الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

هل هو في هذه الحرب؟ ام بعده؟ ام ودون حرب حارقة؟ ليس في وعدهم إلّا (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)!

ورغم ان هذه الزلزال بطبيعة الحال تزلزل من الايمان ام تزيله ، ولكنهم (ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) ايمانا بالله حيث يرون وعده واقعا ، وتسليما لأمر الله حتى وان كان فيه بتسليم أنفسهم ، فإنهم ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وهم دوما في انتظار الانتصار وسواء عليهم أيقتلون او يقتلون! :

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(٢٣).

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) : بعضا قليلا لا كلهّم حيث الايمان درجات ، وفي هذا العرض ينضم المؤمنون غير الصادقين في عهدهم الى قبيل المنافقين توسعا فيهم وتضيقا في قبيل المؤمنين ثم لا يبقى إلّا الكافرون!

وهذه صورة وضيئة من الايمان الصادق تقابل صورة وضيعة من ضعف الايمان تلحق النفاق فتنضم اليه وكما مضت (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وليتسابق المؤمنون في الحصول على صورته الوضيئة الصادقة. ومواصفة هؤلاء المؤمنين في اوّل المطاف ب ـ : «رجال» تاتي لهم بصورة صارمة من رجولات وبطولات في ايمانهم ، فليست تعني رجولة الجنس فتخرج بها نساء هنّ أرجل من رجال كما الصديقة الطاهرة الزهراء سلام الله عليها ،

__________________

ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أصحابه ان العرب تتحزب علي ويجيئون من فوق وتعذر اليهود ونخافهم من أسفل وانه يصيبهم جهد شديد ولكن يكون العاقبة لي عليهم ...».

٨١

ف ـ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ..) (٢٤ : ٣٧) و «لبيت علي وفاطمة من أفاضلها» على حدّ قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي إذا من هؤلاء الرجال ، في رجولة العصمة القمة وتطلباتها : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) (٩ : ١٠٨)

وهكذا رجال الأعراف : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٤٦) (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ)(٤٨) كما رجال الجنة إذ ليس كل اصحاب الجنة رجال الجنس : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٣٨ : ٦٣) اللهم إلّا رجال الوحي : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) (١٦ : ٤٣) فان رجولة الجنس من شروط وحي الرسالة امّن يقابلون النساء : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ ..) (٤٨ : ٢٥) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) (٢٧ : ٥٥)

(.. رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) : عاهدوه صدقا وأتوا بما عاهدوه صدقا بكل ما لديهم من طاقات وامكانيات : قالا وحالا وفعالا ، نفسا ومالا وعلى أية حال ما وجدوا له مجالا ، فما هو ما عاهدوا الله عليه؟ المعاهدة ـ وهي عهد بين اثنين ، فالبادئ معاهد والثاني معاهد عليه ـ هي قد تكون من الله أن يعاهدك الله على شيء وأنت تقبل : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ..) (٣٦ : ٦٠) واخرى أنت تعاهد الله على ما عهد إليك ، ومعاهدة الآية هي الاخرى (عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) واوّل العهود الإلهية الى المؤمنين ان (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) والمؤمنون كلهم يعاهدون الله على (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فمنهم الصادقون ، حيث يعيشون كلمة التوحيد قالا وحالا واعمالا ، دون اي نفاق بين حال وقال ، ولا بينهما وبين الأعمال ، وقد صدقوا في عهد التوحيد تسليما لله على أية حال.

٨٢

ومن خلفيات هذه المعاهدة ، مبايعة الرسول (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٤٨ : ١٠) فالمبايعون الموفون بعهد الله هم الصادقون ولهم الأجر العظيم ، والناكثون لعهدهم هم من المنافقين مهما كانوا من المؤمنين ، حيث النفاق دركات كما الايمان درجات ، وآية الأحزاب تقابل بين الذين (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) وبين المنافقين ، فليكونوا أعم ممن هو في الدرك الأسفل من النار ومن ضعفاء الايمان.

وقد اشترى الله المبايعين الصادقين بأنفسهم ونفائسهم : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١) وهنا الإيفاء بعهد الله وهو بصيغة اخرى قضاء للنحب ، لا يختص بان يقتل المؤمن في سبيل الله ، بل وان يقتل ، قتل بعد ام لم يقتل.

وكما ليس هؤلاء المؤمنون الصادقون هم الأولون ـ فقط ـ كذلك المبايعون الله الذين اشترى أنفسهم وأموالهم ، فطول الزمان وعرض المكان يحوي من هؤلاء من قد يفوق الأولين ام يساميهم : (١).

__________________

(١) يروى نزول الآية بشأن نفر من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنس بن نضر وأصحابه ففي الدر المنثور ٥ : ١٩٠ ـ اخرج ابن سعد واحمد ومسلم والترمذي والنسائي والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن انس (رضي الله عنه) قال : غاب عمى انس بن نضر عن بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

٨٣

(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ..) وليس قضاء النحب ـ فقط ـ الموت ، فصيغته الخاصة منهم من قتل او مات ، وهما من مصاديق قضاء النحب في سبيل الله فقضاء النحب فيما عاهدوا الله عليه ليس إلّا أن يعيشوا ملتزمين بعهده في كافة الحقول ، ومن أفضلها الجهاد في سبيل الله بأنفسهم ثم بأموالهم ، (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ما وجدوا للجهاد ظروفا صالحة ، ثم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قضاء نحبه ليس ـ فقط ـ انتظارا للشهادة حيث الانتظار لها ـ فقط ـ ليس انتصارا لقضية الايمان ، بل هو الانتصار لظرف يقضي فيه نحبه ان «يقتل أو يقتل» في سبيل الله : إحدى الحسنيين!

فقد يعني «نحبه» : عهده ومراهنته إذا وجد له مكانه ومكانته ،

__________________

ـ وسلم) غبت عنه لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بعد ليرين الله ما اصنع فشهد يوم احد فاستقبله سعد بن معاذ (رضي الله عنه) فقال : يا أبا عمر! والى اين؟ قال : واها لريح الجنة أجدها دون احد فقال حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ونزلت هذه الآية «رِجالٌ صَدَقُوا ..» وكانوا يرون انها نزلت فيه وفي أصحابه ،

ومنهم مصعب بن عمير كما اخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي في الدلائل عن أبي هريرة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين انصرف من احد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ ..) ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) اشهد ان هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فاتوهم وزوروهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم احد الى يوم القيامة الا وردوا عليه وفي ملحقات الاحقاق ٣ : ٣٦٣ روى نزول الآية في علي (عليه السلام) عدة من أعلام القوم منهم ابن الصباغ في فصول المهمة ١١٣ قيل سئل علي (عليه السلام) وهو على المنبر عن الآية قال : في وفي عمر وحمزة وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، واما عمي حمزة فانه قضى نحبه يوم احد واما انا فانتظر أشقاها يخضب هذه من هذا وأشار الى لحيته ورأسه عهد عهده اليّ حبيبي ابو القاسم (صلى الله عليه وآله وسلم).

٨٤

قتالا : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) إمّا ذا من جهاد في سبيل الله بنفس ونفيس إذ يقدم رخصا دون بخس ونقص ما وجد له مجالا!

ومن ثم يوفّون كل معاني النحب ، المرافقة للعهد : نذرا وهمّة وبرهانا وحاجة وشدة وأجلا ومدة وعملا ونفسا وسيرا سريعا وجهادا (١) تكريسا لهممهم وبراهينهم في كل شدة وعمل من سير سريع وجهاد ليقضوا حاجتهم من عهدهم ربهم ما دامت مدتهم وقام أجلهم ، في نفس ونفيس بكل غال ورخيص!

فهم بين من قضى نحبه تماما ما وجب عليه فيما عاهد عليه الله إن بالموت او القتل ام في حياة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) فرصة مناسبة لقضاء نحبه بموت او قتل ام في حياة ، فلا تختص قضاء النحب بقتل في سبيل الله مهما كان من أعلاها ، فكل تضحية في سبيل الله كما تجب قضاء لنحب أيا كانت! وكما يروى (٢) فلا يعني قضاء النحب إلا توفية العهد وهي

__________________

(١) لسان العرب لابن منظور الإفريقي.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٥٨ ح ٤٨ عن روضة الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال لابي بصير يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ ...) انكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا وانكم لم تبدلوا بنا غيرنا وفي اصول الكافي (٥٨) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله عز وجل ووفى بشرطه وذلك قول الله عز وجل (رِجالٌ صَدَقُوا ..) وذلك الذي لا يصيبه اهوال الدنيا ولا اهوال الاخرة وذلك من يشفع ولا يشفع له ومؤمن كخامة الزرع ـ يعوج أحيانا ويقوم أحيانا فذلك ممن يصيبه اهوال الدنيا واهوال الآخرة وذلك ممن يشفع له ولا يشفع. أقول : ولان أفضل ما عاهدوا الله عليه هو القتل او الموت في سبيل الله توفية كاملة للعهد فقد وردت روايات اخرى في ان قضاء النحب هو الموت او القتل كما رواه في روضته الكافي (٤٩) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا علي من أحبك ثم مات فقد قضى نحبه ـ

٨٥

للمعصومين ومن معهم حاصلة قبل الموت او القتل او بهما ، يعيشون قضاء نحبهم على اية حال!

(وَما بَدَّلُوا) ما عاهدوا الله عليه «تبديلا» لا من قضى نحبه حين قضى ولا من ينتظر ، وانما كملوا تكميلا ، ومن الحكمة الحكيمة لذلك الابتلاء المثلث :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) وهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ٢ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

«ويعذب ..» معلوم وهو قضية النفاق ، بل (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) فكيف (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)؟

__________________

ـ ومن أحبك ولم يمت فهو ينتظر ..» وفي كتاب الخصال (٥٠) عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) ولقد كنت عاهدت الله تعالى ورسوله انا وعمي حمزة واخي جعفر وابن عمي عبيدة على امر وفينا به لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقدمني اصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى فانزل الله فينا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ ..) حمزة وجعفر وعبيدة وانا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا وفي ارشاد المفيد (٥٠) في مقتل الحسين (عليه السلام) ان الحسين (عليه السلام) مشى الى مسلم بن عوسجة لما صرع فإذا به رمق فقال : رحمك الله يا مسلم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) وفي كتاب مقتل الحسين لابي مخنف ان الحسين لما اخبر بقتل رسوله عبد الله بن يقطر تغرغرت عينه بالدموع وفاضت على خديه ثم قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ...) وفي مناقب ابن شهر آشوب (٥٧) ان اصحاب الحسين بكربلا كانوا كل من أراد الخروج ودّع الحسين (عليه السلام) وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجيبه : وعليك السلام ونحن خلفك ويقرء (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ..)

٨٦

(يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لو تابوا وصحت توبتهم ونصحت ، ولا سيما قرنائهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) حيث قرنوا ب ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) فإنهم ذيولهم وليسوا منهم مردة النفاق ومرجفة المدينة ، بل المستجيبون لهم في دعاياتهم لضعف ايمانهم ، فعلّهم هم المعنيون ب ـ (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

فآية (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ..) جعلت غير الصادقين في ايمانهم منافقين أصولا واتباعا ، ثم فرقت آية الجزاء بينهما (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

٣ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) : قتلة ولا غلبة ولا غنمة بل (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) فلم يقاتلوا الا شذرا بما قتل امير المؤمنين عمرو بن عبد ود ونفرا آخرين (١)(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٩) وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) وهذا نصيب الكفار ثم :

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧).

__________________

(١) في ملحقات الاحقاق ٣ : ٣٧٦ روى نزول الآية في علي (عليه السلام) عدة من أعلام القوم منهم العلامة الكنجي في كفاية الطالب (١١٠) وابو حيان الأندلس المغربي في البحر المحيط ٧ : ٢٤ وملّا معين الكاشفي في معارج النبوة ١ : ١٦٣ والسيوطي في الدر المنثور ٣ : ١٩٢ والمير محمد صالح الكشفى الترمذي في مناقب مرتضوي ٥٥ والحافظ ابو بكر بن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة (٩٣) والالوسي في روح المعاني ٢١ : ١٥٦ والقندوزي في ينابيع المودة ٩٤ وابو نعيم الحافظ كلهم عن ابن مسعود كان يقرء : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام) وساق قصة عمرو بن عبدو كما فصلناه.

٨٧

المظاهرة هي المعاونة ، والصياصي جمع صيصية وهي الحصن الحصين ، وقد «انزل» الله (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) المشركين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو قريظة ، أنزلهم من صياصيهم وحصونهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فلا صياصي لهم آفاقية ، ولا صياصي انفسية حيث أنزلهم الله من كل الصياصي.

فانتج عن ذلك الإنزال انكم (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) من المنزلين (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً).

ثم (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) وطئتموها ، بل (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) وهي ارض خيبر ، او التي أفاء الله على رسوله منهم مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.

وقد يعني (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) كل ارض يرثها المسلمون منهم على طول خطوط النار ، في جهادهم المتواصل الصارم! (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ

٨٨

بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ

٨٩

وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

هذه الآيات الثمان تستعرض بعدين وجانبين من بيت النبي الطاهر ، بيت الرسول : أزواجه ، وبيت الرسالة : المحمديين المعصومين في جو الرسالة القدسية الختميه ، اختصارا باختصار في عرض بيت الرسالة والتعريف به : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في جمعين مذكرين يعنيان الذكران من اهل بيت الرسالة بمن فيهم فاطمة الصديقة (عليها السلام) ، وذلك بعد عشرين خطابا في جموع مؤنثة قبله واثنين بعده كلها تعني ـ فقط ـ نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوامر ونواهي أكيدة شديدة متهددة ومرغبة ، ولكي تجمع الى طهارة اهل بيت الرسالة ـ وهي القمة بين بيوتات الرسالات ـ تجمع طهارة اهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم الآية الثامنة تعميم لأجور المؤمنات حسب الدرجات سواء أكن من ازواج النبي ام سواهن ولكي تبين ألّا ميزّة لزوجية النبي بمفردها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

مضت آية الأمهات مصرحة انهن أمهات المؤمنين ، ولأن هذه الكرامة لها تكاليفها ، ولزوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تكلفاتها

٩٠

الوقائية ، لذلك يخاطبن في اثنين وعشرين خطابا صارما تختص بهن ليصنعن من انفسهن أهلية زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمومة المؤمنين.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٢٨).

هنا نساء النبي يخاطبن بوسيط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علّه لبعدهن عن ساحة الربوبية وإلّا فلما ذا ارادة الحياة الدنيا في بيت الرسالة القدسية ، ثم المأمور بأمرهن هو وليهن في بعدي الرسالة والزوجية.

ثم ولقربهن شيئا مّا إذ يتركن الحياة الدنيا وزينتها ، ولتقريبهن الى ساحة الطاعة لكي يهبن الله إذ يخاطبهن الله ، يخاطبن دون وسيط إلّا نقلا لهن بالوحي ، في سائر الخطابات الاثنين والعشرين : (يا نِساءَ النَّبِيِ ... وَاذْكُرْنَ .. فِي بُيُوتِكُنَّ ..).

يرجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة خيبر مصيبا كنز آل أبي الحقيق فيقلن أزواجه له : أعطنا ما أصبت ، فيقول لهن : قسمة بين المسلمين على ما أمر الله ، فيغضبن من ذلك ويقلن له : لعلك ترى أنك ان طلقتنا ألّا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا ، فأنف الله عز وجل لرسوله فأمره أن يعتزلهن فاعتزلهن في مشربة ام ابراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن ثم أنزل الله آية التخيير هذه فقامت ام سلمة امن هي؟ فقالت : قد اخترت الله ورسوله ، فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فانزل الله عز وجل : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ...)(١)

__________________

(١) روى أصحابنا انها ام سلمة كما أخرجه القمي في تفسيره على ما في المتن ـ

٩١

وهكذا نتلمّح من (قُلْ لِأَزْواجِكَ) دون «بعض أزواجك» انهن كلهن تشاركن في إزعاجه فانزعاجه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل ما نزل وحصل ما حصل.

مجموعة حلائل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كن سبعة عشر ، دخل بهن اجمع إلا عمرة والسيفا وفيهن سريتان : مارية القبطية وريحانة الخندقية ، كان يقسم لهما مع أزواجه. ولم يجمع قط إلّا بين تسع منهن فاعتزل (صلى الله عليه وآله وسلم) حين اعتزل عنهن ومات كذلك عنهن وأفضلهن خديجة ثم ام سلمة ثم ميمونة (١) وارذلهن من حاربت وصيّه يوم الجمل!.

__________________

ـ وروى إخواننا انها عائشة كما في الدر المنثور بعدة طرق ففي نور الثقلين ٤ : ٢٦٦ عن المجمع روى الواحدي بالإسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها : هل لك ان اجعل بيني وبينك رجلا؟ قالت : نعم فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) الى عمر فلما ان دخل بينهما قال لها تكلمي قالت يا رسول الله تكلم ولا تقل الا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : كف فقال عمر : يا عدوة الله النبي لا يقول إلّا حقا والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصعد الى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نساءه يتغدى ويتعشى فيها فانزل الله هذه الآيات.

وفيه ص ٣٦٥ ح ٦٦ باسناده عن أبي الصباح الكتاني قال ذكر ابو عبد الله (عليه السلام) ان زينب قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تعدل وأنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت حفصة : ان طلقتنا وجدنا أكفاءنا من قومنا ...

أقول مهما اختصت البعض من نساءه بالبعض من هذه الأقاويل فالقولة المشتركة علّها الأخيرة «ان طلقتنا ..».

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٦٧ ح ٧٤ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال : تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس ـ

٩٢

لقد خيرهن بعد نزول آية التخيير بين المقام معه إن يردن الله ورسوله ، أو الانسراح عنه إن يردن الحياة الدنيا وزينتها ، حيث اختار لنفسه وأهله معيشة الكفاف وعيشة العفاف دون زهو ولهو بتبذير أو إسراف ، لا عجزا عن حياة المتاع والزينة ، وانما زهدا عادلا كقدوة للأمة.

إلا أن نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتطلّبن منه زهوة وزهرة كما هي شيمة النساء ، وليس الرسول يميل الى ميولهن فيزدهي بزهوهن ويشتهي ما يشتهين ، ولا سيما في الأموال التي هي لعامة المسلمين ، وكذلك في أمواله الشخصية ، ولذلك يعرض عنهن بعد عرضهن طلب الحياة الدنيا وزينتها واعتراضهن عليه ، يعرض نظرة الوحي فتنزل آية التخيير فيخيرهن بين هذه وتلك.

__________________

ـ عشرة امرأة ودخل بثلاث عشر امراة منهن وقبض عن تسع فاما اللاتي لم يدخل بهما فعمرة والسيفا واما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن ١ فأولهن خديجة بنت خويلد ٢ ثم سودة بنت زمعة ثم ٣ ام سلمة واسمها هند بنت امية ٤ ثم ام عبد الله عائشة بنت أبي بكر ثم حفصة بنت عمر ثم ٦ زينب بنت خزيمة بنت الحارث ام المساكين (٧) ثم زينب بنت جحش ثم ام حبيب رملة بنت أبي سفيان ثم (٩) ميمونة بنت الحارث ثم (١٠) زينب بنت عميس ثم (١١) جريريه بنت الحارث ثم (١٢) صفية بنت حي بن اخطب (١٣) والتي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خولة بنت حكيم السلمي وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية وريحانة الخندقية والتسع اللاتي قبض عنهن عائشة وحفصة وام سلمة وزينب بنت جحش وميمونة وام حبيب وجريرية وسودة وأفضلهن خديجة ثم ام سلمة ثم ميمونة أقول وفيه عن الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في طوائف هؤلاء النسوة ـ ٤ ـ من تيم و ـ ٥ ـ من عدي و ٣ ـ من بني مخزوم و ـ ٢ ـ من بني اسد و ـ ٨ ـ من بني امية و ـ ٩ ـ من بني هلال و ـ ١٢ ـ من بني إسرائيل ولم يذكر البقية وطبعا خديجة من أفضل قريش ، وتفرق هذه الطوائف من الدليل على ان زواجاته كانت سياسته اكثر مما هي جنسية.

٩٣

أترى كان عرض التخيير ، امامهن كلهن فاخترن الله ورسوله؟ ام امام ام سلمة فتبعنها كلهن؟ ام أمام عائشة؟ وقد يروى انها تطلّب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) اختصاصها فقال : «ان الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امراة منهن عما اخترت إلا أخبرتها»؟ (١).

انه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أية حال لم يكن ليخرج عن العدل بين نساءه حتى في ذلك العرض دون فرق بين عائشتهن وأم سلمتهن ، اللهم إلّا بفارق التقوى ، دون تقديم لتلك بشبابها وجمالها على هذه امّن هي لتقدمها عمرا او تأخرها جمالا!.

ويا له من عرض عريض بين عليا الحياة معه (صلى الله عليه وآله وسلم) ودنيا الحياة لا معه (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) في بيت الرسالة القدسية ، تغافلا عن اصل الحياة الزاهرة الباهرة في جوّ الوحي ، والتنزيل ، او تذرّعا بها الى الحياة الدنيا وزينتها ، فلا جمع بين الحياتين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا اختصاصا بالحياة الدنيا ، إلّا ارادة الله ورسوله ، ف ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ..) (١١ : ١٥).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٩٤ ـ اخرج بعدة طرق عن جابر وساق القصة الطويلة الى قوله وانزل الله الخيار فبدأ بعائشة فقال : اني ذاكر لك امرا ما أحب ان تعجلي فيه حتى تستامري أبويك قالت ما هو؟ فتلا عليها الآية قالت عائشة : أفيك استأمر ابوي بل اختار الله ورسوله فأسألك ان لا تذكر الى امراة من نسائك ما اخترت فقال : ان الله ..

وفي نقل آخر فاكتم علي ولا حجز بذلك نساءك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) بل اخبرهن به فأخبرهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكان خياره بين الدنيا والآخرة أتخترن الآخرة او الدنيا ...

٩٤

وكيف لهولاء موقع في بيت الرسالة القدسية؟ (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) بما يجب محبورا (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) فكا عن أسركن إذ لا تجدن ما تردن في ذلك البيت ، فليس الطلاق اسلاميا إلّا فكا عن أسر ، من الجانبين او من جانب واحد ، فيسرح المفكوك زوجا ام زوجة ويرتع حيث يشاء و (سَراحاً جَمِيلاً) كلمة صراح في سماح انطلاقهن بطلاقهن الى اختيار الأزواج ، ففي تسريحهن ـ إذا ـ تطليقهن عن كونهن أمهات المؤمنين ، كما عن كونهن أزواجه ، فقضية السراح هي الانسراح عن قيود زوجيته الى اخرى ، وقضية أنه جميل استئصال كافة العقبات عن زواجهن الاخرى كسائر المطلقات ، فلو بقي بعد طلاقهن كونهن أمهات المؤمنين ، فلا سراح لهن فضلا عن جميل ، والله تعالى يقول (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) تنديدا بمن يظلمهن هكذا ، لا ذات بعل ولا خلية تتبعل ، وساحة النبي أقدس وأحرى ألّا يذرهن بتسريحهن كالمعلقات.

واما موته عنهن دون طلاق فليس سراحا فضلا عن جميل ، وهن بعده أمهات المؤمنين ، إلّا إذا تخلفن عن شروطاتها كما تخلف البعض منهن وهدّدت بالطلاق ، إطلاقا في الأزواج.

فكما النكاح في ميزان الله متاع ، كذلك الطلاق متاع وسراح جميل ، عقد جميل وفك جميل دونما عراك واحتكاك في ذلك الفكاك.

ليس النبي ليقبل ضغطا عليه وتحميلا في الحياة الدنيا وزينتها ، وليس ليضغط أزواجه على بساطة العيشة في الحياة كأبسط ما تكون ، أسرا لهن خلاف ما يردن ويرغبن ، لذلك فليخيّرهنّ ويقبل منهن ما يخترن.

وليس ليقبل النبي الأقدس من أبي بكر وعمر أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة النكدة في النفقة ، حيث المسألة مسألة مشاعر وميول بشرية وطلبات طبيعية نسائية ، دون تسيير لهن على خلاف ميولهن ، وإنما

٩٥

مسايرتهن ما لا يمس من كرامة بيت النبوة ، ثم تخييرهن كما خيّر ، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة :

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)(٢٩).

وإنه ليس الأجر العظيم إلّا للمحسنات منهن بعد ما أردن الله ورسوله والدار الآخرة ، فهناك إرادة الإحسان وهنالك تحقيق الإحسان ، وليست الإرادة لتكفي ما لم يتحقق المراد بالحسنى ، ثم العاقبة الحسنى بمواصلة الإحسان في ارادة الله ورسوله ، واما اللاتي يردن الله ورسوله والدار الآخرة بغية البقاء في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لا يحسنّ كما يناسب ذلك البيت ، ومن ثم يحاربن في حرب الجمل أما ذا؟ وصيه الطاهر. فهن بعيدات من الأجر فضلا عن عظيمه ، وأبعد من العامرية التي اختارت قومها!.

ثم الإحسان في جو الوحي والتنزيل أفضل أجرا من سواه كما الإساءة أرذل وأنكل ، حيث البعد الثاني لكلا الإحسان والإساءة راجع إلى إحسان هذا البيت وإساءته بين الناس ، فعلى مستوى عظم ذلك البيت يعظم أجر الإحسان وعذاب الاساءة ، وهذه قاعدة عادلة سارية في أبعاد الأفعال خيرا او شرا ، وكما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في من سن سنة حسنة او سيئة.

وهل التسريح هنا هو التطليق رجعيّا ام بائنا ، فمن تختار الحياة الدنيا يطلقها بصيغة؟ أم ان اختيارهن لها طلاق؟ التسريح صريح أنه فعل من النبي إن اخترن الحياة الدنيا ، فليس اختيارهن إذا بنفسه طلاقا ، وليس التسريح ـ فقط ـ صيغة لفظية للطلاق ، إلّا أن تسريح كل شخص بحسبه ولا نعرف تسريحا اسلاميا للأزواج إلّا بالتطليق ، إلّا ان يختص النبي

٩٦

(صلى الله عليه وآله وسلم) بتطليق دون لفظ كما في نكاح (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٣ : ٥٠) إلّا أنهما لا تثبتان طلاقا او نكاحا دونما صيغة ، بل «لو اخترن انفسهن لطلقهن» (١).

وهل المسرّحة هكذا تنسرح بحيث تحل لها الزواج بغيره؟ وهن أمهات المؤمنين! : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)! ولكنما الحياة الدنيا وزينتها والسراح الجميل قد تتنافى وحرمان الزواج وهو من أمتع متع الحياة وزينتها ومن أجمل السراح! فقد يكون تسريحهن هكذا تطليقا عن كونهن أمهات المؤمنين وكما خول علي (عليه السلام) بتطليقهن ان خرجن عن طور الطاعة له (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يحق وقد مضى حديثه عن القائم المهدي (عليه السلام) ومن هنا نتبين على أية حال أن «لو اخترن انفسهن لبن» (٢) دونما رجعة حيث الأمر قاطع لا مردّ له من الله : (قُلْ .. فَتَعالَيْنَ .. أُسَرِّحْكُنَّ) فليسرّح من اختارت الدنيا دونما رجعة ، اللهم إلّا رجوعا الى الله ورسوله فرجعة بعقد جديد ولا دليل عليه!

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٦٥ عن الكافي حميد عن ابن سماعة عن ابن رباط عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها بانت؟ قال : لا ـ انما هذا شيء كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة أمر بذلك ففعل ولو اخترن انفسهن لطلقهن.

(٢) نور الثقلين (٦٥) حميد عن ابن سماعة عن محمد بن زياد وابن رباط عن أبي أيوب الخزاز قال : قلت لابي عبد الله (عليه السلام) اني سمعت أباك يقول : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير نسائه فاخترن الله ورسوله فلم يمسكهن على طلاق ولو اخترن انفسهن لبنّ؟ فقال : ان هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة وما للناس والخيار انما هذا شيء خص الله به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

٩٧

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) (٣١)

ولماذا في قصة التخيير (قُلْ لِأَزْواجِكَ) ثم هنا والتي بعدها (يا نِساءَ النَّبِيِّ)؟ علّه حيث الاولى يخص أزواجه والآخريان تشملان معهن بناته وكل امراة تعيش في جوّ الوحي مرتبطة به نسبا او سببا فهما باحرى يشملان الصديقة الزهراء (عليها السلام) ان يؤتاها أجرها مرتين ويعتد لها رزقا كريما!

وهذه ضابطة عامة في الأعمال خيرا وشرا ، أن ينظر إليها من بعدين : نفس العمل ، ومن يرتبط به أيا كان ، في خير او شر من غير العامل ، وأعظم رباط للعاملين هو الواقع في جو الوحي ، ثم وما دونه من أجواء ، يذكر هنا أفضلها لنجعله نبراسا ينير الدرب على ما دونه ، كل بحسبه.

وإذا كان هذا موقف نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) فباحرى بنته الزهراء (عليها السلام) وعلي (عليه السلام) والأئمة من ولدهما عليهم السلام من عترته وكما يروى عن زين العابدين (عليه السلام): «نحن أحرى ان يجرى فينا ما أجر الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول ، انا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٦٨ ح ٧٧ في مجمع البيان وروى محمد بن أبي عمير عن ابراهيم بن عبد الحميد عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين زين العابدين انه قال رجل : انكم اهل بيت مغفور لكم قال فغضب وقال : نحن ... وفي الدر المنثور ٥ : ١٩٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد (عليه السلام) يجرى أزواجه مجرانا في الثواب والعقاب

٩٨

وقد عد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أزواجه في هذه الميّزة من «اربعة يؤتون أجرهم مرتين» (١) دون اختصاص بهن ، فانما الميزة للأقرب فالأقرب صلة ومكانة ، وهما في عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اقرب قرابة ومحتدا!

فمضاعفة العذاب هنا هي تبعة المكانة الكريمة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما مضاعفة الأجر فانها تابعة لنفس المكانة ، تقدّر ان بقدرها في المنسوب والمنسوب إليه ، ولا أكرم من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أقرب من اهله الذين يعيشون جوّ الوحي!

والفاحشة هي المعصية الفاحشة ، متجاوزة حدها ام الى غير العاصي ام تجمعهما ، ثم الفاحشة قد تكون مبينة متجاهرة ولا تبين إلّا نفسها ، وقد تكون مبيّنة تبين معها موقف صاحبها ومن يتصل بهم بطبيعة الحال ، وهنا (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كالأخيرة لا فقط «مبيّنة» إذا فهي التي تبيّن موقف صاحبها أنها منه كما تتراوش من كوز ، لا فلتة غير قاصدة ، كما وتبين ما يستحقه من العقاب عليها.

ثم وليست الفاحشة لتختص بالشذوذات الجنسية وهي من الخبيثات

__________________

(١) المصدر اخرج الطبراني عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اربعة يؤتون أجرهم مرتين منهم ازواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه اخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن انس في الآية قال : ان الحجة على الأنبياء أشد منها على الاتباع في الخطيئة وان الحجة على العلماء أشد منها على غيرهم فان الحجة على نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد منها على غيرهن ...

٩٩

النسائية بعيدة عنها ساحة الرسالة القدسية حيث (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) مهما كانت للبعض من نساء الأنبياء فاحشة الكفر كما قبل الإسلام بسائر فسقه إلّا الزنا.

فمن «الفاحشة الخروج بالسيف» (١) على وصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه خروج على نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أفحشها من فاحشة ، وكما خرجت عائشة يوم الجمل على وصي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرجت زوجة موسى على وصيه حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (٢).

ان حرب عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرب صفيراء زوجة موسى (عليه السلام) مع وصييهما هي من الفاحشة المبيّنة ، خروجا عن بيت النبوة ، وخروجا على بيت النبوة ، ولا أفحش من هذه الفاحشة مبيّنة مدى التخلف العارم على صاحب الرسالة الإلهية ، والله يقول (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ..)!

__________________

(١) نور الثقلين ٢٦٨ في تفسير علي بن ابراهيم بإسناد عن حريز قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ...) قال (عليه السلام) : الفاحشة الخروج بالسيف ، أقول وهو من التفسير بأفحش مصاديق الفاحشة.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٦٨ ح ٧٨ في كتاب كمال الدين النعمة باسناده الى عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) ان يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) عاش بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفيراء بنت شعيب زوجة موسى (عليه السلام) فقالت : انا أحق منك بالأمر فقاتلها فقتل مقاتليها واحسن أسرها وان ابنة أبي بكر ستخرج على عليّ في كذا وكذا ألفا من امتي فيقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها فيحسن أسرها وفيها أنزل الله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) يعني صفيراء بنت شعيب.

١٠٠