مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

فإن قلت : فعلى ما ذكرت لا وجه لاتّصاف تلك الماهيّة بصفتي الوجوب والاستحباب مطلقا ، إذ المفروض اتّحادها من جميع الوجوه ، فلا يعقل استحبابها ولو في حال عدم كونها مقدّمة للواجب ، لأنّ المصلحة الداعية إلى إيجابها إمّا أن تكون ملزمة أو لا ، فعلى الأوّل يجب وجوبها وعلى الثاني ندبها.

قلت : لا ضير في ذلك في الواجب الغيري ، فإنّ المصلحة الموجودة فيها القاضية بمقدّميّتها للغايات المرتّبة عليها أمر واحد ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف من قبل تلك الغايات ، فإذا كانت واجبة تجب تلك الماهيّة التي تفضي إليها بواسطة وجوبها ، وإن كانت مندوبة تتّصف تلك الماهية بالندب ، إلاّ أنّ حال الوجوب اللازم من وجوب ذيها يمتنع طلبها ندبا ، لكونهما متضادّين باعتبار الفصل ، وإن لوحظ بالقياس إلى جنس الطلب فيمتنع اجتماعهما أيضا ، لامتناع اجتماع الأمثال.

فظهر ممّا قرّرنا : أنّه على تقدير أن يكون تلك الامور المترتّبة على الوضوء وغيره من المقدّمات دواعي للأمر بها لا عناوين لما هو المأمور به في الواقع ـ كما في الغسل ـ لا وجه للقول بصحّة الوضوء فيما إذا لم يكن قاصدا لغاية واجبة وإن كان قاصدا للغاية المندوبة ، لأنّ المأمور به غير المقصود والمقصود غير مأمور به.

هذا على ما هو التحقيق من أنّ تكثّر الغايات من باب الدواعي التي مرجعها إلى جهات تعليليّة لا تورث كثرة فيما علّل بها.

وعلى تقدير القول بأنّ تلك الغايات ممّا يختلف به نفس المعنى على أن يكون عناوين لها ـ كأن يقال : الواجب من الوضوء هو ما يوصل إلى غاية واجبة والمندوب ما يفضي إلى غاية مستحبّة ـ فالمتراءى في جليّ النظر هو الحكم بجواز اجتماع الوجوب والاستحباب معا ، لما عرفت من أنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى.

٣٦١

ولكنّه مع ذلك ممّا لا يتمّ عند دقيق النظر ؛ لأن ذينك العنوانين تارة يكونان متلازمين ، كما في الوضوء للصلاة والوضوء للطواف ، حيث إنّهما ليسا بمتغايرين ، لأنّ الدليل على التغاير في أمثال المقام إنّما هو اختلاف اللوازم والأحكام المترتّبة عليهما شرعا ، كما في غسل الجمعة والجنابة حيث يرتفع بأحدهما الحدث ولا يرتفع بالآخر ، والمفروض اتّحادهما في اللوازم الشرعيّة ، فلا يعقل التفكيك بينهما في مورد ، فهذا الاختلاف في الحقيقة راجع إلى اختلاف مجرّد الحكاية والعنوان مع اتّحاد المحكيّ عنه والمعنون ، وذلك لا يوجب تعدّد الحكم. وتارة يكونان متغايرين بواسطة التقييد المزبور على نحو العموم من وجه ، وهذا هو الذي قلنا : بأنّ الماهيّة على تقدير التخصيص تصير متعدّدة وإذا اجتمعتا في مورد يكون من اجتماع الأمر والنهي ، ففي مورد الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى المذاهب في تلك المسألة ، وفي مورد الافتراق لا إشكال.

وبالجملة ، القول بصحّة الوضوء فيما إذا كان المكلّف مشغولا ذمّته بوضوء واجب مع عدم القصد إلى غايته الواجبة إمّا مبنيّ على عدم لزوم قصد الغير في الواجب الغيري وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ، وإمّا مبنيّ على القول باختلاف الماهيّة بواسطة اختلاف الوجوه التعليليّة والاعتبارات الغائيّة كما عرفت ، وهو من أكاذيب الأوهام ، سواء كان الاختلاف الحاصل بواسطة الغايات اختلافا نوعيّا أو اختلافا شخصيّا ، كما أومأنا إليه آنفا في مثل الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّ أفراده يختلف أحكامها بالحرمة والوجوب ، بتقريب أن يقال : كما أنّ الدخول يختلف حكمه باختلاف القصد ، فكذلك يحتمل اختلاف أحكام أفراد الوضوء باختلاف القصد إلى الغاية المعيّنة ، فعند عدم إرادة الغاية الواجبة مع إرادة الغاية المستحبّة لا ضير في وقوع الوضوء على صفة الوجوب. وهو أيضا فاسد ، لأنّ الدخول في الدار المغصوبة من حيث هو ممّا لا يتعلّق به حكم ، بل إنّما الحكم يتعلّق بأنواعه من الغصب

٣٦٢

والإعانة ونحوهما ، ولا شكّ في أنّ القصد إذا كان محصّلا لعنوان الحسن أو القبح ـ كما في المقام ـ ممّا يختلف باختلاف الماهيّة كما يشاهد بالوجدان ، فلا وجه للقول بالاختلاف بالقصد فيما نحن فيه ، إذ لا شاهد عليه من الوجدان ـ كما يلاحظ في الدخول في الدار المغصوبة ـ ولا من غيره من الأدلّة ، إذ المستفاد منها اتّحاد الحقيقة ، فلا وجه للقول بالصحّة.

نعم ، عندنا وجه وجيه يصحّ التعويل عليه في تصحيح المذهب المشهور ، وهو الفرق بين طريان الوجوب على الاستحباب وبين طريان ما يخالفه جنسا وفصلا ، إذ لا ميز للطلب الوجوبي عن الطلب الاستحبابي إلاّ بما هو ليس خارجا عن حقيقة الطلب ، كما في أمثاله من الأعراض التي يختلف أفرادها باختلاف مراتبها شدّة وضعفا ، فطريان مرتبة شديدة من السواد على المرتبة الضعيفة إنّما يوجب ارتفاع النقص في الضعيف الذي لا مدخل لذلك النقص في حقيقة السواد ، ولا يوجب ارتفاع ما هو المناط في حمل السواد عليها ، بل يؤكّده.

ولا أقول : إنّ الطلب الاستحبابي باق على أنحاء خصوصيّاته ، كيف! وخلافه مشاهد بالوجدان عند عروض حالة طلبيّة أكيدة وحدوث إرادة آمريّة شديدة ، بل أقول : إنّ الطلب المتخصّص بتلك الخصوصيّة الضعيفة بعد حدوث ما يقضي بالمرتبة الشديدة ينقلب إليها ، فما هو المناط في الاستحباب باق ، فيصحّ القصد إليه ، وبه يحصل الامتثال ، ويتفرّع عليه جواز الدخول في سائر الغايات المشروطة بالطهارة. وعلى قياسه نقول في غسل الجنابة بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من الغايات. وأمّا غيرها فالكلام فيه موكول إلى محلّه ، فكن على بصيرة. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

٣٦٣
٣٦٤

هداية

زعم بعض الأجلّة (١) : أنّ المعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتّب الغير عليه ، بحيث لو لم يترتّب عليه يكشف عن عدم وقوعه على صفة الوجوب ، وإذا ترتّب عليه الغير يكشف عن كونه واقعا على صفة الوجوب.

ولعلّه أخذه ممّا احتمله أخوه البارع في تعليقته على المعالم ، حيث جعل ذلك من محتملات كلام المعالم ، فإنّه أفاد بعد ما نقلنا من عبارة المعالم في الهداية السابقة (٢) : وإنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحالة من جهة حصول التوصّل بها عند أداء ما يتوقّف عليها ، دون ما إذا لم يكن مريدا له ولا يتوصّل بها إلى فعله حينئذ (٣) ، انتهى.

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر من كلامه هو توقّف الوجوب على الإرادة.

وعلى التقديرين فلا ريب في فساده ؛ لما عرفت وستعرف أيضا إن شاء الله. والأولى نقل عبارته في المقام فإنّها أوفى بمراده.

قال فيما مهّده من المقال لتوضيح الحال بعد تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري : ثمّ هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتّب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك ، أو يعتبر قصد التوصّل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتّب عليه ، أو يعتبر الأمران ، أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه.

__________________

(١) وهو صاحب الفصول ، كما سيجيء كلامه.

(٢) راجع الصفحة ٣٥٣.

(٣) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٦٥.

٣٦٥

والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه ، دون غيره ؛ لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير. وأمّا القصد فلا يعقل له مدخل في حصول الواجب وإن اعتبر في الامتثال به. ثمّ فرّع على ما أفاده فروعا ، أهمّها تصحيح فعل الضدّ إذا توقّف فعل المأمور به على تركه مع القول بوجوب المقدّمة (١).

وقال في مقام آخر : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدّمة أصلا على تقدير عدمه ؛ فإنّ ذلك متّضح الفساد. كيف! وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه. بل بمعنى أنّ وقوعها على الوجه الواجب المطلوب منوط بحصول الواجب ، حتّى أنّه إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف المطلوبيّة ، لعدم وقوعها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها ، لا من قبيل شرط الوجوب. وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطن له.

قال : والذي يدلّك على هذا أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور. وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية

__________________

(١) الفصول : ٨١.

٣٦٦

عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه. وأيضا حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون معتبرة إذا انفكّت عنه. وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله ، انتهى موضع الحاجة من كلامه (١).

وحاصل مرامه : أنّ المقدّمة باعتبار وجودها في الخارج نوعان : أحدهما ما يترتّب عليها ذوها ، والثاني ما لا يترتّب عليها ما وجبت المقدّمة لأجله ، كما إذا تخلّفت عن ذيها لمانع اختياري أو اضطراري. وما هو مطلوب للآمر إنّما هو النوع الأوّل دون الثاني ؛ إذ لا يعقل طلب شيء من غير ما يدعو إلى طلبه ، والمفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ ذاتها ، فالداعي إلى طلبها إنّما هو ترتّب الغير عليها ، فعند عدم الغير لا داعي إلى طلبها ، لأنّ المفروض أنّه هو الداعي إلى ذلك باعتبار التوصّل بها إليه ، فلو وقعت مجرّدة عنه يكشف عن عدم مطلوبيّتها ، فإنّ انتفاء الغاية المترتّبة على وجود الشيء في الخارج يكشف عن عدم وقوع ذلك الشيء على الوجه المطلوب.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم : أن القول بوجوب قصد الغير في الامتثال بالواجب الغيري يلازم القول باعتبار ترتّب الغير في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب.

وليس على ما توهّم ، إذ لا ملازمة بينهما واقعا :

أمّا في المقدّمات التوصّليّة ـ كغسل الثوب ونحوه ـ فظاهر ، إذ قضيّة القول الأوّل هو الوجوب مطلقا ومقتضى هذا القول هو التنويع ، فما يترتّب عليه الغير يكون مطلوبا ، بخلاف ما لم يترتّب عليه الغير.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

٣٦٧

وأمّا في المقدّمات العباديّة فلا ملازمة أيضا ، إذ مجرّد القصد إلى الغير حال الاشتغال بالمقدّمة يجزي عن وقوعها على وجه الامتثال وإن لم يترتّب عليه فعل الغير لمانع اختيارا أو اضطرارا بناء على المختار. بخلافه على القول المذكور ، فإنّه لم يقع على صفة الوجوب فضلا عن وقوعه على صفة الامتثال عند التخلّف ، فلا ربط بين المقامين ، بل للقائل بأحدهما في أحد المقامين اختيار كلّ من طرفي النفي والإثبات في المقام الآخر. ولعلّ ذلك ظاهر. ومن هنا ترى هذا القائل قد التزم باعتبار القصد في الامتثال بالواجب الغيري مع عدم اعتبار القصد في الوجوب ، كما يظهر من قوله : « وإن اعتبر في الامتثال به » (١).

وكيف كان ، فوضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصوّر ما أفاده فضلا عن التصديق به! ونحن بمعزل عن ذلك بمراحل ؛ فإنّه إمّا قول بوجوب خصوص العلّة التامّة من المقدّمات ويلازمه القول بوجوب الأجزاء التي تركّبت العلّة منها فيؤول إلى ما ذهب إليه المشهور ، وإمّا قول بعدم وجوب المقدّمة.

وكشف الحال في ذكر ما يرد عليها تفصيلا ، فنقول : يرد عليها امور :

أمّا أوّلا : فلأنّه قد مرّ فيما تقدّم (٢) أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على القول به هو العقل ، وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات فيه ، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجها ، إلاّ من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب ، وهذه الحيثيّة هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات وإن اختصّ بعضها بالاستلزام الوجودي أيضا كما في العلّة التامّة مثلا ، فما هو المناط في حكم العقل بوجوب المقدّمة هو الاستلزام العدمي من حيث إنّ لوجودها مدخلا في وجود المعلول ، فملاك الطلب

__________________

(١) الفصول : ٨١.

(٢) في ( ط ) زيادة : مرارا.

٣٦٨

الغيري بالمقدّمة هذه الحيثيّة ، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها ولحوق الأجزاء الأخر من العلّة بها ، فالمصلحة الداعية إلى حكم العقل بالملازمة بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدّماته لا تنفكّ عن ذات المقدّمة ، فيمتنع تجرّدها عن وصف المطلوبيّة وإن تجرّدت عن ترتّب الغير.

وأمّا ما غالط به : من قضاء صريح الواجدان بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه (١) ، فإن أراد من وصف التجريد اعتباره في المطلوب كأن يكون المقدّمة بشرط تجريدها عن ذيها مطلوبة ، فهو حقّ إلاّ أنّه لا يرتبط بما نحن بصدده ، وإلاّ فإن أراد من عدم إرادته عدمها إرادة نفسيّة فهو أيضا مسلّم لكنّه غير مفيد ، إذ لا يعقل إثبات الطلب النفسي للمقدّمة. وإن أراد به عدم الإرادة ولو كانت غيريّة فهو غير سديد ، ضرورة قضاء صريح الوجدان بخلافه. ومن هنا يظهر فساد ما زعمه من جواز التصريح بعدم إرادة المقدّمة الغير الموصلة مع الأمر بذيها.

وأمّا ما أورده في دليل ما صار إليه من قوله : « لما عرفت من أنّ المطلوب فيه هو المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير » (٢) فهو ممّا لا يرجع إلى طائل ، إذ لا يعقل أن يكون الغير في الواجب الغيري قيدا للمطلوب ، إذ لا يراد به إلاّ ما كان الغير قاضيا بوجوبه ، وهذه حيثية تعليليّة لا مدخل للتقييد فيه أصلا ، فالمطلوب في الواجب الغيري ليس مقيّدا ، بل الوجه في مطلوبيّته هو الغير.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

(٢) الفصول : ٨١.

٣٦٩

هذا إن لوحظ التقييد بالنسبة إلى مطلوبيّة الواجب الغيري. وإن لوحظ التقييد بالنسبة إلى ذات المقدّمة كأن يقال : إنّ الوضوء المقيّد بترتّب فعل الصلاة عليه مقدّمة لها لا الوضوء المطلق ، ففساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان ، فإنّ مقدّمة الكون على السطح ليس الصعود المقيّد بالكون ، بل نفس الصعود ، ولا نعقل للتقييد بالكون مدخلا في مقدميّة الصعود له. نعم ، بعد ترتّب الكون على الصعود يعرض التقييد المذكور له ، وأين ذلك من اعتبار التقييد فيما هو مناط توقّفه عليه؟

والحاصل : أنّه إن أراد من قوله : « المطلوب فيه المقيّد » أنّ الوجه في مطلوبيّة الواجب الغيري هو الغير فهو حقّ لا محيص عنه ، إلاّ أنّه بمراحل عن هذه المقالة. وإن أراد بذلك أنّ المطلوبيّة في الواجب الغيري مقيّدة أو ذات الواجب الغيري كونها مقدّمة مقيّدة بالغير ، فقد عرفت فسادهما ، ضرورة أنّ الجهة التعليليّة لا تورث تقييدا وأنّ عروض التقييد إنّما هو بملاحظة الترتّب ، لا أنّ التقييد به مقدّم عليه ويكون ممّا يتوقّف عليه الواجب ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما أورده قبل ذلك بقوله : « لأنّ مطلوبيّة شيء للغير يقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره » (١) ممّا لم يظهر لنا وجه اختصاصه بالمقام.

وأمّا ما أفاده ثانيا (٢) من قوله : « فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لا من قبيل شرط الوجوب » (٣) فهو بظاهره فاسد ، لأنّه إن أراد من « شرط الوجود » كونه شرطا له مع قطع النظر عن الوجوب ـ كأن يكون شرطا لذات الواجب الغيري ـ فهو دور ظاهر. وإن أراد من كونه شرطا له بملاحظة الوجوب ، فيرجع الأمر إلى شرط الوجوب ، وقد اعترف بكونه متّضح الفساد.

__________________

(١) الفصول : ٨١.

(٢) في ( ط ) زيادة : « في بيان مراده ».

(٣) الفصول : ٨٦.

٣٧٠

فإن قلت : مراده من « شرط الوجود » ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب ، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة ، فإنّ شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به ، فكما أنّ الجزء (١) لا تجزئ عمّا هو الواجب منه ما لم يلحقه الأجزاء اللاحقة (٢) ، فكذلك المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتّب عليها الغير ، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة ، لا شرط لوجودها حتّى يدور ، ولا لوجوبها حتّى يكون متّضح الفساد.

قلت : نعم ، ينبغي حمل كلامه على ذلك ، إلاّ أنّه مع ذلك فاسد أيضا ، إذ الأجزاء اللاحقة لا تأثير لها في الأجزاء السابقة ، لأنّ المطلوبيّة القائمة بها ليست مطلوبيّة ذاتية نفسيّة ، بل إنّما هي غيريّة عرضيّة ، حيث إنّها أجزاء للواجب النفسي ، وتلك المطلوبيّة لا تنفكّ عنها وإن لم يلحقها الأجزاء الأخر ، لأنّها قد وقعت على تلك المطلوبية. وما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه.

لا يقال : فيلزم أن يكون العمل صحيحا فيما إذا لحقه الأجزاء الأخر.

لأنّا نقول : العمل المذكور إن لم يكن ممّا اشترط فيه الموالاة والاتّصال ، فلا دليل على بطلان اللازم وإن كانت الملازمة مسلّمة. وإن كان ، فمنع انتفائه فلا ملازمة ، لأنّ بطلانه بواسطة عدم الشرط أو الجزء المعتبر في نفس العمل على وجه يمتنع إعادته ، لانعدامه قبل.

وبالجملة ، فليس الجزء من حيث إنّه مأخوذ جزء للمركّب أظهر حالا من سائر المقدّمات في المقام حتّى يستند إليه ويقاس الغير عليه في توقّف وقوعه على وجه الوجوب على لحوق الأجزاء الأخر به ، على ما عرفت. نعم ، الجزء

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) بدل « الجزء » : الحمد.

(٢) في ( ع ) بدل « اللاحقة » : الأخر.

٣٧١

الملحوظ على وجه لا يخالف الكلّ يتوقّف على لحوق الأجزاء به ، إلاّ أنّه من هذه الجهة ملحوظ على وجه الكلّية ، ولا كلام في حصول الواجب النفسي بحصول جميع أجزائه.

وأمّا قوله : « إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب ... الخ » (١) فإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب والوصول إليه ، حيث إنّه عند عدمها يمتنع صدور الفعل منه ، فغير مفيد وإن كان واقعا في محلّه ، فإنّ ذلك من لوازم ذات المقدّمة من غير ملاحظة شيء آخر. وإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة هو ترتّب الغير عليه فعلا ، فغير سديد ، ضرورة أنّ ترتّب الواجب أمر مغاير للمقدّمة مفهوما ، فلا يمكن أن يكون المطلوب منها ذلك المفهوم المغاير إلاّ بضرب من التأويل ، كأن يكون بينهما ملازمة واقعيّة أو اتّحاد خارجي ، وانتفاء الثاني ظاهر ، ولا ملازمة بين المقدّمة والترتّب (٢) لما هو ظاهر من كثرة موارد التخلّف ، فلا يعقل أن يكون المطلوب من المقدّمة هو التوصّل. نعم ، يصحّ أن يكون التوصّل إلى الواجب وجها لمطلوبيّة المقدّمة ، فإنّ التوصّل ليس أمرا مغايرا للواجب النفسي بحسب الواقع ، فإنّ ذلك طور من أطواره ، كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ الداعي إلى طلب المقدّمة هو الصفة الموجودة في ذاتها مع قطع النظر عن الغير ، وهو كونها بحيث يتمكّن المكلّف معها من إيجاد الفعل ، فإنّه لمّا كان إيجاده بدونها ممتنعا التجأنا إلى اعتبار المطلوبيّة فيها ليتبدّل الامتناع بالإمكان. وقد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّه يمتنع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء موجودا في غيره ، فهذه هي الغاية المترتّبة على وجود المقدّمة ، وعند وجودها يمتنع انتفاؤها.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

(٢) في ( ط ) : المترتّب.

٣٧٢

وأمّا ثانيا (١) : فلأنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يرجع إلى القول بوجوب مطلق المقدّمة في لحاظ الواقع.

وبيانه يحتاج إلى تمهيد ، وهو أن يقال : إذا كان المأمور به مقيّدا بشيء فهناك صورتان :

الاولى : أن لا يكون القيد مغايرا في الوجود للمقيّد ، كما في الفصول اللاحقة للأجناس ، فإنها لا تغايرها في الوجود الخارجي ، وإنّما يمتاز أحدهما عن الآخر بتعمّل من العقل بانتزاع مفهوم مشترك من الحقيقة النوعيّة وما تتميّز تلك الماهيّة ، وهو ظاهر.

الثانية : أن يكون القيد مغايرا في الوجود ، كما إذا أمر المولى بإتيان زيد فجاء مع عمرو ، ونحو ذلك من الامور التي يعتبر لحوقها بالمقيّد مع جواز انفكاكها عنه وجودا.

لا إشكال في أنّ الواجب على الاولى أمر واحد لا يتصوّر انفكاك القيد فيه عن المقيّد ، ولو حاول المكلّف الامتثال به لا وجه للقول بأنّه يجب إيجاد المطلق مقدمة ثمّ إلحاق القيد به ، إذ المفروض وحدة الوجود فيهما ، ولا يعقل التفكيك بين أمرين متّحدين في الوجود بالسبق واللحوق.

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ الواجب على الثانية إيجاد ما يتّصف بالقيد ثمّ إيجاد القيد ليتّصف به المقيّد ، لأنّ المفروض تغايرهما في الوجود ، ومن أراد إيجاد المقيّد على أنّه مقيّد لا مناص له من ذلك.

لا يقال : إنّ المطلوب في المقامين أمر وحدانيّ حاصل من اعتبار انضمام القيد إلى المقيّد ، ولا يفرق في ذلك كون القيد خارجيّا أو ذهنيّا.

__________________

(١) مرّ الإيراد الأوّل في الصفحة ٣٦٨.

٣٧٣

لأنّا نقول : وحدة المطلوب على تقدير التسليم ممّا لا ينافي ما نحن بصدده : من لزوم إيجاد المطلق عند التغاير أوّلا ثمّ اتباعه بإيجاد القيد الموجب لحصول المطلوب. ولعلّ ذلك في الظهور كالنار على رأس المنار.

وبعد التمهيد نقول : إنّ التقييد في المقدّمة الموصلة ليس من قبيل التقييد في الصورة الاولى ، لأنّ ما يصير منشأ لانتزاع صفة الإيصال من المقدّمة أمر مغاير لها في الوجود ، إذ هي لا تكون موصلة إلاّ بعد ترتّب فعل الغير عليها. ولا خفاء في أنّ هذه الحالة توجب انتزاع تلك الصفة منها ، فيكون من قبيل التقييد في الصورة الثانية ، وقد قرّرنا في التمهيد وجوب إيجاد المطلق عند إرادة إيجاد المقيّد فيما إذا كان القيد مغايرا له في الوجود العيني. فالقول بوجوب المقدّمة الموصلة يوجب القول بوجوب المقدّمة مطلقا مقدّمة لما هو الواجب من المقدّمة الموصلة. هذا خلف.

وبوجه آخر نقول : إنّ صفة الإيصال إمّا أن تكون معتبرة في المقدّمة أو لا. لا إشكال (١) على الثاني على ما ذهب إليه المشهور. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ما يوجب انتزاع تلك الصفة منها داخلة في مقدرتنا واختيارنا أو لا. لا كلام أيضا على الثاني ، إذ الأمر الغير الاختياري لا يعقل تعلّق الطلب والتكليف به ، فعلى تقديره يجب وجوب مطلق المقدّمة. وعلى الأوّل فيجب إيجاد تلك الصفة كما يجب إيجاد الموصوف ليصحّ الاتّصاف ، إذ لا منافاة بين وجوب فعل اختياري ووجوب فعل آخر ، ويلزم من ذلك وجوب مطلق المقدّمة مقدّمة لما هو المطلوب من المقيّد. هذا خلف.

فإن قلت : إنّ الواجب من الإتيان بالمطلق فيما إذا وقع على صفة الإيصال أيضا ، فلا يلزم الخلف.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : لا إمكان.

٣٧٤

قلت : ذلك وهم فاسد ، إذ الكلام في الإتيان بالأفعال التي يتعلّق بها الطلب والتكليف وإيجادها في الخارج ، ولا يعقل ذلك إلاّ بإيجاد مطلق المقدّمة ثمّ اتباعه بما يوجب انتزاع تلك الصفة منها ، كما يلاحظ بقياسه إلى الأجزاء في واجب مركّب.

والعجب! أنّ القائل المذكور (١) إنّما تفطّن بذلك في نظير المقام ، حيث إنّ بعض الأفاضل تصدّى لدفع الإشكال الوارد في مسألة الضدّ (٢) : بأنّ النهي التبعي لا ينافي الأمر النفسي ، فأورد عليه : بعدم الفرق في المنافاة بين الأمر والنهي من جهة اختلاف أقسام الأمر والنهي ، لرجوعه إلى اختلاف جهتي الأمر والنهي ، ولا مدخل للمأمور به والمنهيّ عنه في ذلك (٣). إلى أن أورد على نفسه سؤالا حاصله : اختلاف متعلّق الأمر والنهي ، لأنّ المطلوب بالأمر نفس الفعل والمطلوب بالنهي التوصّل بالترك إلى الواجب. فأجاب عن ذلك : بأنّ مطلوبيّة التوصّل توجب مطلوبيّة نفس المقدّمة ؛ لأنّها مقدّمة له ، قال : ولا سبيل إلى أن يجعل المطلوب حينئذ التوصّل إلى التوصّل دون نفس المقدّمة ، للزوم التسلسل ؛ ومع ذلك لا يجدي ؛ لأنّ التوصّلات الغير المتناهية إذا اخذت بأسرها كانت مستندة إلى نفس المقدّمة ، فيلزم مطلوبيّتها لها ، انتهى (٤).

وهو جيّد ، لرجوعه إلى ما ذكرنا : من أنّ إيجاد المقيّد يحتاج إلى إيجاد المطلق مقدّمة.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يلاحظ الإيصال في المقدّمة الموصلة في

__________________

(١) أي صاحب الفصول.

(٢) وهو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٠٢ و ١١٤.

(٣) الفصول : ٩٥.

(٤) الفصول : ٩٦.

٣٧٥

مفروض السؤال بالنسبة إلى الواجب وبين أن يلاحظ بالنسبة إلى المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ الإيصال إلى الإيصال إنّما يلاحظ بالنسبة إلى ذات الواجب ، كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلقضاء صريح الواجدان والعرف بخلافه ، ضرورة سقوط الطلب المتعلّق بالمقدّمة بعد وجودها من غير انتظار حالة هي ترتّب ذيها عليها ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يحكم حكما ضروريّا لا يدخله شبهة ولا يمازجه ريبة بالفرق في الحالة الطلبيّة النفسانيّة بين المقدّمات المأتيّ بها وبين غيرها من المقدّمات المعدومة ، لسقوط الطلب المتعلّق بالاولى وبقائه في الثانية ، ولو لا أنّ لوجودها في حيال ذاتها مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها مدخلا في المطلوبيّة لم يعقل الفرق بينها وبين غيرها في السقوط والبقاء. وذلك مشاهد عند المجانب عن الاعتساف ، المتّصف بأحسن الأوصاف.

فإن قلت : إنّ ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المقدّمات مطلوبات غيريّة في حيال ذواتها وحدود أنفسها ، فإنّه يمكن القول بوجود الواجب الغيري على ذلك التقدير بدون وجود الواجب النفسي في الخارج. وأمّا بناء على أنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمات ليس طلبا برأسه بل الموجود منه هو طلب واحد فإن قيس إلى نفس الواجب يكون طلبا نفسيّا وإن قيس إلى ما يتوقّف عليه وجود الواجب من المقدّمات يكون طلبا غيريّا ، فلا يتّجه ذلك ، ضرورة أنّ المطلوب حينئذ ليس ذات المقدّمة بل المطلوب هو الإيصال بها إليها ، ومرجعه في الحقيقة إلى طلب الوصول ، ومرجعه إلى طلب الفعل الواجب ، وعلى هذا التقدير فلا وجه لسقوط الطلب من المقدّمة على تقدير عدم وجود ذيها.

قلت : وذلك خروج عمّا هو المفروض من وجوب المقدّمة ، لرجوعه إلى القول بعدم وجوب المقدّمة ، إذ الطلب الواحد ممّا لا يعقل أن يتعلّق بمطلوبين مع اختلاف مراتبه بالنفسيّة والغيريّة. وستطّلع على زيادة تحقيق فيما سيجيء.

٣٧٦

تذنيب :

قد عرفت أنّ من أهمّ الدواعي إلى إخراج هذه المقالة الفاسدة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الضدّ ، ولم يظهر صحّة الابتناء أيضا ، بناء على ما أفاده (١) في وجه التفريع على اختلاف تقاريرها.

وتوضيح المقام : أنّ القائل بفساد العبادة فيما إذا توقّف على تركها فعل المأمور به ، استند إلى وجوه ، مرجعها إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو الفعل ؛ لأنّ المفروض وجوب الفعل ، وحيث إنّ الترك ممّا يتوقّف عليه فعل الواجب ، فيلزم أن يكون واجبا ويكون الفعل منهيّا عنه ، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام قطعا ، فيلزم فساد الفعل بواسطة النهي اللازم من وجوب الترك.

والقائل المذكور (٢) قد حاول دفع هذا الإشكال بقوله : إنّ الطلب بكلا نوعيه من الإيجابي والتحريمي يستلزم مبغوضيّة نقيض مورده ـ كالرجحان والمرجوحيّة ؛ لأنّهما من الصفات المتضايفة التي يلازم وجود إحداهما وجود الاخرى تحقيقا للتضايف ـ فمطلوبيّة فعل مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة تركه على حسب مطلوبيّته إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المطلق المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة الفعل على حسبه إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المقيّد المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد يستلزم مبغوضيّة ترك هذا الترك المقيّد ؛ لمكان المناقضة ، دون الفعل لعدم مناقضته معه من حيث ارتفاعهما في الترك المجرّد عن [ القيد ](٣).

لا يقال : ترك الترك المقيّد أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، وحرمة العامّ تستلزم

__________________

(١ و ٢) أي صاحب الفصول.

(٣) أثبتناه من المصدر ، وفي النسخ : الضدّ.

٣٧٧

حرمة الخاصّ. لأنّا نقول : العموم بحسب الوجود لا يستلزم ذلك ، وبحسب الصدق ممنوع (١). انتهى عبارته باختلاف يسير.

وتوضيح ما أفاده في بيان عدم الفساد هو : أنّ المأمور به هو الفعل مطلقا ، وليس منهيّا عنه ؛ لأنّه ليس نقيضا لما هو المأمور به وهو الترك المقيّد. ولا فردا من أفراد ما هو النقيض ؛ لأنّ اقتران الفعل مع ترك الترك المقيّد اقتران اتّفاقي ، كما أنّ ترك الحرام يقارن فعل الواجب أو المباح بالمقارنة الاتّفاقيّة ، فلا نهي ولا فساد.

وفيه : أوّلا : أنّ تفريع هذه الثمرة على ما ذكر لا يحتاج إلى توسيط هذه المقدّمات ، إذ يكفي في ترتّب الثمرة أن يقال : إنّ الواجب من الترك ليس الترك مطلقا ، بل فيما إذا ترتّب عليه الفعل ، وحيث إنّه مع وجود الضدّ لا يعقل وجود الفعل المأمور به ، فلا يكون الترك مطلوبا ، لعدم ترتّب الغير على المقدّمة ، وحيث لم يكن الترك مطلوبا فلا يكون الفعل منهيّا عنه فلا يكون فاسدا ، فلا حاجة إلى ملاحظة مناقضة الترك المقيّد للفعل على ما بحسبه. مع أنّ استفادة حرمة الصلاة من وجوب الإزالة عند القائل باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه الخاص يمكن أن تكون مستندة إلى دعوى ضرورة العقل بأنّ قضيّة إيجاب شيء حرمة موانعه مطلقا ، فعند وجوب الإزالة يكون الصلاة المانعة منهيّا عنها محرّمة ، فلا يتّجه التفصيل بين المقدّمة الموصلة وغيرها في خصوص الموانع وإن قلنا بتماميّة ذلك في سائر المقدّمات. والفرق بين الموانع وغيرها يظهر بالتأمّل في مواردهما عرفا.

وثانيا : أنّ حرمة ترك الترك المقيّد يكفي في حرمة الفعل ، لكونه من لوازم نقيضه. وبيان ذلك : أنّهم قالوا بأنّ الإيجاب يناقض السلب مع اتّفاقهم على أنّ نقيض الشيء هو رفع ذلك الشيء على وجه السلب لا على وجه العدول ، كما قرّر في

__________________

(١) الفصول : ٩٨.

٣٧٨

محلّه. ومن المعلوم أنّ رفع السلب إنّما هو سلب السلب لا الإيجاب للإيجاب (١). وأمّا الإيجاب فهو يلازم ما هو المحكيّ عنه فيما هو النقيض حقيقة ، كما يلاحظ ذلك في العدم وعدم العدم ، فإنّه ليس هو الوجود ، كيف! وهو مفهوم عدمي ، ولا يمكن أن يكون الوجود عدما ولو مفهوما ، كما هو ظاهر. فمناقضة الإيجاب للسلب سواء لوحظ ذلك في الوجود الربطي النسبي ـ كما في القضايا ـ أو في الوجود المحمولي الأصلي ـ كما في المفردات ـ إنّما هو بواسطة ملازمة بين ما هو المحكيّ عنه بتلك الحكايات من الإيجاب وسلب السلب والوجود وعدم العدم.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك ، وهو أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلقا ، كما قرّر في محلّه. فيكون الفعل لازما لما هو من أفراد النقيض. وهذا يكفي في إثبات الحرمة وإلاّ لم يكن الفعل المطلق محرّما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ، لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضا للترك ، لأنّه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه ، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقا وليس عينه ، كما هو ظاهر عند التأمّل. فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام.

قوله : الأعمّيّة بحسب الصدق ممنوع. قلنا : لا حاجة في إثبات الحرمة إلى ذلك ، كما عرفت في الفعل المطلق بالنسبة إلى الترك المطلق من غير فرق ، غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط. وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.

هذا بناء على ما زعمه من أنّ الترك المجرّد من أفراد ترك الترك المقيّد ، وإلاّ فالتحقيق فيه سيجيء في بعض المباحث الآتية. والله الموفّق والهادي.

__________________

(١) الظاهر زيادة : « للإيجاب ». ولم يرد في ( ع ) و ( م ) : « لا الإيجاب ».

٣٧٩
٣٨٠