الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

إِلَى اللهِ زُلْفى) وليست الا باذنه ولم يأذن لهم ، واما شفاعة التشريع فلا اذن فيها حتى لا فضل النبيين ، وقد تشمل الشفاعة لما بعد الموت ، حيث المتكلم عنها هنا هو الله دونهم.

ثم و (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) دون «فزعت قلوبهم» دليل زوال الفزع عن قلوبهم بعد واقعه ، وإذا كان «هم» هنا هم الشافعون باذنه ففيما ـ إذا ـ الفزع حتى يفزّع؟.

علّهم لأنهم قبل اذنه تعالى فزعون حيث يترصدون أمره ، فان في انتظار الأمر فزع الدهشة لموقف المأمور ولمّا يؤمر ، وفزع الخوف حيث (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٦ : ٥٠) والفزع هو التأثر والانقباض من الخوف (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حين يأذن لهم بشفاعة في تكوين حيث هم عمال رب العالمين ، ثم يفعلون ما يؤمرون ، فهنالك (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) لواقع الأمر وتطبيقه ، وكما هم فيما بينهم يتساءلون مستبشرين (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)!

ذلك! ولا نحتمل ان «هم» هم المشركون ، حيث لا يفزع عن قلوبهم على أية حال ، وهم فزعون في ضيق قلوبهم ويوم القيامة هم من المفضوحين.

فالشافعون بحق ، الراصدون اذن ربهم ، هم فزعون ، فكيف إذا لم يؤذن لهم أم لم يكونوا بحق؟ ، فأين ـ إذا ـ (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) واين هم من «يقربونا (إِلَى اللهِ زُلْفى) وليس لهم من الأمر شيء؟

ثم وبوجه عام كان ملائكة الوحي عمالا وغير عمال فزعين من انقطاع الوحي في الفترة بين المسيح (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ناظرين وحي الشرعة بما سبقت لهم بشارة بذلك الوحي

٢٦١

الأصيل ، ولم تكن لهم شفاعة وتدخّل فيها ، فصبروا طويلا (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حين بزغ وحي القرآن على قلب نبي القرآن ، فاستغرقوا فرحا مستبشرين متسائلين بعضهم البعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) وبعد ذلك الردح العظيم ، فما وحي العمالة عندنا امام وحي القرآن بشيء (قالُوا الْحَقَّ) الذي لا حول عنه ولا تحويل ولا تجديل ولا تدجيل ، حق تابت لا حول عنه ، ولا تحريف ولا نسخ ولا تبديل (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)!. ام ان ذلك هو طبيعة الوحي وماهيته ، حيث يفزع قبل حصوله انتظارا له ، ويفزع حين حصوله قرعا على اهله ، ثم يزول الفزع بعد استقرار .. (١).

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) دون ان يعلى عليه ويستكبر ، فهو الله لا سواه ، وهو الرب ليس الا إياه ، وهو الرزاق ذو القوة المتين دون شفاعة شفيع إلّا

__________________

(١) البرهان ٣ : ٣٥١ القمي في رواية أبي الجارود في الآية «وذلك ان اهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين عيسى بن مريم (عليه السلام) الى ان بعث الله جبرئيل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمع اهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصفق اهل السماوات فلما فرغ من الوحي انحدر جبرئيل كلما مر باهل السماوات فزع عن قلوبهم يقول : كشف عن قلوبهم ، فقال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير.

وفي الدر المنثور ٥ : ٢٣٦ ـ اخرج جماعة عن النّواس بن سمعان قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أراد الله ان يوحي بأمر تكلم بالوحي فإذا تكلم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله تعالى فإذا سمع بذلك اهل السماوات صعقوا وخروا سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل (عليه السلام) الى ان بعث الله فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبرئيل على الملائكة (عليهم السلام) كلما مرّ بسماء سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرئيل فيقول : قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبرئيل (عليه السلام) فينتهي جبرئيل بالوحي حيث امره الله من السماء والأرض.

٢٦٢

من اذن له ، إذا فهو هو الشفيع والشافعون عمال لتحقيق الشفاعة حيث الدار دار الأسباب :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤).

«قل ... قل .. قل ..» ضربات كأنها مطارق تدفع بالحجة ، وتوضح المحجة ، في جولات تلو بعض حول قضية الشرك والتوحيد ، جولات تطوف بالقلوب في مختلف مجالات الوجود ، بمواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال ، وتتغير الأحوال بغيار الأهوال ، كل ذلك في ايقاعات قوية وادبية تصدع بقاطع البرهان في قوة وسلطان!

«قل» لمن يدعون من دون الله شفعاء وآلهة (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ روحيا او ماديا «قل الله» حيث يصدقون الله كإله الأصل وانما الاختلاف في الشبكات ، فلانه رسول الله وهو لسان الناس عن فطرة وعقلية اصيلة فليكن هو المجيب «قل الله».

ثم وفي نطاق الخلاف بينك وبينهم في اصول وفروع عقائدية وطقوس دينية فمجاملة في الحوار بإظهار الحق اليقين بمسرح الشك ، ولكي تجذبهم من الشك الى اليقين دون مفاجئة بصراح القول الحق : «نحن على هدى وأنتم في ضلال مبين» بل (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) :

لا تخلوا من بيننا هدى وضلال مبين ، وعلى الشاك في ضلاله وهداه أن يحاول الخروج عن ضلال الشك الى هدى اليقين! وانها غاية النصفة والاعتدال في ادب الجدال ان ينبري رسول الحق بلا تحتم لضلالهم ولا هداه ليثير فيهم التفكير في هدوء دون إذلال لهم في طرح القول : انهم هم في ضلال ، حيث الجدل بذلك الأسلوب المهذب الموحي الشهي أقرب الى لمس القلوب المقلوبة ، لو ان لها منفذا الى النور!

٢٦٣

ومن ثم الى حلقة ثانية للحوار اعمق ادبيا وأعرق في اجتثاث جذور التعنت والاستكبار :

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥).

حيث يسايرهم في تهمة الإجرام انه ومن معه كأنهم المجرمون ، فلستم أنتم ـ إذا ـ مسئولون ، وانما المجرمون هم أنفسهم مسئولون ، ثم لما ياتي دورهم في نسبة الاجرام لا يفصح عنه بما أفصح لنفسه ، وإنما (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) اجراما وسواه ، ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وبهذه اللمسة اللامعة يخطئهم في خرافة الطائر ، ولكي يفكر كل في نفسه لنفسه ، دون محاولة لتخطئة الآخرين ، ومن حال الخاطئين تلطيخ المصلحين ليجعلوهم كما هم فيستريحوا منهم!.

والى حلقة ثالثة لو اننا عيينا عن ان نفتح بيننا بالحق :

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)) فذلك الجمع ليوم الجمع ضرورة لا محيد عنها ، ولأقل تقدير فتحا بيننا بالحق ، حيث العلم المحيط والعدالة والحكمة تقتضي ذلك الفضل الحكيم من (الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)! : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٣٢ : ٢٩).

ان الإقرار بوجود الله العلي القدير ، الفتاح العليم ، لزامه تقرير يوم للفتح بين المتخالفين في توحيد الله والإشراك به ، فإذا لم يفتح هنا فلا بد من فتح في الأخرى وهي هي يوم الحساب! فليس الفتاح العليم ليترك الأمور مختلطة إلّا إلى حين ، ثم وهو لا يجمع بين المحقين والمبطلين إلّا ريثما يقوم الحق بدعوته ويبذل طاقته ويجرب تجربته ثم يمضي امره ويفصل

٢٦٤

فصله ويفتح فتحه (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)!

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧).

«اروني» هؤلاء الشركاء الملحقين المقحمين ، الذين هما مادة الخلاف ـ الاصيلة ـ بيننا ، لكي نقدم فتحا هنا بيننا قبل الأخرى ، «اروني» من ربوبياتهم مثقال ذرة ، بل هم المربوبون كسائر الخلق أجمعين (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) على (الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) ـ «الحكيم» في ربوبيته دون حاجة الى شركاء مقحمين!

فعزته تعالى وحكمته هما حجتان قاطعتان كل شركة في ألوهيته ، دامغتان كل شريك له ، ولو ان عزته وحكمته غير كافية فباحرى شركائه الفروع هم أذل واوهى! (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ (١) الْحَكِيمُ)!

«اروني» إياهم رأى البصر والبصيرة ، لزى هل فيهم من ميزات الربوبية شيء ، فأصنامهم ميتة ، وطواغيهم طاغية من حزب الشيطان ، وكرمائهم كالملائكة والنبيين هم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فأين الربوبية في سواه؟ (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)!

وفي «أروني» لمحات من استنكارات واستخفافات : أرونيهم ما هم؟ من هم اين مكانهم ومكانتهم؟ وكيف استحقوا ذلك الإلحاق ، وإذا هم آلهة كما الله فكيف ما ألحقهم هو بنفسه ، ام ما لحقوا هم أنفسهم اليه ، حتى كنتم أنتم عبدتهم تلحقونهم بالله؟ (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)!

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨).

آية منقطعة النظير بحق البشير النذير ، عن رسالته الكافة للناس ، دلالة صارمة على ان رسالته خاتمة الرسالات حيث تكف الناس كل الناس

٢٦٥

عما يجب كفهم عنه من مختلف المحظورات والمحذورات.

فذلك الرسول هو كافة للناس مبالغة بالغة في الكف والكفاف ، مهما كانت الرسالات السابقة كفا دون كفاف ، فإنما كانت رسالات تحضيرية تعبدّ الطريق لهذه الكافة للناس.

والكافة من الكفّ العضو حيث يكف ، ومن الكف مصدرا ، وهما المعنيان مبالغة فيهما هنا ، فهو كف فيه الكفاية ليكف كل الناس عن كل المحاظير ، فقد تشمل الدعوة كل الناس ولكنها لا تكفهم ، وقد تكفهم كلهم ولكنها لا تشملهم ، وهذه الدعوة الكافة تشملهم كلهم (١) في كف واحدة وتكفهم ، فيا ايها الناس (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (٢ : ٢٠٨) دخولا للكل وكفا عن خطوات الشيطان بوحدة جامعة!.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٣٧ ـ اخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي بعثت الى الناس كافة الى كل ابيض واحمر ... وي تفسير البرهان ٣ : ٣٥١ القمي باسناده الى حفص الكناسي قال سمعت عبد الله بن بكر الدجاني قال : قال لي الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) اخبرني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أرسل عامة للناس؟ أليس قد قال الله في محكم كتابه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) لأهل المشرق والمغرب واهل السماء والأرض من الجن والأنس هل بلغ رسالته إليهم كلهم؟ قلت : لا ادري قال يا بن بكير ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخرج من المدينة فكيف ابلغ اهل المشرق والمغرب؟ قلت : لا ادري ، قال : ان الله تعالى امر جبرئيل فاقتلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت بين يديه مثل راحة في كفه ينظر الى اهل المشرق والمغرب ويخاطب كل قوم بألسنتهم ويدعوهم الى الله والى نبوته بنفسه فما بقيت قرية ولا مدينة الا ودعاهم النبي بنفسه.

أقول «مثل راحة في كفه» استفادة لطيفة من «كَافَّةً لِلنَّاسِ» ولكن الكافة لا تستلزم ـ

٢٦٦

انه (كَافَّةً لِلنَّاسِ) ككل «ولو كان لربك شريك لأتتك رسله» وإذا لشريكه او شركائه رسل فارونيهم ، فإذا لا رسل لمن ألحقتم به شركاء فأين الربوبية؟.

انه (كَافَّةً لِلنَّاسِ) في رسالته المبشرة المنذرة ، وحين يحصل الكفّ للناس كل الناس ، عن كافة المخطورات طول الزمان وعرض المكان فليكف عن إرسال رسول بعده ، فما ذا بعد الكافة إلّا تحصيلا لحاصل ام تضييعا؟ فهذه الآيات من آيات رسالته العالمية ، الخاتمية ، فلا يرسل بعده من رسول ، كما لم يرسل معه ، والذين أتوا قبله كانوا رسلا لتعبيد الطريق لرسالته السامية الخالدة.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) رسالته وكافته وبشارته ونذارته ، او «لا يعلمون» الرباط العريق بين رسالته الوحيدة والربوبية الوحيدة. كما «لا يعلمون» ان الرسالة الكافة لا تسمح لرسالة اخرى معها او بعدها عن الله الواحد فضلا عمن (أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ)!.

و «لا يعلمون» انه وهو رسول ليس له من الأمر شيء إلّا (بَشِيراً وَنَذِيراً) فهم يتطلبون إليه آيات إلهية خارقة العادة كأنه مخول فيها ، ام موكل عليها ، كما ويقترحون عليه علم الساعة :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٩) ترى وما هي الرباط

__________________

ـ الدعوة بنفسه ، فان لزم فهل دعاهم بعد موته؟ ايضا ـ بنفسه ، ولو انه دعى كلا بلغته كانت فيها الكفاية عن الكتب التي بعث الى الملوك والرؤساء ، وكفاهم حجة قبل ان يسمعوا الى قرآنه ويروا سائر برهانه ، وأظن تتمة الحديث من مقحمات الوضاعين!. ثم المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعارضه الآيات الدالة على عمومية الرسالة لاولى العزم ورواياتها ، إلّا ان تعني الكافية في طول الزمن الى يوم القيامة مع المشاركة في عرض المكان لردح من الزمن.

٢٦٧

بين حق الوعد والعلم بمتاه؟ وحتى لو أخبرهم بمتاه وهم ناكروه في أصله فما هي ـ إذا ـ الفائدة ، إلا نكرانا على نكران؟.

أترى أحدهم حين يسئل متى تموت وهو لا يدريه ، هل له أو لك نكران موته وكل يعلم موته؟

ام حين يسأل متى ولدت وهو لا يدري؟ هل يحصل هنا شك في انه ولد لوقت مّا؟

ذلك السؤال ، المتعنت الجاهل مكرور مدوّر على ألسنة الناكرين ليوم الدين ، معتبرين جهله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمتاه ويجهّل أصله في مداه ، ولا رباط عقيديا وعلميا بين مداه ومتاه؟!.

سؤال ساقط ممن ينكر يوم الدين ام يقر ، وليس الا تعنتا وزورا وغرورا من سائل (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ثم الجواب الحاسم المكبت :

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠).

ان وعد الله واقع لا ريب فيه ، علمتموه ام لم تعلموا متاه (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) موتا ، او هلاكا ، ام جمعا (يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ـ (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً) لرغبة عنه (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) عنه ساعة لرغبة فيه ، فليس وعد الميعاد فوضى جزاف ، يؤخر لرغبة ، او يقدم لأخرى ، فكل شيء مسيّر ومصيّر بقدر ، وكل امر منه متصل بالآخر بحكمة مستورة لدى العزيز الحكيم.

٢٦٨

(٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)

٢٦٩

وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)

٢٧٠

فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى ...)(٣١).

قوله جاهلة قاحلة من (الَّذِينَ كَفَرُوا) في استحالة الايمان بالقرآن وما

٢٧١

بين يديه من كتاب! فحتى لو تاكدوا ـ فعلا ـ من بطلانه لكانت الاستحالة باطلة ، حيث الحال لا تحكم على الاستقبال ، فرب حال ترى انها من المحال لقصور في العلم او القدرة ، ثم يتحول في الاستقبال من راجحة الأحوال.

اجل في الضروريات العقلية الثابتة لدى كل عاقل قد يصح القول الصامد «لن ـ او ـ حتما» مستحيلا ام واجبا ، واما غير الضروريات البدائية ، فضلا عما تدل بنفسها على حقها كما القرآن ، فكيف يصح القول (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) أللهم إلّا ان يخبروا بمدى لئامتهم وعنادهم للحق ، دون قصور في القرآن ، ولكنهم على عنادهم قد يتحولون الى حالة اخرى!

ف ـ «لن» في مثل القرآن ليست لتصدق او تصدّق على أية حال ، وهم يرفضون بها حاضر الايمان ومستقبله بالقرآن ، عنادا.

فالقرآن بنفسه شاهد صدق يفرض على من يتدبره الايمان به ، ويرجح لمن لم يتدبر ، واما إحالة الايمان فليست إلّا من إغلاق باب العقل والفطرة لحدّ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١ : ٢٦)!

(الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم المشركون واضرابهم من غير الكتابيين مهما كانوا موحدين ، و (بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) صيغة دائبة في سائر القرآن عن سائر كتابات السماء ، إلّا فيما تقرن بقرينة تدل على الحياة الاخرى (.. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ ..) فانها الحياة الأخرى بعد مستقبل الاولى ، ولكن (بَيْنَ يَدَيْهِ) تخصه بضميرها المفرد ولا تخصه الاخرى ، اضافة الى قرن (بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ـ (بِهذَا الْقُرْآنِ) فما بين

٢٧٢

يديه قرآن غير هذا من التورات والإنجيل ، مهما كان اطلاق القرآن منصرفا الى هذا القرآن!

ولما وصل الحوار إلى هذه الحال من التعنّة النكراء ، فلا تفيد بعدئذ مواصلة الحوار ، من هنا يستعرض حوار اهل النار ، كجواب لهم عما هنا :

(... وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)(٣١).

ترى كيف (لَوْ تَرى ..) و «لو» تحيل مدخولها؟ علّها الرؤية يوم الدنيا ، ف ـ «لو» تلوي للترجي : يا ليت ترى في الحال حوارهم البائس في الاستقبال؟ وكما في (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ..) (٦ : ٢٧) (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ (٦ : ٣٠) وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) (٦ : ٩٣) (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ (٨ : ٥٠).

ثم لمّا يحضر واقع المسرح للأخرى كأنه الحال (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (١٤ : ٤٩) وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) (١٨ : ٤٧) (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) (١٨ : ٤٩).

(.. إِذِ الظَّالِمُونَ) في العقائد الرئيسية كالذين ذكروا (مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زجا في سجنه وقفة الحائرين الذعرين نظرة الحكم من رب العالمين (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) الظالم المستضعف الى الظالم المستكبر وعكسا ، حيث يلوم بعضهم بعضا ، ويؤنب بعضهم بعضا ، إلقاء لتبعة ما هم فيه على بعض ، و «القول» هو (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) مقصرين لا قاصرين للذين استكبروا «مقصرين لولا أنتم لكنا مؤمنين»! وليست

٢٧٣

التبعة إلّا عليكم ، إذ كنا نحن قاصرين ، ولو خلينا وأنفسنا لكنا مؤمنين.

قولة جاهرة اليوم وقد سقطت القيم الزائفة وواجهوا واقع العذاب ، وهم قبل اليوم لم يكن يخلد بخلدهم ان يقولوها ، حيث التخاذل ، والضعف القاصد ، والاستسلام المصلحي ، وبيع الحرية والكرامة بالأركس الأدنى ، كانت تحول دون هذه القولة الجاهرة ، وهنا الجواب الحاسم من الذين استكبروا.

(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) (٣٢) والهدى تحل محلها من قلوب صافية ضافية ، فليست لتصد بعد إذ جاءت (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) قبل ان نصدكم ، فقد أجرمتم ثمرة الحياة تغاضيا عن فطركم وعقولكم ، وتحكيما لحاضر شهواتكم ، ثم نحن واصلنا في إضلالكم : ظلمات بعضها فوق بعض ، فنحن وإياكم صادون عن الهدى على سواء ، فان كنا نحن مجرمين مستكبرين ، فقد كنتم أنتم مجرمين مستضعفين ، وكل إناء بما فيه يرشح!

ثم يرجع المستضعفون بما يخفف عنهم في زعمهم عذابهم ، ويثقل على المستكبرين :

(قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ...)(٣٣).

لو اننا بقينا على جرمنا دون مكر وأمر منكم لخف الوطء عنا وكنا اقل منكم عذابا (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من ناحية ونحن ضعاف العقول ، و (إِذْ تَأْمُرُونَنا ..) من اخرى وأنتم أقوياء ، ولكن الذي جائته الهدى على بينة كيف يمكر ، ام الذي يؤمن بها كيف يكفر حين يؤمر؟ والكفر والايمان من الأمور القلبية لا إكراه فيها ...

٢٧٤

هناك يدرك الفريقان من الظالمين ان ليس الحوار ليثمر تخفيفا عن عذاب أم تأجيلا ، فلكلّ جريمته وإثمه ما هو ظالم قدره ، ثم على المستكبرين تبعة زائدة لإضلال الآخرين ، والمستضعفون عليهم وزرهم باتباعهم مقصرين ، لا يعفيهم انهم كانوا مستضعفين ، كما لا يعفي المستكبرين ان هؤلاء كانوا مجرمين.

فهنالك تختم الحوار برؤية العذاب وحيث لا تفيد الحوار :

(... وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) كل من المستضعفين والمستكبرين (وَجَعَلْنَا (١) الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي في الحق تلكم الأغلال التي غلوا بها أنفسهم ، غل الاستضعاف وغل الاستكبار ، واين غل من غل؟ واين عذاب من عذاب؟ (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) غلّا بغل : و (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)!

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤).

فلان ماهية الرسالات الإلهية وطبيعتها هي الحفاظ على العدل بين الناس ، والقضاء على تطاولات المستكبرين والطغاة والمترفين في اللذات والحيونات ، لذلك كانت تعارض منذ بزوغها من قبل المترفين فلم تكن ـ إذا ـ خلاف ما يزعم ـ بجانب الرأسمالية وتخديرا للمستضعفين (١) ف ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٣٨ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي حاتم عن ابن زيد قال كان رجلان شريكان خرج أحدهما الى الساحل وبقي الآخر فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب الى صاحبه يسأله ما فعل فكتب اليه انه لم يتبعه أحد من قريش الا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته وأتى صاحبه فقال له دلني عليه وكان ـ

٢٧٥

(إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) دون تأمل وتحليل ، وتغاضيا عن كل دليل ، هي كلمة المترفين على مر الزمن الرسالية ، معادة مكرورة في كل قرية ، حيث الترف يغلظ القلوب ويفقدها كل حساسية عقلية ولمسة فطرية ، لحد يحسبونهم هم الموضوع الرئيسي والمحور الأساسي في الحياة ، وان أموالهم وأولادهم هي مانعتهم من العذاب في الأخرى كما تمنعهم في الأولى! :

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥) ولو كان هنالك عذاب فانما هو للمستضعفين فلنا الترف في كل طرف من أطراف الحياة : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٤١ : ٥٠). وي! كأنما الأموال والأولاد هي التي تقربهم الى الله زلفى فلا يعذبون ، وليست هي من حسن اعمالهم ، ولا انها منهم حتى ولو كانت حسنة لهم :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣٦).

إنهم يحسبونهم ان بأيديهم بسط الرزق وقدره ، وهم يرون كثيرا ممن يسعى مجدا فلا يجد سعة إلّا قدرا ، وآخرين لا يسعون كثيرا ـ ام ـ ولا قليلا ولهم بسط في الرزق ، وهذا لا ينافي الضابطة المطردة : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فانما بسط الرزق وقدره في أكثرية ساحقة خارجان عن مدى السعي والبطالة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حيث يزعمون

__________________

ـ يقرأ الكتب فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إلى م تدعو قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الى كذا وكذا قال : اشهد انك رسول الله قال ما علمك بذلك قال : انه لم يبعث نبي الا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت هذه الآيات .. فأرسل اليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله قد انزل تصديق ما قلت.

٢٧٦

بسطه بما هم يبسطون وقدره بما هم يقدّرون ويقدرون! فمسألة بسط الرزق وقدره هي من أهم ما تحيك في صدور كثيرة ، فحين تتفتح الدنيا بزخارفها على المبطلين ، ويحرم بجنبهم الآخرون ، يخيّل الى الجهال ان الله ليس ليغدق على احد إلّا وله عنده زلفى ، ولا يغلق على أحد إلّا البعيدين عنها ، وذلك حين ما تختل الموازين والقيم ، وتختلط القيم الروحية والمادية فتخلف فوضويات من الظنون الرديئة ، ولكن :

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(٣٨).

ف ـ (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١٨ : ٤٦).

فانما تقربكم الى الله زلفى ، (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) الايمان وعمل الصالحات ، فالأموال والأولاد التي تستخدم لمرضات الله هي خير عند ربك ثوابا وخير املا (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) عملا مضاعفا فاصل الايمان وعمل الصالحات عمل ، والأموال والأولاد التي تستعملهم في صالحات عمل ثان (١) فما بقيت صالحة خيرة فلك منها ثواب ، وكما على الذين يعملون طالحات ، ويستعملون أموالهم وأولادهم في طالحات ،

__________________

(١) القمي ذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء ووقع فيهم فقال (عليه السلام) اسكت فان الغني إذا كان وصولا لرحمة بارا باخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لان الله يقول (وَما أَمْوالُكُمْ ... إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ...).

٢٧٧

أولئك لهم ضعف العذاب ، فانما الجزاء خيرا وشرا على قياس العمل ضخامة ووخامة : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) مستعملين أموالهم وأولادهم في سعيهم الفاسد الكاسد (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) وكما كانوا في بواعث العذاب محضرين ، حضورا بحضور ، بل هو هو نفس الحضور ف ـ (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩).

(ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) في سبيل الله أموالا وأولادا ، واعمالا وأقوالا وأحوالا ، (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) : إبدالا بالحسنى وهو خير الرازقين في الاولى وفي الاخرى ، وليس بسط الرزق لأهل الطغوى إلّا امتحان الامتهان (.. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨)!.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)(٤١).

خطأ في خطأ لمن كانوا يزعمونهم يعبدون الملائكة ، (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) ويحسبونهم ملائكة حيث أروهم أنفسهم ملائكة ولكي يعبدوا ، وليس الملائكة ليروا أنفسهم للموحدين ، فضلا عن المشركين الذين يبغونهم ان يكونوا لهم عابدين. ام (كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) حيث امروهم ان يعبدونا ، فالمعبود الأصل لهم هم الجن دوننا ، إذ لم تكن هناك صلة بيننا وبينهم حتى يعبدونا دون وسيط.

وعلى أية حال «سبحانك» ان يعبد من دونك (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) تلي كل أمورنا ، وتعلم ما نخفي وما نعلن ، فتعلم اننا ما كنا نرضى هذه العبادة بوسيط ودون وسيط ، فقد كانت عبادتهم الحمقاء هباء على هباء

٢٧٨

ونحن ـ كما تعلم ـ منها براء! فانها عبادة فاضية فوضاء.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(٤٢).

«لا يملك» نفي استغراق في ذلك اليوم ، فالنفع والضر مسلوبان لكل احد عن كل احد عابدا ومعبودا إلّا الله ثم (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ذوق العذاب ف ـ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)! وهنا تختم الجولة في قضية المبدأ والمعاد ، والى جولة لما بين المبدء والمعاد :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣).

آيات بينات هي في دعواهم افك مفترى وسحر مبين ، مقابلة الحق المبين برواسب غامضة من آثار مضت وتقاليد غيرت دون قوام متماسك على اي أساس!

فآبائنا هم الأصلاء في هذا المسرح وسواه ، و (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) وكفاه كذبا ، ف «ما هذا إلا كذب مفترى» على الله إذ لا يرضى ان نترك آباءنا ـ.

ومن ثم في مواجهة عامة لآيات الله البينات (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

فثالوث القولة الفاتكة «ما هذا ـ ما هذا ـ ان هذا» تتبنى اصالة تقاليد الآباء لا لشيء إلّا أنهم آباء! أو لم يكن الآباء الموحدون الإبراهيميون هم من آبائهم؟ فليشكوا على أقل تقدير في دعوة التوحيد فيتحروا ويتخذوا الأحرى في عقولهم!.

وليتهم أوتوا من قبل كتبا يدرسونها ام أرسل إليهم من قبلك من نذير ،

٢٧٩

حتى يرتكنوا في هذه السلبيات على ما أوتوا! ولكن :

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

فلقد عاشوا فترة انقطاع الوحي والرسالة ، فلا كتب يتعاهدون ولا رسل ، فان يكذبون هؤلاء فقد (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم أولاء (ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) هؤلاء الغابرين من علم ومال وقوة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ي عليهم على قوتهم من إهلاك وتدمير ، فما أنتم بشيء تذكرون وجاههم!

وقد كانت قريش تعرف بعض هذه المصارع الغابرة ، وهنا التهديد بتلك الغابرة ، ولكي تنتبه الأجيال الحاضرة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)؟

كذلك (وَما بَلَغُوا) ما أرسلنا من نذير من قبلك ـ (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الحاضرين في مسرح الرسالة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه اوتى ما أتوا وزيادات خالدات (١).

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ

__________________

(١) البرهان ٣ : ٣٥٣ ـ القمي في الآية قال : كذب الذين من قبلهم رسلهم وما بلغ ما آتينا رسلهم معشار ما آتينا محمدا وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

٢٨٠