الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

ذاتية الفقر الى ذاتية الغنى وبأحرى المعاكسة ، فانما (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)!

والفقر والغنى وصفان للكائن ، فلا يقال للمعدوم المطلق فقير ، وآية الفقر تقرر اصل الفقر للإنسان ، وتعلقه في فقره بالله والى الله ، فالفقير الذات وفي الأفعال والصفات بحاجة ضرورية الى غني في كافة الجهات والحيثيات ، فلولا ان هناك كائنا غني الذات ، لما كان للفقير كون ، ام لو لم يكن حميدا لم يكن للفقير ما يكفيه به ويغنيه ، ولولا انه حميد لم يقرر مصير الحساب يوم الحساب ، فهو غني حميد في غناه في النشأتين. إذا ففي فقر الكائنات من حيث الذات دليل لا مرد له على وجود كائن غني الذات ، وإلا فأين وجودات الممكنات ، حيث الافتقار في اصل الذات وحاقها دليل الحدوث ، فمن ذا الذي أحدثها إلّا ازلي الذات وغنيها؟.

وتجد في آية الذاريات (٤٩) اعمق البراهين للفقر الذاتي في الكائنات كلها ، حيث الزوجية هي كيان كل كائن سوى الله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١)!.

ومهما كان في الكون غنى نسبية لكائن امام الآخر ، فهما في الفقر الى الله سواء ، كما وهما في اصل الفقر سواء ، فأنت الغني في المال بحاجة الى فقير العمال كما الفقير المال بحاجة إليك في المال ، فلكلّ فقر من جهة وغنى نسبية من اخرى ، وهما في غناهما فقيران الى الله الذي اغناهما!

أنت ساكن فقير صغير من سكان هذه الأرض ، وهي تابعة صغيرة من

__________________

(١). راجع الفرقان لتفسير الآية بقول فصل كاعمق البراهين لاثبات وجود الله.

٣٢١

توابع الشمس ، وهي نجم صغير من مليارات الشموس والنجوم في مليارات المجرات والجزائر السماوية ، أفأنت الغني والله فقير؟!

أتزعم ان في بعث الرسل إليك ، وتواترهم في دعوتك بكتابات السماء ، ان في تلك الدعاية الفخمة المتواصلة ، والداعية الفخمة الدائبة ، حاجة من الله إليك ، فحين تستجيب الداعية فلله فيها حظوة وعزة ، وحين تردها فعلى الله هزّه وذلة؟

لا! يا أيتها الحشرة الصغيرة الهزيلة ، بل (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

غني إذ يدرّ عليكم رحمة دون ضنّة ، حميد إذ لا يحملكم على إنفاقه ، ما يعود بنفعه اليه ، فالكل عائد إليك في تقواك ، وما يد عليك في طغواك.

أنت الفقير ان يهديك الله اليه (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) إذ لا يذرك في ضلالك ، ولا يهدرك في كلالك.

سبحانك يا رب ، فانا الفقير في غناي إليك فكيف لا أكون فقيرا في فقري إليك! انا الفقر كله ، انا اللاشيء كله ، وأنت الغنى كلها ، وأنت مشيّئ الأشياء كلها ، لا لحاجة منك إليها فهي المحتاجة إليك :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٤ : ٢٠) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) (٤ : ١٣٣) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٦ : ١٣٣) (وَما ذلِكَ عَلَى (١) اللهِ بِعَزِيزٍ)!

٣٢٢

أفتزعمون انكم أنتم ـ فقط ـ الخلق العزيز ، والله لا يسطع ان يخلق بعدكم عزيزا ، فان ذهبتم او أذهبكم فلا بديل عنكم؟ كلا ايها الاغفال ، وقد اذهب قبلكم قرونا مضت ، قبل آدم الاوّل حيث انقرضوا ثم استخلفكم من بعدهم.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (١) وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨).

«ولا تزر» نفس «وازرة وزر» نفس «اخرى» فان (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ضابطة لا تستثنى لفردية التبعات (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ..) لا سواه.

«لا تزر ..» حتى إذا وعدت ، ولا يسمح لها بالوفاء حتى إذا أرادت (وَإِنْ تَدْعُ) نفس «مثقلة» مثقلة اخرى ام اية نفس اخرى (إِلى حِمْلِها) لتحملها عنها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ) من ثقله «شيء».

فلا ان نفسا وازرة تزر وزر اخرى ، ولا انها إذا دعيت الى حملها يحمل منه شيء حتى (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ضابطة صارمة في «لا تزر» فردية التبعة ، وعدت ام سئلت واصرت!

حيث القرابات هناك ليست لتنفع شيئا ، فانه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وانه (يَوْمُ الْفَصْلِ) فلا ينفعهم هناك اي وصل : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

__________________

(١) تجد البحث الفصل حول آية الوازرة في النجم فراجع الفرقان ج ٢٦ ـ ٢٧.

٣٢٣

فالنفس المثقلة من اعباء الذنوب والأوزار تستغيث ولا تغاث ، طلبا في تلك الحالة البئيسة ممن يشاطرها في حملها ، فلا تهم كل نفس إلّا نفسها ، ولا تعنيها إلّا أمرها بإمرها ولا تعين أحدا كما لا تعان مهما عنت ، وعانت من حملها ، ولو كانت اولى الناس بأمرها وأقربهم التياطا به وارتباطا برفاقه ، وانتياطا بنسبه! قافلة غافلة تمضي هناك حتى تقف اما الوزان والميزان ، اللهم إلّا اهل التقوى فلهم هنالك الشفاعة الكبرى ، وليست هي حملا لوزر ، بل سماحا عنه بمؤهلاته المسرودة في الذكر الحكيم.

أنت يا رسول الهدى لست منذرا لمن لا يخشون ربهم بالغيب وهم معاندون ، إذ لا يؤثر فيهم إنذارك مهما كان إنذارك واجبا فيه اعذارك (إِنَّما تُنْذِرُ) مؤثرا فائقا (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخشونه بالغيب عن المشاهد ، ويخشونه وهو غيب عن المشاهد ، وخشية بغيب قلوبهم ، الظاهرة الزاهرة في المشاهد! (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ..) كأظهر المظاهر من (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ـ

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ف : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ..) (١٧ : ١٥)(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) لأهل التقوى والطغوى «وهو احكم الحاكمين».

ثم الكفر والايمان لا يستويان في اي ميزان كما الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ)(٢٢).

وحين (ما يَسْتَوِي الْأَعْمى) عن بصره «والبصير» فباحرى لا يستوي الأعمى في قلبه عن البصير!

٣٢٤

وحين لا يستوي ظلمات الجو والنور فباحرى ظلمات القلب ونوره ، وكذلك الظل والحرور والاحياء والأموات ومثلث «لا» بين الثلاث الاخرى هي تأكيدات النفي باولية قطعية ، فالظلمات لا تستوي في أقسامها ولا النور في اقسامه ، فهل تستوي الظلمات والنور ، والظل لا يستوي في اقسامه ولا الحرور فهل يستوي الظل والحرور ، والاحياء لا تستوي في أقسامها ولا الأموات ، فهل تستوي الاحياء والأموات.

ولماذا تركت «لا» بين الأعمى والبصير؟ لأن الاعمين على سواء انهم لا يبصرون مهما البصيرون ليسوا على سواء!

فالبصير يبصر الحق المقبل اليه فيقبل ، ومن في الظلمات لا يبصر الحق فلا يقبل ، والميت لا يسمع صوت الحق فيقبل!

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) حقه بحقه دونما فوضى جزاف (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) من قبور الشهوات والحيونات وسائر الإنيات!

لست أنت مسمعا وهاديا من أحببت : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٢٧ : ٨١)

ان الإيمان بصر وبصيرة وظل ونور وحياة ، والكفر عمى وظلمات وحرور وموت ، فهل يستويان؟ بصر يرى الحقيقة ناصعة صادقة دون اية هزازة ولا خلخلة ، وظل عن حرور الشهوات ، ورياضة للنفس ورياحة للقلب ، وظل عن هاجرة الشك وحاضرة التيه في الظلام ، وحياة في المشاعر والقلوب دون خمود ولا ركود ولا جمود ، فهل يستويان مثلا الحمد لله رب العالمين؟.

لست أنت يا رسول الهدى مسمعا وهاديا لمن في قبور الظلمات والعمايات والمينات:

٣٢٥

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٢٤).

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وهذا قصر دون حصر بالنسبة لمن في القبور ، ثم هو للعالمين بشير ونذير ، حيث البشارة لا تأتي إلّا بعد النذارة لمن يتأثر بالإنذار وبينهما عموم مطلق (١) ، ثم ولست ـ فقط ـ أنت النذير :.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٢٤).

وتراها في هذه النذارة العامة لكل امة ، تتنافى وسلبها ككل عن كل قرية : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٢٥ : ٥١)؟ ..

كلّا فان (كُلِّ قَرْيَةٍ) هي أعم من كل امة ، فرب امة تسكن في قرى عدّة ، والنذير مبعوث في أمها : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٢٨ : ٥٩) وكلما كانت الرسالة أعم وأتم ، فالأم التي يبعث فيها رسولها أهم وأطم! وكما ام القرى مكة المكرمة هي أهم عاصمة من عواصم الرسالات الإلهية.

فلا تخلو امة من العالمين من الجنة والناس أجمعين وسائر المكلفين ، لا تخلو من نذير ، إما بشخصه العائش فيهم ، ام بدعوته الواصلة إليهم بمن حمّلوا رسالاتهم ، فان حملوها وبلّغوها فحجة بالغة ، وان قصروا في حملها ام لم يبلغوها فتقصير من الحملة عن الرسل دون المرسلين ، وقصور للمستضعفين.

وهل ان «نذير هو كل منذر عن الله ، برسالة او سواها؟ وليس

__________________

(١) فكل من يبشر فقد انذر قبلها ، وليس كل من ينذر يبشر بعدها حيث البشارة تخص المؤمنين.

٣٢٦

في نذارة دون رسالة حجة بالغة إلا تبينا ومناصرة لحجة الرسالة كما (جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ..) والظاهر من (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) هو نذارة الرسالة بالوحي ، دون النذير الوسيط! ولم يأت النذير في سائر القرآن إلّا للرسل ، بل وقد يسلب عن سائر النذر : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣٢ : ٣) وقد كان في الفترة الرسالية بين المسيح (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نذر من غير الرسل!.

ثم و (إِنْ مِنْ أُمَّةٍ) دون كل شخص ، تنفي ضرورة النذارة الواصلة الى كل احد ، إلّا حاصلة فيهم كاملة ، واصلة الى اشخاص وغير واصلة!

ومن جهة اخرى (إِنْ مِنْ أُمَّةٍ) توسيع لساحة الرسالات طول المكان وعرض الزمان ، فما أنت بدعا من الرسل! ليطمئن خاطره الشريف وينبه مكذبيه انه نذير من النذر الاولى.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)؟ (٢٦).

تسلية لخاطر النبي الأقدس ان التكذيب من قبل المكذبين سائد في تاريخ الرسالات ، وكذلك أخذ ربك للمكذبين ، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)!

٣٢٧

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ

٣٢٨

بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨)

٣٢٩

تعديد لعديد من النعم البارزة لكل عين ناظرة وبصيرة حاضرة من سماوية وارضية ، قراءة يراعة في كتابي التكوين والتدوين ، ابتداء بكتاب التكوين ، ثم ما يصدقه من كتاب التدوين ، لتعم القراءة كل كتاب نازل من العزيز الحكيم :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ)(٢٧).

«انزل» بمضيها تضرب الى اعماق الماضي حين كانت الأرض محترقة عطشانة فروّاها ربها من ماء السماء ، وكما تشمل مستقبل الإنزال ، حيث الغني الحميد ليس ليقطع رحمة شاملة تحتاجها الاحياء في عالم الحياة.

ثم «انزل» مفردا لفردية الذات والنعمة المنزلة ، واما «فأخرجنا» فهي لمحة الى جمعية الصفات في إخراج مختلف الثمرات ، فالإخراج قاصد دون فوضى ، فالماء الواحد والأرض الواحدة لا يخرجان ـ لولا مختلف التصميم ـ إلا ثمرة واحدة كما المكائن الخاصة!

ومن (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) ثمرة واحدة في ألوان ، كما الكثرة في ألوان ، ألوان الطعوم والاشكال وألوان الألوان : سبحان العزيز المنان!

وليست الثمرات ـ فقط ـ ألوان ، بل (وَمِنَ الْجِبالِ) ايضا مختلف الألوان : (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) في بياضها واحمرارها (وَغَرابِيبُ سُودٌ).

والجدد هي الطرائق والشعاب ، بيضا وحمرا وغرابيب سود : حالكة شديدة السواد.

فما تراه من مختلف الألوان في الثمرة تراه في الصخرة ، مما يزيدك تدليلا على ارادة قاصدة ، وانها لفتة راصدة تهز القلوب ، وتوقظ حاسة

٣٣٠

الذوق وخاصته في نظرة ناضرة تجريدية الى جمال الكون ، فالى جمال المكون حيث يبرز كونه الوحيد من مصارح في مسارح صفاته.

ثم نتخطى الثمرات والجبال الى مختلف الناس والدواب والأنعام :

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(٢٨).

اختلاف سائد في كمّ الكائنات وكيفها في مختلف ألوانها. ولئن قلت : إن ذلك الاختلاف هو قضية اختلاف العناصر وخصوصيات التأليف ، تجد الاجابة في المادة الأمّ الساذجة المركبة ـ فقط ـ من زوجين اثنين ، فلا بد ـ إذا ـ من تصميم قاصد في كل فصل ووصل ، متفرع عن هذا الأصل : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

(وَمِنَ ... كَذلِكَ) الذي ذكرناه من مختلف الألوان ، وفي ذلك المسرح الجميل ، باختلاف الألوان ، من ألوان الذرات والجزئيات والعناصر وسائر المخلّفات المخلّفات هذه الاختلافات.

في ذلك المسرح (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالعلم بالله عبر آيات الله هو سبب الخشية ، والجهل بالله نتيجة الغفلة والتجاهل عن آيات الله ، هو سبب الغفوة الباغية.

ليس الجهل بالأسباب الكونية هو الموجب للاعتقاد بسبب غائب كما يهرفه الماديون ، وانما العلم بالأسباب هو الذي يدلنا الى سبب الأسباب! (١).

__________________

(١) راجع كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين» ص ٢٠ : ٣٠ ـ العلم والعلماء في فكرة الإله.

٣٣١

لذلك نرى القرآن يحرض العالمين الى توسع العلم والتعقل في الكون ، ولكي (يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

فالقصد من «العلماء» هنا هم العلماء بالله ، الذين يستخدمون فلسفاتهم العقلية وكشوفهم العلمية لمعرفة الله ، فكلما زادوا معرفة بالله زادوا خشية من الله ، انقلابا في قلوبهم الى الله ، وانقلابا عما يصرفهم عن الله!.

أترى «انما» حين تحصر خشية الله في «العلماء» فما ذنب الجهال إذ لم يؤتوا من العلم ما يخشون به الله؟ العلم هنا ليس ليعني ـ فقط ـ علم الصلاحات في بحوث فلسفية ام تجريبية إمّا هيه ، مهما تساعد على المعرفة ان حفظت فيها امانة التدليل على وجود خالق المدلول والدليل.

بل هو علم الايمان مهما كان صاحبه أميا لم يدرس اية صلاحات ، كما القرآن يربط الخشية أحيانا بالايمان : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩ : ١٣) واخرى بعمل الايمان : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٤ : ٥٢).

لذلك ترى ان الآيات هنا وهناك هي الآفاقية والانفسية لكل ذي بصر وبصيرة ، لا تكلف دراسات عقلية او علمية ، مهما كانت تساعد قضية المعرفة مع الحفاظ على الأمانة.

فرب عالم قتله جهله ، علما بالصلاحات وتجاهلا عن التبصر بها في المعرفيات والعلم هنا هو الحجاب الأكبر! ..

ورب جاهل أحياه علمه ، حيث يستخدم كافة الوسائل بمختلف الاساليب لمزيد المعرفة

الإلهية ، والعلم هنا يزيل الحجاب الأكبر!.

فيا ويلاه من جهل على جهل ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ويا علياه من علم على علم نور على نور؟.

٣٣٢

(... كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) «عزيز» يخشى «غفور» لمن لا يخشى مغبة ان يخشى!.

والخشية ـ وهي خوف يشوبه تعظيم عن علم بما يخشى منه ـ لزامها العلم قدرها ، وهي حالة في القلب تجعل الخاشي خاشعا لربه خاضعا ، في رقابة دائبة على أقواله وأفعاله وأحواله قدر معرفته بربه. يخشاه لعدله تعالى على ظلمه هو وعظمه تعالى.

فمن لا يخشى الله ليس من العلماء مهما كان أعلمهم في الصلاحات ، حتى الإلهية عقلية وعلمية ، ومن يخشى الله فهو من العلماء مهما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، فميزانية العلم هي حسب ميزانية الخشية في ميزان الله! وكما يروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «العلم علمان علم في القلب فذاك العلم النافع وعلم على اللسان فتلك حجة الله على خلقه» (١) حيث يحتج به على عالمه وعلى من يسمعه من عالمه!

اما علمتم ان لله عبادا أسكنتهم خشيته من غير عي ولا بكم ، انهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء العلماء بأيام الله غير انهم إذا ذكروا عظمة الله طاشت عقولهم من ذلك ، وانكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، حتى إذا استقاموا من ذلك سارعوا الى الله بالأعمال الزاكية ، فأين أنتم منهم؟ ..» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٥٠ ـ اخرج ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٥٠ ـ اخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن وهب بن منبه قال : أقبلت مع عكرمة اقود ابن عباس بعد ما ذهب بصره حتى دخل المسجد الحرام فإذا قوم يمترون في حلقة لهم عند باب بني شيبة فقال : أمل بي الى حلقة المراء فانطلقت به حتى أتاهم فسلم عليهم فأرادوه على الجلوس فأبى عليهم وقال انتسبوا اليّ أعرفكم ـ

٣٣٣

وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن العالم والعابد فقال : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية (١) فليتزود المؤمن على ضوء فطرته وعقله وشرعته بسائر العلم ، تذرعا الى معرفة اكثر بالله.

اجل «وما العلم بالله والعمل الا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه وحثه الخوف على العمل بطاعة الله. وان ارباب العلم واتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا اليه ..»(٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٣٠).

هؤلاء هم من العلماء بالله الذين يخشون الله ، دون الجهال الاغفال الذين لا يتلون كتاب الله ، مهما أقاموا الصلاة وأنفقوا ، ودون من لا

__________________

ـ فانتسبوا اليه فقال : اما علمتم ...». أقول لعله رواية عن رسول الله لم يذكر انها عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(١) المصدر اخرج عبد بن حميد عن مكحول قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... ثم قال : ان الله وملائكته واهل السماء واهل الأرض والنون في البحر ليصلون على معلمي الخير.

وفي المجمع في الآية روي عن الصادق (عليه السلام) انه قال : يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن ثم يصدق فعله قوله فليس بعالم ، وفي الحديث : أعلمكم بالله أخوفكم لله.

(٢) تفسير البرهان عن الكافي بسند عن أبي حمزة الثمالي عن زين العابدين (عليه السلام) قال : ... قال الله : انما يخشى الله من عباده العلماء.

٣٣٤

يصلون ولا ينفقون مهما تلوا كتاب الله ، فانما هو الايمان وعمل الصالحات عن علم الكتاب تفصيلا باجتهاد ، ام اجمالا بتقليد عن اجتهاد.

والتلاوة في حق المعني منها هي المتابعة : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٩١ : ٢) فهي أعم من متابعة القراءة والاستماع ، فالتدبر ، فالتصديق والايمان ، فالتطبيق بعمل الايمان ، إذا ف (أَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا ..) هي من خلفيات التلاوة حقها ، أفردت بالذكر لأنها هي القاعدة الاصيلة التي تتبناها التلاوة ، وإلا فرب تال القرآن والقرآن يلعنه!

ثم الإنفاق هو الإفناء ألا يطالبوا به تجارة تبور ، فيطلبوا به جزاء أو شكورا ، فانما (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) افناء في ظاهر الحال وإبقاء بزيادة في باطن الحال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

و (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يعم كافة الأرزاق ولا سيما الروخية ، من علم وأخلاق اما هيه : «سرا» عن الناس «وعلانية» فان لكلّ مجالا يناسبه : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢ : ٢٧١).

«فنعما هي» في نفسه حيث يقتدى به فهو ـ إذا ـ من شعائر الله (وَإِنْ تُخْفُوها ... فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أنفسكم ابتغاء عن رئاء وسمعة.

.. (إِنْ تُبْدُوا ... فَنِعِمَّا هِيَ) في نفسه حيث يقتدى به فهو ـ إذا ـ من شعائر الله» (وَإِنْ تُخْفُوها ..) (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أنفسكم ابتعادا عن رئاء وسمعة.

(إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) لهولاء الأكارم ، أي لمم طارىء في سبيل الله.

٣٣٥

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(٣١).

«هو الحق» كله ، ثابتا ما بقي الدهر دون نسخ ولا تحريف ، مهما كان ما بين يديه حقا لردح من الزمن ، ولكنه بطل أولا بتحريف ومن ثم بنسخ ، فهو الترجمة الصحيحة النهائية لحقيقة الكون ، والصحيفة المقروة من كتاب الكون وهو الصفحة الصامتة!

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا .. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من وحي ، دون خليطه بغير وحي ، ف (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) انهم بحاجة الى حق لا ينسخ ولا يحرف ، وانهم حرفوا كتابات السماء من قبل ، لذلك اوحى إليك «الحق» كله هدى للناس.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(٣٢).

«الكتاب» هنا هو القرآن لسابق ذكره (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) «ف «ثم» بعد (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ..).

فمن هو الوارث للكتاب القرآن بعد من اوحي اليه؟ أهم كل المسلمين وكما في بني إسرائيل (لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٠ : ٥٤) وقد تشمل الوارث الشاك! : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٢ : ١٤) كما يشمل حملة وحي الكتاب الآخرين : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ

٣٣٦

وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) (٥ : ٤٤).

وهنا (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) دون من هو في شك مريب ، ولا المتوسطين في الايمان ، بل المصطفين ، فميراث الكتاب هنا ميراث خاص لمن يحمله كما حمّله من انزل عليه ، وهناك عام يعم كل من حمّله!. صحيح ان «عبادنا» هنا يعم كافة المسلمين من اهل الجنة كما تشهد التالية : (جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) (٢٣) مقابلة لهم باهل النار : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا ...).

ولكن وارث الكتاب هنا ليس «عبادنا» ليعم المسلمين ، بل (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) إذا فهم المصطفون من المسلمين منذ ايراثه الى يوم الدين ، لا كلهم.

ولان الاصطفاء في مصطلح القرآن ليس إلّا للمعصومين ، أنبياء وسواهم من المخلصين (١) ف (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) لا تعني الا المعصومين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته ، أورثوا القرآن ليحملوه كما حمله من اوحي اليه كميراث خاص.

__________________

(١) فآيات الاصطفاء بين نبي مصطفى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣).

ام وملك مصطفى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥).

ومعصوم غير نبي (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ ..) (٣ : ٤٢) وملك عادل مصطفى» (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (٢ : ٢٤٧) ام دين مصطفى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) (٣ : ١٣٢).

فأقل المصطفين في قرينة خاصة هم اعدل العدول!

٣٣٧

ثم التقسيم الثلاثي ل «عبادنا» الى ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات ، ... دليل قاصد قاطع لا مرد له ان ليسوا داخلين في ذلك الايراث ، إلّا ان يسوّى بين «ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات» في انهم من (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)(١) وتلك إذا تسوية ضيزى!

فحتى ولو عمت «اصطفينا» غير المعصوم ، ليست لتعم المأثوم في تلك المقابلة الثلاثية الواضحة.

ثم من هذا الذي اصطفي عليه (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وليس للظالم صفاء حتى يفضل في صفائه على سائر الأصفياء وسواهم!.

هنا الله تعالى يقتسم عباده الى هؤلاء الثلاث ليوضح من هم (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وعلى من اصطفاهم؟

فالمسلمون بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات والظالم لغيره هو خارج من «عبادنا» والمصطفى بينهم ـ بطبيعة الحال ـ ليس إلّا السابق بالخيرات ، فهم مفضلون على اصحاب اليمين المقتصدين ، فضلا عن الظالمين : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٥١ ـ اخرج الطيالسي واحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية قال : هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة وفيه اخرج الطبراني والبيهقي في البعث عن اسامة بن زيد في الآية قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم من هذه الامة وكلهم في الجنة. أقول : صحيح ان كلهم من هذه الامة كما تلمحناه من الآيات ، وكلهم من اهل الجنة على شروط الاهلية ، ولكن كيف يكون هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة؟ تنزيلا للمصطفين الى منزلة الظالمين وترفيعا للظالمين الى منزلة المصطفين؟.

٣٣٨

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(١١) (٥٦).

إذا فورثة القرآن بعد نبي القرآن هم المصطفون السابقون المقربون ، دون اصحاب اليمين المقتصدين ، فضلا عن الظالمين المسلمين وان لم يكونوا من اصحاب المشأمة والداخلين في الجحيم!

ذلك المثلث البارع الرائع من مواصفات ورثة القرآن لا نجده في سائر القرآن اللهم إلّا لنبي القرآن ثم من أورثوا القرآن من بعده.

وهنا قيد «ظالم» ب «لنفسه» لإخراج الظالمين من المسلمين لغيرهم ، فالمعتدون منهم الطغاة على الإسلام والمسلمين ليسوا من اهل الجنة والسلام.

و (مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) لا ظالم لنفسه» كأصل في حياته ، ولا سابق بالخيرات ، بل هم عوان بين ذلك ، فهم المعتدلون من امة الإسلام عدولا وسواهم ف (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) هم غير العدول الذين قد تنالهم الشفاعة وهم مصيرهم الى الجنة ، من اصحاب الكبائر الصالحة للشفاعة ، فاما أمثال يزيد ومعاوية الطاغية واضرابهم من طغاة هذه الامة ، فخارجون عن هذا التقسيم ، داخلون مع الذين كفروا في الجحيم ، ف «الظالم يحوم حوم نفسه ، والمقتصد يحوم حوم قلبه ، والسابق بالخيرات يحوم حوم ربه» (١).

__________________

(١) في معاني الاخبار مسندا عن الصادق (عليه السلام) قال : .. وفي الدر المنثور ٥ : ٢٥١ ـ اخرج جماعة عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ..) فاما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب واما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا واما الذين ظلموا أنفسهم ـ

٣٣٩

فورثة القرآن العظيم علما وعملا وتطبيقا هم المصطفون السابقون المقربون ، فوق المقتصدين العدول فضلا عن الظالمين! ومن ذا الذي يدعي ذلك الاصطفاء العاصم ، المعصوم اهله من كل رين وشين! أهم الخلفاء الثلاث ، المعترف بكثير اخطاءهم وخلافاتهم وتخلفاتهم بين اتباعهم؟

ام هم الأئمة الاربعة ومن يحذو محذاهم ، المختلفين ـ في اقل تقدير ـ في تفهم الكتاب والسنة ، والمتخلفين أحيانا عن نص الكتاب والسنة.

ام هم الأئمة الإثني عشر الذين لم يختلفوا فيما بينهم ، ولم يتخلفوا قيد شعرة عن الكتاب والسنة ، وهم الثقل الأصغر بعد الكتاب ـ الأكبر؟! وهنا نجد تجاوبا فيهم بين الكتاب والسنة القدسية المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

__________________

ـ فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون : الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن ان ربنا لغفور شكور ...

أقول وقد تظافر مثله في نفس المصدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المستفاد من الآية كما بيناه.

وفيه عن ابن مردوية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال : الكافر

وهو خلاف ظاهر الآية كما بيناه.

(١) في تفسير البرهان ٣ : ٣٦٣ عن ابن بابويه القمي بسند عن الريان بن الصلت قال : حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمرو وقد اجتمع اليه في مجلسه جماعة من اهل العراق وخراسان فقال المأمون اخبرني عن معنى هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ..)؟ فقال العلماء أراد الله عز وجل الامة ، فقال المأمون : ما تقول يا أبا ـ

٣٤٠