الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

إن شرعة الحب والطاعة الالتقاطية شرعة منافقة لا تنبو ولا تنبئ عن ايمان مهما كان ايمانا بالحق او بالباطل ، فانه قلب واحد ، فلا بد له من تعلق واحد ومنهج واحد ، تصورا كليا للحياة كلها ، وإلّا تمزق ونافق ، فإما اتباع الهدى ، أو الهوى حيث الخلط بينهما اتباع للهوى إذ لا تعتبر هداه هدى (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)!

وكما لا ينقسم شخص الى اشخاص ، كذلك لا ينقسم قلب الى قلوب ، يستمد آدابه في كل حقل عما يهواه من معين وعقل بينها تناحر وتشاجر ، فأخلاقه وآدابه من معين ، وشرائعه من ثان ولاجتماعياته من ثالث ، ولاقتصادياته من رابع ، وسياساته من خامس ، وثقافاته من سادس ، ولعقائده من سابع ، فيصبح كالجحيم (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ممزّقا مشلاة بين ارباب متشاركين مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وانه لشر مكانا ممن يأخذ كلّ جنباته من واحد كافر!.

ان كلّ انسان هو شخص واحد له قلب واحد لا يملك ان يتقسم في شخصيته وحالاته ، يقول : انا في كل حقل غيرى في حقل آخر ، فانا بصفتي مسلما اصليّ وأحج و .. وبصفتي سياسيا اعمل وفق مصلحيات السياسة ، وبصفتي تاجرا اعمل كرجل اقتصاد إمّا ذا من صفات في مختلف الحقول!

فالإنسان المسلم يعيش مسلما في هذه كلها ، حيث الإسلام يضم وينظم هذه كلها ، فيعيش في المحراب كما في الحرب مسلما ، وفي السوق كما في المجلس النيابي مسلما ، يعيش في كل الحقول مسلما مستسلما لشرعة الله المتكفلة لكافة حاجيات الحياة وجنباتها.

فإذ يقول الله (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ليس ينهى عن

٢١

المستحيل ، إذ لا يعبد في الحق إلهين إلّا من له قلبان ، وانما يعني ان في اتخاذ إلهين اتخاذا لإله الهوى ورفضا لإله الهدى ، ومن المستحيل طاعة مطلقة لسيدين متناحرين ، اللهم إلّا طاعة لله كأصل وطاعة للرسول كرسول يوجه الى الله وكما في طاعة الشيطان ، فطاعة كلّ مستقلا بجنب الآخر تتطلب قلبين اثنين ، إلا ان يكونا في خط واحد او سبيل واحد.

(... وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ)(٤).

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ... وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ..) (٥٢ : ٣) (١)

فالزوجة لن تصبح امّا ، لا واقعا فهي التي ولدته ، ولا شرعا فهي التي أرضعته ، دون لفظة القول : «أنت علي كظهر امي» فلم يجعل الله الزوجة المظاهر منها كالأم ، بل أبقاها زوجة بكفارة يقدمها لكي يحل له وطئها ، وليس ذلك طلاقا يخلصه منها ولا تخلصها منه ، كما كانت هذه الظلامة العنيفة عادة الجاهلية إذ كانوا يحرمون وطئها بظهارها ثم تبقى معلقة لا ذات زوج فتوطئ ولا خلية فتتزوج! قسوة ما أسوأها معاملة مع المرأة المظلومة في الجاهلية الجهلاء ، أزالها الإسلام بحسن العشرة :

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٣ : ٢٣١) فالام أم والزوجة زوجة لا تتحول واحدة منها الى اخرى ، لا بلفظة قولة ولا بأية محاولة ، واما الجمع بين كونها زوجة لا تتزوج وامّا لا توطئ فهو جمع بين متضادين اثنين يحتاج الى

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٨ : ١٩١ ـ ١٩٦ تجد تفاصيل الظهار بأحكامه

٢٢

قلبين اثنين (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) وكذلك هو بحاجة الى امرأتين اثنتين إحداهما زوجة لها ما لها ، والاخرى أم لها مالها ، فلا تبديل ولا جمع ، وكما ظهارهم من تبديل الجمع!

وانّ صيغة الظهار محرّمة محرّمة تخلّف كفارة إن أراد وطئها ، وحملا عليه وعليها إن تركها ، او طلاقا بحكم الحاكم الشرعي ان لم يفعل مداوما في ترك الوطء! وبذلك تسلم الأسرة من تصدّعها بتلك العادة الظالمة التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة سوء العذاب تحت نزوات الرجال ، الجاهلية المتعنتة!

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والدعّي من يدعى ابنا وليس به ، لا دعوة فقط في لفظة النداء ، بل وفي كلما تتطلبه البنوّة من التوارث وحرمة حليلته.

وقد كانوا في الجاهلية يتبنّون ، قطعا لبنوّة كواقع ، ووصلا لها الى غريب كواقع ، فتنقطع علاقات البنوّة عن الوالد الحق ، وتتصل بالأب المتبني في كافة الصلات بالباطل.

يقال إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تبنّى قبل أن يبعث زيد بن الحارثة ، فكيف؟ ولماذا؟ وهل يشمله التنديد التجهيل وانه خلاف الحق وخلاف القسط وهدى السبيل؟ ام ولأقل تقدير هو (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ... وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)؟

كلّا! ف ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فضلا عن الكافرين كأبي زيد ولما آمن زيد وحسن ايمانه ورفض أباه المشرك أن يتبعه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينذاك تشويقا للايمان وتفريقا عن

٢٣

الكفر «اشهدوا أن زيدا ابني ، فكان يدعى ابن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يحبه وسماه زيد الحب ..» (١)

فلان زيدا أملك بنفسه وأولى من أبيه حتى لو كان مؤمنا ، وهو مشرك! ولأن النبي اولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه أولى من أبيه ، بل لا ولاية لأبيه المشرك عليه وهو مؤمن ، فما تعمد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جناحا في هكذا تبنيّه ولا أخطأ لو كان تبنيا ولم يكن إلّا تشريفا!

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٣٥ ح ١٠ تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في سبب نزول الآية كان سبب ذلك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج الى سوق عكاظ في تجارة ورأى زيدا يباع ورءاه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبّئ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه الى الإسلام فاسلم وكان يدعى زيد مولى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال يا أبا طالب ان ابني وقع عليه السبي وبلغني انه صار الى ابن أخيك تسأله إما ان يبيعه واما ان يفاديه واما ان يعتقه فكلم ابو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حرّ فليذهب حيث شاء فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له : يا بني الحق بشر فك وحسبك فقال زيد : لست أفارق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما دمت حيا فغضب أبوه فقال : يا معشر قريش اشهدوا اني قد برئت منه وليس هو ابني فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اشهدوا ان زيدا ابني ارثه ويرثني فكان زيد يدعى ابن محمد وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه وسماه زيد الحب فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة زوجه زينب بنت جحش ...

أقول : كان التورات بين المؤمنين والمهاجرين سنة مأمورا بها قبل نزول آيات الإرث تشجيعا للايمان ومنها الآية التالية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ...) وكان زيد مؤمنا مهاجرا فلم يكن هناك تبنّ وانما بنوة الحب وميراث الايمان والهجرة مهما تخيله الجماهير تبنيا كما كانوا يعملون!

٢٤

أترى كان له في ذلك الموقف الحرج ان يسكت عن كلمة محببة أولاها : «اشهدوا أن زيدا ابني»؟ وما عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يخيّل الى سائر المؤمنين ـ المتعودين في الجاهلية على ذلك التبني العارم ـ انه أصبح ابنه ، فحرام عليه ـ إذا ـ حليلته!

فلم يكن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «اشهدوا ان زيدا ابني» قولا بفيه ، وإنما عمق قلبه الجيب ، ولم يرتب عليه شئون البنوة ، اللهم إلا ميراثا كان بين المؤمنين والمهاجرين بما فرض الله ، ثم نسخه بقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) ولم يحّرم هو على نفسه حليلته ولا رتب عليه سائر احكام البنوّة ، فلم يشمله التنديد الإبطال :

(.. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(٤).

ذلكم الجعل الجاهل والحكم القاحل من مظاهرة وتبنّ «قولكم» لا قول الله «بأفواهكم» دون رباط بعقولكم وقلوبكم ولا وحي ، إذا فهو قول باطل (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ) لا سواه (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) لا سواه!

فالقول بالأفواه هو المنقطع الرباط عن دواخل القائل وخوارجه ، فلا هو ينبع من نبعة فطرية او عقلية داخلية ، ولا وحي خارجي ، فلا أثر له داخليا في حب أو بغض ولا خارجيا من آثار الامومة والبنوة والابوة لا تكوينيا ولا تشريعيا ، فهو قول باطل في بعدية (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) الى الحق.

هذا رغم ما هنالك من آثار تهواه الأنفس في طقوس جاهلية لا تعدو حدود الخيال فتستأصلها آيات الله البينات (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) ومن الحق السبيل والسبيل الحق :

٢٥

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (٥)

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) لا «الى آبائهم» فقد يختلفان ايمانا وكفرا فكيف يدعى الولد المؤمن الى الأب الكافر؟ مهما صحت المعاكسة ، ان تدعوا الولد الكافر الى الوالد المؤمن ولكي يؤمن ولأنه يلحق به قبل بلوغ الحلم دون عكس ، ثم «ادعوهم الى ..» لا يزيل أساس التبني ، فقد يدعى «الى» وهو بعد ابنه كما يدعى غريب الى غريب ، فانما (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) دعوة تختصهم بآبائهم نسبا وفي كل ما هو لزامه ، فقولوا ابن فلان بدلا عن ابني ، لا في لفظة قول فحسب ، بل وفي كل ما تتطلبه البنوّة اللهم إلّا ما يستثنيه الإسلام للولد المؤمن او الوالد المؤمن.

ولقد دعى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زيدا لأبيه قبل ان تنزل آية الدعوة اللهم إلّا نسبة تشريفية تشويقا له إذ رجح المقام عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على اللحوق بابيه (١) فما نرى فيما

__________________

(١) مضى له قصة عن الامام الصادق (عليه السلام) وفي لفظ آخر في الدر المنثور ٥ : ١٨١ واخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان امر زيد ابن حارثة انه كان في أخواله بين معن من طين فأصيب في غلمة من طين فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد الى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة (رضي الله عنها) ان يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا ان قدر عليه فلما جاء وجد زيدا يباع فأعجبه طرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها اني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا فان أعجبك فخذيه والا فدعيه فانه قد اعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عندها فاعجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظرفه فاستوهبه منها فقالت هو لك فان أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليها فوهبته له ان شاء ـ

٢٦

فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) به إلّا خيرا وحقا رغم ما زعمه المتبنون الآخرون قياسا لفعله بما كانوا يفتعلون!.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ..)(٥) .. أترى كيف تكون دعوتهم لآبائهم اقسط عند الله؟ وقضيته ان تبنيهم قسط! وبقاءهم لغير

__________________

ـ أعتق وان شاء امسك قال فشب عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم انه خرج في ابل لابي طالب الى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام اليه فقال من أنت يا غلام؟ قال : غلام من اهل مكة قال : من أنفسهم؟ قال لا قال : فحر أنت ام مملوك؟ قال : بل مملوك قال : لمن؟ قال : لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له أعربي أنت ام عجمي؟ قال : بل عربي قال : ممن أهلك؟ قال : من كلب قال : من اي كلب؟ قال : من بني عبدود قال ويحك ابن من أنت؟ قال : ابن حارثة بن شراحيل قال : واين أصبت؟ قال في أخوالي قال ومن أخوالك؟ قال : طي قال : ما اسم أمك؟ قال : سعدى فالتزمه وقال : ابن حارثة ودعا أباه وقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر اليه عرفه قال : كيف صنع مولاك إليك؟ قال : يؤثرني على اهله وولده ورزقت منه حبا فلا اصنع الا ما شئت فركب معه أبوه وعمه واخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له حارثة يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! أنتم اهل حرم الله وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عبدك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فانك ابن سيد قومه فانا سندفع لك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أعطيكم خيرا من ذلك؟ قالوا وما هو؟ قال : اخيره فان اختاركم فخذوه وان اختارني فكفوا عنه قالوا جزاك الله خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم هذا أبي وعمي واخي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانا ممن عرفته فان اخترتهم فاذهب معهم وان اخترتني فانا من تعلم فقال زيد : ما انا بمختار عليك أحدا ابدا أنت مني بمكان الوالد والعم قال له أبوه وعمه : يا زيد أتختار العبودية على الربوبية؟ قال ما انا بمفارق هذا الرجل فلما راى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرصه عليه قال : اشهد انه حرّ وانه ابني يرثني وأرثه فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه فلم يزل زيد في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فدعي زيد بن حارثة ـ

٢٧

آبائهم ليس قسطا ولا عدلا ، والقسط أفضل من العدل؟

علّه ككلّ مما شاة مع المتبنين : إن كان هذا قسطا تعطفا بهم دون مقابل ، فدعوتهم لآبائهم اقسط عند الله ، فإنهم بضع من آبائهم دونكم ، وامتداد لهم بمدّهم إيلادا دونكم ، فليس منكم لهم إلا قول بأفواهكم ، ولهم من آبائهم فعل الايلاد وهو حقيقة لا تنكر ، فالأصل الفطري والولادي يقتضيان ان تدعوهم لآبائهم في كل ما تتطلبه البنوة ، والتخلف عنهما هو خلاف العدل والقسط.

او علّه كبعض مصاديقه قسط ، كما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع زيد ولكنما الأقسط عند الله ان يدعى هو ايضا لأبيه كما فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل آية الدعوة ، فقد جمع الأقسط الى القسط فلم يخالفهما أو أحدهما قبل آية القسط ، اللهم إلّا من سواه بين متعمد ومخطئ وساحة الرسول منهما براء!

(... فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ..)(٥).

فان فوضى العلاقات في أسرة الجاهلية في هرج الجنس ومرجه ، والتبني الأعمى بحيث كان يعمي عن الآباء الأصلاء ، مما يخلّف مجهولية الآباء ، ولكنها ايضا ليست بالتي تسمح بالتبني او تقره ، فان هنالك الأخوة في الدين والولاية فيه اصل جامع يحلّق على كافة المعلومين فضلا عن المجهولين ، فهم إذا إخوانكم في الدين في كلما تقتضيه الاخوة الدينية ، وكما في سائر المسلمين (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ..) (٩ : ١١) وكما في خصوص اليتامى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ..) (٢ : ٢٢٠) وطبعا هي الاخوة الدينية كما في الأدعياء فإنهم أعم من كونهم يتامى او ذوي آباء مجهولين.

٢٨

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (٥)

هنا ينفى الجناح عن خلفيات التبني لحدّ الآن (فِيما أَخْطَأْتُمْ) خطأ في أصله أن لم يكن إلّا قولا بالأفواه دون اثر خارجي ، وخطأ في تجهيل آباءهم حتى جهلوا ، و (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) يعم عمد التبني بترتيب آثار البنوّة لهم ونفيها عن آباءهم ، او عمدا في تجهيل آباءهم حتى جهلوا خطئان لا جناح فيهما ، وتعمدان مغفوران لمن تاب توبة نصوحا. ثم وقصة الرضاعة ليست بالتي تشكل نسبا إلا تحريما مّا وتحليلا ، والإسلام يهدف من وراء هذا السياج القويم على الأنساب أن يحافظ على نظامها التكويني دو تبعثر بتبن وسواه ، وحتى إذا كان نسبا كافرا ، فانه ليس ليسمح نسبة المؤمن الى غير والديه مهما كانت هنالك أحكام وقائية لشرف الايمان.

فليس لأحد أن يخفي نسبه بوصمة الكفر فيدعي نسبا آخر بسمة الايمان ، فليس الايمان بنسب وسبب ، فانه شرف ذاتي لا يعدو حامله الى سواه إلّا إذا حمله الى سواه.

وإنه تشديد أكيد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة كيفما كانت ، والحفاظ على روابطها من كل شبهة وخلل ، وحياطتها بكافة أسباب السلامة والسلوة والاستقامة ، بعيدة عن الفوضويات في دعارات وسواها من ادعاءات جوفاء ، في تغيير النسب وتحويره ، مهما كان بمبرّر الايمان فانه خلاف قضية الايمان.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦).

٢٩

آية وحيدة منقطعة النظير ، تختص ولاية عامة للنبي على المؤمنين ، وامومة أزواجه لهم ، واولوية اولى الأرحام بعضهم ببعض من المؤمنين والمهاجرين ، تضم في هذا المثلث أحكاما عدة جماعية سياسية واقتصادية أمّاهيه؟

ولاية النبي على المؤمنين؟

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ضابطة مطلقة عامة ثابتة بين محور النبوة وشعاع الايمان ، فهو «اولى» قضية النبوة ، وهم مولّى عليهم قضية الايمان ، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينفصل عن ولايته ولا تنفصل عنه حيث النبوة لزامها ولكن الايمان قد ينفصل عمن يتنحى عن ولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»!.

وليست هي مجرد ولاية الحب مهما كان أصلا من قضيتها ، بل هي مطلق الولاية في مطلق الأمور على مطلق الأنفس المؤمنة ، عقيدة وحبا وقولا وعملا أماذا من متطلبات الولاية الأولوية المطلقة!

إن هذه النبوة القمة تقتضي اولوية قمة ، كما الايمان بدرجاته يقتضي تحمل تلك الاولوية حسب الامكانيات.

أترى ان هذه الولاية المحمدية قد تعمي مصالح الامة جماعات وفرادى لمصلحة ذاتية شخصية؟ كلّا! ف ـ (النَّبِيُّ أَوْلى) وليس «محمد اولى» فهذه الاولوية ليست إلا لتخدم مصالح الرسالة والمرسل إليهم جماعات وفرادى ، دون مصلحة لشخص محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانما مصالح رسولية ورسالية ومصالح للمؤمنين ، وكلها لصالح الايمان فصالح

٣٠

المؤمنين ، جماعات وفرادى ، تصد عنهم اخطاء عامدة وجاهلة وتصلح الامة كما يرضاها الله حيث الولاية اسلاميا هي أن يلي كل قوي من المسلمين ضعيفهم ، عقيديا او علميا او خلقيا او عمليا ، أما ذا من مختلف الوهبات والكسبيات جبرانا لنقصه ، فقد يكون المسلم وليّا من جهة ومولّى عليه من اخرى ، كالأعلم بالنسبة للأتقى ، فانه وليه علميا ، ولكنه مولى عليه عمليا ، وهلم جرا في سائر الأولياء والمولى عليهم حسب مختلف الولايات.

والسمة العامة فيها كلها صالح المولى عليه حيث لا يقدر على تحصيله كما يجب او يحب ، وهذه الموالاة هي في صيغة اخرى تعاون على البر والتقوى ، وضد الشر والطغوى ، تعليما او امرا ونهيا او حملا على فعل المعروف وترك المنكر.

فليس للولي أيا كان أن يتامّر على المولى عليه لصالحه الشخصي بسند انه قوي ، اللهم إلّا لصالح المولى عليه افرادا وجماعات ، والى السلطة الزمنية على ضوء الإسلام حيث الزعيم خادم الرعية ، دون ان يبتغي من الزعامة مالا او منالا إلّا إصلاح الرعية ، وتوجيههم الى الأصلح فالأصلح في مختلف الحقول الاسلامية المحلّقه على كافة المصالح.

الولايات العشر في الإسلام :

هنالك ولايات خاصة واخرى عامة على المؤمنين كلها تنحو منحى مصالحهم معنوية ومادية جماعية وفردية ، ك : «ـ ١ ـ الولاية على الأيتام ـ ٢ ـ والسفهاء ـ ٣ ـ والمجانين ـ ٤ ـ والزوجات ـ ٥ ـ والأولاد ـ ٦ ـ والمتخلفين (١) ـ

__________________

(١) دليله قوله تعالى «الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»

٣١

٧ ـ وعلى كل الأمة من الفقهاء ـ ٨ ـ وأئمة الدين ـ ٩ ـ والرسول ـ ١٠ ـ وولاية الله!.

كل هذه ولايات على من لا يحيط علما او طاقة على مصالحه ، فالولاية المعصومة من بينها مطلقة وكما تدل عليه آية الولاية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥ : ٥٥) وآية الطاعة : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤ : ٥٩)

والولايات الاخرى محدودة بحدود المصالح ، وللمولى عليهم الاعتراض والاستيضاح إن اشتبه عليهم أمرها او تأكدوا من خلاف المصلحة فيها.

ثم تشترك هذه العشر في الولاية الشرعية على اختلاف درجاتها وضيقها وسعتها ، وتخصّ ولاية المعصومين الشرعية بأنها مطلقة محكمة دونما استثناء لأنها تمثل ولاية النبي الممثلة لولاية الله واما الولاية التشريعية والتكوينية فهما من اختصاصات الربوبية ، فهو ـ فقط ـ المشرع لا سواه (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...) وهو المكون خلقا وتدبيرا لا سواه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ..).

ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الاولوية بأنفس المؤمنين ، فتحتل الدرجة الثانية من العشر بعد الولاية الإلهية ، فهو أولى بكل مؤمن من نفسه واهله وماله وعرضه ، وكلها لصالح النبوة والمولى عليهم على ضوء النبوة العادلة ، ولاية عامة تشمل رسم مناهج الحياة الفردية والجماعية في كافة حقولها ، فلا ولاية مع ولايته ، حيث لا تساوى ولا تسامى ، إذ تحلّق بعد ولاية الله على الولايات كلها ، على سائر الأولياء والمولى عليهم كلهم.

٣٢

قد تتحقق الولاية دون اولوية بأنفس المولّى عليهم منهم كما في سائر الولايات الخاصة والعامة ، إلّا المحمديين من العترة المعصومين (عليهم السلام) (١) ولكنما الآية تثبت ولاية الاولوية له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنفس المؤمنين مما يقدّمه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عليهم في النواميس الخمسة كلها : نفسا وعقلا ودينا وعرضا ومالا لصالح النبوة والمولّى عليهم ، فصالح النبوة هو هو صالحهم جميعا.

فكما يحب على كل مؤمن الحفاظ على هذه النواميس حبا لها وايمانا ، كذلك عليهم ـ وباحرى ـ الحفاظ عليها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقديما لجانبه على جوانبهم ، وكما الله جعله اولى بهم وعلى حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة» (٢) ومن هذه الولاية قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا اولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي ومن ترك مالا فلورثته» (٣) فليس له من اموال المؤمنين شيء إلّا ما تلزمه المصلحة

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٨٢ اخرج ابن أبي شيبة واحمد والنسائي عن بريدة قال غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت عليا فنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغير وقال يا بريدة الست اولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من كنت مولاه فعلي مولاه» أقول وانها كلمة متواترة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)

(٢) المصدر اخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... اقرءوا ان شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..)

(٣) المصدر اخرج احمد وابو داود وابن مردويه عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... ومثله ذيل الحديث السابق ولكن فيه : من ترك مالا فلعصبة ...

٣٣

الجماهيرية الاسلامية كالضرائب المستقيمة وغير المستقيمة وهي كلها لصالح المسلمين.

ثم إذ يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء فلا تخلّف عنه نظرة الإذن من غيره وليا وسواه كما كان في غزوة تبوك (١) ومن خلفيات هذه الولاية الاولوية المطلقة أن لو راى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صالحا في تطليق زوجتك طلقها دون استئمارك ، ام صالحا في حملك على عمل دون أجر او بأجر ، ام دفع مال بمقابل او دون مقابل ، أما ذا مما لك فيه الولاية نفسا وأهلا ومالا وحالا ، فهو أولى بك منك ، فضلا عما ليس لك فيه ولاية ، فهو فيه اولى منك في بعدين اثنين ولكنه لم يعهد عنه أمثال هذه التصرفات خلافا لمرضات المؤمنين وان كانت له بسناد ولايته المطلقة المخوّلة.

ثم الولاية الجماهيرية هي له أحرى من الشخصية ، حيث النبوة تنحو منحى الجماهير قبل الأشخاص ، وهي لصالح مجموعة الامة قبل افرادها ، وصالح الجماعة في ولاية وسواها أهم من صالح الأفراد.

ومن أهم الاهداف في ضابطة الولاية هنا هي الإمرة (٢) ألّا يخلد بخلد

__________________

(١) في المجمع وروي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد غزوة تبوك وامر الناس بالخروج قال قوم : نستأذن آبائنا وأمهاتنا فنزلت هذه الآية

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٣٨ عن علل الشرايع باسناده الى عبد الرحمن لقصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل (النَّبِيُّ أَوْلى ...) فيمن نزلت هذه الآية قال : نزلت في الإمرة ان هذه الآية جرت في الحسين بن علي (عليه السلام) وفي ولد الحسين فنحن اولى بالأمر وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين والمهاجرين ، قلت : لولد جعفر فيها نصيب؟ فقال : لا ـ فعددت؟؟ ليه بطون عبد المطلب كل ذلك يقول : لا ـ ونسيت ولد الحسن فدخلت عليه بعد ـ

٣٤

المؤمنين فرادى وجماعات التقديم او التقدم بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اي امر من أمورهم حتى وان شاورهم مصلحيا كما أمره الله ، فالأمر أمره والرأي رأيه ، لان الإمرة الشاملة على المؤمنين هي إمرته.

فلو رأى المؤمنون بأجمعهم صلوحا في أمر من حرب او صلح أماذا؟ ورأى الرسول خلافهم ف ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فلا لهم او عليهم إلّا ما يراه دونهم.

ولقد جرت هذه الإمرة النبوية في الأئمة الاثني عشر بدليل الكتاب والسنة وعلى حد

قول باقر العلوم (عليه السلام) «ما لمحمدي نصيب غيرنا» فهم لا سواهم (أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الذين افترض الله طاعتهم بإمرتهم بعده وبعد رسوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ..).

__________________

ـ ذلك فقلت : هل لولد الحسن (عليه السلام) فيها نصيب؟ فقال : لا يا أبا عبد الرحمن ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا.

ورواه مثله عنه في الكافي وروايات اهل البيت في ذلك بعديد اسماء اولى الأمر متواترة.

ومن ذلك ما رواه القمي بإسناد متصل عن سليم بن قيس قال سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول : كنا عند معاوية انا والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن سلمة واسامة بن زيد فجرى بيني وبين معاوية كلام فقلت لمعاوية سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : انا اولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم اخي علي بن أبي طالب اولى بالمؤمنين من أنفسهم فإذا استشهد فالحسن بن علي اولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم ابني الحسين من بعده اولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين ثم تكملة اثنتى عشر اماما تسعة من ولد الحسين قال عبد الله بن جعفر واستشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن ام سلمة واسامة بن زيد فشهدوا لي عند معاوية قال سليم وقد سمعت ذلك من سلمان وأبي ذر والمقداد وذكروا لي انهم سمعوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

٣٥

ولقد احتل حديث خلافة الإمرة النبوة في علي (عليه السلام) يوم الغدير ، قمة التواتر بين المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم (١) وكذلك حديث التهنئة من الشيخين في قولهما لعلي (عليه السلام) : «بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (٢) تلو ما قال

__________________

(١) اخرج العلامة الأميني في الغدير نزول آية التبليغ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير في علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن ثلاثين مصدرا من إخواننا وان رواة الغدير من الصحابة (١٢٠) صحابيا ومن التابعين (٨٤) وان طبقات الرواة في حديث الغدير من أئمة الحديث وحفاظه والاساتذة (٢٦٠) نسمة والمؤلفون فيه (٢٦) راجع علي والحاكمون ص ٣٤).

(٢) قد روى حديث التهنئة فيمن رواه الحافظ ابو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة عن البراء بن عازب واحمد بن حنبل في مسنده ٤ : ٢٨١ عنه والحافظ ابو العباس الشيباني عنه والحافظ ابو يعلى الموصلي عنه والحافظ ابو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره ٣ : ٤٢٨ عن ابن عباس وابن عازب والحافظ احمد بن عقدة الكوفي في كتاب الولاية بالإسناد عن سعد بن أبي وقاص والحافظ ابو عبد الله المرزباني البغدادي عن أبي سعيد الخدري والحافظ علي بن عمر الدار قطني البغدادي والحافظ ابو عبد الله بن بطة الحنبلي عن البراء بن عازب والقاضي ابو بكر الباقلاني البغدادي في التمهيد في اصول الدين ص ١٧١ والحافظ ابو سعيد الخركوشي النيسابوري في شرف المصطفى عنه والحافظ احمد بن مردويه الاصبهاني في تفسيره عن أبي سعيد الخدري وابو إسحاق الثعلبي في تفسيره والحافظ ابن السمان الرازي عن ابن عازب والحافظ ابو بكر البيهقي عنه والحافظ ابو بكر الخطيب البغدادي بسندين صحيحين عن أبي هريرة ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣ والفقيه ابو الحسن بن المغازلي في المناقب وابو محمد احمد العاصمي في زين الفتى والحافظ ابو سعد السمعاني في فضائل الصحابة عن ابن عازب وحجة الإسلام ابو حامد الغزالي في سر العالمين ص ٩ وابو الفتح الاشعري الشهرستاني في الملل والنحل واخطب الخطباء الخوارزمي الحنفي في مناقبه ص ٩٤ وابو الفرج بن الجوزي الحنبلي عن ابن عازب وفخر الدين الرازي الشافعي في تفسيره الكبير ٣ : ٦٣٦ وابو السعادات مجد الدين بن الأثير الشيباني في النهاية ٤ : ٢٤٦ وابو الفتح محمد بن علي النظري في ـ

٣٦

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الست اولى بكم من أنفسكم قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» مما يبرهن جليا أن مكانته من المؤمنين هي نفس مكانة الرسول إلا في الوحي والنبوة.

فإمرة الاولوية والولاية المطلقة تختص بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحمديين من عترته المعصومين ، ثم لا إمرة إلّا شورى بين المؤمنين ، سواء أكانت إمرة الفتوى او الزعامة السياسية ، فانها مهما كانت عليمة تقية عادلة فليست معصومة عن أخطاء ، ولأنها لا بد منها في استمرارية الإمرة الاسلامية ، فلا بد من كونها في نطاق الشورى بين الرعيل الأعلى حتى تقل اخطاءها وكما يروى الامام علي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «اجمعوا العابد من امتي فاجعلوا أمركم شورى» (١).

والشورى في امور المؤمنين هي من سبل الايمان فتركها قطع لسبيل الايمان حسب درجات الأمر الذي يتطلب الشورى.

فولاية الفقهاء محدودة لمكان اخطاءهم قاصرة او مقصرة ، فان ثبت للمولى عليهم وهم غير الفقهاء أنهم اخطأوا في شيء حرم اتباعهم فيه إلّا ان يقنعوهم ، وان لم يثبت فاتباعهم مفروض.

ثم لا ولاية لفقيه على فقيه مهما اختلفت درجاتهم ، ففي الأحكام الشرعية كل فقيه ولي نفسه ومن ليس بفقيه كما وفي المسائل السياسية الزمنية فليس ولي امر الامة زمن الغيبة إلّا الشورى من الرعيل الأعلى ، بل وفي الأحكام الشرعية المرجع هو الشورى دون الأشخاص.

__________________

ـ الخصائص العلوية عن أبي هريرة وعز الدين ابو الحسن بن الأثير الشيباني عن ابن عازب وثلاثون آخرون امّا زاد ذكرنا أسمائهم في علي والحاكمون ص ٨١ ـ ٨٢.

(١) راجع آية الشورى في سورتها ج ٢٤ ـ ٢٥ من : الفرقان.

٣٧

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ... تنزيل لأزواجه منزلة أمهاتهم ، ولولا آية حجابهن عنهم (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ...) بل وزيادة على سائر المؤمنات كما هنا وفي خضوع القول (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ولولا امكانية تسريحهن (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) حيث تنفصل عنهن الامومة بانفصال الزوجية ، لولا هما لكان التنزيل يعم من امومتهن كونهن محارم لهم فلا حجاب ، فانما الأمومة هنا في وجوب حرمتهن كما الأمهات ، وحرمة نكاحهن كما والنص يخصصها بالذكر (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) فالأمومة النسبية لها وجوب حرمتها وحرمة زواجها ومحرميتها وميراثها ، وللرضاعية كل ذلك إلّا ميراثها ، وللرسالية ليست إلّا الاوليان وهما الأولان فيما يسبق الى الأذهان من اختصاصات الامومات ، فاما المحرمية فتنفيها آية الحجاب : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ثم الميراث تنفيه الآية في ذيلها : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ولولاهما ايضا في نفيهما لم يشملهما التنزيل ، حيث التنزيل لا يوازي الحقيقة ، ولان المقام مقام فائق الاحترام فلا يناسبه الميراث والتكشف. فلان التنزيل خص في مورد الحجاب ولم يذكر له مورد إلّا حرمة نكاحهن فقد انفصم عراه وانحل فتله الشامل لكافة اختصاصات الامومة واختص بالمنصوص منها وحرمتهن كما الأمهات ، فهذه امومة شعورية وشعارية وراء حرمة زواجهن!.

وهل إن ذلك التنزيل مستمر مهما تخلفن عن ساحة الرسالة ، بل وعارضنها وأصبحن محادات لها؟ لان هذه الأمومة ذات علاقتين ، علاقة بالرسول إذ يتأذى ان تؤذى أزواجه وينكحن ، وعلاقة بهن إذ هن من حرمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فانطلاقهن عن ساحة الرسالة بفاحشة مبينة تتهدم تلك الساحة المباركة فلا يتأذى إذا من ان

٣٨

ينكحن بعده ولا ألّا يحترمن كأمهات ، إذا ففي انطلاقهن هذا سماح لطلاقهن.

وقد يروى عن القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف : «ان الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخصهن بشرف الأمهات فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق لهن ما من الله على الطاعة فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلق لها في الأزواج وأسقطها من تشرف الأمهات ومن شرف امومة المؤمنين» (١)!

وكان حقا له أن يسقط حقه بطلاقهن عن هذا الشرف فيما يضيع حقه في اولويته على المؤمنين بالخروج على امير المؤمنين ومثيله في اولويته تلك في سدّته العليا وإمرته المنصوصة عليهم.

ترى إذا كانت أزواجه أمهاتهم أليس ـ إذا ـ هو أباهم في اصل الحرمة الوالدية فلما ذا (النَّبِيُّ أَوْلى ...) وليس «أبوهم»؟ (٢).

ان أولويته المطلقة اولى من الأبوية ، فانه اولى من أبويهم ومن كل ولي لديهم! فهو الأب الاوّل للمؤمنين وولده الامة درجات أعلاها علي (عليه

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٣٨ ح ١٧ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم (عليه السلام) حديث طويل وفيه : قلت : فاخبرني يا مولاي عن معنى الطلاق الذي فرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكمه الى امير المؤمنين (عليه السلام) قال (عليه السلام) : ان الله تقدس اسمه ...

(٢) في الدر المنثور ٥ : ١٨٣ اخرج عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة انهم قرءوا الآية باضافة «وهو أب لهم» أقول : وهو معروض عرض الحائط لكونه خلاف المتواتر الموجود من القرآن وان «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ» تعني فوق الابوة فلا حاجة الى ذكرها وليس مثله الا مثل القائل «محمد رسول الله وهو مؤمن»!

٣٩

السلام) ، فهو الأب الثاني للامة وكما سائر الائمة (عليهم السلام) ومن ثم سائر الآباء ، وقد صح عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «انا وعلي أبوا هذه الامة»! (١) ولأنه اولى بالمؤمنين من أنفسهم» كما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «فوالله اني لأولى الناس بالناس» (٢).

(.. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦).

هنا تلميحة ان قد مضى ردح من الزمن يتوارث فيه المسلمون بالايمان والهجرة ، ذلك ولمّا تستقر الدولة الاسلامية ، فقد آخى الرسول (صلى الله

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٣٨ ح ١٨ في كتاب علل الشرايع باسناده الى علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت له : لم كني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بابي القاسم؟ فقال : لأنه كان له ابن يقال له قاسم فكني به قال قلت : يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل تراني أهلا للزيادة؟ فقال : نعم اما علمت ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : انا وعلي أبوا هذه الامة؟ قلت : بلى قال : اما علمت ان عليا (عليه السلام) قاسم الجنة والنار؟ قلت : بلى ـ قال : فقيل له ابو القاسم لا ابو القسيم الجنة والنار فقلت : وما معنى ذلك؟ فقال : ان شفقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته كشفقة الاباء على الأولاد وأفضل أمته علي (عليه السلام) ومن بعده شفقة علي عليهم كشفقته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه وصيه وخليفته والامام بعده فلذلك قال (عليه السلام) انا وعلي أبوا هذه الامة وصعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فقال : من ترك دينا او ضياعا فعلّي واليّ ومن ترك ما لا فلورثته فصار بذلك اولى من آبائهم وأمهاتهم وصار اولى بهم منهم بأنفسهم وكذلك امير المؤمنين (عليه السلام) بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) نهج البلاغة من كلام له عليه السلام.

٤٠