الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

فقد حملت هذه الآية مربع الإحلال له (صلى الله عليه وآله وسلم) من مختلف النساء دونما حدّ إلا ما رآه الله إذ قال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ..) وقد خصه بإتيان أجورهن قبل استحلالهن ، وخصت به إماء الفيء لاختصاص الفيء به أيا كان ، وأحلت له الأربع للقرابة والهجرة كأن سواهن لا تحل له ، وخصت به التي وهبته نفسها إن أراد استنكاحها ولماذا؟ إذ (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) و (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥١)

فيكفيهم زواجا ما فرضنا عليهم في أزواجهم : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) و (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من اسرى الحرب وما يشترون او يوهب لهم ، فزواجات الامة تخصر في الحقل العائلي وحظوة لجنس والإنسال ، واما زواجات النبي فتزيد عليهم ضرورة النبوة حقولا اخرى يتوجب عليه فيها المزيد (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ..).

فهو الذي يجب عليه كحامل الرسالة أن يتزوج بحليلة دعّيه إبطالا لسنة جاهلية ، ويتوجب عليه التزويج بأرامل الجهاد تشجيعا للجهاد وترفيعا من شئون الأرامل ، ويتوجب عليه زواجات اخرى من مختلف الأقوام ربطا بينها ، وتخفيفا لما كان يتربص عليه من الدوائر ، فلو لا ذلك الإحلال في مختلف المجال لكان عليه حرج :

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً)(٥١)

خيارات له (صلى الله عليه وآله وسلم) في نساءه قبل تزويجهن وبعده ، قبل تطليقهن او بعده ، ف ـ ««منهن» تعني فيما تعني (امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) فله إرجاءها تأخيرا لنكاحها كما فعل في

١٨١

الأنصارية (١) ، او تبعيدا لها إنكاحا لغيره كما في أخرى. ، وله ايوائها عاجلا او آجلا باستنكاحها ، ثم التي عزلها فلم يردها له ابتغاؤها بعد عزلها و (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ) أن تؤوي إليك الواهبة نفسها فور هبتها ، او تبتغيها بعد إرجاءها او عزلها.

و «منهن» نساءه بعد زواجهن (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ) تطليقا (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) إبقاء (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) ابتغاء الرجوع إليها أو نكاحها من جديد (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) كتأديب لها أولا ثم غفرانا (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ).

وإرجاء ثالث تاخيرهن عن قسمهن او تقديمهن ام قسما سويا (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) قسمها (مِمَّنْ عَزَلْتَ) عن قسمها (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ..) ولكنما القسم في المضاجعة واجب عليه كما في الأمّة ، فيخص سماح ارجائه فيه في المواقعة.

وهل إن (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) راجع الى ابتغاء من عزلها وكلا الإرجاء والإيواء في معانيهما الثلاثة؟ وليس ارجاء التي وهبت نفسها تركا لنكاحها قرير عينها! ولا إرجاء الطلاق ، وتأخير القسم قرير عين لمن أرجئتا! وإن ذلك إيتاء لما آتاهن كلهن ، وهذه وتلك سلب بعد الإيتاء او عدم الإيتاء!.

ام إنه استنكاح التي وهبت نفسها عاجلا ، ام آجلا بعد الإرجاء التأخير فانه راجع الى إيواء ، و «من آوى فقد نكح ومن أرجى فلم ينكح» (٢) .. ثم الإيواء الإبقاء لمن تزوجها دون طلاق ف ـ «من آوى فقد

__________________

(١ ، ٢). نور الثقلين ٤ : ح ١٩٠ في الكافي باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت أرأيت قوله «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ...»؟

١٨٢

نكح ومن أرجى فقد طلق» (١) ثم الإيواء الرجوع بعد إرجاء الطلاق ، او تجديد العقد بعد العدة فانه ايضا من الإيواء او أحرى حيث الإيواء تلمح باضطراب سابق (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ) مورده المنصوص قبل «ذلك»! ثم الإيواء القسم بعد ارجائه ، ايوائات ست بعد ارجاء ام دونه قد تعنيها «ذلك» ويناسبها (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) دون إبلاس ولا إياس ، وهو الأنسب للمقام أدبيا ومعنويا ، وقد آواهن كلهن فلم يطلّق ولم يردّ الواهبة نفسها وإن بإنكاحها غيره فتوفّي عن التسع اللاتي كن معه ، على ما كان منهن من مظاهرة جامعة جامحة فنزلت ما نزلت (٢) ومن تظاهرة عائشة وحفصة فنزلت ما نزلت (٣) تصبّرا على كلّ ذلك حيث إن (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ ...)!

هنا يؤمر نبي الله ان يقر عيونهن ولا يحزنهن مهما كلف الأمر ، وطبعا ما لم يخالف شرعة الله ورضاه ، تقديما لهواهن على هواه ورضاهن على رضاه ما لم يخالف رضى الله ، وقد بلغ في ذلك مبلغا ما الله ينهاه :

__________________

ـ قال : ... ورواه في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وفي الدر المنثور ٥ : ٢١٠ ـ اخرج ابن مردويه عن سعيد بن المسيب عن خولة بنت الحكيم قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوجها فأرجاها فيمن ارجا من نساءه.

(١ ، ٢). نور الثقلين ٤ : ح ١٩٠ في الكافي باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت أرأيت قوله «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ...»؟ قال : ... ورواه في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وفي الدر المنثور ٥ : ٢١٠ ـ

اخرج ابن مردويه عن سعيد بن المسيب عن خولة بنت الحكيم قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوجها فأرجاها فيمن ارجا من نساءه.

(١) المصدر ٢٩٤ ح ١٩١ القمي في تفسيره قال الصادق (عليه السلام) : ...

(٢) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٣٨).

(٣) «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً».

١٨٣

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٦ : ١) تبيينا لما خالفت رضاهن رضى الله.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

من قبل لحد الآن أحلت له النساء المسلمات المذكورات وما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه وأحل له ان يبدل بهن من ازواج : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) إحلال الزواج دون حدّ ، وإحلال التبديل بهن دون حدّ ، ومن الآن (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ..) فهل يعني من النساء كل النساء ، ومن بعد الآن (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ..) فهل يعني النساء كل النساء ، ومن بعد الآن ، فلا يحل له اي زواج جديد ولا التبديل بأزواجه من ازواج؟ فلتكن هذه الآية نازلة بعد فترة من الزمن بامكانه ان يستنكح فيها التي وهبت له نفسها ، وان يتزوج من قريباته الأربع ، فصلا هكذا في نزولها دون وصل ، حيث الوصل يقضي على حكم الأصل!

فلا يحل لك النساء من بعد هذه التسع اللاتي عندك الآن ولا التبديل بهن من ازواج ، اللهم الا طلاقا دون تبديل ، وقد مات عن هذه التسع لم يزد عليهن ولم ينقص عنهن ولا استبدل بهن!

او يعني النساء من بعد هذه الأوصاف منذ الإحلال وحتى متى؟ ولكنه يتطلب اضافة تبيين هذا الموقف الخاص لبعد د ـ «من بعدهن ـ او ـ من بعد هذه الصفات» ومن البعيد ان يعنى من البعد المجرد مقيدا هكذا او ذاك!

ثم التبدل بهن من ازواج قسم من الزواج الجديد يستأصل اي

١٨٤

زواج مثلهن وسواهن ، وهذه مرحلة ثانية من تحريم الأزواج من بعد ، بعد الاولى المطلّقة التي قد يفل منها التبدل ، فليصرح به استئصالا لاي زواج بعد حتى وان طلقهن كلهن ويبقى بلا ازواج!

او يعني النساء المحرمات في آية النساء (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ..)(١) ولم تذكر هنا من قبل حتى تعنيهن «من بعد»! ولا أن حرمتهن «لك» كحكم يخصه دون الأمة! ثم لا معنى صالحا إذا ل ـ (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) حيث المحرمات في آية النساء لم يكنّ محللات في اي زمن في نكاح جديد او استبدال ، والروايات الواردة هنا مما تحير العقول ولا تصلح محولة ل ـ (لا يَحِلُّ ..) عن نصها وظاهرها مهما بلغت ما بلغت من كثرة! (٢) كالتي تفسر (أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) بمبادلة الأزواج فوضى دون زواج ، فانها كانت سنة جاهلية قضى عليها الإسلام منذ بزوغه بسنة الزواج على شروطه ، فهل كان النبي يبادل هكذا ازواج

__________________

(١). نور الثقلين ٤ : ٢٩٤ ح ١٩٣ في الكافي باسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فقال (عليه السلام) : انما عنى به لا يحل النساء التي حرم الله عليك في هذه الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ..) ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لأن أحدكم يستبدل كلما أرادوا ولكن الأمر ليس كما يقولون ان الله أحل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان ينكح من النساء ما أراد الا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء.

أقول وروى ما في معناه عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن أبي بصير عنه (عليه السلام) بنفس الدليل ، ولكنه تعالى قد أحل للامة الا يصلوا صلاة الليل ، ولم يحل له تركها الى غير ذلك من مفارقات في محللات ومحرمات فلا مورد لاستنكاره ، ثم تحويل «من بعد» هنا الى ما بعد آية النساء كاللغز ولا يقبل على كتاب الله وان تواترت به الرواية.

١٨٥

قبل التحريم حتى يرد نصه له خاصا دون المسلمين : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!

وترى كيف يعجب الرسول حسن نساء قبل أن يتزوج بهن او ان يراهن وليس ليرى غير ذوات محرم؟ انها رؤية لارادة التزويج ، محللة قدر الحاجة من معرفة الزوج من جمالها ، وبطبيعة الحال يعجبه حسنها ان كانت جميلة ، قضية تمييز الجميلة عن القبيحة لكل انسان وله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرى فيما يحل.

فكما لم يكن عدد النساء اللاتي يحل له زواجهن غير محدد ، لسياسة رسالية وحكمة تخصه ، كذلك تحرم عليه النساء من ذلك التحليل الواسع لنفس الحكمة والسياسة ، (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ

١٨٦

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢)

تتمة من اختصاصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألّا يدخل بيته حتى باستئذان (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) رعاية لأوقاته الشريفة أن تهدر بلقاءات وزيارات لا تعني عناية جماهيرية لصالح المسلمين وكما عنته آية النجوى ، وحفاظا زائدا على اهل بيته.

١٨٧

يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً(٥٧)

١٨٨

على الامة له (صلى الله عليه وآله وسلم) أدب الحضور في الملأ صلاة عليه وسلاما ، وواجب التسليم له وكما ياتي في آية الصلاة والتسليم ، وعليهم كذلك له ادب الحضور في الخلا ألّا يؤذوه بالدخول إلّا باذنه بدائيا دونما استئذان ، وباطالة الجلوس إذا دعوا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)(٥٣).

هذه الآية تتضمن آدابا كانت الجاهلية تخالفها ، دخولا في البيوت دونما استئذان ولا سيما بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان مهبط الوحي ومنزل الرحمة ، يعتبرونه مأواهم في كل وقت ، وبيوتهم للأكل ، ويطيلون الجلوس والاستئناس لحديث بعد الاكل ، مما كان يؤذي النبي ويستحيي منهم إن صارحهم بنهيه عن بيته ، وعادة العرب احترام واستقبال الضيوف حتى إذا كانوا أعداء ، ولكنما النبي لمكانته من رسالته يختلف عن سائر الناس في كيفية عشرته وصرف أوقاته ، فمنزلته الكريمة من ناحية ، وعبأه في بلاغه من اخرى ، يتطلبان له فراغا لتطبيق واجبه الرسالي أكثر ممن سواه ،

ف ـ (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) إذن

١٨٩

بدائي دونما استئذان فانه يتحرج ويستحيى إذا استأذن ألّا يأذن! (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)! وقد تلمح (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) عدم السماح لانتظار وقت الإذن والسماح ، حتى يكون هو الذي يأذن دونما انتظار ولا استئذان لطعام وسواه.

وترى الإذن يخص اذنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبطبيعة الحال ـ فانه صاحب البيت واهله؟ فلما ذا (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) دون أن «يأذن»! علّه ليشمل موارد الضرورة ، فانها إذن من الله قدر الضرورة ويبقى واجب الاستئذان لأجل النظر وتهيّؤ الاستقبال فهنا يجوز الاستئذان فضلا عن نظرة الإذن ، لا أن يذخل دون صريح الإذن ، فانه محظور في سائر البيوت ولبيت النبي فضله عليها! وعلّ «الى طعام» ليس تخصيصا بطعام ، فإذا أذن لغير طعام ، لأمر أهم أمّاذا؟ فلا دخول! وانما تضييقا لدائرة الدخول الى بيوت النبي بدء باقلّه «الطعام» واشارة الى ما فوقه. وقليل من هم الذين يدخلون لحاجة معرفية ، والرسول في متناولهم في اوقات الصلاة الخمسة ،

اللهم إلا لنجوى وقد حددته آيتها ـ وكانوا «إذا نهض الى بيته بادروه فأخذوا المجلس فلا يعرف بذلك في وجه رسول الله ولا يبسط يده الى طعام مستحييا منهم فعوتبوا في ذلك(١).

تدخلون بيوته باذنه الى طعام ولكن «غير ناظرين إناه» فالنظر «الى» هو

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢١٤ ـ اخرج ابن سعد عن ممد بن كعب قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نهض ...

١٩٠

الإبصار او التفكير ، وهو متعديا بنفسه كما هنا الانتظار (١).

والإنى هو الوقت والساعة والحين ، وهو النضج والإدراك ، فهو إنى اذنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتا وهو إنى طعامه وقتا ونضجا ، فليس لكم الانتظار لوقت اذنه ، تربصا ان يأذن لكم الى طعام وسواه ، إلا أن يأذن لكم «غير ناظرين إناه : نضج طعامه ام وقت إطعامه ، ولا لكم إذا دخلتم بيوته باذنه لا الى طعام ان تنظروا «اناه» : ادراك طعامه ونضجه وقد لا يتهيأ لا طعامكم ، ولا لكم إذا دعاكم الى طعام ان تدخلوا إلّا وقت الطعام ، لا قبله ناظرين إني طعامه وقتا ونضجا وإدراكا (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) دخولا لطعام قدر وقته لا سابقا» (ناظِرِينَ إِناهُ) ولا لا حقا جالسين بعد الطعام «ان ذلكم كان يوذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق» (٢).

__________________

(١) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) (٧ : ٥٣) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ ..) (٢ : ٢١٠) (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (٣٥ : ٤٣) (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) (٣٦ : ٤٩) «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ» (٤٣ : ٦٦) كل ذلك يعني الانتظار.

(٢) في الدر المنثور ٥ : ٢١٣ عن انس (رضي الله عنه) قال لما تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام منهم من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليدخل فإذا القوم جلوس ثم انهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت ادخل فالقى الحجاب بيني وبينه فانزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ...).

١٩١

(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) قبل الطعام او بعده ام فيما ليس طعام ، أحديث بينكم أنفسكم؟ فله مجال في غير بيوته! فلا تتخذوها مقهى او ناديا تستأنسون فيه بحديث.

او حديث بينكم وبين نساءه فأرذل وأنكى ، فما لكم والاستئناس بحديث نساءه؟!.

او حديث بينكم وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تحدثونه وهو يسمع ، او يجيب عما لا يعنيكم من سئوال «ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق» اللهم إلّا سؤالا مفروضا ام راجحا في شرعة الله ، وباحرى حديثا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ام سئوال متاع تحتاجونه من نساءه لكن : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) دونما استيناس لحديث ، ولا سئوال راجح دون حجاب فوق حجابهن.

فآيات الحجاب لسائر الامة تخص حجاب النساء انفسهن عن الرجال الاغارب ، وهذه تختص نساء النبي بحجاب فوق الحجاب ، كرامة لبيت الرسالة وأمومة لنساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يواجهوهن في سئوال ام غير سئوال إلّا من وراء حجاب وستر يفصل بينهم وبينهن.

(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ) تجنبا عن جاذبية الجنس وهن أمهاتكم «وقلوبهن» تجنبا عن مواجهة الرجال في غير حاجة راجحة ودون حجاب ، ففي المواجهات القالبية اتجاهات قلبية ، وهي في الجنس محرمة ولا سيما بالنسبة لأمهات المؤمنين!.

وترى إذا لم يكن الاستحياء من الحق حقا لأن الله لا يستحي منه ، فهل النبي يستحي باطلا؟ الحق المستحى منه هنا هو حقه (صلى الله عليه

١٩٢

وآله وسلم) الخاص القابل للسماح عنه على أذى ، وهذا من كرم أخلاقه ، ثم الله يحق حقه بكلماته ويقطع دابر المبطلين ، واما حق الله في عباده وعبادته ، وحق الخلق فيما لهم وعليهم ، فهما من حاق رسالته ، ليس ليترك شيئا منهما استحياء ، مهما رجع بالضرر اليه ، وكما في زينب بنت جحش! كما ولا يحق له ان يستحي عن ضياع حقه في رسالته ، ام في عرضه وماله وسائر نواميسه الواجبة الحفظ.

وكضابطة عامة لا تستثنى على اية حال (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) باي أذى معمّد (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) من بعد طلاقه او موته وكلاهما معنيان في «من بعده» إطلاقا ل «من بعده» لكلا البعدين في كلا البعدين : الطلاق والموت ، ولأنهما يؤذيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) على سواء ، فلم يقل بعد طلاقهن او بعد موته ، وانما «من بعده» منذ أصبح زوجا لهن.

فلا يحل لكم نكاح أزواجه «ابدا» في اي وقت وعلى اية حال وباي نكاح (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) مدى عظمة رسول الله ورسالة الله ، فإيذاءه عظيم عند الله! وذنب كبير قد لا يغفره الله! (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢١٤ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس في قوله (وَما كانَ لَكُمْ ..) قال : نزلت في رجل هم ان يتزوج بعض نساء النبي (ص) وعنه قال رجل لئن مات محمد لا تزوجن عائشة فانزل الله الآية ... وعن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم قال بلغ النبي (ص) أن رجلا يقول : ان توفي رسول الله (ص) تزوجت فلانة من بعده فكان ذلك يؤذي النبي (ص) فنزلت واخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : بلغنا ان طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت ...

١٩٣

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٥٤).

ان تبدوا شيئا مما يؤذيه من نكاح أزواجه إمّا ذا من إيذاء (فَإِنَّ اللهَ كانَ) قبل نية الإبداء وبعدها ، قبل الإبداء وبعده «بكل شيء» من هذه وتلك «عليما» فعّمن تخفونه ما تخفونه؟

ومهما جاز دخول بيوت الأمة باستئذان لطعام وسواه فلا يجوز دخول بيوت النبي (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) حيث المتطلبات الرسالية تضيق عليه أوقاته الشريفة فلا يسطع ان يضيفكم او يطيل الجلوس في مجلسكم.

وهكذا تكون السنة فيمن يحذو حذو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) إذ يجوز دخول سائر البيوت باستئذان ، ولكن بشرط ظاهر الرضا ، واما الأذن عن استحياء ، او الأكل او طول المكوث ، فلا يسمح باي تصرف فانه دون رضى مهما لفظ بإذن ، وعلينا ان نعيش واقعيين ، بعيدين عن عشرة التخجيل والاستحياء ، فلا نستحي في الحق ولا نجعل الناس في استحياء ، فشرّ الإخوان من تكلّف له.

آية السئوال من وراء حجاب هي اولى آيات الحجاب ، ابتداء ببيت النبي كما في روايات ولكن :

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٥٥).

أترى لماذا هنا يستثنى عن عموم فرض الحجاب ـ فقط ـ هؤلاء المذكورون ، ويترك الأعمام والأخوال كأنهم ليسوا من المحارم؟ ليس هنا

١٩٤

فرض الحجاب الأصل ، والأعمام والأخوال ابعد من سائر المحارم فليظلوا هناك في عموم الحظر.

ام لعل آية النور متأخرة النزول عن آية الأحزاب كما تقتضيه طبيعة التكليف ، فهي تعم الاستثناء بعد اختصاصه.

ثم «نسائهن» هنا و (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) هن كما في النور ، نساء مؤمنات ، وإماء مؤمنات.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٥٦).

آية منقطعة النظير ، تحمل للبشير النذير هدية الصلوات الثلاث برحمات ، من الله إنزالا ، ومن الملائكة والذين آمنوا استنزالا ، ثم (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) له مطلقا دون شرط ، كما الصلاة عليه مطلقة دون شرط! واين تذهب صلاتنا والملائكة بعد صلاة الله؟ فانما يريد الله تشريفنا قرنا لصلاتنا الى صلاته ، لتكون صلات بيننا وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما بينه وبين ربه فيرحمنا بهذه الصلاة الصلات!.

ومثلث الصلاة هذه عليه في الملاء الأعلى والأدنى تعني أن مقامه ارفع المقامات بين ملاء العالمين من الملائكة والجنة والناس أجمعين.

اجل (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) واين صلاة من صلاة ، حيث هذه تخرجنا من الظلمات الى النور ولكنما النبي هو نور في حالات وهالات من النور : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (٥ : ١٥) فالنبي هو النور ومعه الكتاب النور ، ولأن الكتاب متجسّد في روحه حيث كان خلقا القرآن فهو إذا نور على نور!

فلا تعني صلوات الله عليه إلّا دوام تسديده بعصمة فائقة ، وإتمام نوره

١٩٥

معرفة وعملا وعلما وكما امره (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٦١ : ٨) (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ..) (٣٩ : ٢٢).

رحمات الله ليست لها نهايات ، فلتواصل على أفضل البريات وغاية الغايات ، وقد تكفيه صلوات الله سلبا لما يتربصه من دوائر السوء ، وإيجابا لما يليقه من مقامات الخير ، فما هي حاجته الى صلوات ملائكة الله وصلواتنا ، إلّا حاجاتهم وحاجاتنا ، لهم ترفيعا لمقاماتهم ، ولنا غفرانا لذنوبنا واستجابة لدعواتنا بشفاعة النبي المختار ، ف «بالصلاة تنالون الرحمة» (١) مهما زادته (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة على رحمة ـ ولكنها لنا عون ونجاح الطلبة:ف «صل على محمد وآله صلاة دائمة نامية لا انقطاع لأبدها ولا منتهى لأمدها واجعل ذلك عونا لي وسببا لنجاح طلبتي إنك واسع كريم» (٢) ف «قد كان في الله وملائكته كفاية ولكن خص المؤمنين بذلك ليثيبهم عليه» (٣).

ومهما ردت دعوات منا حيث لا نأهل اجابة ، لقصوراتنا وتقصيراتنا ، فليست لترد صلواتنا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يأهل ، كما الله يصلي عليه ابتداء دون دعاء ، وهل يقبل الله دعائنا فيه ثم يرد دعائنا

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٠٢ ح ٢٢٤ في كتاب التوحيد من خطب علي (عليه السلام) وفيها : بالشهادتين تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة فأكثروا من الصلاة على نبيكم وآله (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ..).

(٢) في الصحيفة السجادية في دعائه (عليه السلام) في طلب الحوائج ...

(٣) الدر المنثور اخرج الاصبهاني في الترغيب والديلمي عن انس (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان أنجاكم يوم القيامة من أهوالها وموطنها أكثركم على في دار الدنيا صلاة انه قد كان ...

١٩٦

فينا؟ كلا ، يا كريم! ولكن شرط (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وكما سلّم لربه تسليما ، فاستحق تلك المنزلة الرفيعة.

فمن آداب الدعاء وشرائط استجابة الدعاء ان تتوسط الصلاة على النبي وآله وكما نراه في صحيفة الامام السجاد (عليه السلام) : وعن الامام علي (عليه السلام) «ما من دعاء إلا وبينه وبين السماء حجاب الى ان يدعو لمحمد وآل محمد» (١).

عرفنا الصلاة عليه ، فهل التسليم كما الصلاة ايضا عليه ، ان نقول : السلام عليك؟ ام التسليم له ، استسلاما لأمره ومطاوعة لإمرته؟ لا فقط في لفظة القول؟ (٢)

علّه يعنيهما ولا سيما التسليم له وهو الأهم الأتم ، (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لا تحمل لا «له» ولا «عليه» فلتحمل التسليمين معا ، والتسليم له هو الشرط الأصيل للايمان ، وشرط اجابة الدعاء ، فلو عني التسليم عليه فقط كما الصلاة لقال (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)!

ومن التسليم له ان نصلي عليه كما امر : «اللهم صل على محمد وآل محمد ..» لا الصلاة البتراء كما نهى : لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء : اللهم صل على محمد! ولقد تواترت الرواية عنه (صلى الله على محمد وآله محمد) ما لا تحصى بزيادة الآل ، والاكثرية الساحقة من المسلمين تعوّدوا ان يصلوا عليه الصلاة البتراء ، ام إذا زادوا الآل ردفوا بهم ازواج النبي

__________________

(١) الديلمي في كتاب الفردوس رواه بسنده عنه (عليه السلام) ورواه مثله السمعاني في مناقب الصحابة بسنده عن الحارث وعاصم بن حمزة (عليه السلام)

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٠٥ ح ٢٣٥ في محاسن البرقي عن محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية : اثنوا عليه وسلموا له.

١٩٧

وأصحابه ، فهم بين نقيصة بتراء وزيادة بتراء والله منهما والرسول براء!

لقد اخرج الحفاظ والمصنفون والمحدثون والمفسرون ما يصعب إحصاؤه (١) عن عدد من الصحابة كالإمام علي (عليه السلام) (٢) وابن

__________________

(١) وممن أورده محمد بن إدريس الشافعي في مسنده والبخاري في صحيحه باب كيف نصلي عليه وكذا في تاريخه الكبير ج ١٢ القسم الاول ص ٣٥١ والحاكم في مستدركه ٣ : ١٤٨ وفي معرفة علوم الحديث ص ٣٢ وابو نعيم الاصفهاني في اخبار اصفهان ١ : ١٣١ ويوسف بن عبد البر الاندلسي في تجريد التمهيد ص ١٨٥ والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٦ : ٢١٦ والواحدي النيسابوري في اسباب النزول ص ٢٧١ والبغوي في معالم التنزيل والثعلبي في تفسيره والحمويني في فرائده وابو نعيم في الحلية والديلمي في الفردوس والسمعاني في مناقب الصحابة وابن العربي الاندلسي في احكام القرآن ١ : ١٨٤ والرازي في تفسيره الكبير ٢٥ : ٢٢٦ والذهبي في تلخيص المستدرك والقرطبي في تفسيره ١٤ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص ١٩ ومحي الدين يحيى بن شرف النووي في رياض الصالحين ص ٤٥٥ والطبري في تفسيره ٢٢ : ٢٧ وابن كثير في تفسيره وابو حيان الاندلسي في البحر المحيط ٧ : ٢٤٨ والدشتكي الشيرازي الهروي في روضة الأحباب في باب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحمد بن إدريس الهندي الكاندهلوي الحنفي في التعليق الصبيح في شرح المصابيح ١ : ٤٠١ والمحدث السيد ابراهيم نقيب مصر في البيان والتعريف ٣ : ١٣٤ والخازن في تفسيره ٥ : ٣٢٦ وجلال الدين السيوطي الشافعي في بغية الدعاة ص ٤٤٢ وفي الدر المنثور حيث نقلنا الإخراجات عدد المروي عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والهيثمي في الصواعق المحرقة ص ١٤٤ والمولى محمد بن پير علي افندي البركوئي في الأربعين حديثا ص ٢٦٤ والمير محمد صالح الكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ص ٤٥ والشوكاني في فتح الغدير ٤ : ٢٩٣ والالوسي في روح المعاني ٢٢ : ٧٣ وابو بكر العلوي الحضرمي في رشفة الصادي ص ٣٤ و ٢٩ والجاوي في القول الفصل ٣ : ٣٧٢ (ملحقات احقاق الحق ٣ : ٢٥٢ ـ ٢٧١).

(٢) أخرجه عنه ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجة وابن مردويه.

١٩٨

عباس (١) وأبي سعيد الخدري (٢) وأبي طالب (٣) وابن أبي مسعود (٤) وانس بن مالك (٥) وكعب بن عجرة (٦) وطلحة (٧) وعبد الله بن طلحة (٨) وابراهيم (٩) وأبي هريرة (١٠) وبشير بن سعد (١١) وأبي مسعود الانصاري (١٢)

__________________

(١) أخرجه عنه ابن جرير عن يونس بن خباب قال خطبنا بفارس فقال : ان الله وملائكته الآية قال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول هكذا انزل فقالوا يا رسول الله قد علمنا الصلاة السلام عليك فكيف الصلاة فقال قولوا : ...

(٢) أخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وبن مردويه.

(٣) أخرجه عنه ابن مردويه.

(٤) أخرجه عنه ـ فيمن أخرجه ـ ابن جرير.

(٥) ممن أخرجه عنه ابن جرير وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال لما نزلت (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) قيلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال قولوا «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد وبارك واخرج مثله عنه عبد الرزاق وابن شيبة واحمد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

(٦) أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي عاصم والهيثم بن كليب الشاشي وابن مردويه وابن جرير.

(٧) أخرجه عنه ابو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه وعبد بن حميد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد.

(٨) أخرجه عنه ابن سعد واحمد والنسائي وابن مردويه.

(٩) أخرجه عنه ابن جرير.

(١٠) أخرجه عنه فيمن اخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن كثير عنه ومثله مالك وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه.

(١١) أخرجه عنه احمد وعبد بن حميد وابن مردويه.

(١٢) أخرجه عنه مالك واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي وابن ـ

١٩٩

وأبي حمية الساعدي (١) وام سلمة (٢) وأئمة اهل البيت (عليه السلام) كافة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «تقولون : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم ثم تسلمون علي» وقد تختلف فيها صيغة النقل مع الحفاظ على الأصل : ان الصلاة على آل محمد لزام الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد يلمح وصف الخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ان الصلاة عليه والتسليم له من لوازم الايمان ، اجل وكما الصلاة لله مهما اختلفت صلاة عن صلاة اختلاف الأحد عن احمد!.

ان التسليم له (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يجب ان يعيشه المؤمن في حياته الايمانية ، ثم الصلاة عليه وآله من واجبات التشهد ، والتسليم عليه من سنن السلام المندوبة ، فلولا الصلاة عليه فلا صلاة ، مهما كان التسليم عليه ندبا دون فرض.

وهل تجب الصلاة عليه دائبا دونما انقطاع؟ وهو حرج قاض على كافة الواجبات اللفظية حتى الصلاة! وكيف تربوا الصلاة عليه الصلاة لله! فلتكن لاكثر تقدير مع كل صلاة! ام وكلما ذكر كما في متظافر

__________________

ـ ماجة وابن مردويه.

(١) أخرجه عنه مالك واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة وابن مردويه.

(٢) محمد بن إدريس الشافعي في مسنده أخبرنا ابراهيم بن محمد أخبرنا صفوان بن سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة انه قال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف نصلي عليك؟ فقال : تقولون ...

٢٠٠