممّا لا مدخل لندرة الوقوع وكثرته فيه ، كما لا يخفى.

ويحتمل قريبا ـ بقرينة قوله أخيرا : « وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد » وغير ذلك ممّا يومي إليه ـ أن يكون مراده رحمه‌الله هو التفصيل الذي ذكره بعض آخر (٢) ، حيث جعل المسائل الاجتهاديّة ـ معامليّا كانت أو عباديّا ـ على قسمين :

__________________

(١) كذا في نسخة بدل « ط » ، وفي سائر النسخ بدل « نظير ما » : « كما يظهر بما » ، وفي « ع » : « كما يظهر ممّا ».

(٢) لم نقف عليه.

١٧٦

أحدهما : ما هو من قبيل الإنشاءات التي لم يتصرّف فيها الشارع إلاّ بالأمر بإمضائها وترتيب الآثار المطلوبة من متعلّقاتها عليها بعد صدورها وحدوثها ، أو النهي عن ذلك فلا يترتّب عليها ما هو المقصود منها ، كالعقود والإيقاعات : من البيع والنكاح والطلاق وغيرها ، فإنّ الشارع إنّما أمضى في تلك الأسباب ما هو المعهود بين العرف من آثارها.

وثانيهما : ما لا يكون كذلك ، كسائر الامور ما عدا الآثار الحاصلة من العقود والإيقاعات ، فإنّه من قبيل الأحكام المجعولة من الشارع المقدّس في موضوعات خاصة ومتعلّقات مخصوصة ، كالطهارة المعلّقة على الموضوعات الطاهرة ، والنجاسة الثابتة للأعيان النجسة ، وحلّية الأكل في الذبيحة ونحوها.

ولا ريب أنّ الأحكام المتعلّقة بتلك الموضوعات ـ وضعية أو تكليفية ـ إنّما هي أحكام جعليّة شرعيّة قرّرها الشارع لتلك الموضوعات ، فتكون منوطة بالاجتهاد الذي هو الطريق إليها ، فإذا رأى طهارة العصير العنبي بالاجتهاد فلا بدّ من إجراء حكمها عليه ، وإذا بدا له نجاسته فيجب إجراء حكمها عليه في الوقائع السابقة أيضا ، وكذا لو بنى على كفاية قطع الحلقوم في التذكية وعمل بها ثمّ بدا له حرمة الذبيحة المعهودة فلا بدّ من البناء على الحرمة والنجاسة من أوّل الأمر.

وذلك بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه يؤخذ فيه بالنسبة إلى موارد وجود تلك الأسباب فيها بمقتضيات تلك الأسباب فيها ، فلو عقد على المرضعة عشر رضعات بناء على اجتهاده أو تقليده ، ثمّ عدل عن ذلك وظنّ حرمتها ، لم يجز له العقد على مثلها وإن لم يؤثّر في العقد السابق وصحّ نكاحها (١).

والوجه في هذا التفصيل ـ الراجع حقيقة إلى التفصيل بين الإنشائيّات

__________________

(١) انتهى التفصيل.

١٧٧

وغيرها ـ هو : أنّ الأثر الحاصل منها ممّا يكفي في الحكم بوجوده وقوعها على وجه الإمضاء الشرعي ، والمفروض هو الوقوع بحسب الاجتهاد الأوّل ، فلا يؤثّر في ارتفاعها إلاّ ما قرّره الشارع رافعا لها ، كالفسخ في البيع والطلاق في النكاح. وليس من الرافع تبدّل الاجتهاد ، فالأصل قاض ببقاء الآثار المترتّبة عليها ، كما في البيع الصادر من الوكيل بعد انعزاله.

وأمّا النقض في غير الإنشائيّات ، فلأنّه ليس هناك آثار حاصلة كما في البيع ونحوه ، بل إنّما هي أحكام شرعيّة تابعة في مواردها للاجتهاد والتقليد وغيرهما من الطرق الشرعيّة ، فتبقى ببقائها وترتفع بارتفاعها.

فحاصل التفصيل : أنّ الامور الراجعة إلى إمضاء الشارع ، من الأسباب الواقعيّة المعمولة عندهم (١) ، لا وجه للنقض فيها ؛ فإنّ تلك الأسباب غير محتاجة في التأثير إلى حكم ، وإنّما يكفيها مجرّد إمضاء الشارع ولو في وقت ما. وأمّا غيرها ممّا هو راجع إلى جعل الأحكام لموضوعات خاصّة خارجيّة ـ كحلّية الذبيحة وطهارة الغسالة ونجاسة الثوب المتنجّس بالبول المغسول مرّة بالكرّ ونحوها ـ فالوجه فيه النقض.

وهذا التفصيل ـ على تقدير انطباقه بكلامه أيضا ـ ممّا لا وجه له ، مع أنّ الأمثلة التي أوردها في القسمين ممّا لا يلائم ذلك.

وبالجملة : فلا نزاع لنا في ما وافقنا من الحكم بالنقض وإن لم يظهر لنا وجه ذلك منه.

وأمّا فيما زعم عدم النقض فيه ، فيرد عليه : أنّ الأحكام الشرعية بأسرها ـ سواء كانت من قبيل الإنشائيّات التي تعلّقت بموضوعات خاصّة ، كما في الأحكام التكليفيّة ، كوجوب الإتيان بالصلاة ، وحرمة شرب العصير ، ووجوب الوفاء بالنذر

__________________

(١) لم يرد « عندهم » في « ع ».

١٧٨

والعقد والشرط ، ووجوب ردّ العوضين عند تحقّق ما يوجب حلّ العقد ، ونحوها ممّا لا حصر لها ، أو كانت من الإخبار بوقوع امور واقعية ، على مسامحة في إطلاق الحكم الشرعي على هذه الأخبار على الوجه المصطلح كما فصّلناه في محلّه ، كنجاسة الملاقي للنجاسة ، وكخباثة (١) المنبعثة من الجنابة ، ومثل تحقّق ملك الخيار غير الاشتراط وملك الثمن والمثمن عند جريان العقد ، ونحوها ـ امور واقعية لا سبيل لنا إليها إلاّ بواسطة الإدراكات التي منها الاجتهاد والتقليد. ولا يعقل تأثير تلك الواسطة فيما توصّلنا إليه. وعلى تقديره فلا فرق بين المطالب التي تجعل تلك الإدراكات واسطة في نيل المدرك إليها. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور.

وأمّا ما زعمه : من الفرق بين الأسباب الواقعيّة (٢) التي لا يلحقها إلاّ إمضاء الشارع وبين غيرها ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ فإنّ الكلام إنما هو في إمضاء الشارع ولو آناً ما ، فإنّ المفروض انكشاف فساد الأمارة الاولى بالأمارة الثانية. نعم ، لو قيل بأنّ اعتقاد الإمضاء إنّما يقوم مقام الإمضاء حقيقة ، في الحكم بوجود المعتقد ، كان ذلك هو الوجه ، إلاّ أنّه كما ترى!

وربّما يفصّل بين مطلق الأسباب ـ سواء كانت عرفيّة كما في الإنشاءات أو شرعيّة كالغسل والتذكية والطهارة (٣) والحلّية ـ وبين غيرها ، مثل الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فيقال بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني.

ويفارق التفصيل المتقدّم بأنّ موارد النقض في الأوّل أكثر منه ، حيث إنّ عدمه كان مختصّا بالأسباب العرفيّة فقط بخلافه ، فإنّه يشمل الأسباب الشرعيّة أيضا.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « كالخباثة ».

(٢) لم يرد « الواقعيّة » في « ع ».

(٣) في « ط » و « ع » بدل « والطهارة » : « للطهارة ».

١٧٩

وكيف كان ، فالدليل عليه : أنّ كلّ ما تعلّق الاجتهاد على سببيّة شيء ـ كالبيع للملك ، أو الغسلة الواحدة للطهارة ، أو الذبح للتذكية ، أو غير ذلك ـ ثمّ أوجد المكلّف ذلك السبب في الخارج على حسب الاجتهاد أو أحد الطرق الشرعيّة ، فقد وقع ذلك السبب في الخارج من أهله في محلّه ، ولا وجه لارتفاع أثره إلاّ بما جعله الشارع رافعا له ، من الإقالة والفسخ وحدوث النجاسة ونحوها ، وليس تبدّل الاجتهاد منه. بخلاف الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فإنّها منوطة بالاجتهاد والتقليد ، ويختلف باختلافهما.

وملخّص الفرق ، هو : أنّ مرجع النقض في القسم الأوّل إلى نقض الآثار الحاصلة في الخارج بواسطة وجود السبب القاضي بوجودها على حسب الاجتهاد الأوّل ، ومرجع النقض في القسم الثاني إلى رفع الأحكام الثابتة بالاجتهاد والتقليد.

ومن هنا يمكن أن يقال : إنّه ليس بنقض في الحقيقة ؛ إذ ليس في المقام ما من شأنه البقاء ، مثل الآثار الحاصلة من الأسباب العرفيّة أو الشرعيّة ؛ وإنّما يسمى نقضا إذا لوحظ كلّي (١) الواقعة ، لاختلاف أحكام أفرادها في زمانين ، ولا ريب أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن العصير بواسطة الاجتهاد في زمان لا يناقض الحكم بطهارته في زمان آخر. وقد عرفت ما لا حاجة معه إلى إطالة الكلام في النقض والإبرام.

ومن أجود (٢) طرق التفصيل ما سلكه بعض أفاضل المتأخّرين في مناهجه ، حيث قال : « اعلم أنّ جميع العقود والإيقاعات بل كلّ ما جعله الشارع المقدّس سببا أو شرطا أو مانعا ـ ممّا وقع فيه الخلاف ـ لها حقائق نفس أمريّة واقعيّة هي ما

__________________

(١) لم يرد « كلّي » في « ع ».

(٢) لم يرد « أجود » في « ع » و « م ».

١٨٠