مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٤

وعاد الى القصر في السفرة الأولى خاصة [١] ، دون الثانية ،

______________________________________________________

المراد أنه يقصر في سفره من البلد الذي يذهب اليه ويقيم عشرة ، لا من سفره اليه ، كما قد يشهد به : ظهورها في أن المقابلة بين الصدر والذيل من جهة الاختلاف بينهما في الإقامة خمسة وعشرة لا غير. وبه أيضا يتضح المراد من المتن الذي رواه الصدوق. فيكون ما ذكره الأصحاب : ـ من أن إقامة المكاري عشرة في بلده أو غيره موجبة لتقصيره في سفره عنه ـ مستفاداً من مجموع النصوص المذكورة. واشتماله على ما هو متروك الظاهر لا يقدح في الحجية.

[١] كما عن السرائر ، والمدارك ، والرياض ، وعن المهذب البارع والذخيرة : الميل اليه ، ونسب الى المحقق مذاكرة ، وإلى السيد عميد الدين. اقتصاراً فيما دل على القصر على المتيقن ، وهو السفرة الأولى ، والرجوع في غيره الى عموم وجوب التمام. وعن الشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم : العود الى التمام في الثالثة ، لزوال الاسم بالإقامة ، فيكون حاله كالمبتدئ. ولأنه مقتضى صحيح هشام المتقدم ، المعتبر للاختلاف مع عدم المقام ، إذ لا يصدق ذلك إلا في الثالثة (١).

وفيه : المنع من زوال الاسم. ومجرد وجوب القصر لا يدل عليه. والعرف أقوى شاهد عليه. مع أنك عرفت عدم اعتبار التعدد في المبتدئ وأما الصحيح فقد عرفت إشكال الاستدلال به في المبتدئ. فراجع. فلا مجال لرفع اليد عن عموم ما دل على وجوب التمام لمن كان عمله السفر.

بل الظاهر إن أدلة الترخص للمقيم عشرة ممن عمله السفر بنفسها كافية في وجوب التمام ، لأنها ـ كما تضمنت وجوب القصر بشرط الإقامة عشرة ـ تضمنت وجوب التمام بشرط عدم الإقامة عشرة ، فكل سفر عن الإقامة‌

__________________

(١) راجع المسألة : ٤٦ من هذا الفصل.

٨١

فضلا عن الثالثة [١]. وإن كان الأحوط الجمع فيهما. ولا فرق في الحكم المزبور بين المكاري ، والملاح ، والساعي ، وغيرهم ممن عمله السفر [٢]. أما إذا أقام أقل من عشرة أيام‌

______________________________________________________

المذكورة يوجب القصر ، وكل سفر لا يكون عنها يوجب التمام. ولو لا ذلك لأشكل الرجوع الى عموم وجوب التمام في السفر الثالث ، لأن دليل القصر بعد الإقامة عشرة من قبيل الخاص ، المقدم إطلاقه لو كان على دليل العام فيؤخذ به في السفرين الأولين ، ويرجع في الثالث إلى الإجماع على وجوب التمام.

وأما البناء على التمام في السفرة الثانية ، لاستصحاب وجوب التمام الثابت قبل الخروج فهو ـ مع أنه لا مجال له فيما لو كان السفر الثاني بعد إقامة دون العشرة في غير وطنه ، لأن حكمه القصر حال الإقامة المذكورة ، فهو المستصحب لا التمام ـ إنما يتم لو لم يكن معارضاً باستصحاب تعليقي ، وهو استصحاب وجوب القصر على تقدير السفر ، لأنه كان حين الإقامة عشرة محكوماً بذلك.

وأما الإشكال على استصحاب التمام : بأنه من قبيل القسم الثالث ، لأن التمام في الوطن لأنه حاضر ، وفي السفر لأنه عمله ، واختلاف العلل يوجب اختلاف المعلول ، فالمتيقن معلوم الارتفاع ، والمشكوك محتمل الحدوث ففيه : أن عملية السفر ليس علة حقيقية للحكم بالتمام ، في قبال علة الحضور في الوطن ، بل الظاهر أن التمام في المقامين بمناط واحد ، وهو عدم السفر الاتفاقي. فلاحظ.

[١] كذا في نجاة العباد. وظاهره كون الثالثة محل الخلاف كالثانية وأن التقصير فيها مبني على وجوب التقصير فيها للمبتدئ ، وأن الإقامة عشرة موجبة لكونه مبتدئاً. وقد عرفت الإشكال في كل منهما. هذا وقد ادعى بعض : الإجماع على وجوب التمام في الثالثة ، ولعله ظاهر غيره أيضاً. ولكنه غير ظاهر. فراجع ، وتأمل.

[٢] كما هو المشهور ، بل في الجواهر : « بلا خلاف أجده فيه »

٨٢

بقي على التمام [١]. وإن كان الأحوط مع إقامة الخمسة الجمع [٢] ولا فرق في الإقامة في بلده عشرة بين أن تكون منوية‌

______________________________________________________

وفي الرياض : « اتفقت الفتاوى بعدم الفرق ». والمحقق وإن حكى في الشرائع وغيرها قولا بالاختصاص بالمكاري ، إلا أنه لم يعرف قائله ، كما اعترف به جماعة. وإن كان هو مقتضى الجمود على مورد النصوص ، لاختصاصه به. لكن لا يبعد التعدي إلى سائر من عمله السفر ، بأن يكون دليل الإقامة عشرة كاشفاً عن أن المراد بعملية السفر ـ التي جعلت علة للحكم في جميعها ـ الاشتغال بعمل السفر على نحو تنافيه الإقامة المذكورة ، على ما هو المتعارف ، فيكون في الجميع بمعنى واحد ، فان ذلك أقرب عرفاً من تقييد التعليل في خصوص المكاري بعدم الإقامة. فيكون المقام نظير موارد الدوران بين التخصيص والتخصص.

[١] لعموم نصوص التمام عليهم ، وخصوص نصوص الإقامة عشرة الدالة على التمام بدونها.

[٢] لما عن الإسكافي : من أنها بحكم العشرة. ولم يعرف مستنده. نعم عن المبسوط ، والنهاية ، والوسيلة ـ بل نسب الى الشيخ واتباعه ـ : التقصير في صلاته نهاراً ، والإتمام في صومه وفي صلاته ليلا. ويشهد له حديث ابن سنان المتقدم (١). لكن قال في محكي السرائر : « لا يجوز العمل به بلا خلاف ، لأن الإجماع على خلافه بلا خلاف ». وعن غاية المراد وغيرها : أنه متروك الظاهر. مضافاً الى دلالته على الاكتفاء في ذلك بالأقل من خمسة ، الذي لم ينقل عن أحد أصلا. وإلى إمكان دعوى معارضته بخبر يونس المتقدم‌ ، الواجب ترجيحه عليه. فلاحظ. وحينئذ فلا مجال للعمل به.

__________________

(١) راجع أوائل الكلام في هذه المسألة.

٨٣

أولا [١] ، بل وكذا في غير بلده أيضاً [٢] ، فمجرد البقاء عشرة يوجب العود الى القصر. ولكن الأحوط ـ مع الإقامة في غير بلده بلا نية ـ الجمع في السفر الأول بين القصر والتمام.

( مسألة ٥٠ ) : إذا لم يكن شغله وعمله السفر ، لكن عرض له عارض فسافر أسفاراً عديدة ، لا يلحقه حكم وجوب التمام [٣] ، سواء كان كل سفرة بعد سابقها اتفاقياً ، أو كان‌

______________________________________________________

[١] كما صرح به غير واحد ، بل يظهر منهم الاتفاق عليه. نعم عن النجيبية : اعتبار النية. لكن قال في مفتاح الكرامة : « لم أجد له موافقاً ». ويدل عليه إطلاق النص ، ومعاقد الإجماعات.

[٢] كما يقتضيه إطلاق النص. لكن المحكي عن الروض والعلامة المجلسي : الإجماع على اعتبار النية ، وهو ظاهر محكي الذخيرة. وسوق البلد وغيره بمساق واحد ، لا يأبى التفكيك بينهما في اعتبار النية في الثاني وعدمه في الأول ، لإمكان كون المراد من النصوص أن يخرج عن حكم السفر عشرة أيام ، وهو حاصل في البلد بلا نية ، وفي غيرها معها. إلا أن الشأن كله في ثبوت الإجماع المذكور ، لإهمال جمع كثير لذكر غير بلده ، بل لا يعرف من تعرض له إلى زمان المحقق في النافع. وهو فيه وإن ذكره لم يتعرض لذكر النية ، والعلامة في جملة من كتبه أهمله ، وفي التبصرة ذكره ولم يشترط فيه النية. نعم في القواعد ذكره واشترط فيه النية ، وتبعه عليه الجماعة. ومع هذا الإهمال والإطلاق لا يبقى وثوق بنقل الإجماع على نحو يعتمد عليه في تقييد إطلاق النص. فالعمل على الإطلاق متعين. ولا سيما أن النية لا دخل لها في منافاة الإقامة عشرة لعملية السفر أصلا. فلاحظ.

[٣] لانتفاء العلة التي يدور الحكم مدارها ، وهي عملية السفر ، على‌

٨٤

من الأول قاصداً لأسفار عديدة. فلو كان له طعام أو شي‌ء آخر في بعض مزارعه ، أو بعض القرى ، وأراد أن يجلبه الى البلد ، فسافر ثلاث مرات أو أزيد ، بدوابه أو بدواب الغير لا يجب عليه التمام [١]. وكذا إذا أراد أن ينتقل من مكان إلى مكان فاحتاج إلى إسفار متعددة في حمل أثقاله وأحماله.

( مسألة ٥١ ) : لا يعتبر فيمن شغله السفر اتحاد كيفيات وخصوصيات أسفاره ، من حيث الطول والقصر ، ومن حيث الحمولة ، ومن حيث نوع الشغل. فلو كان يسافر إلى الأمكنة القريبة ، فسافر إلى البعيدة ، أو كانت دوابه الحمير فبدل بالبغال أو الجمال ، أو كان مكارياً فصار ملاحاً ـ أو بالعكس ـ يلحقه الحكم [٢] ، وإن أعرض عن أحد النوعين إلى الآخر ، أو لفق من النوعين. نعم لو كان شغله المكاراة ، فاتفق أنه ركب السفينة للزيارة ـ أو بالعكس ـ قصر ، لأنه سفر في‌

______________________________________________________

ما عرفت من لزوم صدق أنه لا مقر له إلا منازل السفر المتناوبة. وذلك لا يحصل إلا بالعزم على المزاولة مدة طويلة ، ولا يحصل ذلك بمجرد المزاولة من دون عزم على الاستمرار.

[١] لعدم صدق كون السفر عملا له ، لأن صدق العملية دائر عرفاً مدار اتخاذه حرفة وصنعة ، كما صرح به في المستند وغيره ، وهو غير حاصل في الفرضين.

[٢] لصدق كونه مسافراً سفراً هو عمله ، على النحو الذي كان سفره السابق عليه. ومجرد اختلاف السفرين في الخصوصيات ، لا يوجب اختلافهما في صدق العمل عليهما بنحو واحد.

٨٥

غير عمله [١] ، بخلاف ما ذكرنا أولا ، فإنه مشتغل بعمل السفر ، غاية الأمر أنه تبدل خصوصية الشغل إلى خصوصية أخرى. فالمناط هو الاشتغال بالسفر وإن اختلف نوعه.

( مسألة ٥٢ ) : السائح في الأرض ، الذي لم يتخذ وطناً منها يتم [٢]. والأحوط الجمع.

( مسألة ٥٣ ) : الراعي الذي ليس له مكان مخصوص يتم [٣].

( مسألة ٥٤ ) : التاجر الذي يدور في تجارته يتم [٤].

( مسألة ٥٥ ) : من سافر معرضاً عن وطنه ، لكنه لم يتخذ وطناً غيره يقصر [٥].

______________________________________________________

[١] بل يأتي به بداع آخر ، كغيره ممن لا يكون السفر عملا له. لكن عرفت الاشكال فيه في المسألة الخامسة والأربعين.

[٢] كذا في نجاة العباد أيضاً. وكأنه لأن السفر يختص بمن كان له حضر ، والسائح لا حضر له ولا سفر ، كي يثبت له حكم المسافر. أو لأنه نظير الأعراب الذين بيوتهم معهم. ولا سيما إذا كان قد اتخذ بيتاً معه ، لا أنه يتخذ له في كل منزل بيتاً.

[٣] بلا إشكال ظاهر. ويدل عليه صحيح زرارة (١) وموثق السكوني (٢) ، ومرفوع ابن أبي عمير (٣) حيث عد فيها ممن يجب عليه التمام في السفر ، معللا في الأول والأخير : بأن السفر عملهم. ولأجله قيده في المتن بما ذكر.

[٤] بلا إشكال ظاهر أيضاً. ويدل عليه موثق السكوني.

[٥] لعموم وجوب القصر على المسافر ، مع عدم دخوله فيمن بيته‌

__________________

(١) تقدم ذلك في السابع من شرائط وجوب القصر.

(٢) تقدم ذلك في المسألة : ٣١ من هذا الفصل.

(٣) تقدم ذلك في السابع من شروط القصر.

٨٦

( مسألة ٥٦ ) : من كان في أرض واسعة قد اتخذها مقراً ، إلا أنه كل سنة مثلا في مكان منها ، يقصر إذا سافر عن مقر سنته [١].

( مسألة ٥٧ ) : إذا شك في أنه أقام في منزله أو بلد آخر عشرة أيام أو أقل بقي على التمام [٢].

______________________________________________________

معه ، ولا فيمن عمله السفر. نعم إذا كان بانياً على عدم التوطن في مكان بعينه ، فإنه يمكن أن يكون داخلا فيمن بيته معه ، لأن منازل سفره في نظره كمنزل وطنه ، فيكون نظير السائح. بل يمكن القول بوجوب التمام عليه وإن كان متردداً في التوطن وعدمه ، لاختصاص أدلة الترخص بغيره ممن كان له وطن يسافر عنه ويرجع إليه. فتأمل جيداً.

[١] لأنه يكون ذا أوطان متعددة بتعدد السنين ، فاذا سافر عن مقر سنته فقد سافر عن وطنه. ولا إشكال حينئذ في وجوب القصر عليه إذا صدق أن له وطناً ، لكن الإشكال في صدق الوطن بمجرد القصد ، لاعتبار الدوام في التوطن ، ولا يكفي توطن سنة في صدقه ، كما سيأتي.

والأولى إلحاقه بالأعراب الذين بيوتهم معهم ، فان كانوا في بيوتهم أتموا ، وإذا فارقوها قصروا.

[٢] هذا ظاهر ، بناء على أن الإقامة عشرة إنما أوجبت القصر لارتفاع موضوع عملية السفر ، إذ الشك حينئذ يرجع الى الشك في بقاء عملية السفر وارتفاعها ، فتستصحب. وكذا لو كان عدم الإقامة عشرة قيداً شرعياً لوجوب التمام على المكاري ، إذا كان الشك في أول الإقامة ، مع العلم بآخرها كما لو علم أنه خرج يوم الجمعة من البلد ، وشك في أنه دخله قبل تسعة أيام أو عشرة ، إذ لا مجال لاستصحاب الإقامة حينئذ ، إذ الأصل عدمها. أما إذا كان الشك في آخرها ، كما لو علم أنه دخل البلد يوم الجمعة ، وشك‌

٨٧

الثامن : الوصول الى حد الترخص [١] ، وهو المكان‌

______________________________________________________

في أنه خرج منه بعد تسعة أو عشرة ، كما لو كان في يوم الاثنين مسافراً ، وشك في أنه خرج اليوم أو أمس ، فقد يشكل الحكم بوجوب التمام عليه حينئذ ، لإمكان استصحاب الإقامة في اليوم العاشر ، فيثبت به موضوع القصر ، وهو تمام العشرة ، لأن الموضوع يكون مجموع الاقامات المتصلة في الأيام العشرة ، فإذا أحرز منها تسعة بالعلم ، والعاشر بالأصل ، يكون من قبيل الموضوع المركب المحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ، فيترتب عليه الأثر.

اللهم إلا أن يقال : إنما يجري الاستصحاب لو كان موضوع الأثر الوجود الباقي الى العشرة. أما لو كان الوجود المستغرق للعشرة ، أو المساوي أمده للعشرة ، فلا يمكن إثباته باستصحاب بقاء الإقامة إلى العشرة ، إلا بناء على الأصل المثبت ، لملازمة هذا المفهوم للبقاء إلى نهاية العشرة ، كما تقدم نظيره في أقل الحيض ثلاثة. نعم لو شك حين الخروج أن اليوم الأحد أو يوم الاثنين ، فلا ينبغي التأمل في الرجوع إلى أصالة عدم المقام عشرة كالصورة الأولى. ولا مجال للرجوع الى استصحاب البقاء ، إذ لا شك بالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية. فتأمل جيداً.

[١] على المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً ، كما عن الذكرى ، بل عن الخلاف : الإجماع عليه. وعن علي بن بابويه : التقصير بمجرد الخروج من المنزل. ويوافقه مرسل ولده عن أبي عبد الله (ع) : « إذا خرجت من منزلك فقصر إلى أن تعود اليه » (١) ‌وقريب منه غيره. لكنه لا يصلح لمعارضة ما يأتي ، فيتعين حمله عليه إن أمكن.

__________________

(١) الوسائل باب : ٧ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٥.

٨٨

الذي يتوارى عنه جدران بيوت البلد ، ويخفى عنه أذانه [١]. ويكفي تحقق أحدهما ، مع عدم العلم بعدم تحقق الآخر.

______________________________________________________

[١] كما عن المشهور ، أو بين المتأخرين ، أو أكثر المتأخرين ، أو الأظهر بينهم ، أو أكثر علمائنا ، أو نحو ذلك من عبارات النسبة. وعن أكثر المتقدمين : اعتبار أحد الأمرين ، بل نسب الى المشهور تارة ، وإلى الأكثر أخرى. وعن التنقيح : الاقتصار على الأول. ونحوه ما عن المقنع : من الاقتصار على التواري من البيوت. وعن المفيد والتقي وسلار والحلي : الاقتصار على خفاء الأذان.

ومنشأ الاختلاف المذكور اختلاف الأخبار ، إذ هي بين ما يشير إلى الأول ، كصحيح ابن مسلم : « قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يريد السفر فيخرج ، متى يقصر؟ قال (ع) : إذا توارى عن البيوت » (١) ‌وبين ما يدل على الثاني ، كصحيح ابن سنان عنه (ع) : « عن التقصير قال (ع) : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم. وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر. وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك » (٢) وصحيح حماد بن عثمان المروي عن المحاسن عنه (ع) : « إذا سمع الأذان أتم المسافر » (٣) ‌وما تقدم في خبر إسحاق بن عمار : « أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ » (٤) فمبنى القول الأول المذكور في المتن : تقييد منطوق إحدى الطائفتين بالآخر. ومبنى الثاني : إما تقييد مفهوم إحدى الطائفتين بمنطوق الأخرى‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٦ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٧.

(٤) الوسائل باب : ٣ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١١.

٨٩

______________________________________________________

أو رفع اليد عن المفهوم فيهما بالمرة ، أو رفع اليد عن خصوصية الشرط في كل منهما وجعل الموضوع هو الجامع بينهما ، أو البناء على التعارض فيكون الحكم التخيير ، بناء على أنه تخيير في المسألة الفرعية. ومبنى الأخيرين التعارض ، والترجيح ، إما للأولى ، أو للأخيرة.

هذا ولا يخفى أن ما ذكر ـ على تقدير تماميته في نفسه ـ إنما يصح لو كان خفاء الأذان أو البيوت ملحوظاً موضوعاً لجواز التقصير. أما إذا لوحظ معرفاً للمقدار الخاص من البعد ـ يعني : أن يبعد الإنسان إلى حد لا يسمع فيه الأذان لو كان ، ويتوارى عن البيوت لو كانت ، وإن لم يكن أذان ولا بيوت فلا مجال لهذا الخلاف. لأن التقديرين إن كانا متساويين كان أحدهما عين الآخر ، والاختلاف يكون في المفهوم الملازم ، نظير التقدير بثمانية فراسخ ومسيرة يوم ، فلا معنى للاكتفاء بأحدهما تعييناً ، أو تخييراً ، أو اعتبار الانضمام. وان كانا مختلفين ، فحيث يمتنع التقدير بالأقل والأكثر معاً ، وجب إعمال قواعد التعارض ، من الترجيح أو التخيير.

نعم هنا احتمال آخر ، وهو أن يكون كل من الخفائين علامة على تحقق البعد في الجملة ، أعم من أن يكون مقارناً لوجوده ، أو سابقاً عليه. فحينئذ يمكن أن يقع الخلاف في أن العلامة مجموعهما ، أو كل منهما مستقلا ، مطلقاً ، أو في غير صورة العلم بانتفاء الأخرى. وفيه أيضاً : أنه لا يتم لو أريد بهما المقداران إذ مع البناء على تلازمهما لا معنى للخلاف المذكور ، لرجوعهما الى مقدار واحد ، ومع البناء على انفكاكهما يتعين كون العلامة أحدهما ، إما السابق ، أو اللاحق ، ويكون ضم الآخر إليه في غير محله. نعم لو أريد بهما الفعليان فحيث إنه لا ريب في انفكاك أحدهما عن الآخر يمكن النزاع المذكور. لكن لازم ذلك انتفاء العلامة عند انتفائهما معاً. وهو مما لا يمكن أن يلتزم به.

فالتحقيق : إنه لا ينبغي التأمل في كون العنوانين المذكورين في النصوص‌

٩٠

______________________________________________________

يراد بهما تحديد مقدار البعد الذي يجوز معه التقصير ، كما اعترف به جماعة ـ بل نسبه الى الأصحاب غير واحد ـ لا أنهما علامتان عليه ، ولا موضوعان لجواز التقصير. وحينئذ فلا بد من النظر في كونهما متساويين ، أو مختلفين. وعلى الثاني فهل يمكن التصرف بظاهر أحدهما ، أو كليهما ، ليرجع أحدهما إلى الآخر فيرتفع التنافي ، أولا يمكن ليرجع الى قواعد التعارض؟ فنقول :

أما صحيحة ابن مسلم ، المتضمنة للتحديد بأن يتوارى عن البيوت‌ ، فمقتضى الجمود على عبارتها أن يستتر المسافر نفسه عن البيوت ، يعنى : أن يبعد إلى حد يكون بينه وبينها ساتر وحاجب. وهذا تارة : يكون بعناية أن لا يراها ، وأخرى : بعناية أن لا تراه. وحيث أن الثاني محتاج الى تقدير الابصار لها. مضافاً الى عدم مناسبته لكون ذلك أمارة للمسافر يعمل عليها تعين أن يكون بعناية الأول. ولأجل ذلك عبر المشهور بخفاء الجدران ، أو تواريها ، مريدين خفاءها عليه. وكأن الباعث على هذا التعبير ان المسافر هو فاعل المواراة ، وإن كانت هي قائمة بكل من الطرفين. وحينئذ فالتحديد المذكور مما لا يناسب التحديد في صحيحة ابن سنان وأخواتها ، إذ البعد المؤدي إلى استتار البيوت عن المسافر يزيد كثيراً عن البعد المانع عن سماع الأذان ، سواء أريد منه عدم سماع فصوله ، على نحو يميز بعضها عن بعض أم عدم سماعه بما أنه أذان ، على نحو لا يميز كونه أذاناً أو ندبة ، أم عدم سماعه بما أنه صوت ، بحيث يخفى أصل الصوت ، فان جميع ذلك يحصل قبل أن يحصل البعد الموجب للاستتار.

وحينئذ يدور الأمر بين حمل الأولى على خصوص البوادي ، التي لا يكون التوطن فيها إلا في بيوت منقولة أو ثابتة ، وحمل الثانية على ما عداها من البلدان والأمصار. وبين حمل الأولى على إرادة مرتبة خاصة من الاستتار تكون مساوية في المقدار لعدم السماع. وبين حملها على عدم إرادة التحديد‌

٩١

وأما مع العلم بعدم تحققه فالأحوط اجتماعهما [١]. بل الأحوط مراعاة اجتماعهما مطلقاً. فلو تحقق أحدهما دون الآخر ، إما يجمع بين القصر والتمام ، وإما يؤخر الصلاة الى أن يتحقق الآخر.

______________________________________________________

بل مجرد وجوب التقصير حينئذ ، لكون التواري عن البيوت أمارة قطعية على الوصول الى الحد ، ولو متجاوزاً عنه. والأول وإن كان أوفق بصناعة الجمع ، لأن نسبة الصحيحة الأولى ـ بلحاظ كون موردها البيوت ـ إلى غيرها نسبة المقيد الى المطلق. ويؤيده اختصاص خبر إسحاق بالمصر. إلا أنه مما لم يقل به أحد ، بل لا يظن إمكان الالتزام به ، لأن تبعية ما دخل في حد الترخص للوطن في المدن والأمصار أولى منها في البيوت والقرى ، كما هو ظاهر. فيتعين أحد الأخيرين. وثانيهما أقرب عرفاً. وكيف كان فالتصرف يختص بالصحيحة الأولى لا غير. ولو فرض تعذر الجمع العرفي كان الترجيح لنصوص الأذان ، لكونها أشهر.

[١] التفصيل بين صورة العلم بانتفاء الأخر وعدمه مبني على أن وجود كل منهما أمارة على الوجود ، وانتفاءه أمارة على الانتفاء ، فإذا أحرز أحدهما وشك في الآخر فقد أحرزت الأمارة على الوجود وشك في وجود المعارض لها ، ومع الشك في وجود المعارض يرجع الى أصالة عدمه. أما مع العلم بانتفاء الآخر ، فتتعارض الأمارتان ، فيسقطان عن الحجية ، ويرجع الى الأصول. وهذا المعنى جمع آخر بين النصوص ، ليس فيه تقييد المنطوق بالمنطوق ، ولا المفهوم بالمنطوق ، ولا رفع اليد عن المفهوم ، ولا رفع اليد عن خصوصية كل من الشرطين ، بجعل الشرط هو الجامع بينهما ، بل جعل المنطوق والمفهوم من كل من الشرطيتين لبيان كون شرطها علامة وأمارة على الحد وعدمه أمارة على عدمه. وهو وإن كان في نفسه معنى صحيحاً قريباً ، واستظهرناه من نصوص صفات المني في مبحث الجنابة من هذا الشرح ، لكن عرفت‌

٩٢

وفي العود عن السفر أيضاً ينقطع حكم القصر [١]. إذا وصل الى‌

______________________________________________________

الإشكال فيه في الحاشية السابقة.

[١] على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً ، كما عن الذكرى ويدل عليه ـ مضافاً الى ما دل عليه في الذهاب ، لظهوره في أن ما بين حد الترخص والبلد خارج عن حكم السفر ، وأنه بحكم البلد ، من دون خصوصية للذهاب ـ صحيح حماد‌ ، وذيل صحيح ابن سنان المتقدمان (١).

نعم يعارضهما جملة من النصوص ، كصحيح العيص عن أبي عبد الله (ع) : « لا يزال المسافر مقصراً حتى يدخل بيته » (٢) وصحيح معاوية بن عمار عنه (ع) : « إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا ، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا » (٣) ‌وقريب منه صحيح الحلبي (٤) وموثق إسحاق عن أبي إبراهيم (ع) : « عن الرجل يكون مسافراً ، ثمَّ يقدم فيدخل بيوت الكوفة ، أيتم الصلاة أم يكون مقصراً حتى يدخل أهله؟ قال (ع) : بل يكون مقصراً حتى يدخل أهله » (٥) ومرسل الصدوق عن أبي عبد الله (ع) : « إذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه » (٦) ‌ونحوها غيرها. وعن علي بن بابويه : العمل بها كالذهاب. ووافقه السيد المرتضى ، وأبو علي ، وفي الرياض : « لو لا الشهرة المرجحة للأدلة الأولة لكان المصير الى هذا القول في غاية القوة ، لاستفاضة نصوصه‌

__________________

(١) راجع أوائل الكلام من هذا الشرط.

(٢) الوسائل باب : ٧ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٤.

(٣) الوسائل باب : ٣ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٧.

(٤) الوسائل باب : ٣ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٨.

(٥) الوسائل باب : ٧ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣.

(٦) الوسائل باب : ٧ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٥.

٩٣

حد الترخص [١] من وطنه أو محل اقامته. وإن كان الأحوط تأخير الصلاة الى الدخول في منزله ، أو الجمع بين القصر والتمام إذا صلى قبله بعد الوصول الى الحد.

______________________________________________________

وصحة أكثرها ، وظهور دلالتها جملة ، بل صراحة كثير منها .. » وفي الحدائق : جعله الأظهر. وعن المدارك والذخيرة : التخيير بين القصر والتمام جمعاً بين النصوص. وعن الأردبيلي : أنه حسن لو وجد القائل به. وتكلف غير واحد توجيه النصوص المذكورة بنحو لا تنافي الأول ، منهم شيخ الطائفة فحمل دخول الأهل والمنزل على وصول محل الترخص. وفي الوسائل : هو جيد ، لأن هذه النصوص ظاهرة ، وتلك النصوص نص. وهذا الجمع وغيره وإن كان بعيداً ، لكن لا بأس به بعد إعراض المشهور عنها بنحو يوجب وهنها. ولا سيما بملاحظة اشتمال بعضها على عدم اعتبار حد الترخص في الذهاب أيضاً كالإياب. وقد عرفت أنه مخالف للإجماع المنعقد في كثير من الطبقات. ولعل الأقرب حملها على التقية.

[١] وهو بناء على رجوع الحدين المتقدمين الى حد واحد ظاهر. وكذا بناء على أن الحد خفاء الأذان ، وأن المواراة عن البيوت طريق إليه في الذهاب ، كما قربناه في الجمع. بين الروايتين ، إذ العبرة في الإياب حينئذ بخفاء الأذان لا غير ، لامتناع الطريقة المتقدمة في الإياب. وكذا بناء على سقوط رواية المواراة للمعارضة. أما بناء على اعتبار اجتماعهما ، أو الاكتفاء بأحدهما ، فيشكل ذلك في الإياب ، لعدم الدليل عليه فيه ، لاختصاص رواية المواراة بالذهاب فقط. ولذا كان ظاهر الشرائع الاعتبار هنا بخفاء الأذان لا غير. ومال إليه في محكي المدارك وغيره. ثمَّ إنه مقتضى ما هو ظاهر المشهور من الاكتفاء بأحد الأمرين في الذهاب ، وأن أحدهما كاف في وجوب القصر فلا بد من رفعهما معاً في الإياب ، إذ لا يرتفع القصر إلا برفع موجبه ، فاذا‌

٩٤

( مسألة ٥٨ ) : المناط في خفاء الجدران خفاء جدران البيوت [١] ، لا خفاء الاعلام والقباب والمنارات ، بل ولا خفاء سور البلد إذا كان له سور. ويكفي خفاء صورها وإشكالها ، وإن لم يخف أشباحها.

( مسألة ٥٩ ) : إذا كان البلد في مكان مرتفع ، بحيث يرى من بعيد ، يقدر كونه في الموضع المستوي [٢]. كما أنه إذا كان في موضع منخفض يخفى بيسير من السير ، أو كان هناك حائل يمنع عن رؤيته ، كذلك يقدر في الموضع المستوي وكذا إذا كانت البيوت على خلاف المعتاد ، من حيث العلو أو الانخفاض ، فإنها ترد اليه. لكن الأحوط خفاؤها مطلقاً [٣] وكذا إذا كانت على مكان مرتفع ، فان الأحوط خفاؤها مطلقاً.

( مسألة ٦٠ ) : إذا لم يكن هناك بيوت ولا جدران يعتبر التقدير [٤]. نعم في بيوت الاعراب ونحوهم ممن لا‌

______________________________________________________

كان موجبه أحدهما ، فلا يرتفع إلا بارتفاعهما معاً.

[١] قد عرفت أنه ليس في النص خفاء ، ولا جدران ، وإنما الموجود فيه التواري عن البيوت ، الذي هو بمعنى استتارها عنه. كما عرفت محمله مما اقتضاه الجمع العرفي.

[٢] لأن الظاهر من الدليل كون التواري من جهة البعد ، لا من جهة أخرى. ومنه يظهر الوجه في التقدير فيما يأتي ، وضعف ما عن المدارك : من الاكتفاء بالخفاء في المنخفضة ، للإطلاق. ونحوه ما عن الذخيرة : من الاكتفاء بالخفاء للحائل ، ولو رئيت بعد ذلك.

[٣] قد عرفت أنه معنى الكلام.

[٤] كما هو مقتضى ورود الكلام هذا المورد. وفي الجواهر : نفى الريب فيه.

٩٥

جدران لبيوتهم يكفي خفاؤها ، ولا يحتاج الى تقدير الجدران [١].

( مسألة ٦١ ) : الظاهر في خفاء الأذان كفاية عدم تميز فصوله [٢]. وإن كان الأحوط اعتبار خفاء مطلق الصوت حتى المتردد بين كونه أذاناً أو غيره ، فضلا عن المتميز كونه أذاناً ، مع عدم تميز فصوله.

( مسألة ٦٢ ) : الظاهر عدم اعتبار كون الأذان في آخر البلد ، في ناحية المسافر [٣] ، في البلاد الصغيرة والمتوسطة بل المدار أذانها وإن كان في وسط البلد على مأذنة مرتفعة. نعم في البلاد الكبيرة يعتبر كونه في أواخر البلد ، من ناحية المسافر.

______________________________________________________

[١] وعن ظاهر المقاصد العلية : اعتبار تقديرها. لكن عرفت أنه ليس في النص إلا ذكر البيوت ، فان كانت الجدران راجعة إليها ، فلا معنى لتقديرها مع فعلية البيوت ، وإن لم تكن كذلك ، فلا وجه للاعتبار بها ، لا بالفعل ، ولا بالتقدير.

[٢] بل مقتضى الجمود على عبارة النص خفاؤه بما هو أذان ، بحيث لا يتميز أنه أذان أو غيره. نعم يحتمل قريباً : أن يكون المراد خفاء صوت الأذان بما هو صوت عال بمرتبة خاصة من العلو ، فيكون عنوان الأذان ملحوظاً طريقاً الى نفس الصوت. وإنما خصه بالذكر من بين الأصوات لمعهوديته خارجاً ، وليس لغيره مثل هذه المعهودية. ولو بني على اعتبار تميز الفصول كان اللازم اعتبار تميز الحروف ، لعدم الفرق.

[٣] بل مقتضى إطلاق تقدير البعد الكائن بين المسافر والبلد بذلك هو اعتبار ما ذكر ، لأن إرادة غيره تحتاج الى نصب قرينة. نعم لو كان للأذان محل معين وسط البلد أو غيره كان منصرف التقدير ذلك لا غير. لكنه‌

٩٦

( مسألة ٦٣ ) : يعتبر كون الأذان على مرتفع ، معتاد في أذان ذلك البلد [١] ، ولو منارة غير خارجة عن المتعارف في العلو.

( مسألة ٦٤ ) : المدار في عين الرائي وأذن السامع على المتوسط [٢] في الرؤية والسماع ، في الهواء الخالي عن الغبار والريح ونحوهما من الموانع عن الرؤية أو السماع. فغير المتوسط يرجع اليه. كما أن الصوت الخارق في العلو يرد الى المعتاد المتوسط.

( مسألة ٦٥ ) : الأقوى عدم اختصاص اعتبار حد الترخص بالوطن ، فيجري في محل الإقامة أيضاً [٣] ، بل‌

______________________________________________________

ليس كذلك ، بل يجوز أن يكون فيه وفي آخر البلد ، من ناحية المسافر ومن الناحية الأخرى ، وفي غير ذلك من المواضع. فيتعين ما ذكرنا.

[١] فيكون هو منصرف التقدير كسائر الخصوصيات المعتادة ووجهه ما أشرنا إليه مكرراً ، من أن التقدير إذا كان بأمر مختلف الأفراد بالزيادة والنقصان ، فمقتضى إطلاقه تعين المعتاد لا غير ، لأن الاعتياد مما يصلح أن يكون قرينة على تعيين المراد من الكلام الوارد في مقام البيان ، لأن غير المعتاد لو أريد احتيج الى نصب قرينة ، بخلاف المعتاد. ومنه يظهر الوجه في اعتبار كونه معتاداً بحسب حال البلد ، إذا فرض اختلاف البلدان في ذلك. نعم لا بد من مراعاة المعتاد في عصر صدور النصوص ، لا المعتاد في كل زمان ، بحيث يختلف الحد باختلاف الاعتياد بحسب الأزمنة ، فإنه خلاف ظاهر الدليل.

[٢] لأنه المعتاد ، فينصرف اليه التقدير.

[٣] كما استوضحه في نفائح الأفكار ، والمدارك. واختاره في السرائر‌

٩٧

وفي المكان الذي بقي فيه ثلاثين يوماً متردداً. وكما لا فرق في الوطن بين ابتداء السفر والعود عنه في اعتبار حد الترخص ، كذلك في محل الإقامة. فلو وصل في سفره الى حد الترخص‌

______________________________________________________

وكشف الالتباس ، والذخيرة ، وظاهر التذكرة ، والذكرى ، على ما حكي عنهم. وفي مفتاح الكرامة : « وهو الذي يستفاد من كلام الأكثر من مواضع ، بل هو صريح كلامهم في مسألة ناوي الإقامة في بلد ، حيث ذكروا : إنه لا يضره التردد في نواحيها ، ما لم يبلغ محل الترخص ، فقد ذكروا ذلك هناك متسالمين عليه. والأخبار منطبقة الدلالة عليه ، فلا اشكال فيه ».

أقول : أما دلالة الأخبار عليه فلا تخلو من خفاء. أما رواية حماد : « إذا سمع الأذان أتم المسافر » (١) ‌فلا معنى للأخذ بإطلاقها. وأما رواية ابن سنان فموردها السؤال عن التقصير ، وإجماله مما لا يخفى. بل لعل قوله (ع) : « وإذا قدمت .. » (٢) ‌ظاهر في خصوص الوطن. نعم لا يبعد احتمال إطلاق صحيح محمد ابن مسلم (٣) إلا أن دعوى انصرافه الى خصوص الوطن ـ بأن يراد من السفر فيه السفر بعد الحضر ـ قريبة جداً. وأما رواية التنزيل للمقيم بمكة منزلة أهله (٤) فقد عرفت الاشكال فيها في قاطعية نية الإقامة. فراجع. ولأجل ذلك قيل بعدم اعتبار حد الترخص هنا.

نعم يمكن أن يقال : انه لو فرض اختصاص صحيح محمد ابن مسلم بالوطن ، يمكن دعوى : أن الغرض منه تحديد الموضع الذي يجب فيه التمام ، وتمييزه عما يجب فيه القصر ، بلا خصوصية للوطن عرفاً. ولا سيما بملاحظة بعد الاكتفاء بالخطوة والخطوتين في وجوب القصر في موضع الإقامة فلعل هذا ـ بضميمة ما أشرنا إليه سابقاً. من كون الإقامة قاطعة لموضوع السفر حقيقة ـ كاف في البناء على الإطلاق. ومثله الكلام في الموضع الذي‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) تقدمت الروايات في الثامن من شروط القصر.

٩٨

من مكان عزم على الإقامة فيه ينقطع حكم السفر ، ويجب عليه أن يتم [١] وإن كان الأحوط التأخير إلى الوصول إلى المنزل ، كما في الوطن. نعم لا يعتبر حد الترخص في غير الثلاثة ، كما إذا ذهب لطلب الغريم أو الآبق ، بدون قصد المسافة ، ثمَّ في الأثناء قصدها ، فإنه يكفي فيه الضرب في الأرض [٢].

( مسألة ٦٦ ) : إذا شك في البلوغ إلى حد الترخص بنى على عدمه [٣] ، فيبقى على التمام في الذهاب ، وعلى القصر في الإياب.

( مسألة ٦٧ ) : إذا كان في السفينة أو العربة ، فشرع في الصلاة قبل حد الترخص بنية التمام ، ثمَّ في الأثناء وصل إليه ، فإن كان قبل الدخول في قيام الركعة الثالثة أتمها قصراً [٤] وصحت ، بل وكذا إذا دخل فيه قبل الدخول في الركوع [٥]

______________________________________________________

يتردد فيه المسافر ثلاثين يوماً. والمسألة بعد لا تخلو من اشكال.

[١] هذا لو تمَّ عموم التنزيل لا يكفي فيه ، إذ الظاهر من دليله كون التنزيل بعد أن يقدم الى البلد ، لا قبله. فلأجل ذلك فصّل جماعة ـ كالشهيد الثاني وسبطه وغيرهما ـ بين الدخول والخروج ، فلم يعتبروا الحد في الأول مع اعتبارهم له في الثاني. نعم قد يتم بملاحظة ما ذكرنا أخيراً ، فيقوى به إطلاق روايتي حماد وابن سنان.

[٢] بلا اشكال ، كما قيل. لاختصاص الدليل على اعتبار الحد بغيره.

[٣] للاستصحاب.

[٤] لتبدل الحكم بتبدل موضوعه.

[٥] والقيام حينئذ يكون زيادة ، لأنه واقع في غير محله ، لأنه في‌

٩٩

وإن كان بعده فيحتمل وجوب الإتمام ، لأن الصلاة على ما افتتحت. لكنه مشكل ، فلا يترك الاحتياط بالإعادة قصراً أيضاً [١]. وإذا شرع في الصلاة في حال العود ، قبل الوصول الى الحد ، بنية القصر ، ثمَّ في الأثناء وصل إليه ، أتمها تماماً ، وصحت. والأحوط ـ في وجه ـ إتمامها قصراً [٢]. ثمَّ إعادتها تماماً.

( مسألة ٦٨ ) : إذا اعتقد الوصول الى الحد ، فصلى قصراً ، ثمَّ بان أنه لم يصل اليه ، وجبت الإعادة ، أو القضاء تماماً [٣]. وكذا في العود إذا صلى تماماً باعتقاد الوصول ،

______________________________________________________

الواقع مسافر يجب عليه القصر.

[١] بل هو المتعين ، لانقلاب الحكم بانقلاب موضوعه ، كما عرفت وكون الصلاة على ما افتتحت لم يثبت بنحو يشمل المقام ، كما هو ظاهر.

نعم قد يقال : بأن الركعة الثالثة المأتي بها إما أن تكون مأموراً بها أولا. والثاني باطل ، وإلا لزم صحة صلاته لو تركها وسلم على الركعتين مع أنه لا ريب في البطلان حينئذ ، لأنه قبل حد الترخص. وفيه : أن البطلان بالتسليم على الركعتين ، من جهة كونه امتثالا بالقصر قبل حد الترخص لا ينافي عدم الأمر بالركعة ، حيث لا يتحقق الامتثال قبله ، كما لا يخفى. ومما ذكرنا يظهر وجه الفرع الآتي.

[٢] مقتضى ما تقدم منه ـ من أن الأقوى إتمامها تماماً ـ يكون الأحوط إتمامها تماماً ، ثمَّ إعادتها تماماً. لأن إتمامها قصراً مخالفة لحرمة الابطال ، واعادتها قصراً يعلم بعدم مشروعيتها ، لأنه دون حدَّ الترخص. فيتعين. الاحتياط على نحو ما ذكرنا.

[٣] لعدم الدليل على الاجزاء. وكذا الحال فيما يأتي.

١٠٠