الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

سورة سبا مكيّة

وآياتها أربع وخمسون

٢٢١
٢٢٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ

٢٢٣

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

آيات سبع من هذه السورة تختص بسبإ ، طيا لدورهم الحائر الى كورهم البائر ، في حياة جهنمية كانوا يحسبونها جنة بجنّتيهم ، ترمز هذه السبع لدركاتهم السبع ، وتختص بهم اسم السورة فإنهم هم فيها المسرح لنوازل البلاء بعد منازل الترح والخيلاء إذ بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار. جهنم يصلونها وبئس الفرار!

موضوعات هذه السورة هي موضوعات العقيدة الرئيسية : الأصول

٢٢٤

الثلاثة : المبدأ والمعاد وما بين المبدأ والمعاد ، طالما التركيز الأكثر فيها على المعاد ، تبحيلا بمن يعتقدونها فثوابا ، وتخجيلا بمن ينكرونها فتبابا ، يأخذهم يوم الدنيا قبل الآخرة : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ...).

يبدأ فيها بالمبدء (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) ويختم بالمعاد : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) وفيما بينهما عرض لما بينهما من الوحي والنبوة وصنويهما ومصدقيها وناكريها وبمسائرهم ومصائرهم والله من وراء القصد.

وانها رابعة السور المفتحة بالحمد له ، إذ تسبقها الأنعام والكهف والفاتحة وتلحقها الملائكة! طالما هي في الفاتحة معلّلة بخمس : «الله ـ رب العالمين ـ الرحمن ـ الرحيم ـ مالك يوم الدين» ثم هي في الانعام معللة ـ فقط ـ بالرحمة الرحمانية : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفي الكهف بالرحيمية (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) وكما في الملائكة رحمانية ورحيمية (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)! وهي هنا تجمع بين رحمة الدنيا والآخرة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١).

«الحمد» كله ومن كل حامد «لله» لا سواه فانه «الذي له» : ملكا وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهي صيغة أخرى عن الكون كله ، وطالما يحمد هنا غير الله مع الله شركا ، ام يلحد في حمده ف ـ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لا سواه ، فلا حامد هناك إلّا له ، ف ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا استحقاقا مهما تخلف عن الواقع (وَلَهُ الْحَمْدُ) هناك واقعا دون تخلف حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا او يشركون به سواه فيتمحض له الحمد في أخراه :

٢٢٥

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦)؟ ثم (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في خلقه تكوينا وتشريعا «الخبير» بعباده علما ومن سعة علمه بحكمته :

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢).

(... يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥٧ : ٤)

فالوالج والخارج ، والنازل والعارج هي صيغة أخرى عن كل حركة هي لزام كل كائن ، محسوسة ملموسة ، ام مغموسة مطروسة فهو خبرة شاملة وعلم كامل بكل شيء ، ولا شيء مخلوقا الّا في حراك دائب ولوجا وخروجا ، ام نزولا وعروجا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) معية القدرة النافذة ، والحيطة العلمية (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بعبادة على أية حال «الغفور» على أية حال ، اللهم الّا إذا كان الغفر ظلما ، فانه ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة!

و «ما» هنا لا يعزب عنها عازب ولا يغرب عنها غارب ، من والج الماء والهواء والبذر والدفناء من حيوان وانسان ومن خارج النبات ام اي خارج ، كما نازل السماء يعم ـ فيما يعنيه ـ نازل الماء والملائكة بالوحي ومن كل امر ، والعارج إليها من أرواح واعمال وأبخرة أماهيه!

نقف هنا أمام هذه الصفحة المعروضة العريضة في كلمات قليلة غير طويلة ، فإذا نحن أمام حشد هائل وجمع طائل من أشياء بحركاتها وتحولاتها في كل مجالاتها باحجامها وصورها واشكالها ومعانيها ، لحد لا يصمد لها الخيال ولا يخطر في هيمنتها ببال!

٢٢٦

ولو ان العالمين اجمع وقفوا وقفة واحدة لا لإحصاء ما يحصل في لحظة واحدة من بليارات اللحظات والحركات التي تطمها هذه الآية لرجعوا حاسرين.

أترى «الأرض» هنا أرضنا هذه؟ ثم «السماء» هي المحيطة بها لا سواها ، والقائل هو خالق السماوات والأرضين!. إنه كل ارض وكل سماء ، فكل والج وخارج ، وكل نازل وعارج ، من اي ارض فيها والى سماء ومن كل سماء فيها والى كل ارض او سماء ، تشمله هذه الآية دون تحديد.

فكم من حبة تختبي او تخبى في جنبات الأرضين ، ام اية دودة او حشرة ، ام هامة وزاحفة تلج فيهن ، وكم من ذرات غازات واشعاعات كهربائات تندس في هذه البسيطة ورفاقها ، وكم وكم مما لا نعرفها ولن ... وعين الله يرعاها ساهرة معها!

وكم تخرج منها من نبعة فوارة ، ام بركانة ثوارة ، او غازة متصاعدة اماهيه ، لم يخلد بخلد؟!

وكم من نازل من السماوات وعارج فيها من مجاهيل عندنا ، ومهما عرفنا طرفا منها نجهل أقدارها وأعمارها وأسرارها؟!

فيا لآية قصيرة واحدة من إحاطة لحراكات الكائنات في لمسة واحدة تتجلى فيها مملكة الوجود فوق مدّ البصائر والأبصار وحدّ العلوم والأفكار!

أفبعد هذه القدرة الجامعة والحيطة اللامعة يعني ربنا عن إعادتنا نحن الهز الى الصغار الصغار؟ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا

٢٢٧

أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣).

قالة من (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالساعة (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) وحتى لو أتت غيرنا حيث السلب يخصهم فيما قالوا!.

والجواب بصورة ادعاء دون برهان وفي سيرة أقوى برهان «قل بلى» لتأتيكم الساعة كما أتي غيركم «وربي» فملامح التربية الإلهية الخاصة في دليل نبوتي ، وإتيان الساعة اصل من أصولها ، ف ـ «وربي» هنا كما في قالة المرسلين في يس (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فلان النبوة المحمدية تفوق النبوات ، محلقّة على كافة النبيين ، ففائقة التربية الإلهية فيه ناصعة ، فهو بنفسه دليل للمبدء والمعاد عبر الوحي بواقعه وظاهره.

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ومن هو ربي؟ (عالِمِ الْغَيْبِ) والشهادة فكل شيء عنده شهادة (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ...) ولا يغرب .. وقضية الحيطة العلمية هي العلم الشامل بكل ما يحصل من تقوى وطغوى أفبعد علمه وقدرته وحكمته سوف لا يجازي التقاة والطغاة ، وهو جهل ام عجز ام ظلم ، وما الله بظلام للعبيد!

ام لان الأجساد بأرواحها تضل في الأرض فلا يمكن جمعها فلا جمع ولا يوم جمع؟ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...) (٣٢ : ١١)! (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ ..) مهما عزب عن علمكم ، فلا عزب عن قدرته ولا عن علمه ولا عن حكمته (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

وليس فقط : لا يعزب عن علمه «كبيرة» بل ولا (مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

٢٢٨

ولان آية المثقال تحلّق على كل كائن أيا كان سوى ذاته تعالى وتقدس إذ ليس مثقالا ولا ذرة ولا هو في السماوات ولا في الأرض ، فليكن لكل كائن مثقال وهو وزن يقتضي حجما من مادة ومادي ، وهو الطاقة المنبثقة عن المادة ، فلا مجرد ـ إذا ـ سوى الله!

ثم «ذرة» وأصغر منها واكبر ، ليست لتعني ـ فيما تعنيه ـ الخارج عن حدود المادة ، حيث المحور في مثلث «ذرة ـ أصغر منها ـ واكبر منها» هو المادة ، فلا كائن ـ إذا ـ سوى الله إلّا في نطاق هذا المثلث دون إبقاء!

ومهما كانت الذرة معروفة قبل ردح من الزمن انها أصغر الأجسام المرئية ، فقد كشفت البشرية عن ذرات هي أصغر منها بكثير ، ومن ثم بعد تحطيم الذرة تعرفت الى أصغر من ذرة وهو جزئياتها الإلكترونية والبروتونية والنيترونية والبوزيترونية أماهيه ، ولما يصل العلم ـ ولن ، ـ الى المادة الأم ، التي منها الذرات والجزئيات والعناصر كلها ـ ثم لا اجزاء لنفسها تتجزأ إلا تجزئة عن كونها الى فناء مطلق وانعدام مطبق (١).

آية الذرة هذه لا نظيرة لها إلا ما في يونس (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦١) وعلّها أكد شمولا لمكان «من» الضاربة الى اعماق الكائنات بذراتها وأصغر منها دون ان يفلت منها فالت ، كما ول ـ «ربك» موقعها من ذلك التأكيد الأكيد!.

و (كِتابٍ مُبِينٍ) أهو القرآن : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ)؟

__________________

(١) راجع تفسير الآية «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ» في الجزء (٢٦ : ٢٣٧) من الفرقان و «حوار بين الإلهيين والماديين».

٢٢٩

(٥ : ١٥) ولكنه البعض من علم ربك الممكن تعليمه لعباده لا كلّه. ولكن ذلك العلم يختص بكل الكائنات ، لا وحتى الذات المقدسة ، فليكن ذلك دونها : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦ : ٥٩) حيث الرطب واليابس كناية عن كائنات الممكنات ككلّ دونما استثناء! : (... يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١١ : ٦).

فالكائنات كلها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كتاب العلم المطلق والقدرة المطلقة ، الصادر منه كل رطب ويابس! :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(٥).

ترى ولماذا (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)؟ «ليجزي ..» قضية العدل ، و (عالِمِ الْغَيْبِ ..)

«ليجزي» قضية العلم! فالعدل ـ فقط ـ لا يكفي لضرورة الجزاء لولا العلم بالصالحين والطالحين ، والعلم ـ فقط ـ لا يكفي لولا العدل ، إذا ف ـ «ليجزي ..» هي حصيلة العلم المطلق والعدل المطبق على كل الكائنات ، فلو لا الجزاء فإمّا ظلم أم جهل ، أم هما معا فأسوء وأنكى!

ولئن شك الجاهلون المتجاهلون في ذلك الذكر الحكيم ونبيه الرسول الكريم ، فهنالك العالمون يصدقون ويوقنون :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦).

أترى (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم ـ فقط ـ علماء اهل الكتاب كما يقال؟

٢٣٠

فغيرهم حين لا يرون (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ..) ليس الا قصورا في العلم إذ لم يؤتوا ، فهم ـ إذا ـ لا حجة عليهم حين يكفرون ، كما لا حجة لهم حين يؤمنون ، فلا قيمة لايمانهم دون علم ولا سئوال عن كفرهم دون علم!

(أُوتُوا الْعِلْمَ) ليست إلّا وسيلة للتفتح الى ذلك الكتاب الخالد المفتوح بمصارعه للاجيال طول الزمان وعرض المكان ، وللعلم درجات عدة يرى صاحبه (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) حسب درجاته ومحاولاته ، فقد يكون من علماء الكتاب عارفا بالبشارات المودوعة في كتابات الوحي بحق القرآن ونبيه ثم يجحد متجاهلا قاحلا!.

وقد يكون من جهال المشركين ، فلانه يحاول الحصول على الحق المرام يتحراه فيجد بغيته في ذلك الكتاب لأنه مسرح فصيح بليغ فسيح عن تجوال آيات الله البينات ، والله يشهد بكلامه لحقه!

ف ـ (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم بوجه عام كافة المكلفين غير القصرّ والمجانين ، مهما كان اهل الكتاب وعلمائهم ، وسائر اهل العلم أقوى حجة من غيرهم تدليلا على حق القرآن ، ولكنه لا يمانع اصل التكليف بحجة العلم ، واقله علم الفطرة ـ مهما كان أصله ـ ثم العقل ثم علم الكتاب تقليديا ثم باجتهاد وكذا سائر العلوم البشرية ، والجامع بينها كلها معرفة الله ، فالعارف ربه يعرف كلامه قدر ما عرفه.

فما من عاقل يفتح عينه الى هذه الآيات البينات ، ام أذنه وسمعه لسماعها ، متدبرا فيها ، إلّا وسوف يحصل على علم : (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) فانه أفضل الآيات واخلد المعجزات (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ...) مهما كان الأوفر علما هو اوقر ثقلا حيث الحجة عنده اكثر ، فنكرانه لحق القرآن أنكى وأنكر.

٢٣١

هنا لا بد من علم ما يعرف به الحق من الباطل ، ثم وإعماله كما يصح حتى يحصل على الحق المرام ، والعلم المبدئي حاصل لكافة المكلفين ، ثم عليهم حسب درجاتهم ان يدّبرّوا القول ويتفكروا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فلا حجة ـ إذا ـ للأغفال الكفار ما دامت لهم عقول تعقل ، ثم لا حجة على القصر والمجانين.

فالذين أوتوا العلم من اهل الكتاب عندهم علم الوحي الكتابي بحق هذا القرآن اضافة الى سائر العلم فطريا وعقليا ... (١)

والذين أوتوا العلم من سواهم ، بدراسات علمية لمختلف معلومات الكون ، عندهم علم دون الوحي بحق هذا القرآن والذين أوتوا العلمين ، عندهم علم مضاعف ، حيث العلم أيا كان هو مفتاح للتفتح على حظيرة العلم وخزانته وإنما يعرف اهل الفضل ذووه.

والذين حرموا العلمين عندهم علم العقل على ضوء الفطرة ، فعندهم وحي الفطرة ومن ثم العقل ، بهما يعقلون حق القرآن ، فأين ـ إذا ـ اختصاص الحجة بعلماء اهل الكتاب ام اي العلماء؟

ثم (هُوَ الْحَقَّ) هنا يحصر الحق في القرآن كأنه لا حق سواه ، أفلا تكون كتابات الوحي بين يديه حقا يسندون إليها أهلوها بحق القرآن؟

أجل! ولكن الحق درجات من أدناها الى أعلاها ، فالقرآن أعلاها ، كما ولثباته درجات والقرآن اثبتها خلودا وأعلاها! ومن ثم هو بين تحرف من المحرفين ، وسليم عن ايدي الدس والتحريف والقرآن سليم في أعلاها.

__________________

(١) راجع كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» تجد فيه زهاء ستين بشارة بحق القرآن ورسوله.

٢٣٢

إذا فذلك الحق الأخير هو الأعلى في مثلث الكمال والخلود وسلامة الأصل ، طالما الكتب السماوية الأخرى جامعة لسلبية جمعا بين النسخ والتحريف ، وانها دون الكمال القمة! إذا ف ـ (هُوَ الْحَقَّ) لا سواه كما (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) : كتاب عزيز حميد : لا يغلب في معتركات الصدامات ، ولا يذم في مذامّ بمختلف الجهات ، ثم وهو يهدي الى صراط الله (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)!

هؤلاء هم الذين أوتوا العلم حين يستعملونه في الحصول على الحق ، ولكن الذين كفروا :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٨).

(الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم المشركون ، دون الكفار من اهل الكتاب ، إذ ينكرون هنا المعاد وهو اصل من الأصول الكتابية ، فهم أولاء الأغفال يقولون مستهزئين ، لإخوانهم (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) تمزقا لأرواحكم عن أجسادكم ، وتمزقا لأجسادكم الى رفاتكم ، وتمزقا لرفاتكم ام أجسادكم الى مختلف المكان من أبدان ام أيا كان.

«ينبئكم» ... (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بعد مثلث من ذلك التمزق البعيد البعيد؟ وهذا باطل ليس صاحبه إلّا أن : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) حين ينقله عن الله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) حين يقوله ، فانه على أية حال محال لا ينسب الى الله ، ولا الى العقل ، خارج عن وحي الأرض والسماء ، مارج من فرية وجنون!

ولكنه لا! لا هنالك فرية ولا جنون (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) تغاضيا عن براهينها الظاهرة ، انهم عائشون (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)

٢٣٣

يوم الدنيا قبل يوم الدين ، ف ـ «العذاب» هو عذاب التغافل عن احكام الفطرة والعقل ، تغاضيا عن ظاهر ادراكاتهم وباطن معرفياتهم ، وذلك هو (الضَّلالِ الْبَعِيدِ) حيث الضلال القريب هو المرجو زواله إذ ليس عن عناد ماكن ، واما الذين (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) فضلا لهم بعيد وحتى يموتوا ضلّالا ، ومن ثم العذاب القريب!

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩).

أترى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هو أفق السماء والأرض؟ وصحيح التعبير عنه «ما تحت أرجلهم من الأرض وما فوقهم من السماء»!

ام «ما بين أيديهم وما خلفهم» من كلّ من السماء والأرض أماما وخلفا؟ وتبقى الجهتان الأخريان يمينا وشمالا ، حيث الأربع هي الأفق المشهود من السماء والأرض!

ام لا هذا ولا ذاك ، وانما هي تلميحة لطيفة عميقة الجذور ، بطيئة الظهور لكروية الأرض ودورية السماء ، ف ـ (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من الأرض هو الأفق المشهود الدائري لكل شاهد في أكناف الأرض ، ثم (وَما خَلْفَهُمْ) هو الأفق والآفاق غير المشهودة ، فليس «خلفهم» إلا خلف الأرض ، وراء الأفق الظاهر ، إذا فليست الأرض مسطحة ، بل هي مدورة مكورة لها من كل جانب منها ظهر وجاه خلف.

ثم و (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من السماء هو الأفق الظاهر منها لكل ناظر إليها في آفاق الأرض ، ف ـ (وَما خَلْفَهُمْ) هو الأفق غير الظاهر فليكن

٢٣٤

خلف الأرض ـ أيا كان ـ ارض وسماء ، أرض تحيط بها السماء من كافة مناكبها ، فهي ـ إذا ـ في السماء معلقة كسائر نجومها ومصابيحها!

وترى كيف استفهام الإنكار التنديد بمن كانوا يعيشون الزمن الذي كانت كروية الأرض فيه كفرا وخلافا للاحساس والعلم (١)؟! (أَفَلَمْ يَرَوْا ..) اجل لم يروا ، وأنى لهم أن يروا ، والعلم قاصر ، والجهل قاهر ، والوحي عنهم به منقطع؟!.

عله لان وحي الكتاب كان يشير الى هذه الملحمة العلمية ، ومهما كانوا هم مشركين ولكنما الاختلاط بالكتابيين يجعلهم يعرفون أمثال هذه الملاحم التي تهمهم علميا مهما لا تهمهم عقائديا ، ثم وهذه تحريضة علمية

__________________

(١) في زوايا التاريخ ليست الأرض كروية فقد كان أول تصور للإنسان في شكل الأرض انها بساط عظيم هائل لا نهاية لعمقه يعتمد عليها قبو السماء كالسقف المرفوع ، ولما تقدم في الملاحة وقطع البحار الواسعة أخذ يتصور ان الأرض سابحة في اوقيانوس من الماء لا نهاية له وكان ذلك خطوة لتصور ان الأرض محوطة بدائرة وترتكز على جذور طويلة مثل الشجرة ، وساد كذلك اعتقاد قديم بان الأرض بساط مستدير يقوم على اثنى عشر عمودا ، ولكن على اي شيء تقوم هذه العمد؟ فيجيب قساوسة في اوروبا في القرون الوسطى بأنها تقوم على الضحايا البريئة من اهل الفضيلة والتقوى الذين لولا وجودهم هنالك لدكت الأرض وذهبت هباء في الفضاء ، وقد كان (اناكسيماندر) الا غريقي في القرن السادس قبل الميلاد يرى ان الأرض كالاسطوانة وان قطرها يساوي ثلاثة أميال ارتفاعها ، وانها سابحة في مركز القبو السماوي وانه لم يسكن منها إلّا وجهها الأعلى ، وتوجد اوروبا في النصف الشمالي وليبيا او افريقيا وآسيا الجنوبي ، ثم جاء من بعده بقليل الفيلسوف أفلاطون وقال : ان الأرض مكعبة ، لأنه كان يعتقد ان المكعب أكمل الاشكال الهندسية فيجب ان يكون موطنا لافضل الكائنات وهو الإنسان ، وانه قبل ان يقول علماء الغرب بكروية الأرض سبقهم الى ذلك من عهد بعيد علماء الشرق حيث تخيلوا ان الأرض كروية وتنتهي شمالا وجنوبا بجبال عظيمة الارتفاع ، ومنذ ١٥٠٠ سادت في الغرب نظرية تقول : ان الأرض بيضاوية وانها سابحة في الأثير.

٢٣٥

للأجيال ان يروا رؤية عينية او علمية (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فمثلها كمثل قوله تعالى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُون) (١٠ : ١٠١).

ثم وكان لهم قبل وحيه او اكتشافه علميا ان يروه تاملا وتعملا للضرورة الملموسة لهم أن الأرض ليست مسطحة دون خلف كظهرها ، لاختلاف الافاق ليلا ونهارا!

وهناك آيات اخرى تؤشر الى دوران الأرض وكرويتها ناتي على تفسيراتها بطياتها ، وآيتنا هذه (أَفَلَمْ يَرَوْا ..) هي الوحيدة بين رفاقها تدليلا كالصريح على كروية الأرض وقد تزاملتها آية التكوير (١).

وقال الادريسي وهو احد الجغرافيين من العرب في القرن الحادي عشر للميلاد : ان نصف هذه الأرض البيضاوية مغمور في الماء وذلك ليحل مشكلة النصف المجهول ، وكان بطلميوس في القرن الثاني للميلاد وهو من أشهر الفلكيين يرى ان الأرض مثل كرة مفرطحة من جانبيها كحبة القوطة ، وجاء (ابيانوس) في ١٥٢٠ فقال : انها تشبه القلب ، وصادفت نظريته ميلا في قلوب قساوسة الدين في اوروبا فأيدوه قائلين انها قلب الله ، وان هذه الكرة القلبية تشبه ارض المكتشف العظيم (كولمبوس) حيث تصورها مثل الكمثرى ، فالنصف الكروي هو الشرقي والنصف المستطيل هو الغربي ، والتمدد الذي أوجده فيه هو (العلم الجديد) الذي اكتشفه ، واما (دانت) فقد تصورها قبل ذلك بقرن في مثل هذا الشكل جاعلا هذا التمدد لحجمه الذي صوره فكانت جبال المطهر تحت خط

__________________

(١) وهي «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ..» راجع (٣٩ : ٥).

٢٣٦

الاستواء بثلاثين درجة ، بينما جعل (أورشليم) او (ريون) في الجهة المقابلة ليحفظ التوازن.

وظهر في ١٨١٩ في (سنت لويز) بالولايات المتحدة القبطان (جون كليفز سيمس) بنظرية عجيبة تعرف باسمه او بنظرية الكرات المتداخلة وهي أن الأرض او اي كوكب يتكون من عدة من الكرات المتلابسة والمشتركة في مركز واحد وبين كل كرة والتي تليها فاصل مملوء بالهواء ، وعند القطبيين فتحة كبيرة في جميع هذه الكرات ، ويرى ان الأرض تتركب من خمس طبقات او كرات متداخلة وان فيها فتحتين كبيرتين عند القطبين يبلغ قطر الشمالية اربعة آلاف ميل وقطر الجنوبية ستة آلاف ميل وان سطحي كل كرة او طبقة مسكونان فتوجد سكان في الأرض على السطوح المحدوبة والسطوح المقعرة ، وطلب الى المجلس النيابي بالولايات المتحدة ان يجهزه بسفينتين ليسافر إلى احد القطبين ويدخل من الفتحة الموجودة هنالك ليدخل الى سكان السطح المقعر الذي نعيش فوقه ، وطبع المارشال (جاردنر) في ١٩١٣ م كتابا في الولايات المتحدة عنوانه : سياحة الى داخل الأرض ـ ذهب فيه الى ان الأرض مجوفة ويبلغ سمك طبقتها التي نعيش عليها ثمانمائة ميل وانها مفتوحة عند القطبين ويوجد في داخلها شمس ويبلغ قطر كل فتحة قطبية ألفا واربعمائة ميل.

وقال (مورية) في كتابه (علم الفلك اليوم) إن الأرض على شكل هرم ، وهو يرى ان نظريته تبين اختلاف أنصاف أقطارها وتحل كثيرا من النقط المعضلة في هذا الصدد التي لا يمكن ان تفسرها اية نظرية اخرى ، وهذه النظرية التي نشرها (تيوفيل موريه) العالم الطبيعي الفرنسي إن هي إلا شرح وتأييد لنظرية (لوثيان جرين) العالم الانكليزي التي كانت مثارا لجدال كبير في سنة ١٨٧٥ وهو يذهب الى ان الأرض هرمية الشكل ، وان

٢٣٧

البحار تشغل بطونا في سطوحه الاربعة بينما اركان هذا الهرم عبارة عن القارات الخمس ، وقد بعث (موريه) هذه النظرية الهرمية للوجود بعد رفضها في ذاك العهد ليحللها العلماء من جديد في نور ما استكشف من العلم الحديث ، والجدال قائم الآن في كل مكان على قدم وساق .. (تفسير الجواهر ١٦ : ١٣٧ ـ ١٤٠).

وبعد ان يروا ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، لهم بطبيعة الحال ان تأخذهم روعة من خسف الأرض ام سقوط السماء ، حيث الأرض المعلقة في جو السماء غير مأمونة من أية حادثة هائلة ، خسفا في نفسها ، ام سقوطا لها في اعماق السماء ، ام سقوط السماء كسفا عليها لولا المسكة الإلهية الرحيمة و (... إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) في نفسها ام عن مكانها (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)!

ولقد سبق على مدار الزمن هذه التجربة المرة (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ...) (٢٩ : ٤٠) (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (١٦ : ٤٥) (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) (٦٧ : ١٦)؟! سبحان الخلاق العظيم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا

٢٣٨

صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

مسرح من مسارح النبيين الملكين داود وسليمان (عليهما السلام) بما آتاهما من فضل يخرق العادة الجارية في الكون هنا لداود (مِنَّا فَضْلاً) تخصه بفضل له خاص ، فالفضل كله منه ويكفيه : (آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) ولكن «منا» تصطفي له خاص الفضل ، وعلّه هنا النبوة والملك وتأويب الجبال والطير معه وتليين الحديد ، ويا له من فضل جامع عقيم النظير اللهم الا للأخصين من السابقين وهم اهل بيت الرسالة المحمدية ، ثم

٢٣٩

الاربعة الآخرون من اولى العزم الذين دارت عليهم الرحى ، وقد تشهد لمثلث الفضل هذا : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ .. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ...) (٢١ : ٨٠).

فقد بلغ فضل الله لداود مبلغا من التجرد والشفافية في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الجبال والطير وحدة الحديد ، فداود الأواب تجاوبه في أوبته الجبال والطير ، ويلان له الحديد ، وهكذا الله يعبّد الطريق للأوابين!

هنا «معه» في (أَوِّبِي مَعَهُ) لمحة لامعة انها تؤوب في عالمها ولا تسمع أحدا من العالمين ، ثم «معه» تجعله يسمع أوبة الجبال والطير.

والاوبة ضرب من الرجوع. وهنا المقصود صوت الأوبة وصيغتها ، إضافة الى حقيقتها ، فواقع الأوبة لا محالة حاصل للكائنات كلها : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) ولكن داود المفضّل على من سواه فقّه تسبيحهم مع تسبيحه وعلى ضوئه كما تشير «معه» وكما في آخر له (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ .. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٣٨ : ١٩) فها هي معية المصاحبة المتابعة ، وقد تعم علمه بتسبيحهم واصالته فيه حيث كان يؤمّ في محراب الأوبة ومصرحها جماعة الطيور والجبال في ترنيمة المرجّع الرائع كما يؤم سائر المؤمنين في زمنه!

الآئب هو الراجع وقد ينكث ، ولكنما الأوّاب من التأويب الترجيع كثرة في عدّة الرجوع وعدّته ، حيث يعيش الاوبة الرجعة الى الله دون نكثة ولا نكسة.

ومن التأويب الترجيع ترجيع الصوت في التأويب وفيه تليين القلب وترجيعه ، فان للصوت الرائع الجميل موقعا فائقا في القارئ والمستمع ،

٢٤٠