مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

هداية

قد ذكر بعضهم (١) للنزاع المذكور (٢) ثمرات ، عمدتها : البيان فيمكن التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء في المسمّى شطرا أو شرطا على القول بالأعم ، والإجمال فلا إطلاق حتّى يتمسّك به على القول بالصحيح.

وتوضيحه : أنّ الشكّ المتعلّق بالأجزاء والشرائط قد يكون على وجه يشكّ معه في الصدق فلا إطلاق على القولين ، وقد يكون في اشتراط أمر خارج عمّا هو المسمّى عرفا : فعلى القول بالأعم يتوجّه في دفعه التمسّك بالإطلاق ، وعلى القول بالصحيح لا يكتفى بصدق المسمّى عرفا ، بل إنّما هو محمول عنده على أحد الوجوه التي قد عرفت بعضها وستعرف بعضا آخر ، فلا إطلاق عنده ، فيكون من موارد الرجوع إلى الاصول العمليّة ، كما هو قضيّة الإجمال ، فإمّا قولا بالبراءة كما هو المختار ، وإمّا قولا بالاحتياط كما عليه بعض الأواخر (٣).

وقد يقال : إنّ الثمرة تظهر في إجراء الأصل ، فعلى القول بالصحيح لا تجري أصالة البراءة عند الشكّ في اعتبار شيء في العبادة جزءا أو شرطا ، وعلى القول بالأعم تجري.

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين : ١١٣ ، والفصول : ٤٩ ، ومفاتيح الاصول : ٤٩.

(٢) لم يرد « المذكور » في « ط ».

(٣) كالشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين ١ : ٤٨٦.

٦١

واورد عليه (١) : بأنّ المشهور على البراءة مع ذهابهم إلى القول بالصحيح ، فلا ملازمة بينهما.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّه تفريع على ما اختاره من لزوم الاحتياط عند الإجمال ، لا أنّه تفريع على الصحيحة (٢)(٣).

وفيه : أنّ الظاهر من حكاية كلامه دعوى الملازمة. ولعلّ الوجه فيه ما عرفت في تصوير القول المذكور : من أنّ الالتزام بوضع اللفظ لمعنى بسيط حاصل بذلك العمل المركّب ملازم للقول بالاشتغال ، فلعلّ القائل المذكور إنّما تخيّل القول على هذا الوجه. وقد عرفت القضيّة في النقل (٤) عنه.

وربما يظهر من بعضهم (٥) : أنّ الدليل إذا كان من مقولة اللفظ لا بدّ من الاحتياط وإن كان مجملا ، وجواز الرجوع إلى البراءة أيضا إنّما هو (٦) فيما إذا كان الدليل لبّيا.

ولعلّ نظره إلى أنّ الدليل إذا كان لفظيّا فيستكشف منه وجوب إحراز مدلوله في الخارج ولا يعلم به إلاّ بعد الاحتياط.

وفيه : أنّ الدليل المجمل ملحق بالدليل اللبّي ، وصحّة انتزاع المدلول والمسمّى غير مفيد بعد كونه مجملا ؛ لأنّه غير مأمور به ، لإمكان انتزاع نحوه فيما إذا علم بالدليل اللبّي أمرا مردّدا بين الأقلّ والأكثر.

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ، نعم ادّعى في ضوابط الاصول : ٢٣ الإجماع على ذلك.

(٢) انظر ضوابط الاصول : ٢٨.

(٣) في « ع » زيادة : « فلا ملازمة بينهما ».

(٤) لم يرد « في النقل » في « ط » و « م ».

(٥) انظر ضوابط الاصول : ٢٨.

(٦) لم يرد « إنّما هو » في « ع ».

٦٢

ثمّ إنّه قد يعترض على ما ذكرنا من الثمرة بوجوه :

منها : أنّه لا وجه للقول بالإجمال على القول بالصحيح (١) ؛ إذ بعد تتبّع الأخبار الكافلة لبيان تلك الأفعال ـ مثل رواية حمّاد (٢) ـ وتصفّح المدارك الشرعيّة من الإجماع المستفاد من فتاوى الأخيار ، يحكم بكون الصلاة هي الأجزاء المعهودة ، فإذا شكّ في اعتبار جزء فيها من غير دلالة تطمئنّ بها النفس ، دفعناه بالأصل. وأيضا العادة قاضية بأنّه لو كان للصلاة أجزاء أخر غير ما هو المتعارف المعهود منها لكانت معلومة ؛ لتوفّر الدواعي على نقلها وضبطها.

وفيه : أنّ الأخبار البيانيّة بأنفسها معدودة في عداد المجملات ، ولا يكاد يتبيّن منها شيء ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام في خبر حمّاد : « هكذا صلّ » وفي رواية الوضوء : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به » (٣) لا يعلم المشار إليه باسم الإشارة فيهما ؛ لدورانه بين وجوه مختلفة من الامور التي يحتمل مدخليّتها فيه ، مثل الحالات المكتنفة بالإمام عليه‌السلام زمانا ومكانا وغيرهما.

ثمّ إنّه لو علمنا المشار إليه فيهما ، فنعلم إجمالا بأنّ تلك الصلاة كانت مشتملة على أجزاء مسنونة غير متميّزة عن الواجبة عندنا ، فإذا وقع الشكّ في وجوب تلك الأجزاء لا وجه لاستكشاف وجوبها بالرواية ، للعلم بكونها غير باقية على ظاهرها. سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ تلك الأخبار تجعل تلك الألفاظ مبيّنة على وجه يرجع إلى إطلاقها عند الشكّ في اعتبار شيء ؛ ولذا اعترف المعترض بالرجوع إلى

__________________

(١) القوانين ١ : ٥٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٧٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأوّل. وفي « ع » و « م » بدل « حمّاد » : « عمّار ».

(٣) الوسائل ١ : ٣٠٨ ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠.

٦٣

الأصل عند عدم دلالة تطمئنّ بها النفس ، اللهمّ إلاّ أن يريد به أصالة الإطلاق ، وهو كما ترى. وأمّا ظهور اختلاف كلمات العلماء في الأجزاء والشرائط فهو على وجه لا ينبغي إنكاره من المتتبّع. وأمّا توفّر الدواعي فلا نعرف له في المقام مزيّة اختصاص بالنسبة إلى غيره من الأحكام الشرعيّة.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا وجه للتمسّك بالإطلاق في استكشاف المطلوب (١) ؛ لأنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا ، لامتناع تعلّق طلب الشارع بالفاسد ، فكلّ واحد من المذهبين في حدّ واحد من عدم التمسّك بالإطلاق.

بل ربما قيل : بأنّه على القول بالأعم لا يعقل وجه صحّة لذلك ؛ لأنّ الصحّة إذا صارت قيدا للمأمور به فلا بدّ من تحصيل هذا القيد ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء فلا بدّ من الاحتياط ولا يجري البراءة ؛ إذ ليس هناك قدر متيقّن حينئذ ، بخلافه على القول بالصحيح ، فإنّ المكلّف به فيه نفس تلك الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر من دون عنوان ، فيصير الأقلّ قدرا متيقّنا في المكلّف به ، كما قرّر في محلّه (٢).

وفيه : أنّه مغالطة ناشئة عن عدم تعقّل معنى الصحّة في المقام.

وتوضيحه : أنّ قول المعترض : « إنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا » إن أراد به الصحّة المنتزعة من الماهيّة التي تعلّق بها الطلب والأمر قبل تعلّق الطلب بها (٣) فهذا ممّا يجب استكشافه بالإطلاق ، إذ لا سبيل إلى العلم بها بحسب الأسباب الظاهريّة إلاّ به. والسرّ في ذلك : أنّ المتكلّم إذا حاول طلب أمر على وجه من الوجوه فلا بدّ له من إظهار مقصوده على وجه مفيد لمقصوده ، فإذا أمر بعتق رقبة

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ٣٤١ ـ ٣٤٧.

(٣) لم يرد « بها » في « ط ».

٦٤

على وجه الإطلاق وكان في مقام بيان تمام المراد من مطلوبه كان تمام مراده ومطلوبه هو المطلق ، وإلاّ كان عليه بيان مطلوبه على وجه التقييد ، وهذا أمر لا يكاد يختلف فيه من له دراية بأدنى المطالب النظريّة. فعلى هذا يكون المراد بالصحّة هو تماميّة الأجزاء وعدم اعتبار أمر آخر غير المطلق فيه ، واستكشاف ذلك من الإطلاق ممّا لا يدانيه شائبة الريب.

وإن أراد الصحّة المنتزعة من الماهيّة بعد تعلّق الطلب بها فهو محال أن يكون مأمورا به أو عنوانا له ؛ لأنّه من الامور الاعتباريّة المنتزعة من الفعل بواسطة مطابقته في الخارج لعنوان المأمور به.

وهذه المغالطة نظيرة لما غالط به بعض المحدّثين من أصحابنا (١) في التمسّك بعمومات البيع ـ من قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) : من أنّ المراد بالعقود هي الصحيحة ، فالتمسّك بالعموم موقوف على العلم بكون العقد صحيحا ، فإذا اريد استكشاف الصحّة من العموم لزم الدور.

ووجه الدفع : ما أشرنا إليه من أنّ العموم كاشف عن الصحّة بالمعنى المذكور ، بل لا سبيل إليها إلاّ به ظاهرا.

فإن قيل : الفاسد خارج عن العموم قطعا ، والفرد المشكوك يحتمل أن يكون فاسدا ويحتمل أن يكون صحيحا ، فلا وجه للتمسّك بالعام عند الشكّ في دخول الفرد في العنوان المخصّص أو في العام ، كما قرّر في محلّه.

قلنا : ليس الفاسد خارجا عن العموم ، بل ليس الخارج إلاّ فاسدا ، وبعبارة ظاهرة : الفساد ليس عنوانا للأفراد الخارجة ، وإنّما هو وصف اعتباريّ منتزع من

__________________

(١) هو المحدّث البحراني في الحدائق ١٨ : ٣٧٤.

(٢) المائدة : ١.

٦٥

الأفراد بعد اتّصافها بالخروج ، فكونها فاسدة موقوف على خروجها ، والعموم حاكم بدخولها ، فلا يتّصف بالفساد ، بل يجب اتّصافها بالصحّة ، إذ لا معنى للصحّة إلاّ هذا. وقد قرّرنا في محلّه جواز الرجوع بل وجوبه إلى العموم فيما إذا امتنع الوصف جعله عنوانا للعام أو للمخصّص ـ كما في وصفي الصحّة والفساد ـ بل قد يستكشف بالعموم دخول ما يمكن أن يؤخذ عنوانا للمخصّص ، ولكنّه لم يؤخذ ، كما في قولك : « أضف جيراني » مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه بالعموم يستكشف أنّه في جيرانه ليس من هو عدوّه.

وأمّا ما زعمه المعترض : من تقييد المطلوب بالصحيحة فيحصل الشكّ في حصول المكلّف به في الخارج ، فيظهر النظر فيه ممّا ذكرنا.

وتوضيحه : أنّه ناش عن عدم الفرق بين كون الصفة مأخوذة في موضوع الحكم وبين أن يكون لازما مساويا للموضوع ، فعلى الأوّل يجب إحرازه ، وعلى الثاني فما هو الموضوع بحكم اللفظ يلازم وجوده وجود لازمه ، وما ذكرنا بمكان من الظهور.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا إطلاق حتّى يتمسّك به ، ويقرّر ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الخطابات الواردة في الشريعة ـ كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) مثلا ـ غير معلومة المراد حتّى عند المخاطب بها ، ومجرّد علم المخاطب بعدم إرادة المعنى اللغوي لا يوجب البيان. لا يقال : ذلك خطاب بالمجمل. قلنا : لا ضير فيه بعد البيان في محلّ الحاجة. وتكرّر فعل الصلاة منهم في كلّ يوم لا يلازم رفع الإبهام والإجمال من نفس الخطاب ؛ إذ من المعلوم عدم اطّلاعهم على تلك الماهيّة المخترعة قبل الخطاب ، وأمّا بعده في مقام الحاجة إلى العمل فلا يسلّم حصول البيان بالنسبة إلى المفهوم ، فهذه الإطلاقات على القول بالأعم أيضا من المجملات.

__________________

(١) البقرة : ٤٣ و ١١٠ ، والنور : ٥٦ ، والمزّمّل : ٢٠.

٦٦

وفيه : أنّ ذلك في غاية السخافة ؛ فإنّه إمّا أن يقال بعدم البيان ولو في محلّ الحاجة ، أو به عندها ، والأوّل باطل ، والثاني يلازم المطلوب ؛ إذ في محلّ الحاجة لا بدّ وأن يعلم المراد من الخطاب المجمل قبل الخطاب. اللهمّ إلاّ بالقول بالبيان مع عدم التفات المخاطب إلى أنّه بيان لذلك المجمل ، وهو كما ترى.

وبالجملة : فمن المستبعد جدّا ـ لو لم نقل باستحالته ـ إجمال جميع هذه الخطابات المتكثّرة الواردة في ألسنة امناء الشرع من لدن بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زمان الغيبة.

وثانيها : أنّ هذه الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة ـ على وجه لا يشذّ منها إلاّ شاذّ ـ بين أمرين كلّ منهما مانع عن الأخذ بالإطلاق :

فإمّا أن تكون واردة في مقام الإهمال دون البيان.

وإمّا أن تكون واردة في مقام بيان الخواصّ المترتّبة على العبادة المدلول عليها بالإطلاق والآثار المنتهية إليها.

فمن الأوّل : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )(٢) وقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٣) ونحوها ، فإنّ الظاهر عدم ذهاب وهم إلى جواز التمسّك بهذه الإطلاقات الواردة في مقام الإهمال ، كأوامر الطبيب بشرب الدواء الموقوف بيانه على حضور زمان الحاجة.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) البقرة : ٤٣.

٦٧

ومن الثاني : قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ )(١) وقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(٢) و « الصلاة خير موضوع » (٣) فإنّ هذه الإطلاقات نظيرة لما يتلهّج به الوعّاظ في مقام الإيعاد على ترك العبادة وبيان ما يترتّب عليها من الثواب ، فيكون المراد بها ما هو المفروغ كونه تلك العبادة بعد تشخيص مفاهيمها وتعيين أجزائها وشرائطها ، وأين ذلك من ورود المطلق في مقام يمكن التعويل عليه في دفع الشك في جزئية شيء أو شرطيّته ، كما لا يخفى.

وقد يمنع من ذلك ، بل يعدّ دعوى ورود هذه الإطلاقات المتكثّرة في غير مقام البيان مكابرة.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ الاطمئنان بورودها في مقام البيان غير حاصل بعد العلم بعدم ورود جميعها في مقام البيان.

لا يقال : إنّ العلم بورود البعض في مقام البيان كاف في الأخذ بالإطلاق.

لأنّا نقول : لو سلّم ذلك فإنّما هو فيما إذا كان معلوما على وجه التفصيل ، وأمّا إذا علم إجمالا واختلف مفاد تلك الإطلاقات فلا بدّ من الاقتصار على ما هو المتيقّن منها.

ثالثها : أنّ كثرة التقييدات الواردة على تلك المطلقات إنّما أوجبت وهنا في الرجوع إليها عند الشك.

وفيه ـ بعد الإغماض عن اطّراده ـ : أنّ كثرة القيد لو كان كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان فهو راجع إلى الوجه الثاني ، وإن لم يكن كاشفا

__________________

(١) البقرة : ٢٣٨.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

(٣) مستدرك الوسائل ٣ : ٤٣ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٩.

٦٨

عن ذلك فلا مانع من الرجوع إلى الإطلاق وإن بلغ التقييد ما بلغ. نعم ، ورود القيد كاشف عن عدم ورود المطلق في مقام البيان من جهة ذلك القيد خاصّة دفعا للتنافي ، ولا مدخل له بسائر الجهات التي يمكن الأخذ بإطلاق المطلق فيها ، كما لا يخفى.

ورابعها : أنّ هذه الإطلاقات إنّما تكون مقيّدة بالمجمل ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » (١) وقوله : « خذوا عنّي مناسككم » (٢).

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان التقييد بذلك الأمر المجمل معلوما ، وأمّا إذا شكّ في أنّه هل هو قيد له أولا؟ فأصالة الإطلاق مصونة عن المانع. وما نحن فيه من قبيل الثاني ؛ فإنّ قوله : « صلّوا » يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ليكون حكاية عن فعل الملائكة والأنبياء ليلة المعراج ، ويحتمل أن يكون أمرا ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون واجبا ، وأن يكون مستحبّا ، فعلى الأوّل والثالث لا مدخل له بذلك المطلق ، فلا نعلم بكونه مقيّدا حتّى يؤخذ بقاعدة إجمال المقيّد. وكذا قوله : « خذوا عنّي مناسككم » يحتمل الوجهين ، كما هو ظاهر.

لا يقال : إنّ ظاهر الأمر هو الوجوب كما هو قضيّة أصالة الحقيقة ، وبعد ذلك لا بدّ أن يكون مقيّدا ، فيتمّ المطلوب.

لأنّا نقول : إنّ ما ذكرنا إنّما هو على سبيل التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فمن المعلوم وجوب حمل تلك الأوامر على الاستحباب ؛ ضرورة اشتمال صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأجزاء المسنونة ، فيكون الأمر بها نظير الأمر بأفضل أفراد الواجب التخييري الموصوف بالاستحباب قطعا.

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ١٩٨ ، الحديث ٨.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢١٥ ، الحديث ٧٣.

٦٩

وقد يذكر للنزاع ثمرة أخرى (١) ، وهو برء النذر فيما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم وعدمه ، فعلى القول بالأعم لو شاهد مصلّيا وأعطاه درهما تبرأ ذمّته من غير حاجة إلى الفحص عن صحّة صلاته ، وعلى القول بالصحيح لا تبرأ ذمّته بدون الفحص.

وفيه : أنّه إن اريد أنّ مجرّد صدق اسم الصلاة يوجب البرء من دون إحراز الصحّة بوجه شرعي ، فهو مبنيّ على أن يكون مراد الناذر إيجاد صورة الصلاة صحيحة كانت أو فاسدة ، وعلى تقديره فلا فرق فيه بين المذهبين ، غاية الأمر أنّه على الصحيح يكون استعمال اللفظ من عموم المجاز ـ كما لا يخفى ـ ولا ضير فيه بعد ما فرض من أنّ مراد الناذر هو إيجاد الصورة.

وإن اريد أنّه مع الصدق لا بدّ من إحراز الصحّة بواسطة أصالة الصحّة المعمولة في الأفعال ، فلا فرق أيضا بين المذهبين ؛ فإنّ الصحيحي أيضا يحمل الأفعال المشكوك في صحّتها وفسادها على الصحيح الواقعي ، والقول بحملها على الصحّة عند الفاعل ـ بعد فساده في نفسه ـ ممّا لا يجدي في المقام.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ الصحيحي وإن كان يقول بلزوم الحمل على الصحّة ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في البرء ، بل لا بدّ من صدق الصلاة أيضا ، والمفروض أنّ الصحّة الواقعيّة لا تلازم صدق العنوان بحسب الظاهر ، فإنّ حمل الكلام المردّد بين الشتم والسلام على الصحيح لا يوجب صدق عنوان السلام ـ كما قرّر في محلّه ـ إلاّ أنّ ذلك إنّما هو ناش من إجمال لفظ « الصلاة » على القول بالصحيح ، فلا بدّ أن يراد به الأعمال المعهودة التي يعلم وجودها ووجوبها في الخارج ، وإلاّ كان باطلا ، لعدم تعقّل (٢) تعلّق النذر في قصد الناذر

__________________

(١) ذكرها المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٣.

(٢) لم يرد « تعقّل » في « ع ».

٧٠

إلى أمر مجمل غير معيّن. وإمكان الاحتياط لا يجدي في تصحيح إرادة الناذر ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر (١) فساد ثمرة اخرى للنزاع ، وهو : جواز الاقتداء بمن يراه يصلّي بعد العلم بعدالته من دون فحص عن الصحّة ـ حتّى أنّ بعض من لا خبرة له زعم مثل ذلك دليلا على القول بالأعم ، من حيث استقرار السيرة على عدم الفحص ـ وعدمه على القول بالصحيح.

تذنيب :

يختلف الأصل على حسب اختلاف وجوه القول بالصحيح والأعم في المسألة :

فعلى القول بكون المراد من الأعم كون الألفاظ موضوعة للقدر المشترك بين الصحيح والفاسد يدور الأمر بين الاشتراك المعنوي والحقيقة والمجاز ، فإن بني على ترجيح الأوّل تعويلا على الغلبة فهو ، وإلاّ فالواجب التوقّف ؛ لعدم ما يوجب التعيين من الاصول ، ولا متيقّن في البين ؛ لأنّ الصحيح كونه موردا للوضع بخصوصه أو من حيث كونه فردا للقدر المشترك محل تردّد ، فاللازم التوقّف.

وعلى القول بأنّ مورد الوضع هو الصحيح لكن مناط التسمية موجود في الباقي باعتبار الاشتمال على معظم الأجزاء أو دعوى المسامحة في الإطلاق على الفاسدة ، فالأصل يوافق القول بالصحيح ؛ إذ المعلوم حينئذ تعلّق الوضع بالصحيح. وأمّا كون المناط في التسمية هو أمر آخر غير معلوم منفيّ بالأصل ، كما أنّ ثبوت المسامحة موقوف على دليل ، وعند الشكّ فيه ينفى بالأصل. والله الهادي.

__________________

(١) في « ع » زيادة : « وجه ».

٧١
٧٢

هداية في ذكر احتجاج القول بالصحيح

وهو من وجوه :

أحدها ـ وهو المعتمد ـ : قضاء الوجدان الخالي عن شوائب الريب بذلك ؛ فإنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات العرفيّة والعاديّة واستقرائها ، وفرضنا أنفسنا واضعين اللفظ لمعنى مخترع مركّب ، نجد من أنفسنا في مقام الوضع عدم التخطّي عن الوضع لما هو المركّب التام ، فإنّه هو الذي يقتضي حكمة الوضع ـ وهي مساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا والحكم عليها بما هو من لوازمه وآثاره ـ أن يكون موضوعا له.

وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلاّ مسامحة ، تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ، فإنّ الحاجة ماسّة إلى التعبير عن المراتب الناقصة أيضا أحيانا ، وليس من دأبهم أن يضعوا لها بأجمعها أسماء مخصوصة ـ كما هو المتعارف في الأوضاع ـ فتوسّعوا في إطلاق اللفظ الموضوع للتمام على تلك المراتب الناقصة من باب المسامحة والتنزيل ، فليس هناك إلاّ مجاز في أمر عقليّ.

ويرشدك إلى ما ذكرنا ملاحظة استعمال لفظ « الإجماع » في الاصطلاح على الاتّفاق الكاشف عن قول الحجّة ، مع إطباقهم على أنّ المعنى المصطلح عليه عند الخاصّة والعامّة هو اتّفاق جميع الامّة من أرباب الحلّ والعقد ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ الناقص الذي يستعمل فيه اللفظ بعد المسامحة على وجهين :

٧٣

الأوّل : أن يكون الباقي ممّا يترتّب عليه ما يترتّب على التام ، ويوجد فيه الخاصيّة بدون الجزء الفاقد أيضا ، كما عرفت في لفظ « الإجماع » ، فإنّ خاصّية اتّفاق الكلّ موجودة في اتّفاق البعض الكاشف عن قول الحجّة.

والثاني : أن لا يكون كذلك ، بل يزول الخاصّية بزوال الجزء الفاقد ، كما هو قضيّة الجزئيّة غالبا.

فالأوّل في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة ، بحيث لا يلتفتون إلى التسامح في إطلاقه عليه ، فلا حاجة إلى ملاحظة القرينة الصارفة في الاستعمال ؛ ولهذا يتراءى في الأنظار أنّ اللفظ موضوع للقدر المشترك بين القليل والكثير مع أنّه غير معقول ، أو الاشتراك اللفظي ـ كما عرفت مرارا (١) ـ حتّى أنّه لو شكّ في تعيين مراد المتكلّم إذا دار الأمر بين المعنى الأوّل والثاني لا وجه لتعيينه بالأصل. بخلاف القسم الثاني ؛ فإنّ استعمال اللفظ الموضوع للتمام في الناقص لا يكون إلاّ بواسطة التسامح والالتفات إليه ، فهو مجاز عقلي.

فإن قلت : إنّ ما ذكر على تقدير التسليم لا يقضي بأن يكون وضع الشارع لتلك الأسماء مطابقا لما تجده من نفسك في أوضاعك.

قلت : أمّا المنع المستفاد من أوّل الكلام فدفعه موكول إلى الرجوع إلى الوجدان ، وأمّا ما ذكره أخيرا فهو مدفوع بأنّا نقطع بأنّ الشارع لم يسلك في أوضاعه ـ على تقدير ثبوته ـ مسلكا آخر غير ما هو المعهود من أنفسنا في أوضاعنا.

وما ذكرنا ليس استدلالا بالاستحسان في إثبات اللغات ـ كما ربما يتبادر إليه بعض الأوهام ـ بل المحصّل هو : أنّا نجد أنفسنا مقتصرين عند إرادة الوضع لهذه

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٦ و ٥٥.

٧٤

المعاني المختلفة المركّبة على ما هو التمام ، وليس فيه شائبة استحسان ، كما هو ظاهر لمن تدرّب. كما نجد من أنفسنا أنّ العلاقة المصحّحة لاستعمال اللفظ في الناقص هو التنزيل والمسامحة ، دون سائر الروابط والعلائق المجوّزة للتجوّز.

وهذه هي الطريقة المألوفة في استعمال الألفاظ الموضوعة للمقادير والأوزان في مرتبة خاصّة على ما هو زائد عليها أو ناقص عنها بضرب من التنزيل والمسامحة.

الثاني : دعوى تبادر خصوص الصحيحة عند الإطلاق بلا قرينة.

واعترض عليه : بأنّ التمسّك بأمثال ذلك من الأمارات ليس من وظيفة الصحيحي ؛ من جهة ما تقرّر عندهم وقد صرّحوا به : من أنّها امور توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشريعة ، لا يصحّ الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة (١).

وأجاب عنه بعضهم (٢) : بأنّ قضيّة القول بالصحيح هو التوقّف في تعيين الأجزاء والشرائط تفصيلا ، وأمّا تشخيص مفهوم الصلاة إجمالا وبوجه ما ـ كأن يقال : ليس المراد المعنى اللغوي بل المعنى الشرعي ، أو أنّ المراد منه ما جمع الأجزاء والشرائط ـ فلا غبار عليه.

وزاد بعضهم (٣) : بأنّه على المذهبين يصحّ الرجوع إلى العرف ، نظرا إلى أنّ عرف الشارع يستكشف من عرف المتشرّعة ؛ لأنّ الحاصل من عرفهم هو الموروث من الشارع المحفوظ في أيدي تابعيه الواصل من كلّ مرتبة سابقة إلى لاحقتها ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه عليه‌السلام إن صحيحا فصحيحا وإن فاسدا ففاسدا. واختلاف عرف المتشرّعة لا يوجب رفع اليد عنه وعدم الاعتداد به ، لجريانه في العرف العام بعينه ، كما ترى من الاستشكال في حقيقة الغسل (٤) ، فقيل

__________________

(١ ـ ٣) لم نظفر بها.

(٤) انظر مفتاح الكرامة ١ : ١٧١ ـ ١٧٦.

٧٥

بدخول العصر فيما يحتاج إليه كالثياب ، وقيل بدخول الخروج من الماء ، وقيل باشتراط الصبّ ، إلى غير ذلك من موارد اختلاف العرف بحسب اختلاف أنظار المحصّلين.

أقول : لا إشكال في أنّ لفظ « الصلاة » وأمثالها عند القائل بالصحيح تعدّ في عداد الألفاظ المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ولو كان عرف المتشرّعة ، فإنّ ذلك ينافي الإجمال المتّفق عليه عند القائلين بالصحيح. ولا ينافي ذلك العلم بنقله من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يوجب رفع الإجمال.

وأمّا القول بأنّ المتبادر هو تمام الأجزاء فهو في غاية الفساد ؛ فإنّه إن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو هذا المفهوم ـ أعني مفهوم تمام الأجزاء وما يقاربه ـ ففيه ما عرفت فيما تقدّم من محذور لزوم الاشتغال ، مضافا إلى لزوم مرادفة لفظ « الصلاة » مع لفظ « تمام الأجزاء » ، ووجوه فساده غير خفيّة. وإن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو مصداق تمام الأجزاء ، فهو يلازم رفع الإجمال من اللفظ ، كما هو قضيّة دعوى التبادر من اللفظ.

ودعوى العلم بكون الموضوع له للفظ « الصلاة » لا بدّ وأن يكون هو المركّب التامّ الأجزاء بواسطة البرهان ، لا يرتبط بتصوّر ذلك المركّب التام بواسطة اللفظ كما هو قضيّة التبادر ، على ما يظهر لمن تدبّر. ومن هنا تقدر على دفع الجواب عن الاعتراض.

وأمّا ما ذكر في الزيادة فواضح الفساد ؛ لما عرفت من أنّ عرف المتشرّعة في لفظ « الصلاة » ممّا لا يجدي عند القائل بالصحيح ، لأنّه من الألفاظ المجملة عندهم. والفرق بين موارد اختلاف العرف في تشخيص المفهوم ـ كما في لفظ « الغسل » ونحوه ـ وبين موارد الإجمال ظاهر على الأنظار المستقيمة ؛ فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

٧٦

بل قد تقدّم الإشكال في رجوع القائل بالأعم أيضا إلى عرف المتشرّعة ؛ حيث إنّ غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن هو بمنزلته غير عارفين بالماهيّة المخترعة المباينة عن الماهيّة اللغويّة ، فالخطاب المشتمل على وجوب الصلاة إنّما يكون مجملا بالنسبة إليهم. وتكرّر الفعل منهم إنّما يوجب البيان لهم دفعا لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأمّا البيان لنا فهو موقوف على عدم ثبوت تغيير فيه ، والمظنون بل المقطوع ثبوته ، وإلاّ لم يعقل الإجمال على القول بالصحيح ، كما هو المتّفق عليه عندهم.

ثمّ إنّه قد يجاب عن التبادر (١) : بأنّه لا دليل فيه على الوضع ؛ لأنّه ناش عن الغلبة. ويستكشف ذلك من عدم صحّة السلب عن الفاسدة ؛ لجواز تكذيب من أخبر : « بأنّ زيدا لا يصلّي » إذا كانت صلاته فاسدة ، وذلك نظير تبادر الصحيح من المعاملات ، ومن أنّ المتبادر (٢) إنّما هو الفرد الكامل من الصلاة المشتملة على جميع الآداب والمسنونات.

وأنت بعد الإحاطة بما قرّرنا تعرف وجوه الفساد في هذه الكلمات ؛ فإنّ أكثرها غير واقعة (٣) في محلّها ، مضافا إلى أنّ تسليم التبادر ـ و (٤) لو لم يكن ناشئا عن الوضع ـ يوجب هدم ما أسّسه القائل بالأعم من التمسّك بالإطلاقات ، إذ على تقدير الانصراف لا إطلاق في البين.

وقد يجاب عن دعوى التبادر (٥) : بأنّه لو كان المتبادر من لفظ « الصلاة » العمل الصحيح لما جاز لأحد أن يخبر بأنّ « فلانا قد صلّى » إلاّ بعد علمه باستجماعه

__________________

(١) هذا الجواب من هداية المسترشدين ١ : ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) عطف على « من عدم صحّة السلب ».

(٣) في « ع » بدل « واقعة » : « واردة ».

(٤) لم يرد « و» في « ع ».

(٥) هذا الجواب وما يليه من الجواب والاعتراض من السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥.

٧٧

جميع الامور المعتبرة فيها ، كما لا يجوز أن يخبر بأنّ « هذا زيد » إلاّ بعد العلم بكونه زيدا ، والتالي باطل ؛ للاتّفاق على جواز الإخبار ولو مع عدم العلم بالصحّة.

واجيب عنه : بأنّ صحّة الإخبار في المفروض إنّما هو بواسطة إحراز الصحّة بطريق شرعي ، وهو : أصالة الصحّة المعمولة في جميع موارد اشتباه الصحيح بالفاسد.

واعترض عليه : بأنّ التعويل على الأصل المزبور يوجب صحّة الإخبار بأنّ « صلاة زيد صحيحة » وهي ممنوعة ، مضافا إلى أنّ الإخبار ـ بناء على ظاهر الحال ـ مبنيّ على التجوّز ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، لا لما يعتقده المتكلّم (١).

وفيه : أنّ المنع المزبور ـ بعد تسليم الأصل ـ راجع إلى منع المقدّمة المفروض ثبوتها ؛ إذ لا يراد بالصحيحة المخبر عنها إلاّ ما هي حاصلة بواسطة الأصل المذكور المفروض ثبوته بالأدلّة المقرّرة في محلّها ، كما يصحّ الإخبار بطهارة ثوب محكوم بالطهارة بواسطة الاستصحاب. نعم ، قد عرفت أنّ الأصل المذكور لا يجدي في إطلاق لفظ « الصلاة » بواسطة إجمال لا دخل للأصل في ارتفاعه ، كما لا يخفى.

وأمّا ما زعمه من لزوم التجوّز لو كان بناء الإخبار على ظاهر الحال :

فإن أراد منه أنّ الصحّة المعتبرة في المحمول إنّما هي صحّة اعتقاديّة لا واقعيّة ، بمعنى أن يكون لاعتقاد الفاعل أو الحامل مدخل في معنى الصحّة ـ كما هو ظاهر التعليل بقوله : لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ... إلى آخره ـ فعدم استقامته ممّا لا يكاد يخفى ؛ إذ لم نقف على ملازمة بين دخول الاعتقاد في مفهوم الصحّة وبين حملها على الظاهريّة.

وإن أراد منه أنّ لفظ « الصحيح » موضوع لما هو صحيح واقعا ، فاستعماله فيما هو صحيح شرعا ـ كما هو مفاد الأصل المذكور ـ مجاز ، كما أنّ لفظ « الماء » موضوع

__________________

(١) انتهى كلام السيّد المجاهد قدس‌سره.

٧٨

للجسم السيّال الرطب واقعا مثلا ، فلو شكّ في انقلابه حجرا يحكم بكونه ماء شرعا. لكن استعمال لفظ « الماء » فيما شكّ في كونه ماء حقيقة ـ وإن وجب إجراء أحكام الماء عليه بحسب الشرع ـ لا يخلو عن التجوّز ؛ فإنّ جريان أحكام الماء شرعا على أمر لا يوجب إطلاق لفظ « الماء » عليه على وجه الحقيقة.

ففيه أوّلا : منع (١) كون هذه الاستعمالات مجازيّة ، أمّا في صورة الحمل فظاهر ؛ لاحتمال أن يكون التصرّف في النسبة ، كقولك : هذا أسد. وأمّا في صورة الاستعمال ـ كقولك : رأيت طاهرا ورأيت ماء ، إذا كان مستصحب الطهارة والمائيّة ـ فباعتبار الحمل الضمني الملحوظ بين ذات الشيء والوصف العنواني له. نعم ، في قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٢) لا يبعد دعوى المجازيّة لو قلنا بأنّ الطهارة من الموضوعات الواقعيّة من دون ثبوت حقيقة شرعيّة فيها.

وثانيا : أنّه لا وجه للتعليل المذكور في كلامه.

وثالثا : لو سلّمنا المجازيّة ، لكنّه لا ريب في أنّ المخبر عنه في قولك : « صلاة زيد صحيحة » ليس إلاّ هذا المعنى المجازي ، نظير إطلاق « الطهارة » على ما حكم بطهارته شرعا. والتزام التجوّز ممّا لا بدّ منه بعد العلم بعدم صلاحيّة إرادة المعنى الحقيقي ، كما هو ظاهر في المقام لمن تأمّل فيه.

الثالث : صحّة سلب الاسم عن الفاسدة ، كما يشهد به ـ بعد مساعدة العرف والاعتبار ـ طائفة من الأخبار ، كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٣) و « لا صلاة

__________________

(١) في « ط » و « م » إمكان منع.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

٧٩

إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) وغير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ؛ لما تقرّر في محلّه : من ظهور هذه التراكيب في نفي الحقيقة والماهيّة ، فالخبر (٢) المحذوف هو الوجود ، بل ربما نسب إلى المحقّقين (٣) : أنّ « لا » غير محتاجة إلى الخبر ، فيكون العدم المستفاد منه عدما محموليّا (٤) ، وهو أقرب لتسميته بنفي الجنس ؛ حيث إنّ المنفي هو نفس الجنس لا وجوده وإن صحّ الثاني أيضا ، وأولى من حيث الدلالة على المطلوب.

ولا يرد فيه ما أوردنا على التبادر ؛ فإنّ الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض الموارد ، فيعلم بذلك أنّ المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة ذلك المسمّى ، وذلك لا يلازم تعيّنه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح.

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما اورد على الاحتجاج (٥) : بأنّ هذه التراكيب ظاهرة (٦) في نفي الكمال والصفات ، إمّا بدعوى الوضع الثانوي ، وإمّا بملاحظة النظائر والاستقراء في أخوات هذا التركيب ، وإمّا بلزوم الدور ـ فإنّ الحمل على نفي الذات موقوف على كون الصلاة اسما للصحيحة ، فإذا أردنا إثبات كونها اسما للصحيحة بالحمل على نفي الذات بمقتضى الحقيقة القديمة يلزم الدور ـ وإمّا بلزوم التخصيص في أغلب الموارد.

ووجه الاندفاع : حكم العرف بظهور التركيب في نفي الحقيقة ، فلا يصغى إلى دعوى الوضع الثانوي ، ولا إلى ملاحظة النظائر ؛ إذ بعد تسليم أنّ الحكم في النظائر

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب الأوّل من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

(٢) في « ع » : « والخبر ».

(٣) انظر البهجة المرضيّة ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٤) في « م » زيادة : « لا رابطيّا ».

(٥) انظر القوانين ١ : ٤٤ ـ ٤٧.

(٦) في « ع » بدل « ظاهرة » : « منحصرة ».

٨٠