مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٤

فبان عدمه ، وجبت الإعادة أو القضاء قصراً. وفي عكس الصورتين ـ بأن اعتقد عدم الوصول فبان الخلاف ـ ينعكس الحكم ، فيجب الإعادة قصراً في الأولى ، وتماماً في الثانية.

( مسألة ٦٩ ) : إذا سافر من وطنه ، وجاز عن حد الترخص ، ثمَّ في أثناء الطريق وصل الى ما دونه ، إما لاعوجاج الطريق ، أو لأمر آخر ، كما إذا رجع لقضاء حاجة ، أو نحو ذلك ، فما دام هناك يجب عليه التمام [١]. وإذا جاز عنه بعد ذلك وجب عليه القصر ، إذا كان الباقي مسافة [٢]. وأما إذا سافر من محل الإقامة وجاز عن الحد ، ثمَّ وصل الى ما دونه ، أو رجع في الأثناء لقضاء حاجة بقي على التقصير [٣]. وإذا صلى في الصورة الأولى ـ بعد الخروج عن حد الترخص ـ

______________________________________________________

[١] لإطلاق ما دل على وجوبه قبل الحد.

[٢] هذا يتم إذا كان الرجوع الى ما دون حد الترخص رجوعاً عن نية السفر. أما لو لم يكن الرجوع كذلك ، بل كان المكلف باقياً على نية السفر ، فلا وجه ظاهر لما ذكر ، بل يكفي كون الباقي ، بضميمة ما قطعه أولا إلى الموضع الذي رجع إليه مسافة. ولا وجه لإلغاء المسافة التي بين البلد والموضع المذكور.

[٣] لأن حد الترخص إنما يعتبر في وجوب القصر في الخروج عن محل الإقامة بالنسبة إلى السفر الأول ، لا مطلقاً. ولذا لو وصل الى نهاية المسافة ، ثمَّ رجع الى محل الإقامة ، جاز التقصير في الرجوع ، وإن وصل الى محل الإقامة ، فضلا عما قبله بعد حد الترخص ، كما سيأتي. وبالجملة : اعتبار حد الترخص في مثل الفرض لا دليل عليه.

١٠١

قصراً ، ثمَّ وصل الى ما دونه ، فان كان بعد بلوغ المسافة فلا إشكال في صحة صلاته. وأما ان كان قبل ذلك. فالأحوط وجوب الإعادة. وإن كان يحتمل الإجزاء ، إلحاقاً له بما لو صلى ، ثمَّ بدا له في السفر ، قبل بلوغ المسافة [١].

( مسألة ٧٠ ) : في المسافة الدورية حول البلد ، دون حد الترخص [٢] ، في تمام الدور أو بعضه ، مما لم يكن الباقي قبله أو بعده مسافة [٣] يتم الصلاة.

______________________________________________________

[١] هذا هو المتعين لو كان ناوياً لعدم الرجوع ثمَّ بدا له أن يرجع بل لا ينبغي التأمل فيه لو لم يكن الرجوع رجوعاً عن نية السفر ، كما هو ظاهر الفرض ، فإن صحة القصر أولى من صحته في الرجوع عن أصل السفر أما لو كان ناوياً له ، كما لو علم أن خط السير معوج ، على نحو يوجب الرجوع عن حد الترخص ، فلا يبعد القول بعدم جواز التقصير عند تجاوز الحد ، لظهور أدلة التحديد في اعتبار البعد الخاص ـ أعني : ما يكون بعضاً من البعد الناشئ عن سير المسافة ـ لا مطلق البعد ، ولو كان ملغياً من جهة الرجوع. وعليه فلو قصر أعاد. وأظهر من ذلك ـ في وجوب الإعادة ـ ما لو كان الرجوع على خط السير الذهابي ، إذ القطعة الخاصة من الذهاب ـ أعني : ما بين ما وصل اليه وما رجع اليه ـ ليست معدودة من السفر الموجب للترخص. فلاحظ.

[٢] قد تقدم في المسألة الرابعة عشرة : الإشكال في الترخيص في المسافة الدورية حول البلد مطلقاً ، ولو كانت فوق حد الترخص.

[٣] يعني : إذا كانت المسافة الدورية حول البلد بعضها دون حد الترخص وبعضها فوق حد الترخص ، فان كان القوس الواقع فوق حد الترخص‌

١٠٢

فصل في قواطع السفر

موضوعاً أو حكماً

وهي أمور :

أحدها : الوطن ، فان المرور عليه قاطع للسفر ، وموجب للتمام [١] ما دام فيه ، أو في ما دون حد الترخص منه [٢].

______________________________________________________

مسافة ، وجب التقصير فيه ، دون ما كان دون حد الترخص. وإن لم يكن مسافة إلا بضميمة القوس الكائن دون حد الترخص لم يجب التقصير في شي‌ء منهما ، سواء أكان القوس الواقع فوق حد الترخص قبل ما كان دونه ، أم بعده.

أقول : إذا كان عموم أدلة الترخص للمسافر شاملا للمسافر في المسافة الدورية ، فاللازم الجزم بالترخص في القوس الواقع فوق حد الترخص ، وإن لم يكن مسافة ، لما سبق : من أن المسافة المعتبرة في الترخص ما كانت من البلد ، وهي موجودة في الفرض ، لا من حد الترخص. والله سبحانه أعلم.

فصل في قواطع السفر

موضوعاً أو حكماً‌

[١] بلا خلاف ولا إشكال فيه ، في الجملة ، بل لعله من الضروريات لاختصاص أدلة القصر بغيره ، واستفاضة النصوص بالإتمام فيه ، كما ستأتي الإشارة إليها. نعم تقدم في بعض النصوص : وجوب التمام ما لم يدخل منزله. وقد عرفت : أنه لا مجال للعمل به.

[٢] كما تقدم الكلام فيه.

١٠٣

ويحتاج في العود الى القصر بعده إلى قصد مسافة جديدة [١] ، ولو ملفقة ، مع التجاوز عن حد الترخص [٢]. والمراد به المكان الذي اتخذه مسكناً ومقراً له دائماً [٣] ، بلداً كان أو قرية‌

______________________________________________________

[١] لاعتبار كون المسافة في خارج الوطن.

[٢] كما سبق.

[٣] فان تحقق هذا المعنى كاف في صدق الوطن عرفاً ، الموجب لصدق الحاضر ، المقابل للمسافر ، المأخوذ في موضوع أدلة التقصير ، فيبقى داخلا تحت أدلة التمام. مضافاً الى النصوص الخاصة الدالة على وجوب التمام في الوطن ، كصحيح الحلبي (١) عن أبي عبد الله (ع) : « في الرجل يسافر ، فيمر بالمنزل له في الطريق ، يتم الصلاة أو يقصر؟ قال (ع) : يقصر. إنما هو المنزل الذي توطنه » (٢) وصحيح علي بن يقطين : « قلت لأبي الحسن (ع) : إن لي ضياعاً ومنازل بين القرية والقرية ، الفرسخ والفرسخان والثلاثة ، فقال (ع) : كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير » (٣) وصحيحه الآخر : « كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل ، وليس لك أن تتم فيه » (٤) وصحيح سعد بن أبي خلف : « سأل علي بن يقطين أبا الحسن (ع) عن الدار تكون للرجل بمصر ، أو الضيعة فيمر بها. قال (ع) : إن كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة وإن كان مما لم يسكنه فليقصر » (٥).

__________________

(١) كذا في الجواهر. لكن في الوسائل : روى المتن المذكور عن حماد بن عثمان. « منه قدس‌سره ». قلت : ونحوه في الاستبصار ج ١ صفحة ٢٣٠ طبع النجف الأشرف وأما التهذيب فهو موافق لما في الجواهر. راجع التهذيب ج ٣ صفحة ٢١٢ طبع النجف الأشرف.

(٢) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٨.

(٣) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٠.

(٤) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٦.

(٥) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٩.

١٠٤

أو غيرهما سواء كان مسكناً لأبيه وأمه ومسقط رأسه ، أو غيره مما استجده. ولا يعتبر فيه ـ بعد الاتخاذ المزبور ـ حصول ملك له فيه [١]. نعم يعتبر فيه الإقامة فيه بمقدار يصدق عليه عرفاً أنه وطنه [٢]. والظاهر أن الصدق المذكور يختلف‌

______________________________________________________

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في وجوب التمام بالوطن بالمعنى المذكور. وذكر غير واحد الخلاف في معنى الوطن ، وإنهاء الأقوال فيه إلى ثمانية أو أكثر ، لا ينافي الاتفاق الذي ادعاه بعض عليه ، ولا ما في كلام بعض من نفي الاشكال فيه ، فان ذلك الخلاف راجع إلى الخلاف في ثبوت الوطن الشرعي وقيود ثبوته ، لا في ثبوت التمام للوطن العرفي.

نعم قد يتراءى ـ مما في الشرائع وغيرها : « من أن الوطن هو كل موضع له فيه ملك قد استوطنه .. » ـ الخلاف في ثبوت الوطن العرفي ، في قبال الوطن الشرعي ، وجريان حكم التمام عليه. ولكنه مما لا ينبغي ، فإن كثيراً من المتوطنين لا ملك لهم في أوطانهم فضلا عن أن يكون الملك وطنا لهم والالتزام بوجوب القصر عليهم غريب ، بل لعله خلاف الضروري. بل الظاهر ـ بقرينة كون موضوع كلامهم المسافر الخارج عن وطنه ـ أن مرادهم ثبوت الوطن الشرعي وتحديده ، في قبال الوطن العرفي. وكذا الحال في صحيح ابن بزيع الآتي‌ ، فإنه ـ على تقدير تمامية دلالته على ثبوت الوطن الشرعي ـ ليس في مقام حصر الوطن به ، بل في مقام مجرد بيان ثبوته ، إذ لا إطلاق له يقتضي شرح مطلق الوطن ـ المأخوذ موضوعاً للتمام ـ بذلك. فلاحظه سؤالا وجواباً.

[١] بلا خلاف نصاً وفتوى ـ كما في الرياض ـ أو بلا خلاف صريح ـ كما في الجواهر ـ لإطلاق الأدلة.

[٢] لا يبعد الاكتفاء بمجرد النية ، كما عن بغية الطالب للشيخ الأكبر وفي الجواهر : « لا يخلو من قوة ».

١٠٥

بحسب الأشخاص والخصوصيات ، فربما يصدق بالإقامة فيه ـ بعد القصد المزبور ـ شهراً أو أقل. فلا يشترط الإقامة ستة أشهر [١] ، وإن كان أحوط ، فقبله يجمع بين القصر والتمام ، إذا لم ينو إقامة عشرة أيام.

( مسألة ١ ) : إذا أعرض عن وطنه الأصلي أو المستجد وتوطن في غيره ، فان لم يكن له فيه ملك أصلا ، أو كان ولم يكن قابلا للسكنى ، كما إذا كان له فيه نخلة أو نحوها ، أو كان قابلا له ، ولكن لم يسكن فيه ستة أشهر ، بقصد التوطن الأبدي ، يزول عنه حكم الوطنية ، فلا يوجب المرور عليه قطع حكم السفر [٢]. وأما إذا كان له فيه ملك قد سكن فيه‌

______________________________________________________

[١] لتحقق الصدق بدونها. وما عن الذكرى : من أن الأقرب الاشتراط ليتحقق الاستيطان الشرعي مع العرفي ، غير ظاهر ، إذ لا ملزم بتحقق أحدهما مع الآخر. ومثله : ما عن المدارك : من أنه غير بعيد ، لأن الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبراً مع الملك فمع عدمه أولى. إذ فيه : أنه لا مجال للأولوية. واعتباره مع الملك في الشرعي للدليل ، لا يلازم اعتباره مع عدمه في العرفي ، كما هو ظاهر.

[٢] أما مع انتفاء الملك فلإطلاق أدلة القصر ، مع عدم ما يوجب الخروج عنها ، لاختصاص النصوص الدالة على التمام في الملك والضيعة بصورة وجود الملك. وكذا صحيح ابن بزيع. وأما إذا كان ولم يكن قابلا للسكنى فيدل على التمام فيه : موثق عمار عن أبي عبد الله (ع) : « في الرجل يخرج في سفر ، فيمر بقرية له أو دار ، فينزل فيها. قال (ع) : يتم الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة لا يقصر. وليصم إذا حضره الصوم » (١)

__________________

(١) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٥.

١٠٦

______________________________________________________

وعن المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما : الجزم به إذا أقام هناك ستة أشهر ، جمعاً بينه وبين صحيح ابن بزيع الآتي. وفيه : إنه لو أمكن الجمع بينهما بذلك فهو موقوف على ظهور الصحيح في الوطن الشرعي ، وسيأتي ما فيه. وإلا كان الموثق المزبور معارضاً به ، وبما دل على اختصاص التمام بالوطن ، فيجب حينئذ طرحه لمرجوحيته من وجوه. مضافاً الى عدم ظهور العمل به على إطلاقه.

وأما إذا كان قابلا للسكنى ولم يسكن فيه ستة أشهر ، فيدل على وجوب التمام فيه ما دل على وجوبه في الملك والضيعة ، كما في صحيح إسماعيل ابن الفضل ، من قول الصادق (ع) : « إن نزلت قراك وضيعتك (١) فأتم الصلاة » (٢) وما في صحيح البزنطي ، من قول الرضا (ع) : « يتم الصلاة كلما أتى ضيعة من ضياعه » (٣) ونحوه ما في صحيحه الآخر (٤) وصحيح ابن الحجاج : « قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض ، يخرج فيقيم فيها ، يتم أو يقصر. قال (ع) : يتم » (٥) ـ كذا عن الفقيه والتهذيب ـ (٦) وعن الكافي : « يقيم » بدل‌

__________________

(١) كما في التهذيب ج ٣ صفحة ٢١٠ طبع النجف الأشرف ، والاستبصار ج ١ صفحة ٢٢٨ طبع النجف الأشرف. وفي الوسائل : « وأرضك » بدل « وضيعتك » ، كما في الفقيه ج ١ صفحة ٢٨٧ طبع النجف الأشرف.

(٢) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٧.

(٤) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٨.

(٥) الوسائل باب : ١٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢.

(٦) راجع الفقيه ج ١ صفحة ٢٨٢ طبع النجف الأشرف ، والتهذيب ج ٣ صفحة ٢١٣ طبع النجف الأشرف ، والاستبصار ج ١ صفحة ٢٣١ طبع النجف الأشرف.

١٠٧

ـ بعد اتخاذه وطناً له دائماً ـ ستة أشهر ، فالمشهور على أنه بحكم الوطن العرفي [١] ، وإن أعرض عنه إلى غيره ، ويسمونه‌

______________________________________________________

« يطوف » (١) فيشكل الاستدلال به. الى غير ذلك. لكن قد أشرنا إلى معارضتها بما تقدم ، مما دل على اعتبار التوطن في التمام. فيجب إما تقييد الأولى بالثانية إن أمكن ، أو طرحها إن لم يمكن ، كما لعله كذلك في بعضها ، لمخالفتها لظاهر الأصحاب ، ولرجحان الثانية عليها من وجوه ، منها : موافقة عموم القصر على المسافر.

وأما إذا أقام فيه ستة أشهر ، ولم يكن بقصد التوطن فوجوب التمام فيه مبني على ظهور صحيح ابن بزيع في ثبوت الوطن الشرعي ، وكون المراد من الإقامة فيه مطلق الإقامة ، ولو لا بقصد التوطن الأبدي ، لتحققه في المقام ، فيكون اللازم التمام. هذا ولم يتضح من عبارة المشهور اعتبار قصد التوطن ، ولكنه غير بعيد.

[١] نسبه الى المشهور جماعة. وعن التذكرة ، والروض : أنه إجماع وعن بعض الأجلة : « لا أعرف فيه خلافاً إلا من الصدوق ، على وجه ». ودليلهم عليه : صحيح ابن بزيع عن الرضا (ع) : « عن الرجل يقصر في ضيعته. قال (ع) : لا بأس ، ما لم ينو مقام عشرة أيام. إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه. فقلت : ما الاستيطان؟ فقال (ع) : أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فإذا كان كذلك يتم متى يدخلها » (٢) وما تقدم في صحيح الحلبي وسعد بن أبي خلف (٣).

وفيه : أن قوله (ع) : « يستوطنه » ، وقوله (ع) : « يقيم »

__________________

(١) راجع الكافي ج ٣ صفحة ٤٣٨ طبع إيران الحديثة.

(٢) الوسائل باب : ١٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١١.

(٣) راجع أوائل هذا الفصل.

١٠٨

______________________________________________________

بصيغة المضارع ، يأبى ذلك جداً. ولا سيما بملاحظة اقتصار الامام (ع) على الجواب بالأول ، الظاهر في الاستيطان العرفي ، فلو كان المراد منه الاستيطان الشرعي كان الاقتصار عليه إيهاماً لخلاف الواقع. فلأجل ذلك يتعين حمله على بيان كيفية اتخاذ المتوطن وطناً ثانياً ، ويكون بذلك ذا وطنين ، لأن مفروض السؤال فيه من له وطن ، ثمَّ يستوطن منزلا آخر له في ضيعته. وهذا هو الذي سأل عنه ابن بزيع ، وليس سؤاله عن مفهوم الاستيطان ، الذي لا يخفى على من هو دونه في الفضل. فالإمام عليه‌السلام ليس في مقام شرح مفهوم الاستيطان شرعاً أو عرفا ، بل في مقام بيان ما يتحقق الاستيطان للوطن الثاني ممن كان له وطن. ولأجل ذلك أطاق لفظ الاستيطان أولا ، وبعد السؤال فسره بالإقامة ، إذ لو كرره في الجواب انقلب المعنى ، وكان ظاهراً في الاستيطان ستة أشهر ، مع أنه غير مراد ، إذ المراد الاستيطان أبداً ، لكنه يحصل بالإقامة ستة أشهر في كل سنة. والاقتصار على الستة أشهر إنما هو لأنها الأصل في قسمة السنة. وإلا فالوطن الثاني يحصل بالعزم على الإقامة فيه في كل سنة مدة معتداً بها ، أقل من ستة أشهر أو أكثر. وأما إطلاق الصحيحين الأخيرين فهو وان كان يقتضي الاكتفاء بالتوطن في الماضي في الجملة » ولو مع انتفاء فعليته ، إلا أنه مقيد بما دل على اعتبار فعلية الاستيطان ، مما تقدم. فالمتعين حمل الجميع على إرادة الاستيطان الفعلي.

وبالجملة : عموم الأدلة وخصوصها ـ مما دل على اعتبار الاستيطان الفعلي العرفي في وجوب التمام ـ صالح لأن يكون موجباً لرفع اليد عن ظهور هذه الصحاح ، على تقدير ثبوته. ودعوى : أن الصحيح الأول حاكم ، وهو مقدم على المحكوم. مندفعة : بأن الحاكم إنما يقدم على المحكوم لو كان ظهوره في الحكومة أقوى من ظهور المحكوم ، وليس المقام كذلك.

١٠٩

بالوطن الشرعي ، ويوجبون عليه التمام إذا مر عليه ، ما دام بقاء ملكه فيه [١]. لكن الأقوى عدم جريان حكم الوطن عليه بعد الاعراض. فالوطن الشرعي غير ثابت. وإن كان الأحوط الجمع بين إجراء حكم الوطن وغيره عليه ، فيجمع فيه بين القصر والتمام إذا مر عليه ، ولم ينو إقامة عشرة أيام. بل الأحوط الجمع إذا كان له نخلة [٢] أو نحوها ، مما هو غير قابل للسكنى ، وبقي فيه بقصد التوطن ستة أشهر. بل وكذا إذا لم يكن سكناه بقصد التوطن ، بل بقصد التجارة مثلا [٣].

______________________________________________________

[١] الوجه في اعتبار الملك عندهم : موثق عمار المتقدم (١) وكونه المتيقن من صحيح ابن بزيع (٢) لأن المنزل المذكور في الجواب هو ما يكون في ضيعته ، لا مطلقاً. وأما اللام في قوله (ع) : « أن يكون له منزل » فلا دلالة فيها على الملك ، لأن إضافة المنزل إليه بواسطة اللام يكفي فيها كونه موضع نزوله وقراره ، لا مثل إضافة الضيعة ، فإن دلالة اللام على الملك تختلف باختلاف المضاف.

[٢] لما عرفت من موثق عمار (٣) المعمول به عند جماعة.

[٣] لاحتمال كفاية ذلك في تحقق الوطن الشرعي ، على تقدير ثبوته بل هو الظاهر ، كما أشرنا إليه سابقاً. وكون قصد التوطن مأخوذاً في مفهوم الاستيطان ، المذكور في الجواب الأول في الصحيح ، لا يكون قرينة على اعتباره في الإقامة المذكورة في الجواب الثاني تفسيراً للاستيطان ، لأن المدار على ظهور المفسر ـ بالكسر ـ لا المفسر.

__________________

(١) راجع أوائل هذه المسألة.

(٢) مر ذلك في التعليقة السابقة.

(٣) تقدم في أوائل هذه المسألة.

١١٠

( مسألة ٢ ) : قد عرفت عدم ثبوت الوطن الشرعي ، وأنه منحصر في العرفي. فنقول : يمكن تعدد الوطن العرفي ، بأن يكون له منزلان في بلدين أو قريتين ، من قصده السكنى فيهما أبداً ، في كل منهما مقداراً من السنة ، بأن يكون له زوجتان مثلا ، كل واحدة في بلدة ، يكون عند كل واحدة ستة أشهر ، أو بالاختلاف [١]. بل يمكن الثلاثة أيضاً. بل لا يبعد الأزيد أيضاً [٢].

( مسألة ٣ ) : لا يبعد أن يكون الولد تابعاً [٣] لأبويه‌

______________________________________________________

[١] بأن يقيم في أحدهما أربعة أشهر ، وفي الآخر ثمانية أشهر. ولا ينافيه ما في الصحيح ، بناء على حمله على الوطن العرفي ـ كما عرفت ـ لأنه محمول على أحد الأفراد الذي يسبق الى الذهن.

[٢] للصدق عرفاً في الجميع.

[٣] لا ينبغي التأمل في كون الفرق بين الأمكنة ـ في صدق الوطن وعدمه ـ ليس تابعاً للجهات الخارجية ، وإنما هو تابع للقصد النفساني. فإذا قصد المكث في محل إلى آخر عمره ـ بحيث لا يخرج عنه إلا لأمر يقتضي الخروج ، ولو خلي ونفسه كان مقره ذلك المكان ـ كان هو وطناً له. ولو خرج عنه كان مسافراً ، ولو أقام فيه كان حاضراً. وما عداه لا يكون وطناً. وهذا القصد المقوم لصدق الوطن ، تارة يكون تفصيلياً ، واخرى يكون إجمالياً ارتكازياً ، ناشئاً من التبعية لوالديه أو أحدهما. فإذا حصل القصد بأحد النحوين صدق الوطن ، وإلا فلا ، من دون فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده. وإلغاء قصد الصبي في مثل المقام لا دليل عليه ، بعد الاكتفاء به عرفاً في صدق التوطن.

١١١

أو أحدهما في الوطن ، ما لم يعرض بعد بلوغه عن مقرهما ، وإن لم يلتفت بعد بلوغه إلى التوطن فيه أبداً. فيعد وطنهما وطناً له أيضاً. إلا إذا قصد الاعراض عنه [١] ، سواء كان وطناً أصلياً لهما ومحلا لتولدهما ، أو وطناً مستجداً لهما ، كما إذا أعرضا عن وطنهما الأصلي ، واتخذا مكاناً آخر وطناً لهما ، وهو معهما قبل بلوغه ، ثمَّ صار بالغاً. وأما إذا أتيا بلدة أو قرية ، وتوطنا فيها وهو معهما ، مع كونه بالغاً ، فلا يصدق وطناً له ، إلا مع قصده بنفسه [٢].

( مسألة ٤ ) : يزول حكم الوطنية بالاعراض والخروج وإن لم يتخذ بعد وطناً آخر. فيمكن أن يكون بلا وطن [٣] مدة مديدة.

______________________________________________________

[١] وكذا لو تردد ، على ما يأتي.

[٢] أو بالتبعية. وكذا لو كان غير بالغ ، لاتحاد المناط في الجميع نعم الطفل غير المميز ، الذي لا يتأتى منه القصد الإجمالي الارتكازي ولو تبعاً قد يدعى صدق الوطن في حقه بقصد متبوعه. لكنه غير ظاهر.

[٣] وحينئذ يكون كالسائح يتم دائماً ، إذ لم يتخذ مقراً ولو موقتاً وإذا اتخذ له مقراً موقتاً يأوي إليه إذا لم يكن ما يقتضي الخروج ، فإنه يتم فيه ، ويقصر إذا سافر عنه إلى مقصد ، اتفاقا لزيارة أو نحوها. ويكون مقره كبيوت الأعراب يتم فيه ، لأن بيته معه. فكأن الوطن نوعان : شخصي وهو المتعارف. ونوعي ، وهو بيوت الأعراب ونحوها من البيوت التي تتخذ مقراً موقتاً ، بعد الانصراف عن الوطن الأصلي.

وقد جرى على ذلك بعض المهاجرين الى بغداد ، فيستأجر داراً فيها سنة ، وسنة أخرى في مدينة البياع ، وثالثة في الكاظمية ، ورابعة في الكرادة الشرقية‌

١١٢

( مسألة ٥ ) : لا يشترط في الوطن إباحة المكان الذي فيه [١] ، فلو غصب داراً في بلد ، وأراد السكنى فيها أبداً يكون وطناً له. وكذا إذا كان بقاؤه في بلد حراماً عليه ، من جهة كونه قاصداً لارتكاب حرام ، أو كان منهياً عنه من أحد والديه ، أو نحو ذلك.

( مسألة ٦ ) : إذا تردد بعد العزم على التوطن أبداً ، فان كان قبل أن يصدق عليه الوطن عرفاً ، بأن لم يبق في ذلك المكان بمقدار الصدق ، فلا إشكال في زوال الحكم [٢] ، وإن لم يتحقق الخروج والاعراض. بل وكذا إن كان بعد الصدق في الوطن المستجد. وأما في الوطن الأصلي إذا تردد في البقاء فيه وعدمه ، ففي زوال حكمه قبل الخروج والاعراض إشكال [٣] ، لاحتمال صدق الوطنية ما لم يعزم على العدم. فالأحوط الجمع بين الحكمين.

______________________________________________________

... وهكذا. فكأنه قصد التوطن في منطقة بغداد وتوابعها ، من دون توطن في مكان خاص ، وانصرف عن وطنه الأصلي ، فهؤلاء يتمون في بيوتهم ويقصرون إذا سافروا عنها إلى زيارة مشهد أو نحو ذلك ، لأنهم يسافرون عن وطنهم النوعي. فيفترقون عن السائح من جهة تحقق التوطن في الجملة منهم ، كما يفترق أهل بيوت الأعراب عنه أيضاً بذلك.

[١] لعدم الدليل عليه ، والعرف شاهد بخلافه.

[٢] إذا فرض عدم الصدق قبل الاعراض فلا حكم أولا كي يزول بالإعراض.

[٣] ينشأ : من التردد في كون الوطنية تابعة للقصد حدوثاً وبقاء.

١١٣

( مسألة ٧ ) : ظاهر كلمات العلماء ـ رضوان الله عليهم ـ اعتبار قصد التوطن أبداً في صدق الوطن العرفي ، فلا يكفي العزم على السكنى إلى مدة مديدة ، كثلاثين سنة ، أو أزيد. لكنه مشكل ، فلا يبعد الصدق العرفي بمثل ذلك [١]. والأحوط في مثله إجراء الحكمين بمراعاة الاحتياط.

______________________________________________________

أو من قبيل الإيقاع الذي يكفي فيه القصد الآني ، غاية الأمر أنه يرتفع بالاعراض ، نظير نصب الوكيل وعزله. ولا يبعد الأول. ويقتضيه ظاهر النصوص المتقدمة. وعليه يكون حكمه التمام وإن سافر عن مكانه ، بناء على ما تقدم في المسألة الخامسة والخمسين ، من أحكام من كان السفر عملهم فراجع.

[١] بل هو خلاف الظاهر ، إذ لا فرق في نظر العرف بين السنة والثلاثين سنة في كون قصد التوطن مدتها لا يوجب صدق الوطن ، بل لا بد فيه من التوطن مدة العمر.

نعم يحتمل دخوله فيمن بيوتهم معهم ، لأن انقطاعه عن وطنه الأصلي واتخاذ المنزل كوطن له ، يقتضي كونه في بيته الثاني ، وإن كان موقتاً. اللهم إلا أن يختص من بيوتهم معهم بمن كانت بيوتهم مبنية على الارتحال ، لتكون معهم ، ولا يشمل البيوت الثابتة المبنية على الاستقرار. ولكن هذا التخصيص خلاف مقتضى التعليل الارتكازي ، فإنه لا فرق في ارتكاز العرف بين الأمرين اللهم إلا أن يقال : حمل التعليل على مقتضى الارتكاز يقتضي كون المراد من البيوت الأوطان ، فإنها التي لا يقصر فيها ويجب فيها التمام ، لا مطلق البيوت. وإلا كان التعليل غير ارتكازي ، وهو خلاف الأصل في التعليلات وإذا حملت البيوت على الوطن لم تشمل ما نحن فيه.

اللهم إلا أن يقال : الارتكاز يقتضي الحمل على البيوت التي لا يكون المقيم فيها مسافراً عرفاً ، وإن لم تكن وطناً. فالمقيم فيها إذا كان منقطعاً‌

١١٤

الثاني من قواطع السفر : العزم على إقامة عشرة أيام [١] متواليات [٢] ، في مكان واحد [٣] ، من بلد ، أو قرية ، أو مثل بيوت الأعراب ، أو فلاة من الأرض [٤].

______________________________________________________

عن وطنه ، وجاعلا له كوطنه لا يكون مسافراً ، فلذا كان عليه التمام. فالتعليل يكون إشارة الى هذا المعنى ، وهو قريب جداً الى الأذواق العرفية فالمسافر الذي يقصر مقابل الحاضر الذي يتم ، والحضور يكون بالإقامة في الوطن الدائم ، ويكون بالوطن الموقت ، فان المقيم فيه حاضر عرفاً.

ويشهد بذلك : أن كثيراً من الأعراب الذين يسكنون هذه البيوت لهم أوطان مستقرة ، يسكنونها في بعض السنة ، ويخرجون منها في أيام الربيع لسوم مواشيهم. وعلى هذا يكون المقر بمنزلة الوطن في وجوب التمام.

[١] قد تقدم في شروط القصر الكلام في وجه قاطعية الإقامة. فراجع وأما إيجابها التمام فمما لا إشكال فيه ، بل لعله من الضروريات. والنصوص الدالة عليه مستفيضة ، لو لم تكن متواترة.

[٢] كما هو المشهور ، بل لعله لا خلاف فيه. والقول بجواز خروج المسافر إلى ما دون المسافة ليس راجعاً الى نفي اعتبار التوالي ، بل راجع الى نفي منافاة الخروج للإقامة نفسها ، كما سيأتي. والوجه في اعتباره : ظهور أدلة التحديد بالزمان ـ فيما يقبل الاستمرار ـ في المقدار المستمر ، غير المتفرق ، كما يظهر من ملاحظة النظائر. وقد أشرنا الى ذلك في فصل الحيض وغيره.

[٣] كما سيأتي.

[٤] كما صرح به جماعة ، بل في كلام بعض : أنه مما لا خلاف فيه. وقد اشتملت النصوص على البلد ، والضيعة ، والمكان ، والأرض.

١١٥

أو العلم بذلك [١] ، وإن كان لا عن اختيار. ولا يكفي الظن بالبقاء [٢] ، فضلا عن الشك. والليالي المتوسطة داخلة [٣] ، بخلاف الليلة الاولى والأخيرة [٤] ، فيكفي عشرة أيام وتسع ليال. ويكفي تلفيق اليوم المنكسر من يوم آخر على الأصح [٥] فلو نوى المقام عند الزوال من اليوم الأول إلى الزوال من اليوم الحادي عشر كفى ، ويجب عليه الإتمام. وإن كان الأحوط الجمع.

______________________________________________________

[١] كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : « قلت له : أرأيت من قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصراً؟ ومتى ينبغي له أن يتم؟ فقال (ع) : إذا دخلت أرضاً ، فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام ، فأتم الصلاة .. » (١) وإطلاقه يقتضي عموم الحكم لصورة ما إذا كان المقام لا عن اختيار.

[٢] لعدم الدليل عليه ، فالمرجع عموم القصر على المسافر.

[٣] بلا إشكال ، أما لو أريد من اليوم ما يدخل فيه الليل فظاهر.

وأما لو أريد منه ما يقابل الليل ـ كما هو الظاهر ـ فظهور الدليل في الاستمرار ـ كما عرفت ـ كاف في إثباته.

[٤] لخروجهما عن اليوم عرفاً ، ولا موجب لتبعيتهما له.

[٥] كما عن الشهيد وجماعة. لأن الظاهر من اليوم الساعات النهارية لا خصوص الأمد الممتد بين الطلوع والغروب ، كما أشرنا إلى ذلك في أن أقل الحيض ثلاثة. فراجع. ومنه يظهر ضعف ما عن المدارك : من أن الأظهر العدم ، وما عن النهاية والتذكرة : من الاستشكال فيه.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٩.

١١٦

ويشترط وحدة محل الإقامة [١] ، فلو قصد الإقامة في أمكنة متعددة عشرة أيام لم ينقطع حكم السفر ، كأن عزم على الإقامة في النجف والكوفة ، أو في الكاظمين وبغداد ، أو عزم على الإقامة في رستاق من قرية إلى قرية ، من غير عزم على الإقامة في واحدة منها عشرة أيام. ولا يضر بوحدة المحل فصل مثل الشط ، بعد كون المجموع بلداً واحداً ، كجانبي الحلة ، وبغداد ، ونحوهما. ولو كان البلد خارجاً عن المتعارف في الكبر فاللازم قصد الإقامة في المحلة منه ، إذا كانت المحلات منفصلة ، بخلاف ما إذا كانت متصلة. إلا إذا كان كبيراً جداً بحيث لا يصدق وحدة المحل ، وكان كنية الإقامة في رستاق مشتمل على القرى ، مثل قسطنطينية ونحوها.

______________________________________________________

[١] بلا خلاف ظاهر. لأن الظاهر من النصوص كون موضوع التمام هو الإقامة الواحدة المستمرة ، ومع تعدد المكان تتعدد الإقامة ، فلا تكون واحدة مستمرة. نعم في موثق عبد الرحمن بن الحجاج قال : « قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل تكون له الضياع ، بعضها يكون قريباً من بعض ، فيخرج فيقيم فيها ، أيتم ، أم يقصر؟ قال (ع) : يتم » (١) كذا رواه في الكافي. وعن الشيخ والصدوق : روايته : « يطوف » بدل : « يقيم » مع أنه لم يظهر منه كون الإقامة عشرة ، فيمكن أن يكون من قبيل ما دل على وجوب الإتمام في الضيعة ، مما تقدم الكلام فيه.

ثمَّ إن المراد من الوحدة المكانية ليس الوحدة الحقيقية ، ضرورة جواز تردد المقيم في بلد من داره الى المسجد ، وإلى السوق ، وإلى الحرم ، وإلى‌

__________________

(١) تقدم ذلك في المسألة : ١ من هذا الفصل.

١١٧

( مسألة ٨ ) : لا يعتبر في نية الإقامة قصد عدم الخروج عن خطة سور البلد على الأصح [١]. بل لو قصد حال نيتها الخروج الى بعض بساتينها ومزارعها ونحوها من حدودها ،

______________________________________________________

الحمام ... الى غيرها من الأمكنة المتعددة. ولا الوحدة الاعتبارية مطلقاً ، لاختلاف مقتضي الاعتبار جداً ، فقد تكون البلاد المتعددة مع تعددها واحداً ببعض العناوين الاعتبارية ، مثل العراق ، وإيران ، وآسيا ، وغير ذلك. بل المراد خصوص الوحدة الاعتبارية بلحاظ عنوان الإقامة ، فإذا كانت الأمكنة المتعددة حقيقة بنحو لا يكون تعددها موجباً لتعدد الإقامة عرفاً فيها كانت مكاناً واحداً بذلك الاعتبار. وإن كانت بحيث توجب تعدد الإقامة كانت متعددة. والوجه في ذلك : ما عرفت من رجوع اعتبار وحدة المكان الى اعتبار وحدة الإقامة ، لانحصار الدليل عليها بما دل على اعتبار وحدة الإقامة ، فتدور وحدة المكان مدار وحدتها. فمهما كانت الأمكنة المتعددة لا تكون الإقامات فيها إلا إقامة واحدة عرفاً ـ كالدار ، والمسجد ، والحرم والحمام ، وغيرها ـ كانت مكاناً واحداً. ومهما كانت الأمكنة لتباعدها بنحو تعد الإقامة في بعضها غير الإقامة في الآخر ، كانت الأمكنة متعددة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه تختلف الإقامة العرفية باختلاف الأمكنة فالقرى المفصول بعضها عن بعض بربع الفرسخ تعد الإقامة في بعضها غير الإقامة في الأخرى ، ومحلات البلد الواحد ، وإن كان يبعد بعضها عن بعض بربع الفرسخ لا تعد الإقامة في بعضها غير الإقامة في الأخرى. فلا بد من ملاحظة خصوصيات الأمكنة ، لينظر أن التعدي من مكان إلى مكان هل يعد ارتحالا عنه إلى الآخر ، أو لا يعد كذلك؟ وعلى ذلك تدور صحة الإقامة وعدمها ، بلا فرق بين الأرض ، والقرية ، والبلاد المتسعة ، وغيرها فلاحظ‌

[١] وفي الحدائق : « الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في جوازه.

١١٨

مما لا ينافي صدق اسم الإقامة في البلد عرفاً ، جرى عليه حكم المقيم ، حتى إذا كان من نيته الخروج عن حد الترخص ـ بل الى ما دون الأربعة ـ إذا كان قاصداً للعود عن قريب ، بحيث لا يخرج عن صدق الإقامة في ذلك المكان عرفاً ، كما إذا كان من نيته الخروج نهاراً والرجوع قبل الليل.

( مسألة ٩ ) : إذا كان محل الإقامة برية قفراء لا يجب‌

______________________________________________________

وأما ما اشتهر في هذه الأوقات المتأخرة والأزمنة المتغيرة : من أن من أقام في بلد أو قرية ـ مثلا ـ فلا يجوز له الخروج عن سورها المحيط بها ، أو عن حدود بنيانها ودورها ، فهو ناشئ عن الغفلة » وفي مفتاح الكرامة : « هذا تعريض بالفاضل الفتوني ». ووجه ضعفه : عدم منافاة الخروج عن السور في الجملة لصدق الإقامة في البلد عرفاً ، التي أخذت موضوعاً لأدلة وجوب التمام ، لأن خارج السور القريب منه معدود عرفاً متحداً مع البلد ، فلا تكون الإقامة فيه مغايرة للإقامة في البلد ، فضلا عن الخروج اليه آناً ما.

هذا ومقتضى ما عرفت ـ من أن ظاهر النصوص كون الموجب للتمام هو الإقامة الواحدة المستمرة التي لا يتخلل بين أجزائها عدم ـ أن يكون مبنى الفروض المذكورة في هذه المسألة : كون المكان الذي يخرج اليه المقيم معدوداً عرفاً مغايراً لموضع الإقامة ، بحيث تكون الإقامة فيه إقامة أخرى ، غير الإقامة في موضعها. أو معدوداً معه واحداً. فما يكون من قبيل الأول لا تجوز نية الخروج إليه ، لأن الخروج إليه إذا كان منافياً لاستمرار الإقامة كانت نية الخروج إليه منافية لنية الإقامة الواحدة المستمرة ، بل كانت نية الإقامة حينئذ من قبيل نية الإقامة في القرى المتعددة ، التي لا تكون موضوعاً لوجوب الإتمام. وما يكون من قبيل الثاني تجوز نية الخروج اليه ، لعدم منافاتها لنية الإقامة الواحدة المستمرة.

١١٩

______________________________________________________

ولأجل ذلك نسب القول بجواز نية الخروج إلى ما دون المسافة إلى الندرة والشذوذ ، ولم يعرف قائل به الى زمان فخر الإسلام ، فقد قيل : إنه قال به في بعض حواشيه ، وتبعه عليه في الوافي ، وشرح المفاتيح. وعن الشهيد الثاني في بعض فوائده ، أنه قال : « وما يوجد في بعض القيود : من أن الخروج الى خارج الحد ، مع العود الى موضع الإقامة ليومه أو ليلته لا يؤثر في نية الإقامة ، وإن لم ينو إقامة عشرة مستأنفة ، لا حقيقة له ، ولم نقف عليه مسنداً الى أحد من المعتبرين ، الذين تعتبر فتواهم ، فيجب الحكم بإخراجه .. ».

وكأن الوجه الذي دعاهم الى ذلك : حمل الإقامة في النصوص على كون البلد مثلا مقراً له ومحطاً لرحله. إذ من الواضح أن هذا المعنى لا ينافيه الخروج المذكور. بل لا ينافيه الخروج إلى المسافة ، لو لا الإجماع على قدح نيته. لكن حيث لا قرينة على هذا المعنى ، لا مجال لرفع اليد عن ظاهر النصوص في كون الإقامة ما يقابل الارتحال والذهاب ، المعبر عنها بالحضور المنافي ذلك قطعاً. لا أقل من إجمال النصوص ، والمرجع عموم التقصير على المسافر. اللهم إلا أن يقال : المفهوم عرفاً من الإقامة هو المعنى الأول ، فيتعين حمل النصوص عليه ، ولا إجمال فيها حينئذ.

وأما ما في خبر الحضيني ، المروي في الوسائل في باب تخيير المسافر بمكة : « إني أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة. قال (ع) : انو مقام عشرة أيام ، وأتم الصلاة » (١) فالاستدلال به على هذا القول مبني على كون الخروج الى عرفات لا يوجب التقصير ، والالتزام بكون الخروج هذه المدة غير مناف للإقامة. والأول مناف لصريح النصوص. والثاني بعيد جداً. مع أن عدم صحة الخبر في نفسه ، وإعراض الأصحاب عنه مانعان عن العمل به.

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٥.

١٢٠