الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وكما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تغنوا بالقرآن فانه من لم يتغن بالقرآن فليس منا»!

فلان كلام الله جميل فليكن بصوت جميل كما صيته جميل ولفظه جميل ومعناه جميل ، والله تعالى جميل يحب الجمال!

تذكر الروايات ان داود (عليه السلام) أوتي صوتا جميلا خارقة العادة في الجمال ، كان يرتل به مزاميره وهي تسابيح دينية رائعة من زبوره في العهد العتيق» ـ

فحينما كان ينطلق صوته في ترتيل المزامير تمجيدا لربه ، كانت ترجّع معه الجبال والطير ، مردّدة تلك الترانيم السارية السارّة (١) لحظات فائقة التصور لا يتذوقها إلا كل أواب حفيظ : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٢١ : ٧٩) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٣٨ : ١٩)

ثم و (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) خطاب تكوين وتسخير يضرب الى عمق الكائن دون مكنة التخلف كما في اصل التسبيح ، وكما في : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٢١ : ٦٩) واضرابها من خطاب التسخير التكوين.

أترى ذلك الجبال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) فما بال الطير وموقعه في تعريفها ونصبها ، فعطفها الى «جبال» يقتضي «وطير» كما «جبال» قضية ضرورة الوفاق في العطف بين الرفاق أدبيا كما هو معنويا؟

__________________

(١) في كمال الدين باسناده الى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) في حديث يذكر فيه قصة داود (عليه السلام) قال : إنه خرج يقرأ الزبور وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه.

٢٤١

قد تكون «والطير» عطفا بحساب المعنىّ من محل المعطوف عليه ، ف ـ «اوبي» تعني «وسخرناها» كما في آيتي التسخير ، ف ـ «والطير» تعني ذلك التسخير ، فقد يفسر نصب الطير امر الجبال انه تسخير وليس امر التشريع! كما و «يسجن» هناك تفسر هنا «أوبي» أنه التسبيح الترجيع!

هذا مسرح من مسارح تليين الجبال والطير في مصارح التسبيح ، ثم الى تليين الحديد :

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)؟ أتراه ـ فقط ـ تليينا لحده وصلابته بعد الحصول عليه من معدنه؟ وهذا أصعب منه واحدّ! ام وتليين معدنه ومصدره ، والمقام مقام الفضل الرباني لعبد رباني وأفضله ذلك الجمع الرائع المكين من التليين!

ولأن إلانة الحديد لا تحملها في القرآن كله إلا هذه اليتيمة المنقطعة النظير فلننظر فيها نظرة الناقد البصير.

يروى عن امير المؤمنين علي (عليه السلام) انه قال : اوحى الله الى داود انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك قال : فبكى داود (عليه السلام) أربعين صباحا فأوحى الله عز وجل الى الحديد ان لن لعبدي داود (عليه السلام) ..»(١).

«ألنا له» كما «يسجن معه ـ اوبي معه» تختص إلانة الحديد بداود!

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٤٤ عن الكافي باسناده عن احمد بن أبي عبد الله عن شريف ابن سابق عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ان امير المؤمنين صلوات الله عليه قال : ... فألن الله عز وجل له الحديد فكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألفا واستغنى عن بيت المال.

٢٤٢

ألقوة خارقة أوتيها من فضل الله؟ وتعبيره الصحيح الفصيح «قومناه»! ام إلانة لما يحتاجه من حديد لصنعة لبوس؟ وهذا هو ظاهر الإلانة ، وقد تضمن إلانة العلم كما تعني إلانة الحدة : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) (٢١ : ٨٠) فلو لا ذلك التعليم لم تكن كثير فائدة في هذا التليين ، فانما هو كذريعة لصنعة لبوس ، لا ـ فقط ـ نفس التليين.

وهنا أيضا (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) تفسير لمدى ذلك التليين ، فلا تعني إلانة الحديد ـ فقط ـ عمل السابغات ، إلّا أن تعني إلانة ذلك العمل بعد إلانة الحديد! إذا فهنالك مثلث من تليين الحديد ، صدورا من معدنه ، وتليينه عمليا ومن ثم تليينه لصنعة لبوس عليما!

فلم يكن التليين ـ إذا ـ بالتسخين ، فانه لكل من يسخنه وهو هنا «له» باختصاص ، بل هو خارقة للعادة تليينا بلا تسخين ولا أية وسيلة مألوفة اخرى ، فجو السياق وظلاله بكل تلميح وتصريح يعني هنا خارقة للعادة! من :

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ولا كمجرد آية خارقة تدل على وحى الرسالة ، بل و : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١).

السابغات هي الدروع الواسعات ، والسرد هو نسجها ، وتقديره لها هو ان يعمل كلا على قدره السائغ للسابغ وقد يروى انها كانت تعمل قبل داود صفائح الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم وتثقله فالهم الله داود ان يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم وامر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح ، وهو التقدير في السرد! هذا ولتكون السابغات سائغات

٢٤٣

لائقات ، ومن ثم (وَاعْمَلُوا صالِحاً) في عمل الدروع واستعمالها في سبيل الله واي عمل من اي عامل في فسيح الكون ، ك ـ (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) من صنع ومن استعمال لمصنوع «خبير»!

وعلّ في «اعمل» بديل «اصنع» تلميح لما تلمحناه انه ثالث ثلاثة من أضلاع (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وكما في أخرى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (٢١ : ٨٠) إذا ف ـ (وَاعْمَلُوا صالِحاً) شكرا لما أنعمت (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)!.

فاللبوس مبالغة من اللباس ، حيث السابغة الدرع تبالغ في الإحصان عن بأس الحرب ، فقد كان ذلك خارقة إلهية تتخطى عائدة اثبات الرسالة وتحصيل المال للرسول ، الى (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) عائدة ثالثة لصالحكم ، حيث الحروب آنذاك كانت تتطلب صنعة سريعة للبوس السابغة.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)(١٢).

«و» فضلا «لسليمان» كما فضلا لداود ، كلّا حسبه وبحسابه ، وفقا في سيرة الخارقة مهما اختلفت الصورة ، فقد آتينا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) كما (آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ...) فضلا كفضل!.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) لا كما هي لسواه كعادة جارية المفعول في فاعلياتها ، وانما تسخيرا له يتخطى العادة : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٨ : ٣٦)!

فلقد كانت له الريح ـ بما سخرها الله ـ مركبة فضائية (غُدُوُّها شَهْرٌ

٢٤٤

وَرَواحُها شَهْرٌ) ـ (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) كل يوم مسيرة شهرين (حَيْثُ أَصابَ) من هذه المعمورة ام سواها بأجواءها!.

وترى انها ريح كسائر الرياح ، ام هي سائر الرياح دون اختصاص ، كلّا! فالنص «الريح» دون «الرياح» فلتكن خاصة معروفة لديه ، مجهولة لدى غيره ، ام وإذا كانت معلومة لغيره فغير مسخرة إلّا له ، وانها كانت ريحا عاصفة وكما في آية ثالثة : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (٢١ : ٨١).

ثم «غدوها» هو الغداة لحد الزوال ام هو ادنى ، والرواح هو الوقت الذي يراح فيه الإنسان من نصف النهار الى الغروب او هو ادنى ، فلم يك سليمان يغدو ويروح في يوم واحد دون مكثة في (الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) فليكن الغدو ردحا مما بين طلوع الشمس وزوالها ، وكذلك الرواح ردحا بين زوالها وغروبها ، مهما كانت السفرة في يوم واحد ، ام بمكثه يوم أو أيام (١).

مركبة فضائية ما اغداها واروحها ، واريحها في غدوها ورواحها ، حيث (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) الى (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ام سواها ، مهما كانت هي الأصل في سفراته ، ولذلك خصت بالذكر في آية الأنبياء.

وقد تكاثرت الروايات حول تسخير الريح لسليمان ، تبدو ظلال الاسرائيليات المختلفات والمختلفات فيها واضحة ، فالتغاضي عنها الى بينات الآيات أحرى ، وترك الخوض فيها احجى! فانما هي ريح عاصفة مسخرة لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر ...!.

__________________

(١) في تفسير القمي في آية الريح قال : كانت الريح تحمل كرسي سليمان فتسير به في الغداة سيره شهر وبالعشي مسيرة شهر.

٢٤٥

(... وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) لا نجد القطر إلّا هنا عينا سائلة وفي الكهف مفرغا بحامية النار على زبر الحديد بين الصدفين (١٨ : ٩٦) وهو الرصاص ، و (عَيْنَ الْقِطْرِ) في أصلها غير سائلة ولا تسمى عينا إلّا معدنا ، فبإسالتها بخارقة إلهية خرجت عن أصالتها الجامدة الى عين سائلة يستثمرها سليمان كما يشاء في محاويجه ومحاويج شعبه دون سغب ولا تعب ، وكما ألان الله الحديد لأبيه داود (عليه السلام)!

(... وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أهم ـ فقط ـ شياطين الجن : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٢١ : ٨٢)؟ (وَمِنَ الْجِنِّ) «دون» الشياطين ، تعميم دون اختصاص! ثم (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٢٧ : ١٨) قد تحيل الإختصاص ، حيث الجن المؤمنون أحرى ان يكونوا من جنوده ، وتجنيده الشياطين ليس الا تذليلا لهم وقضاء على شيطناتهم لردح الخدمة ، و (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) (٢٧ : ٣٩) هي كالنص انه كان من مؤمني الجن واتقاهم فأقواهم على هذه الخارقة الإلهية!.

إذا ف ـ «من الجن» يعم قبيلي المؤمنين منهم والشياطين ، وكما جنوده الإنس دون اختصاص.

و (يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) تعني في سلطته وعلى رعايته ، لا في حضرته فحسب ، إذ كان شياطين الجن يغوصون له وهو بعيد عن حضرته مهما كان في سلطته.

(... يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) تسخيرا لهم لأمره ، حيث الجن لا يسخرون دون ذلك ، إلا سخرية لمن يسخرهم دون ذلك! ومن خلفيات (بِإِذْنِ رَبِّهِ) :

٢٤٦

(... وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وليس «أمرنا» إلا عملا لسليمان بين يديه بإذن ربه ، فقد كان الاذن ـ إذا ـ اذن الأمر ، لا ـ فقط ـ اذن السماح ، حيث السماح لخدمة سليمان النبي حاصل بطبيعة الحال لكل بالغ مبلغ التكليف!

وترى ان (عَذابِ السَّعِيرِ) هنا خاص بالأخرى؟ وهو كذلك فانها هي دار الجزاء دون الاولى! ولم يأت السعير في القرآن فيما أتت (١٨) مرة إلّا للأخرى! فلا يختص ـ إذا ـ بالأولى ، وقد يعمها على هامشها دون تحتم فإن الآخرة هي دار الجزاء دون الاولى ، اللهم إلّا لمن تخطى حدّ الطغوى ، وقد تلمح «نذقه» دون «ندخله» لشموله عذاب الاولى ، فكل عذاب في الدنيا او البرزخ يعبر عنه بذوق العذاب وليس هو العذاب! وقد يدل عليه (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨ : ٣٨).

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١٣).

أعمال اربعة هنا تذكر كنماذج هامة مما يشاءه سليمان من الجن ، ف «محاريب» جمع محراب من أماكن العبادة الخاصة كالمعروف المتداول عندنا ، و «تماثيل» هي الصور المجسمة من شجر وسواها ، وعموم اللفظ يشمل تماثيل ذوات الأرواح أيا كانوا ، وكما النباتات وسواها ، ولكنما المتعود طول التاريخ منها هي ذوات الأرواح (١) ولان سليمان النبي كان

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٢١٩ في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل .. فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها تماثيل الشجر وشبهه والصحيح عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر فقال : لا بأس ما لم يكن ـ

٢٤٧

يشاءها من الجن فهو إذا من المسموحات لا الممنوعات ، وما دام لم يرد نص في القرآن لنسخه ليس الحديث لينسخه حيث القرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن لا سواه ، إذا فعمل الصور المجسمة لا محظور فيه ، بل وعلّه محبور حيث يشاءه سليمان.

اجل ان التماثيل المعبودة ، المعمولة لعكوف العبادة ، هي محرمة بنص القرآن وضرورة الأديان : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (٢١ : ٥٢).

وعلى غرارها التماثيل التي تصنع لأجل تخليد أصحابها بعد موتهم احتراما زائدا عما يرام ، فانها مكروهة على أشراف الحرمة ، ولكن التماثيل ككل تمثال ليست محرمة ، ولأن اصل الحرمة في اتخاذها ليس إلّا شائبة

__________________

ـ شيئا من الحيوان وعن الصادق عن آبائه (عليه السلام) في حديث المناهي قال : نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التصاوير وقال : من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ .. ونهى ان ينقش شيء من الحيوان على الخاتم وعنه (عليه السلام) ثلاثة يعذبون يوم القيامة من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ .. ورواه ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله الا «من الحيوان» وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن التماثيل هل يصلح ان يلعب بها قال : لا وفي تحف العقول وصنعة صنوف لتصاوير ما لم يكن فيه مثال الروحاني فحلال تعلمه وتعليمه ...» هذه ولكن التمثال لغويا هو الصورة المصورة او ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة ، ولو كان المعنى من «تماثيل» في الآية غير ذوات الأرواح لكان حق التعبير الصحيح والفصيح «نقوش» ولم يكن من المتعود ان يعمل الصور المجسمة من غير ذوات الأرواح إلا حديثا ، فالآية ظاهرة كالنص في جواز عمل التماثيل لذوي الأرواح ، وليس الحديث لينسخ القرآن أيا كان ، فالأحرى ما فصلناه في المتن من تفصيل لراجح منه ومرجوح ومحرم والله اعلم.

٢٤٨

العبادة ام آئبتها ، فحكمها واحد عبر الشرائع دونما تناسخ فانه لزام التوحيد ، وسليمان كان من أكمل الموحدين فكيف يبغى محرما او مكروها في حظيرة التوحيد وبحضره ربه الكريم المجيد!

فحين تتخذ تماثيل من الطغاة عن حالتهم البئيسة التي قضت عليهم إنذارا للأخلاف ، ام تتخذ تماثيل من التقاة عن حالتهم العزيزة تبشيرا لهم ، فما هي ـ إذا ـ إلّا تماثيل التبشير والإنذار ، دون عكوف لها كاصنام.

ام حين تتخذ تماثيل للعبة الأطفال ، بلا عكوف ولا تبشير او إنذار ، فما هي محرمة محظورة ، مهما لم تكن محبورة.

وهنا أحاديث تروى بحق تحريم عمل الصور المجسمة والتماثيل ذوات الأرواح خاصة نخصصها بموارد المحظور لظاهر كالنص من آية التماثيل (١).

ثم (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) هي الجفان العظيمة كالحياض حيث الجابية هي حوض يرد فيه الماء فهي وان عظيمة للأطعمة ، ومن اين تملأ؟ (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ضخمة في ثقلها وسعتها ، راسية ثابتة في محلها لصعوبة حملها.

(.. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) لا ـ فقط ـ ان تقولوا شكرا ، فالشكر في أصله من مقولة الأعمال ، وليست الأقوال إلا حاكية عنها (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) عملا ، في الكثير من القلة المؤمنة الشاكرة قولا ، والشكور مبالغة الشاكر فلتكن بالغ الشكر. ثم وهنا «الشكور» وليس «شكور» حيث التعريف يعني شكرا عمليا ، ف «الشكور» هنا مبتدأ مؤخر لتعريفه

__________________

(١) مضت هذه الأحاديث.

٢٤٩

و «قليل» خبر مقدم لتنكيره ، إذا ف ـ «الشكور» عملا (قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ).

ام ان «الشكور» كمطلق الشكر وحتى قولا (قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ) ثم من هذه القلة «الشكور» كشكر مطلق يعم العمل (قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ) فهم ـ إذا ـ قلة من قلة فمهما كان الشكور قوليا ثلة امام هذه القلة ، ولكنهم قلة امام «عبادي» الثلة ، فأين قلة من قلة وثلة من ثلة؟! (١).

ثم «الشكور» أيا كان تلمح لكثرته عدة وعدّة ، ولحد يبلغ الشاكر شكرا بكل أبعاده في حياته! ومن ثم نرى ذلك العظيم العظيم ، الكريم الكريم ، القويم القويم ، سليمان النبي الملك ، الذي سخر له الانس والجن وصلب الكون ولكنه على عظمه وملكه الذي لا ينبغي لأحد (٣٨ : ٣٥) :

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٢٩ ـ قال داود (عليه السلام) يا رب هل بات احد من خلقك الليلة أطول ذكرا لك مني؟ فأوحى الله اليه نعم الضفدع وانزل الله تعالى على داود (عليه السلام): (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فقال داود (عليه السلام) : يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك؟ قال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي وفيه اخرج ابن المنذر عن عطاء بن يسار قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يخطب الناس على المنبر وقرأ هذه الآية قال : ثلاث من أوتيهن فقد اوتي ما اوتي آل داود قيل : وما هن يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وذكر الله في السر والعلانية وفيه عن ابراهيم التيمي قال قال رجل عند عمر : اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء الذي تدعو به؟ قال : اني سمعت الله يقول : وقليل من عبادي الشكور فانا ادعوا الله ان يجعلني من ذلك القليل فقال عمر : كل الناس اعلم من عمر!

٢٥٠

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤).

وتلك من هيبة سليمان وهيمنته ان لم يجرأ أحد من جنوده من الجن والإنس ان يدنوه فيسألوه ما ذلك المكث الطائل ، الذي تمضي فيه أوقات صلوات (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) فوقع الموت (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ) سئوال خاطر ام اي خاطر سائل (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) تلك الصغيرة الهزيلة التي تأكل الأخشاب (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) التي كان متّكئا عليها

وترى كيف المنسأة ـ فقط ـ تجعله واقعا قائما كما هو ، وليست مسكتها إلّا جانبية وعلى شرط المسكة من صاحبها ، حيث يمسكها سنادا فتمسكه عمادا؟.

علّه لأنه كان جالسا على عرشه ، متكئا على منسأته ، محفوفا بما يسنده من جوانبه ، فلما أكلت منسأته وارتخت ـ بطبيعة الحال ـ خر أمامه ، إذ فقد سناده أمامه!

داية الأرض ـ هنا ـ هي الأرضة التي تتغذى بالأخشاب ، وهي تلتهم سقوف المنازل الخشبية وأبوابها وقوائمها بشراهة وشراسة خطيفة ، فلا تبقي عليها قائمة ولا تذر.

(.. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) إذا فالجن لا هم أبناء الله حتى يعبدوا حيث سخروا لسليمان ، ولا هم يعلمون الغيب حتى يستعملوه ، قصة تقص عنهم ما خيّل الى أوليائهم.

وترى ذلك العمل بين يدي سليمان كان عذابا مهينا وهو خدمة تقدم

٢٥١

للنبي الملك؟ اجل كان عذابا مهينا لشياطين الجن جزاء بما كانوا يشيطنون ، ذوقا قليلا من عذاب السعير ، واما مؤمنوا الجن والانس المستخدمين فلم يكونوا ليكلفوا لديه تلك الأعمال الشاقة المبرهة ، إلا قدر المستطاع ، فلم يكن العذاب المهين الا لشياطينهم.

ثم (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) تلمح بطول مكوث سليمان ميتا متكئا على منسأته ، فليست قضية سويعات ، لا سيما وان ارضة الأرض لا تسطع ان تأكل المنسأة ليوم واحد ، إلّا أياما طائلة ، ام سنة كما يروى وان كانت بعيدة (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٣٠ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كان سليمان (عليه السلام) إذا صلى رأى شجرة ثابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول : كذا وكذا ، فان كانت لغرس غرست وان كانت لدواء نبتت فصلى ذات يوم فإذا شجرة ثابته بين يديه فقال لها ما اسمك قالت :: الخرنوب ، قال : لاي شيء أنت قال لخراب هذا البيت فقال سليمان اللهم عم عن الجن موتي حتى يعلم الإنس ان الجن لا يعلمون الغيب فأخذ عصا فتوكأ عليها وقبضه الله وهو متكئ فمكث حينا ميتا والجن تعمل فأكلتها الأرضة فسقطت فعلموا عند ذلك بموته فتبينت الانس ان الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين أقول تبين الانس انما حصل بما رأوا الجن طول هذه المدة في العذاب المهين فلم يكونوا ليعلموا الغيب.

٢٥٢

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ

٢٥٣

مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)

آيات سبع تعرض سبأ في مسرح من حياة الفرح والترح ، إعراضا عن الرب الغفور وطيبة البلدة ، فابتلاء بسيل العرم ، عرامة بعرامة (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ).

و «سبأ» اسم رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة .. (١) فهم آباء قوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن بأرض خصبة وبلدة طيبة ما تزال الى اليوم. منها بقية ، وقد ارتقوا في سلم الحضارة ونضارة الحياة المادية. لحد لا قبل له ، وقد تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي كانت تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق ، فأقاموا خزانا طبيعيا يتالف جانباه من جبلين ، وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا ، فاختزنوا كميات هائلة من الماء وراء السد ، سدا لحاجاتهم المرحة ، وقد عرف باسم «سد مأرب»

و (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) قد تغيان ذلك الخصب والوفرة جانبي ذلك السد ، وهما آية من آيات النعمة الربانية كأنها خارقة العادة بين القرى المجاورة لها ، او منقطعة النظير!.

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) حيث رزقكم إياه (وَاشْكُرُوا لَهُ) قالا وحالا واعمالا ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ـ (بَلْدَةٌ ـ طَيِّبَةٌ) في وفر النعم (وَرَبٌّ غَفُورٌ). بوفر الغفر والكرم ، على ما أنتم عليه من تقصير.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٣١ ـ اخرج جماعة عن فروة بن مسيك المرادي قال أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... فقال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

٢٥٤

«فاعرضوا» عن ربهم وشكره حيث اخذتهم العزة بالإثم ، وبدلوا نعمة الله كفرا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) عرما بعزم! يجرف ويعرم في طريقه كل صغيرة وكبيرة ، وكل حجارة صخرة صلبة ، فحطّم سدهم وانساحت مياههم سيلا على سيل فلم يعد الماء يخزن حيث جفت كما جفوا ، واحترقت الجنتان كما أحرقوا ، فتبدلت جناتهم ويلات ، صحراء قاحلة تتناثر فيها الأشجار الخشنة البرية :

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)(١٦)! فالجنات التي كانت تأتيهم بكل نعمة غزيرة اشكالا وألوانا ، أصبحت لا تأتيهم إلّا خمطا : شجر الأراك ام كل ذي شوك ، وأثلا يشبه الطرفاء ، وشيئا قليلا من سدر ، فليأكلوا شائكا ، وطرفاء لا ثمر لها ، وسدرا قليلا!.

فتلك اصابة لهم في مأكلهم ومن هنا الى مسكنهم الطريف :

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨).

«.. قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم الى بعض ، وانهار جارية واموال ظاهرة فكفروا بأنعم الله عز وجل ، وغيروا ما بأنفسهم من عافية الله ، فغير الله ما بهم من نعمة والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم فغرق قراهم وخرب ديارهم وذهب

__________________

ـ وسلم) وما سبأ؟ ارض او امرأة ـ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم اربعة فاما الذين تشاءموا فلخم وجذم وغسان وعاملة واما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومدحج وأنمار فقال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة.

٢٥٥

بأموالهم وابدلهم مكان جنتيهم ..» (١)

(الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) هي القرى الشامية ، و (قُرىً ظاهِرَةً) هي الباهرة في ممرهم ، الزاهرة ببركاتها ، قريبة المنازل ، متقاربة المحطات ، مقدرة السير ، محدودة المسافات (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) تقديرا متناسبا متناسقا لا يخرج المسافر من قرية الا ويدخل في اخرى مثلها ، فلا تختص امنة السير فيها بالنهار ، بل (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ)!

وما ألطفها مسافات في تلكم السفرات السافرات ، قراها الظاهرة هي لصق بعض ، لا يخلد بخلد المسافر انه ناء عن منزله الا نزهة ولذة.

ويبدو انها كانت لهم نعمة سابغة لاحقة للسابقة ، وكان الله أبدلهم إياها بجنتيهم امتحان الامتهان فكفروا ثانية :

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩).

فقد غلبت عليهم الشقوة ولم ينتفعوا من النذارة الاولى ، فانما دعوا الله دعوة حمقاء (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) كأنهم يرفضون النعمة بعد النقمة ، ام يستاءون من رحمة بعد رحمة ، فما دائهم وما دوائهم إلّا اجابة الدعوة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) في هذه الدعوة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قبل هذه الدعوة بما بغوا وطغوا ، فاستجيبت دعوتهم البتراء الخواء إذ كانت بطراء حمقاء (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث عنهم في كل ناد كامثولات لكل حمق في عمق كيف يدعى الرب لازالة النعمة الى نقمة؟ (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)

__________________

(١) في الكافي باسناده عن سدير قال سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية ...

٢٥٦

عن كل رباط وملصق فلم يبق لهم وصل إلّا الى فصل ، في أوطانهم وأسفارهم ، حيث بطروا النعمة ولم يصبروا على المحنة.

لقد فرق سبأ ومزق ايادي سبا في أنحاء الجزيرة مبدّدي الشمل ، وعادوا أحاديث الهزء على الألسنة بعد ان كانوا امة حضارية غالية المصدر ، عالية المورد ، ذات وجود في الحياة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبرا في البأساء وشكرا في النعماء ، بل وصبرا في النعماء والبأساء وشكرا في النعماء والبأساء!.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١).

«لقد» تأكيدان اثنان أن (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) في أبعاد بعاد ، حيث أراهم ظنه صادق اليقين ، ام وجده صادقا عليهم كأنهم لا يشكون في صدقه فيعاملونه عمل اليقين ، بما صدّق قالته عند الله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٣) وقالته الاخرى (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) حيث المتبوع خير من التابع ، ومن التابعين من هو اكفر من إبليس! فقد وقع العباد في مربع من فخ إبليس دون نجاة الا بصادق الايمان! وهم في «عليهم» كل العباد لمكان الاستثناء إذ لم يكن في سبأ فريق من المؤمنين ، مهما كان المحور لذلك التصديق هم سبأ واضرابهم فإنهم التجوالة العليا لرحلات الشيطان ، ثم و «عليهم» تدلنا على ان مربع التصديق كان «عليهم». ومن ثم لم ينج المؤمنون كلهم (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم صادقوا الايمان ، واما البسطاء ، واما اتباع الشهوات ، فهم سيقة الشيطان مهما كانوا مؤمنين : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فالقلة القليلة من المؤمنين مخلصين ومخلصين هم الذين لا يتبعون إبليس في أحلك الظروف وأهلكها ، وليس

٢٥٧

ذلك التصديق الكاذب اللعين بسلطان له عليهم : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) وكما يصدقه هو إذ قضي الأمر : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٤ : ٢٢).

انه لا سلطان له على اي انس او جان ، لا حجة تقبلها العقول ، ولا قوة تسيّر ذوي العقول ، وانما مكرا وخداعا وكذبا ، ولماذا الله جعل له سلطان المكر والخداع؟ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ ...)

و «نعلم» هذا كما في أشباهه هو من العلم العلامة السمة ، لا العلم المعرفة ، فلكي يسم الله (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) بسمة الايمان ، ويعم (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) بوصمة اللاايمان ، لم يكن الله ليصد عنهم سبيل الشيطان.

هذا! ولكي يقضى على فوضى الادعاءات الجوفاء ، ويقف ويوقف كلّ مدّع عند عمله في تجربة من سلطان الشيطان! (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) لا يفوت منه فائت ولا يفلت منه فالت ، فليس اتباع الشيطان فلتة خارجة عن حيطة الحفيظ ، فان حريته في تصديق ظنه حفيظ على صدق المؤمنين وكذب الكافرين ، حفيظ على كافة الموازين في كل تقوى وطغوى!

وانما يختص من بين شعب الايمان واللاإيمان هنا الآخرة ، لان الايمان بها هو الرادع الأصيل عن اتباع الشيطان ، فرب مؤمن بالله وبرسله لا يؤمن بالآخرة لا يردعه ذلك الايمان كما تردعه الآخرة!

٢٥٨

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

٢٥٩

لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٩)

(قُلِ ادْعُوا ..) امر تعجيز بصيغته ، ناحية منحى ابلغ نهي وأكده ، وهو بالنسبة للعاكفين على دروب الضلالة ، المصرين فيها (قُلِ ادْعُوا ..) ما لكم نفس او نفس ، ولسوف تعلمون انهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) من تحويل او تحوير في ملك الله كآلهة ، إذ (ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) في شيء منهما ، ثم (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يعاون الله في قطمير! فلا هم شركاء الله ، ولا هم معاونوه! فالله ظهير لمن سواه على اية حال ، اللهم إلّا في ظلمهم ، و (ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)! ثم الشفاعة فيما تجوز (لا تَنْفَعُ) مهما حاولوها (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) بشروطها للشافعين والمشفع لهم.

وعلّ الشفاعة المنفية هنا هي ليوم الدنيا حيث هم ناكرون يوم الدين فضلا عن شفاعته ، ثم وهي في تكوين وتشريع هنا كما يدعونها (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) شفاعة التقريب الى الله زلفى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا

٢٦٠