مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٤

______________________________________________________

أصحابنا اختلفوا في الحرمين ، فبعضهم يقصر وبعضهم يتم ، وأنا ممن يتم على رواية أصحابنا في التمام ، وذكرت عبد الله بن جندب أنه كان يتم ، فقال : رحم الله ابن جندب ( ثمَّ قال ) : لي لا يكون التمام. إلا أن تجمع على إقامة عشرة أيام. وصل النوافل ما شئت. قال ابن حديد : وكانت محبتي أن يأمرني بالإتمام » (١). ومنها : مصحح معاوية بن وهب : « سألت أبا عبد الله (ع) عن التقصير في الحرمين والتمام ، فقال : لا تتم حتى تجمع على مقام عشرة أيام. فقلت : إن أصحابنا رووا عنك أنك أمرتهم بالتمام ، فقال : إن أصحابنا كانوا يدخلون المسجد فيصلون ويأخذون نعالهم ويخرجون ، والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة ، فأمرتهم بالتمام (٢) » ، وحسنه : « قلت لأبي عبد الله (ع) : مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال : نعم. قلت : روى عنك بعض أصحابنا أنك قلت لهم : أتموا بالمدينة لخمس. فقال : إن أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون ، فيخرجون من المسجد عند الصلاة ، فكرهت ذلك لهم ، فلهذا قلته » (٣).

ويمكن الجواب عنها ، أما صحيح أبي ولاد فلتوقف الاستدلال به على كون التخيير بين القصر والتمام عاماً لجميع البلد. أما لو اختص بالمسجد فلا مجال له. مضافاً إلى إمكان دعوى كون السؤال عن حكم الإقامة في مطلق البلد ، ولأجل ذلك استفيد منه الحكم الكلي ، وإن كان للمدينة خصوصية دون غيرها. ولزوم تخصيص المورد لا مانع منه في مقام الجمع بين الأدلة. وأما صحيح ابن بزيع والمصحح عن ابن حديد‌ ، فمع ضعف الثاني ، يمكن حملهما على إرادة نفي وجوب التمام ، لا نفي مشروعيته إذا لم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣٣.

(٢) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣٤.

(٣) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٧.

١٨١

______________________________________________________

ينو الإقامة عشرة ، كما يشهد به قوله في الثاني : « وكانت محبتي أن يأمرني بالتمام ». إذ هو ظاهر في الإلزام به ، لا في الترخيص فيه.

ومن ذلك يظهر الجواب عن مصحح معاوية‌ ، وحسنه. والظاهر منهما أن أصحاب الأئمة (ع) في عصرهم كانوا مختلفين ، فبعضهم كان مأموراً بالإتمام ، ولذا كان يرى وجوبه تعييناً ، وبعضهم كان مأموراً بالقصر ، فيرى وجوبه تعييناً. والظاهر أن الوجوبين طارئان بالعناوين الثانوية فالعنوان الموجب للأمر بالإتمام تعييناً هو ما أشير إليه في مصحح معاوية وحسنه الأخيرين. والعنوان الموجب للأمر بالقصر هو خوف الوقوع في خلاف التقية ، كما أشير إليه في حسن ابن الحجاج : « قلت لأبي الحسن (ع) : إن هشاماً روى عنك أنك أمرته بالتمام في الحرمين ، وذلك من أجل الناس قال : لا ، كنت أنا ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة ، واستترنا من الناس » (١). فان الظاهر أن الاستتار إنما يكون من جهة التقية ممن كان يرى وجوب القصر على المسافر من العامة. فكل من العنوانين الموجب للقصر والتمام راجع إلى التقية. وان اختلفت الجهة. ولأجل ذلك الاختلاف صح له (ع) أن يقول في حسن ابن الحجاج : « لا ، كنت .. » إذ المراد إنكار جهة التقية التي ادعاها هشام ، لا إنكار أصل التقية ، وإلا لم يكن وجه للاستتار بالإتمام.

ومن ذلك أيضاً تعرف أن المراد من قول السائل في صحيح ابن مهزيار : « فمنها : يأمر أن يتم .. ، ومنها : يأمر أن يقصر .. » الأمر الإلزامي التعييني ، لكن كان لبعض العناوين الثانوية ، ولولاها لكان كل منها واجباً تخييرياً. وأما ما في صدر الحسن الأخير فلا بد أن يكون المراد منه مساواة مكة والمدينة لسائر البلاد في عدم وجوب التمام إلا بنية‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٦.

١٨٢

______________________________________________________

الإقامة عشرة.

وبالجملة : المستفاد من نصوص المسألة : أن العبارات الصادرة من الأئمة (ع) على أنحاء. منها : ما هو صريح في التخيير بين التمام والقصر ومنها : ما هو آمر تعييناً بالتمام ، ومنها : ما هو آمر تعييناً بالقصر. والجمع بين الأخيرين وما قبلهما : هو أن الحكم الأولي التخيير ، وقد يطرأ عنوان فيقتضي وجوب أحدهما تعييناً. وأن اختلاف أصحاب الأئمة (ع) في ذلك ناشئ من اختلافهم في الأمر الصادر لهم ، الناشئ من اختلاف الجهات المعينة للقصر أو التمام. فلا تنافي بين روايتي الأمر بالتمام والأمر بالقصر ، كما لا تنافي بينهما وبين غيرهما.

ومن ذلك يظهر الوجه فيما رواه في كامل الزيارة عن سعد : « أنه سئل أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد : مكة ، والمدينة ، والكوفة وقبر الحسين (ع) ، والذي روي فيها ، فقال : أنا أقصر ، وكان صفوان يقصر ، وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصرون » (١) ، وما في صحيح ابن مهزيار : « من أن فقهاء أصحابنا أشاروا إليه بالتقصير .. » (٢) فان المراد الالتزام بالتقصير ، والإشارة بذلك للأمر الصادر عن الأئمة (ع) به لبعض العوارض المقتضية لذلك.

وما ذكرنا هو الذي يقتضيه الجمع بين النصوص. وأما حمل نصوص الأمر بالإتمام على إرادة الأمر بالإقامة فبعيد جداً. وكذا حمل التخيير بينه وبين القصر على إرادة التخيير بين نية الإقامة وعدمها ، فإنه خلاف ما دل على الإتمام ولو صلاة واحدة ، أو ماراً ، أو حين يدخل.

ومما ذكرنا يظهر لك ضعف ما عن ظاهر الصدوق أو صريحه. من منع‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ١٨ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣.

(٢) تقدم ذلك في أوائل هذه التعليقة.

١٨٣

وما ذكرنا هو القدر المتيقن. والا فلا يبعد كون المدار على البلدان الأربعة ، وهي مكة ، والمدينة ، والكوفة وكربلاء [١].

______________________________________________________

الإتمام إلا مع نية الإقامة. وكذا ما عن السيد وابن الجنيد : من وجوبه. إذ جواز القصر من ضروريات مدلول النصوص المتقدمة إليها الإشارة. وطرحها بأجمعها ، والعمل بما ظاهره وجوب التمام خلاف مقتضى الجمع بين الأدلة. إلا أن في الحكاية عنهما إشكالا ، لما عن المختلف : من نسبة استحباب التمام إليهما. ولذا لم يتعرض في المتن للاحتياط بفعل التمام. فلاحظ ، وتأمل.

[١] كما نسب إلى المبسوط والنهاية ـ على وجه ـ وابني حمزة وسعيد ، والمحقق في كتاب له في السفر ، بل حكي عن الشيخ ، والفاضلين ، وأكثر الأصحاب ، بل نسب إلى المشهور.

ووجهه : أما في الأولين فالأخبار الكثيرة المشتملة على التعبير بمكة والمدينة ، كصحيح ابن الحجاج المتقدم (١) ، وبالحرمين ، لتفسيرهما في صحيح ابن مهزيار المتقدم بهما ، وبحرم الله وحرم رسوله (ص) ، المفسرين في رواية معاوية بن عمار وغيرها بهما (٢).

وما يتوهم معارضته لها ، من مرسل إبراهيم بن أبي البلاد عن أبي عبد الله (ع) : « تتم الصلاة في ثلاثة مواطن : في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول (ص) ، وعند قبر الحسين (ع) » (٣) ، ونحوه مرسل حذيفة‌

__________________

(١) راجع التعليقة السابقة.

(٢) الوسائل باب : ١٧ من أبواب المزار حديث : ١. وفي نفس الباب ـ وكذا في الباب ١٦ من أبواب المزار ـ أحاديث أخر على ذلك.

(٣) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٢.

١٨٤

______________________________________________________

ابن منصور عنه (ع) (١). وخبر أبي بصير عنه (ع) (٢) ، وخبر خادم إسماعيل بن جعفر عنه (ع) (٣) ، فمع ضعفه في نفسه ، غير صالح للمعارضة ، لعدم التنافي بينهما ، لكونهما مثبتين. وذكر المسجد بالخصوص يمكن أن يكون لغلبة كونه موضع الصلاة.

ويشهد بعموم الحكم للبلدين : ما في مرسل حماد عن أبي عبد الله (ع) : « من الأمر المذخور : إتمام الصلاة في أربعة مواطن : بمكة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، والحائر » (٤). فإن التعبير بالبلدين ، ثمَّ العدول عنه إلى التعبير بالمسجد في الكوفة شاهد قوي على عموم الحكم لهما. ونحوه مرسل الفقيه (٥) ، بل الظاهر أنه هو. ويشهد له أيضاً ما في صحيح ابن مهزيار من قوله : « أي شي‌ء تعني بالحرمين؟ .. » فان الظاهر أن اختصاص الحرمين في مكة والمدينة في الجملة مما لا إشكال فيه عنده ، وإنما السؤال كان عن أن الحرم يعم البلد ، أو يخص المسجد ، أو جهة معينة منه ، أو غير ذلك ، فلا يمكن حمل البلدين فيه على المسجدين فلاحظ. نعم يقتضي الاختصاص بالمسجد في المدينة صحيح أبي ولاد المتقدم. لكن عرفت قريباً وجه الجمع بينه وبين ما نحن فيه. فتأمل. ومن ذلك يظهر ضعف ما عن الحلي : من اختصاص الحكم بالمسجدين. أخذاً بالمتيقن.

وأما بلد الكوفة فليس ما يدل على جواز الإتمام فيه إلا خبر زياد القندي عن أبي الحسن (ع) (٦). وما عداه قد اشتمل بعضه على التعبير‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٣.

(٢) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٥.

(٣) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٤.

(٤) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٩.

(٥) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٦.

(٦) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٣.

١٨٥

______________________________________________________

بحرم أمير المؤمنين (ع) ، كمصحح حماد بن عيسى المتقدم (١) ، ومرسل المصباح (٢). وبعضها قد اشتمل على التعبير بمسجد الكوفة ، كمرسل حذيفة ابن منصور (٣) ، ومرسل الفقيه (٤) ، وخبر أبي بصير (٥) ، ومرسل حماد (٦). ولا ريب في اختصاص الأخير بالمسجد.

وأما الثاني فلا يخلو من إجمال. وتطبيقه في بعض الروايات عليها ـ كخبر حسان بن مهران ، وفيه : « قال أمير المؤمنين : مكة حرم الله تعالى ، والمدينة حرم رسول الله (ص) ، والكوفة حرمي ، لا يريدها جبار بحادثة إلا قصمه الله » (٧). ونحوه خبر عاصم بن حميد ـ (٨) وفي رواية القلانسي : « إن الكوفة حرم الله ، وحرم رسوله (ص) ، وحرم أمير المؤمنين (ع) » (٩) غير كاف في إثبات الحكم لها ، لضعفه ـ كخبر زياد ـ أولا. ولأن مجرد التطبيق لا يجدي فيما نحن فيه ، وإنما المجدي التفسير ، بأن يقال : حرم أمير المؤمنين (ع) هو الكوفة. وليس‌

__________________

(١) راجع أوائل التعليقة السابقة.

(٢) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢٤.

(٣) المراد هو المرسل المتقدم في صدر التعليقة.

(٤) ، (٥) ، (٦) تقدم ذكر ذلك كله في هذه التعليقة.

(٧) الوسائل باب : ١٦ من أبواب المزار حديث : ١.

(٨) لم نجد الرواية المذكورة في مظانها ، من الوسائل ، والمستدرك ، والجواهر ، والحدائق ، والمستند. نعم في المستدرك باب : ١٢ من أبواب المزار ، عن أمالي الطوسي (ره) عن عاصم بن عبد الواحد المدني ، عن الصادق (ع) وفيه : « والكوفة حرم علي (ع) .. » وقد أشار صاحب المستند في ج ٢ صفحة ٥٨٤ ، والحدائق في ج ١١ صفحة ٤٥٦ طبع النجف الأشرف إلى الرواية المذكورة مصرحاً الأخير منهما بإهمال الراوي. كما وإنا لم نجد ذكراً له في تنقيح المقال للمامقاني (ره) وانما جاء فيه : ترجمة عاصم بن حميد. من أصحاب الصادق (ع). فراجع تنقيح المقال ج ٢ ص ١١٣‌

(٩) الوسائل باب : ٤٤ من أبواب أحكام المساجد حديث : ٣٣.

١٨٦

______________________________________________________

مفاد النصوص ذلك. والتطبيق إنما يجدي في الحكم الثابت لموضوع عام ، لا ما إذا أريد من العام فرد مخصوص وقد أجمل. فرفع اليد عن عموم وجوب القصر على المسافر فيما عدا مسجد الكوفة لا يخلو من إشكال ، والاقتصار على المتيقن ـ وهو خصوص المسجد ـ متعين. ويشير إليه مرسل حماد المتقدم. وإلحاق الكوفة بمكة ، بضميمة عدم الفصل ـ كما عن الشيخ (ره) ـ غير ظاهر ، لثبوت القول بالفصل حينئذ.

وأما كربلاء : فالنصوص المتعرضة للحكم فيها بين ما تضمن التعبير بـ « حرم الحسين (ع) » ، كمصحح حماد (١) ، وخبر خادم إسماعيل بن جعفر (٢) ، ومرسل حذيفة بن منصور (٣). ومرسل المصباح (٤) ، وبين ما تضمن التعبير بـ « عند قبر الحسين (ع) » ، كخبر أبي شبل (٥) وخبر عمرو بن مرزوق (٦) ، ومرسل إبراهيم بن أبي البلاد المتقدم (٧) وبين ما تضمن التعبير بالحائر ، كمرسل حماد‌ ، ومرسل الصدوق‌ ، اللذين قد عرفت أن الظاهر أنهما واحد (٨) ،

أما الأول فقد ورد في مرفوع منصور بن العباس : أنه خمسة فراسخ من أربع جوانبه (٩). وفي مرسل محمد بن إسماعيل البصري : أنه فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر (١٠). لكن لا مجال للاعتماد عليه في مثل‌

__________________

(١) تقدم ذلك في أول المسألة.

(٢) ، (٣) ، (٤) تقدم ذلك كله في صدر التعليقة.

(٥) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٢.

(٦) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٣٠.

(٧) تقدم ذلك في صدر التعليقة.

(٨) تقدم ذلك في صدر التعليقة.

(٩) الوسائل باب : ٦٧ من أبواب المزار حديث : ١.

(١٠) الوسائل باب : ٦٧ من أبواب المزار حديث : ٢.

١٨٧

______________________________________________________

المقام ، لضعف السند من دون جابر. ولما لم يكن طريق شرعي إلى تحديده يبقى على إجماله ، وليس له معنى عرفي ليرجع اليه.

وأما الأخير فلم أقف في النصوص على تحديده ، إلا على رواية الحسين ابن ثوير ، الواردة في آداب الزيارة المأثورة ، وفيها : « وعليك بالتكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والتحميد ، والتعظيم لله تعالى ، والصلاة على محمد وأهل بيته ، حتى تصير إلى باب الحائر ، ثمَّ تقول : السلام .. ( إلى أن قال ثمَّ اخط عشر خطاً ، ثمَّ قف وكبر ثلاثين تكبيرة. ثمَّ امش اليه حتى تأتيه من قبل وجهه ، فاستقبل وجهك بوجهه .. » (١). فإنه ـ على تقدير ظهوره في كون باب الحائر متصلا بالحائر ـ ظاهر في أن الحائر أكثر من عشر خطوات.

نعم عن الإرشاد للمفيد (ره) : أن الحائر محيط بهم (ع) إلا العباس (ع) فإنه قتل على المسناة. وعن السرائر : أنه ما دار سور المشهد والمسجد عليه ، دون ما دار سور البلد عليه ، لأن ذلك هو الحائر حقيقة ، لأن الحائر في لسان العرب الموضع المطمئن الذي يحار الماء فيه. وعن البحار عن بعض : أنه مجموع الصحن المقدس ، وبعضهم : أنه القبة السامية. وبعضهم : أنه الروضة المقدسة وما أحاط بها من العمارات المقدسة ، من الرواق والمقتل والخزانة وغيرها. ثمَّ قال : « والأظهر عندي أنه مجموع الصحن القديم ، لا ما تجدد منه في الدولة الصفوية ». لكن الجميع غير واضح المستند. مع أن في الاعتماد على المرسلين المشتملين على التعبير بالحائر (٢) إشكالا. فالاقتصار على القدر المتيقن من معنى الحائر ، ومن معنى الحرم ـ وهو ما يقارب الضريح المقدس ـ متعين.

__________________

(١) الوسائل باب : ٦٢ من أبواب المزار حديث : ١.

(٢) المراد بهما : مرسلا حماد والصدوق المتقدمان في صدر التعليقة.

١٨٨

لكن لا ينبغي ترك الاحتياط ، خصوصاً في الأخيرتين. ولا يلحق بها سائر المشاهد [١]. والأحوط في المساجد الثلاثة الاقتصار على الأصلي منها ، دون الزيادات الحادثة في بعضها [٢]. نعم لا فرق فيها بين السطوح ، والصحن ، والمواضع المنخفضة منها. كما أن الأحوط في الحائر الاقتصار على ما حول الضريح المبارك.

( مسألة ١٢ ) : إذا كان بعض بدن المصلي داخلا في أماكن التخيير وبعضه خارجاً لا يجوز له التمام [٣]. نعم لا بأس بالوقوف منتهى أحدها إذا كان يتأخر حال الركوع والسجود [٤]

______________________________________________________

وأما تحديده في كلام بعض بخمسة وعشرين ذراعاً فلم أقف على مستند له غير مصحح إسحاق بن عمار : « سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : إن لموضع قبر الحسين عليه‌السلام حرمة معروفة من عرفها واستجار بها أجير. قلت : صف لي موضعها. قال (ع) : امسح من موضع قبره اليوم خمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رجليه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من خلفه ، وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه » (١) إلا أن في تعلقها بما نحن فيه تأملا ظاهراً. والله سبحانه أعلم.

[١] لعدم الدليل الموجب للخروج عن عموم القصر على المسافر. وما عن السيد وابن الجنيد. من إلحاق المشاهد بها في وجوب التمام. قد عرفت الاشكال فيه في الملحق به ، فضلا عن الملحق.

[٢] إذا كانت الزيادة بعد صدور النصوص ، لعدم الدليل على ذلك نعم لو كانت الزيادة قبل صدور النصوص فظاهرها دخول الزيادة.

[٣] لعدم دخوله في أدلته.

[٤] لصدق الصلاة في المواطن المذكورة.

__________________

(١) الوسائل باب : ٦٧ من أبواب المزار حديث : ٤.

١٨٩

بحيث يكون تمام بدنه داخلا حالهما.

( مسألة ١٣ ) : لا يلحق الصوم بالصلاة في التخيير المزبور [١] ، فلا يصح له الصوم فيها ، إلا إذا نوى الإقامة أو بقي متردداً ثلاثين يوماً.

( مسألة ١٤ ) : التخيير في هذه الأماكن استمراري [٢] فيجوز له التمام مع شروعه في الصلاة بقصد القصر وبالعكس ما لم يتجاوز محل العدول. بل لا بأس بأن ينوي الصلاة من غير تعيين أحد الأمرين من الأول [٣]. بل لو نوى القصر فأتم غفلة أو بالعكس فالظاهر الصحة [٤].

______________________________________________________

[١] كما هو ظاهر الفتاوى ، والمصرح به في كلام غير واحد. لعدم دخوله في الأدلة. وعموم التلازم بينهما في القصر والتمام مختص بغير ما نحن فيه ، لظهوره في عدم الفرق بين السفر المشرع لقصر الصوم والمشرع لقصر الصلاة ، وأن عنوان المسافر في المقامين بمعنى واحد. ويشير إلى عدم الإلحاق ما في موثق عثمان بن عيسى : « عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين قال (ع) : أتمها ولو صلاة واحدة » (١).

[٢] لإطلاق الأدلة ، التي لا فرق فيها بين الابتداء والاستدامة.

[٣] بأن يقصد الأمر المتعلق بالركعتين في الجملة ، بلا تحديد له بإحدى الخصوصيتين.

[٤] كما لو تخيل أنه مأمور بالتمام لكونه حاضراً. وكذا لو جاء بكل من الركعتين الأخيرتين بقصد أنها الثانية ، لاعتقاده عدم فعلها. واحتمال البطلان بزيادة الركعتين لعدم قصد امتثال أمرهما ضعيف ، لأن ذلك من قبيل الاشتباه في التطبيق ، كما تقدم في مبحث الخلل. فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٧.

١٩٠

( مسألة ١٥ ) : يستحب أن يقول عقيب كل صلاة مقصورة [١] ثلاثين مرة : « سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ». وهذا وإن كان يستحب من حيث التعقيب عقيب كل فريضة حتى غير المقصورة [٢] ، إلا أنه يتأكد عقيب المقصورات [٣] ، بل الأولى تكرارها مرتين [٤] ، مرة من باب التعقيب ، ومرة من حيث بدليتها عن الركعتين الساقطتين.

______________________________________________________

[١] بلا خلاف أجده ، كما في الجواهر. لخبر المروزي قال : « قال الفقيه العسكري (ع) : يجب على المسافر أن يقول في دبر كل صلاة يقصر فيها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ثلاثين مرة ، لتمام الصلاة » (١). وفي خبر رجاء : « إن الرضا (ع) كان يقولها في دبر كل صلاة يقصرها ثلاثين مرة ، ويقول هذا تمام الصلاة » (٢). ويتعين حمل الأول على الاستحباب ، لما عرفت من نفي الخلاف ، وقضاء السيرة القطعية بذلك.

[٢] كما ورد في بعض الأخبار.

[٣] لتعدد الجهة.

[٤] لاحتمال عدم التداخل. لكنه خلاف إطلاق الأدلة. ولأجله لا مجال للرجوع إلى قاعدة عدم التداخل. وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

انتهى الكلام فيما يتعلق بصلاة المسافر ، في النجف الأشرف ، ثالث ربيع الثاني من السنة الخمسين بعد الألف والثلاثمائة هجرية ، على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحية. بقلم مؤلفه الأقل ( محسن ) ، خلف المقدس العلامة المرحوم السيد ( مهدي ) الطباطبائي الحكيم. وله الحمد‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٢.

١٩١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب الصوم

وهو الإمساك عما يأتي من المفطرات ، بقصد القربة [١].

______________________________________________________

والمجد ، كما هو أهله. وهو حسبنا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، محمد وآله الغر الميامين.

كتاب الصوم‌

الصوم في اللغة : مطلق الإمساك ، أو إمساك الحيوان ، أو خصوص الإنسان ، وعن ابن دريد : « كل شي‌ء سكنت حركته فقد صام صوماً ».

[١] قد اختلفت عباراتهم في معناه الشرعي ، ففي بعضها : أنه الكف وفي آخر : أنه التوطين ، وفي ثالث : أنه الإمساك. وقد اختلفت أيضاً في القيود المذكورة في تعريفاته. وظاهر أكثرهم أنهم في مقام التعريف الحقيقي ، لعدول كل عن تعريف الآخر ، معتذراً بتوجه المناقشات على التعريف المعدول عنه ، من جهة الطرد ، أو العكس ، أو من جهتهما معاً. وليس ذلك إلا لبنائهم على التعريف الحقيقي. لكن السعي في هذا السبيل لما لم يترتب عليه مزيد فائدة كان تركه والاشتغال بما هو أهم أولى.

١٩٢

وينقسم [١] إلى الواجب ، والمندوب ، والحرام ، والمكروه ، بمعنى قلة الثواب. والواجب منه ثمانية [٢] : صوم شهر رمضان ، وصوم القضاء ، وصوم الكفارة ـ على كثرتها ـ وصوم بدل الهدي في الحج وصوم النذر والعهد واليمين ، وصوم الإجارة ونحوها ـ كالشروط في ضمن العقد ـ وصوم الثالث من أيام الاعتكاف ، وصوم الولد الأكبر عن أحد أبويه.

ووجوبه في شهر رمضان من ضروريات الدين [٣] ، ومنكره مرتد [٤] يجب قتله [٥]. ومن أفطر فيه ـ لا مستحلا ـ ،

______________________________________________________

نعم هنا شي‌ء ، وهو أنه لا ريب في الاجتزاء يصوم من أكل ناسياً للصوم. وحينئذ فإن كان الصوم عبارة عن الإمساك عن ذوات المفطرات لم يصدق ذلك على الصوم المذكور ، ووجب الالتزام بكونه بدلا عن الصوم لا صوماً حقيقة ، وهو خلاف ظاهر النص والفتوى. وإن كان عبارة عن الإمساك عنها بقيد الالتفات إلى الصوم لزم أخذ الالتفات إليه قيداً فيه ، وهو ممتنع ، إذ الالتفات إلى الشي‌ء خارج عنه. فلا بد من أخذ المفطرات مهملة ، لا مطلقة ، ولا مقيدة بالالتفات. وهكذا الحال في أخذ قصد القربة فيه وفي غيره من العبادات ، فالأمر به وبسائر العبادات متعلق بالذات الملازمة لقصد القربة ، لا بالذات المطلقة ، ولا بالذات المقيدة بقصد القربة. فلاحظ‌

[١] سيأتي التعرض للأقسام المذكورة.

[٢] الاستدلال على وجوب كل من الأقسام المذكورة موكول إلى محله.

[٣] كما صرح به جماعة ، بل الظاهر أنه إجماع.

[٤] تقدم في مبحث نجاسة الكافر الكلام في أن إنكار الضروري مطلقاً موجب للكفر ، أو بشرط علم المنكر بأنه من الدين. فراجع.

[٥] إن كان ولد على فطرة الإسلام. وإلا فبعد أن يستتاب فلا يتوب ،

١٩٣

عالماً عامداً يعزر [١] بخمسة وعشرين سوطاً [٢] ، فان عاد عزر ثانياً [٣] ، فان عاد قتل على الأقوى [٤]. وإن كان‌

______________________________________________________

كما أشرنا إليه في كتاب الطهارة. ومحله مفصلا في كتاب الحدود.

[١] بلا خلاف ظاهر. لصحيح بريد العجلي : « سئل أبو جعفر (ع) عن رجل شهد عليه شهود أنه أفطر شهر رمضان ثلاثة أيام. قال (ع) : يسأل هل عليك في إفطارك شهر رمضان إثم ، فان قال : لا ، فان على الامام أن يقتله. وإن قال : نعم ، فان على الامام أن ينهكه ضرباً » (١)

[٢] لخبر المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) ـ فيمن أتى امرأته وهما صائمان ـ : « وإن كان أكرهها فعليه ضرب خمسين سوطاً ، نصف الحد. وإن كانت طاوعته ضرب خمسة وعشرين سوطاً ، وضربت خمسة وعشرين سوطاً » (٢). وضعف سنده ـ لو تمَّ ـ مجبور بالعمل به في مورده. لكن التعدي منه إلى مطلق الإفطار ـ مع كونه خلاف إطلاق الصحيح المتقدم ، وإطلاق ما دل على إيكال تقدير التعزير إلى الامام ـ غير ظاهر. ولا سيما وكون التقدير المذكور خلاف ظاهر إطلاق التعزير في كلامهم ، فإنه عندهم يقابل الحد ، وهو الذي له تقدير بعينه. وكأنه لذلك كان ما عن جماعة من التصريح بعدم التقدير.

[٣] بلا خلاف ظاهر. ويقتضيه إطلاق الصحيح المتقدم‌.

[٤] كما عن الأكثر أو المشهور. لموثق سماعة : « سألته عن رجل أخذ في شهر رمضان ، وقد أفطر ثلاث مرات ، وقد رفع إلى الامام ثلاث مرات. قال (ع) : يقتل في الثالثة » (٣). ونحوه خبر أبي بصير (٤)

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ٢ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ملحق الحديث : ٢.

١٩٤

الأحوط قتله في الرابعة [١]. وإنما يقتل في الثالثة أو الرابعة إذا عزر في كل من المرتين أو الثلاث [٢]. وإذا ادعى شبهة محتملة في حقه درئ عنه الحد [٣].

فصل في النية

يجب في الصوم القصد إليه ، مع القربة والإخلاص [٤]

______________________________________________________

أما صحيح يونس عن أبي الحسن الماضي (ع) : « أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة » (١) فالاستدلال به يتوقف على عمومه للمقام ، بأن يراد من الحد ما يعم التعزير. وهو كما ترى.

[١] كما هو المحكي عن بعض. للمرسل : « إن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة » (٢). وضعفه ـ لعدم صلاحية المرسل لمعارضة ما سبق ـ ظاهر. وكونه أحوط غير ظاهر ، لأنه مخالف للأدلة المتقدمة. وأهمية القتل إنما تقتضي تقديم الاحتياط فيه على الاحتياط في غيره عند تزاحم الاحتياطين. وذلك في غير ما نحن فيه.

[٢] كما عن التذكرة وجماعة. ويقتضيه ظاهر ما سبق. لا أقل من عدم إطلاقه بنحو يشمل صورة عدمه ، كما لا يخفى.

[٣] لإطلاق ما دل على أن الحدود تدرأ بالشبهات.

فصل في النية‌

[٤] بلا خلاف. لكونه من العبادات المعتبر فيها ذلك إجماعاً. نعم الظاهر ، بل الذي لا ينبغي التأمل فيه : أنه لا يعتبر فيه أن يكون الترك‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥ من أبواب مقدمات الحدود حديث : ١.

(٢) لم نعثر على ذلك ، وإنما روي ذلك مرسلا في خصوص شارب الخمر. لاحظ الوسائل باب : ١١ من أبواب حد المسكر حديث : ٧.

١٩٥

كسائر العبادات. ولا يجب الاخطار بل يكفي الداعي [١]. ويعتبر فيما عدا شهر رمضان ـ حتى الواجب المعين أيضاً ـ القصد إلى نوعه [٢] ، من الكفارة ، أو القضاء ، أو النذر ،

______________________________________________________

للمفطرات في كل آن من آنات النهار مستنداً إلى إرادة موافقة أمر الله تعالى. وإلا لزم بطلان الصوم بانتفاء ذلك بالنوم ، أو الغفلة ، أو العجز عن ارتكاب المفطر ، أو عدم الرغبة فيه ، أو وجود المنفر الطبعي عنه ، بناء على قدح الضميمة في عبادية العبادة ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ضرورة بل المعتبر فيه : استقلال داعي الموافقة للأمر في الزجر عن المفطر على تقدير الالتفات والاختيار وعدم وجود المقتضي الخارجي للزجر عنه. فلا يقدح فيه النوم ، والغفلة ، والعجز ، ووجود المقتضي الخارجي للزجر عنه ، كما في الموارد المذكورة إذا فرض تحقق داعي موافقة الأمر الشرعي بنحو يستقل في الزجر لو لا ما ذكر ، وإنما يقدح فيه عدم تحقق داعي الموافقة للأمر الشرعي أصلا ، أو عدم صلاحيته للاستقلال في الزجر. فالعبادية المعتبرة في آنات الصوم إنما هي عبادية فاعلية ، لا فعلية ، كما في سائر العبادات ولعل ذلك يجري أيضاً في بعض الواجبات العبادية ، كالوقوف في عرفات أو المشعر الحرام.

[١] كما تقدم بيانه مفصلا في نية الوضوء. فراجع.

[٢] وهو في غير المعين قول علمائنا ـ كما عن المنتهى ـ وقول العلماء كافة ـ كما عن التذكرة ـ وعند الأصحاب ـ كما عن المعتبر ـ وبلا خلاف يعرف ـ كما عن التنقيح ـ وإجماعاً ـ كما عن السرائر ، والتحرير ، وغيرهما وظاهر الشرائع. ويدل عليه ـ مضافاً إلى ذلك ـ : أن الفعل العبادي لا يصح عبادة إلا إذا قصد إيقاعه على النحو الذي أخذ موضوعاً للتكليف ، لما عرفت في نية الوضوء من أن قوام العبادية انفعال المكلف بأمر المولى ،

١٩٦

______________________________________________________

بنحو تحدث له إرادة تكوينية تابعة للإرادة التشريعية للمولى ، فلا بد أن تتعلق إرادة العبد بما تعلقت به إرادة مولاه ، وهذا معنى قصد موضوع الأمر على النحو الذي أخذ موضوعاً له. فاذا فرض أن صوم الكفارة بعنوان كونه كفارة قد أخذ موضوعاً للأمر ، فلا يكون عبادة إلا إذا قصد الإتيان به معنوناً بذلك العنوان.

نعم قد يتوهم فيدعى : أن ظاهر الأدلة السمعية كون موضوعها نفس الصوم الذي هو الماهية المشتركة بين أفراده ، فإذا كان على المكلف صوم يوم قضاء وصوم يوم كفارة فقد وجب عليه صوم يومين لا ميز بينهما إلا بمحض الاثنينية ، فلا مجال للتعيين ، فضلا عن وجوبه. فلو صام يوماً واحداً سقط عنه صوم يوم وبقي عليه صوم يوم آخر. ولكنه كما ترى ، بل ظاهر نصوص الأمر بالقضاء والكفارة ونحوهما : أخذ العنوان من القضاء والكفارة أو نحوهما في موضوع الأمر ، فلا بد من قصده ليقع عبادة ، كما عرفت.

ويشهد به أيضاً اختلافها بخصوصيات أخر ، مثل التضييق والتوسعة ، والسقوط مع العجز بلا بدل ومع البدل وغير ذلك ، فان اختلافها في الخصوصيات المذكورة يدل على اختلافها بالقيود والحدود. كما يظهر أيضاً من نصوص عدم جواز الصوم ندباً لمن عليه فريضة : أن الصوم المندوب غير الصوم الواجب يمكن أن يقصد أحدهما بعينه. فيسقط أمره ويبقى أمر الآخر ، نظير النافلة والفريضة في الصلاة. نعم لا يبعد الالتزام برجحان طبيعة الصوم في نفسها ، عدا الحرام منه ، وتعرضها خصوصيات أخرى موجبة له من قضاء أو كفارة ، فإذا قصد نفس الطبيعة بلا خصوصية وقع مندوباً ، وإذا قصدها مع الخصوصية الأخرى وقع ذو الخصوصية وترتبت عليه أحكامه.

١٩٧

مطلقاً كان أو مقيداً بزمان معين [١] ، من غير فرق بين الصوم الواجب والمندوب. ففي المندوب أيضاً يعتبر تعيين نوعه ،

______________________________________________________

هذا في غير رمضان ، أما هو فلا يشرع فيه غير فرضه أصلا ، فلا يصح ولو ندباً وإن قصد صرف الطبيعة الراجحة ، كما سيأتي.

[١] كما هو المشهور. ونسب إلى الشيخ ، والمحقق ، والعلامة في بعض كتبه ، والشهيد في كتبه الثلاثة. وهو واضح جداً بناءً على أن النذر يوجب كون الفعل المنذور ملكاً لله سبحانه على المكلف ، كما هو الظاهر. ويقتضيه مفهوم صيغة النذر ، لأن تسليم ما في الذمة يتوقف على قصد المصداقية ، ولولاه لم يتعين الخارجي لذلك ، كما في سائر موارد ما في الذمة من الديون المالية عيناً كانت أو فعلا. وبذلك أيضاً يتضح وجه اعتبار التعيين في الصوم الواجب بالإجارة والشرط ونحوهما. أما بناءً على عدم إيجاب النذر ذلك ، بل إنما يقتضي وجوب المنذور فقط ، يشكل اعتبار قصد التعيين ، بل يكفي قصد نفس العنوان المنذور في سقوطه ، لانطباق موضوعه عليه قهراً.

فان قلت : الوجوب الآتي من قبل النذر إنما يتعلق بعنوان الوفاء ، كما يقتضيه ظاهر أدلة النفوذ ، فيجب قصد الوفاء في سقوط أمر النذر ، كما هو الحال في الأمر بالكفارة والقضاء. قلت : أولا : إن الأمر بالوفاء بالنذور ليس مولوياً ، بل هو إرشادي إلى صحة النذر ، نظير الأمر بالوفاء بالعقود والشروط وغيرها ، كما أوضحناه فيما علقناه على مباحث الشرط من مكاسب شيخنا الأعظم (ره). وثانياً : إنه لو سلم كونه مولوياً فالظاهر كونه توصلياً ، لا تعبدياً ، فلا يتوقف سقوطه على قصد امتثاله ، بل يكفي في سقوطه الإتيان بمتعلقه ، وهو فعل نفس المنذور. نعم لو بني على أن الواجب عنوان الوفاء بالنذر بنحو يكون قصدياً ، توقف وجوده على قصده لكن الظاهر أنه ليس كذلك ، بل ليس الواجب إلا فعل المنذور لا غير.

١٩٨

من كونه صوم أيام البيض مثلا أو غيرها من الأيام المخصوصة [١] فلا يجزي القصد إلى الصوم مع القربة من دون تعيين النوع ، من غير فرق بين ما إذا كان ما في ذمته متحداً أو متعدداً ،

______________________________________________________

ومما ذكرنا يظهر أن ما حكي عن السيد. والحلي والعلامة في جملة من كتبه والمدارك وغيرهم : من عدم اعتبار التعيين فيه ينبغي أن يكون مبنياً على ذلك لا غير.

وأما الاستدلال له : بأنه زمان يتعين بالنذر للصوم ، فكان كشهر رمضان ، لا يعتبر فيه التعيين. ففيه : أن التعيين الواقعي لا يكفي في انطباق ما في الذمة من حق الغير عليه ، ولا في صدق إطاعة أمر النذر لو كان عبادياً ، ولا في صدق الوفاء بالنذر لو كان قصدياً.

ومثله في الضعف : الاستدلال للأول بأنه زمان لم يعينه الشارع في الأصل ، فافتقر إلى التعيين ، كالنذر المطلق. وجه الضعف : أنه لو بني على عدم اقتضاء النذر جهة وضعية ، ولا كون الأمر بالوفاء عبادياً ، ولا كون عنوان الوفاء قصدياً ، يكون انطباق المنذور على المأتي به قهرياً ، فيسقط أمره ، ولا يتوقف على التعيين. وكذا الحال في النذر المطلق ، فان المنذور فرد من العنوان المستحب يعرضه بالنذر الوجوب ، فتكون أفراد المستحب بعضها واجباً بالعرض وبعضها مستحباً ، فيلحقه حكم ما لو وجب صوم يوم واستحب صوم يوم آخر ، بلا تميز بين اليومين إلا بمحض الاثنينية ، فإذا صام أحدهما سقط الوجوب وبقي الاستحباب. فالعمدة إذاً في القولين ما ذكرنا.

هذا ولا يبعد الفرق بين مفاد النذر ومفاد العهد واليمين ، فظاهر الأول الأول ، كما عرفت ، وظاهر الأخيرين الثاني.

[١] يظهر من أدلة القولين في النذر المعين : تأتي الخلاف هنا أيضاً.

١٩٩

ففي صورة الاتحاد أيضاً يعتبر تعيين النوع [١]. ويكفي التعيين الإجمالي [٢] ، كأن يكون ما في ذمته واحداً ، فيقصد ما في ذمته ، وإن لم يعلم أنه من أي نوع ، وإن كان يمكنه الاستعلام أيضاً. بل فيما إذا كان ما في ذمته متعدداً أيضاً يكفي التعيين الإجمالي ، كأن ينوي ما اشتغلت ذمته به أولا ، أو ثانياً أو نحو ذلك.

وأما في شهر رمضان فيكفي قصد الصوم وإن لم ينو كونه من رمضان [٣]. بل لو نوى فيه غيره‌

______________________________________________________

وعن البيان : إلحاق المندوب المعين بالواجب في عدم اعتبار التعيين. وعن بعض تحقيقاته : إلحاق مطلق المندوب به ، لتعينه شرعاً في جميع الأيام ، وتبعه على ذلك بعض من تأخر. ولكن التحقيق : لزوم التعيين في الأول إما لأخذ الزمان الخاص قيداً في موضوع الأمر ، كما يقتضيه الجمود على عبارة النصوص ، فلا يقع عبادة وامتثالا لأمره إلا إذا قصده المكلف. وإما لأن صوم الزمان المعين كما يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالمعين يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالمطلق ، فكونه امتثالا للأول بعينه محتاج إلى معين وليس إلا القصد ، ومجرد تعينه غير كاف فيه ، ولا سيما مع صلاحية الزمان لغيره. وأما المندوب المطلق فالقصد إلى صرف الطبيعة المطلقة فيه كاف في تعينه ، لأن ما عداه طبيعة خاصة. نعم لو قصد طبيعة الصوم مهملة مرددة بين الواجب والمندوب ، لم يجز عنه ولا عن غيره.

[١] لما عرفت من اعتبار القصد إلى عنوان موضوع الأمر في تحقق العبادة.

[٢] للاكتفاء به عند العقلاء ، الذين هم المرجع في القيود المعتبرة في العبادة.

[٣] على المشهور ، بل في محكي التذكرة : نسبته إلى علمائنا. ونحوه‌

٢٠٠