الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار ، وكان هذا الإخاء صلة عريقة فريدة في تأريخ التكافل العقائدي لحدّ قام مقام قرابة الدم ، وارتفع فيه المدّ الشعوري الى ذروة عالية ، وقد أخذ مأخذ الجدّ ، قائما مقام قرابة الدم او زاد ، ولقد كان ذلك الإخاء العميق ضروريا بادى ذي بدء حفاظا على هذه النشأة الوليدة الايمانية ، وتماسكة بقوة صارمة في تلك الظروف الاستثنائية ، وحتى تقوم الدولة على سوقها فتزول الضرورة الوقتية من ذلك الإخاء القائم مقام الدم ، فيبقى وراء التوارث كأشد ما كان على طول الخط.

فلما استتب امر الدولة واستقرت في مختلف حقولها الجماعية والسياسية والاقتصادية والعقائدية عاد النظام الحقوقي الاسلامي في التوارث بين اولى الأرحام إلى حالته التي (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).

اولوية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمؤمنين من أنفسهم وفي المحمديين من أولي امره ، دائبة ثابتة بشاكلتها المعصومة في فترة الرسالة والإمامة ، ومن ثم في الشورى من الرعيل الأعلى في العابد من الامة بشاكله غير معصومة.

وامومة أزواجه باقية ما لم يتخلفن عما عليهن ، فبانطلاقهن عنه سماح الطلاق لصاحب الإمرة بعده وكما في طلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.

والاخوة المورثة باقية ردحا حتى تستتب امر الدولة ويقر قرارها.

ثم لهذه الآية واجهتان : خاصة قد تعني الاولوية في إمرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده ، فأولو أرحامه بعضهم اولى ببعض في كتاب الله من سائر المؤمنين من الأنصار والمهاجرين.

٤١

فهنالك اولويتان اثنتان ، أولاهما اولوية ذوي أرحامه (صلى الله عليه وآله وسلم) من سائر المهاجرين والأنصار ، والاخرى الاولوية بين أرحامه أنفسهم ، فعليّ اولى من آل عباس ، والحسنان اولى من سائر ولد الامام ، وولد الحسين (عليه السلام) اولى من ولد الحسن ، وزين العابدين اولى من سائر ولد الحسين ، ومن ثم سائر الائمة (عليهم السلام) حتى القائم المهدي (عجل الله تعالى فرجه) اولوية بالانتصاب ، وكما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منتصب في اولويته بالمؤمنين من أنفسهم ، كل ذلك بوحي من الله (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) وعله امّ الكتاب او اللوح المحفوظ إمّا ذا من كتاب لله (١).

__________________

(١) لقد مضى شطر من الأحاديث في آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) وإليكم شطرا آخر ، ففي تفسير البرهان ٣ : ٢٩١ ح ٢ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا تعود الامامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) ابدا انما جرت من علي بن الحسين (عليه السلام) كما قال الله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) فلا تكون بعد علي بن الحسين الا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.

وفيه ح ١٣ ـ ابن بابويه بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان الله خص عليا بوصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما يصيبه له فأقر الحسن والحسين (عليها السلام) له بذلك ثم وصية للحسن وتسليم الحسين للحسن (عليه السلام) ذلك حتى افضى الأمر للحسين (عليه السلام) لا ينازعه فيه احد له من السابقة مثل ما له واستحقها علي بن الحسين يقول الله عز وجل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) «فلا تكونن بعد علي بن الحسين (عليه السلام) الا في الأعقاب وأعقاب.

وفيه ح ١٤ عنه باسناده عن ثابت الثمالي عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن أبيه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : فينا نزلت هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وفينا نزلت هذه الآية (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) والامامة في عقب الحسين (عليه السلام) الى يوم القيامة ...» ـ

٤٢

ومن ثم تنتقل الاولوية بالرحم عن عنوانها المشير بعد الإمرة المعصومة ، الى الاولوية بالشورى ، وأولوية الشورى في إمرة السياسة والفتوى ، ف ـ (أُولُوا الْأَرْحامِ) عنوان مشير في الإمرة المعصومة المنتصبة حيث الرحم ـ فقط ـ ليس ليختص بنفسه الإمرة إلّا للأصلحية المنضمّة إليه وهي الأصيلة ، ثم هو في الميراث عنوان للحكم بالاولوية فيه حيث الرحم وقربه هو موضوع الحكم لكونه الرحم ، وهو في إمرة الشورى عوان بين الاشارة والموضوعية ، اشارة الى الأقربين إلى أهل بيت الرسالة علما وتقوى أرحاما وغير أرحام ، وهي بنفسها الموضوعية حيث الاقربية إليهم في روحية الرحم هي موضوع الاصلحية في الإمرة.

ف ـ (أُولُوا الْأَرْحامِ) تعني اولي أرحام النبي (صلى الله عليه وآله

__________________

ـ وفيه ح ١٥ عنه باسناده عن إسماعيل بن عبد الله قال قال الحسين بن علي (عليه السلام : لما أنزل الله تبارك وتعالى لي هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ ..) سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن تأويلها فقال : والله ما يعني بها غيركم وأنتم اولوا الأرحام فإذا مت فأبوك علي اولى بي وبمكاني فإذا مضى أبوك فأخوك الحسن (عليه السلام) فإذا مضى الحسن فأنت اولى به فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! ومن بعدي؟ قال : ابنك علي اولى بك من بعدك فإذا مضى فابنه محمد اولى به فإذا مضى محمد فابنه جعفر اولى به من بعده وبمكانه فإذا مضى جعفر فابنه موسى اولى به من بعده فإذا مضى موسى فابنه علي اولى به من بعده فإذا مضى علي فابنه محمد اولى به من بعده فإذا مضى محمد فابنه على اولى به من بعده فإذا مضى علي فابنه الحسن اولى به من بعده فإذا مضى الحسن وقعت الغيبة في التاسع من ولدك فهذه الائمة التسعة من صلبك أعطاهم الله علمي وفهمي طينتهم من طينتي ما لقوم يؤذوني فيهم لا أنالهم الله شفاعتي أقول : وتاويل آية اولى الأرحام بذلك بالغ حدّ التواتر وفيما نقلناه الكفاية كنموذج.

وفي ملحقات الاحقاق ٣ : ٤١٨ ذكر نزولها في علي وأئمة اهل البيت جماعة من أئمة الحديث منهم الترمذي في مناقب مرتضوي ٦٢ نقل اتفاق المفسرين على نزولها في علي لأنه الذي كان مؤمنا ومهاجرا وابن عمه ومنهم ابن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة ٩٥

٤٣

وسلم (نسبيا وروحيا ، ثم اولي أرحامه روحيا ، ومن ثم اولى أرحام المؤمنين نسبيا ، تجمع هذه الثلاث وتعنيها ، قضية المناسبة في ادب اللفظ وحدب المعنى!.

ترى إذ تعني الآية فيما تعنيه الاولوية بالإمرة بين اولى أرحام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلما ذا (أَوْلى بِبَعْضٍ) لا «من بعض»؟ ـ لأنها تعني اولويات عدة هذه منها فلذوي أرحام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اولوية الإمرة من غيرهم ، ومن بينهم أنفسهم ، وكذلك الاولوية في الميراث بين اولي الأرحام ككلّ من المؤمنين والمهاجرين نسخا للتوارث بالاخوة ، ومن بينهم أنفسهم الأقرب فالأقرب.

ف ـ (أَوْلى بِبَعْضٍ فِي ..) هنا تعني اولوية في الامرة عكس ما كان (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) انهم اولى بالنبي في امرته بعده من غيرهم ، وبعضهم اولى ببعض في ميراث الإمرة من غيرهم ، فعلي اولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من غيره كما الحسنان اولى بعلي من غيرهما وهلّم جرا الى قائمهم ، اولوية ذات بعدين ، ممن سوى اولى الأرحام ، وممن سواهم بينهم ، الأقرب فالأقرب فيما يحملون من معنى الرسالة وحقيقتها.

فللاولوية واجهتان : خاصة تخص اولي أرحام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم أنفسهم ومن سواهم ، وعامة تعم اولي الأرحام كلهم في اولوية الميراث تعني تفاضلا بينهم وبين من سواهم من المؤمنين والمهاجرين نسخا للتوارث بالأخوة ، وتفاضلا بينهم أنفسهم بالقريب والأقرب ، فإنهم طبقات لا ترث كل تالية مع وجود السابقة ، ضابطة عامة صارمة في كل توارث.

٤٤

إذا فالميراث فرضا وردا يختص بالأقرب رحما ، فكما لا نصيب لتاليه من فرضه كذلك مما زاد ، فان ترك بنتا من الطبقة الاولى لا سواها ، أخذت نصفه بالفرض : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ورد الباقي إليها لآية (أُولُوا الْأَرْحامِ) فانها مطلقة في الميراث ، وليس لسائر الطبقات معها ولا للعصبة حق من زائد الفرض ، حيث البنت اولى بابيه ممن بعدها لأنها أقرب ، وإذا كان ذو فرض ليس معه اي وارث من طبقاته فله المال كله فرضا وردا (١).

(... مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦).

«إلّا ..» استثناء فقط عن اولوية الميراث و «أوليائكم» تعم ولاية القرابة والمحبة والرقية ، و «معروفا» يخص الثلث وما دونه بدليل آيات الوصية بالثلث ، ومما يدل على مثلث الولاية : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٤ : ٨) (٢).

و «كان ذلك» قد يعني هذه الثلاث كلها ، مما يدل على ان الوراثة بالإخاء كانت مؤقتة في ردح من بداية الدولة الاسلامية مصلحة.

وهل خصت فاطمة الصديقة عن آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) فكان سائر المؤمنين اولى منها بفدك وغير فدك ام لم تكن هي من اولى أرحام الرسول

__________________

(١) في الكافي باسناده عن حنان قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) اي شيء للموالي؟ فقال : ليس لهم من الميراث الا ما قال الله عز وجل (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

(٢) في أحاديث متظافرة ان عليا (عليه السلام) اعطى الميراث كله لخالة دون المولى او بيت المال إذا كانت وحدها ليس معها وارث غيرها.

٤٥

(صلّى الله عليه وآله وسلم) ام ـ انها ولا سمح الله ـ كانت كافرة لا ترث أبيها؟ سلوا الخليفة أبا بكر وزميله عمر عن هذه المسألة تسمعون الحديث المختلق «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» ثم سلوها تجيبكم بآيات الإرث ، ردا لحديث الخليفة الى كتاب الله وضربا عليه عرض الحائط لمخالفة الكتاب في خطبتها وقد نقلها أئمة الحديث بما لا نكير عليه (١)!.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨).

ميثاق واحد مطرد يشمل كافة «النبيين» فانه جمع محلى باللام يفيد استغراق مدخوله ، و «ميثاقهم» يوحي باختصاصه بهم لا يعدوهم الى سواهم من نبي او مرسل غير نبيّ حيث «النبيين» هم اولوا النبوة والرفعة بين المرسلين فضلا عمن دونهم من نبيء لم يرسل فضلا عن ان ينبو في رسالته!

فلو كان الميثاق لعامة المرسلين لكان «من المرسلين» ام ولعامة من يوحى إليهم وان لم يرسلوا لكان «النبيئين» ام لعامة الصديقين او الصادقين لكانوا هم ام أولاء ولكنه «من النبيين».

هنا ميثاق منهم يعمهم ، لأمر مّا يهمهم كلّهم في هامة النبوة ، وفي اخرى ميثاق آخر منهم كلهم لإيمانهم ونصرتهم لآخرهم مبعثا واوّلهم ميثاقا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ

__________________

(١) ومنهم احمد بن أبي طاهر البغدادي في بلاغات النساء ١٤ وابن أبي الحديد في شرح النهج ٤ : ٧٨ و ٩٢ وعمر رضا كحالة في أعلام النساء ٣ : ١٢٠٨ وابو بكر الجوهري في كتابه على ما في تظلم الزهراء ٣٨.

٤٦

رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١) هنا إصر بإقرار وشهادة لميثاق الايمان والنصرة بهذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهنالك ميثاق غليظ ، فأين ميثاق من ميثاق ، كما البون بينهم وبين خاتم النبيين!

وفيما هنالك ايضا نراه يتصدّر في ميثاقهم : «ومنك» وهو آخرهم ، مما يوحي باوليته ميثاقا ونبوة ورفعة ومن ثم «من نوح» ومن بعده حسب الترتيب الرسالي لا الرسولي.

وهنا ترتيب ثلاثي بعموم النص ل ـ «النبيين» واختصاص صاحب الرسالة الاخيرة بينهم «ومنك» ثم اختصاص ثان بين من دارت عليهم الرحى ، يهدف الى بيان محتده الاوّل في نبوته وميثاقه ومنازله الرسالية والرسولية بينهم ، وكما يبين ان الخمس المذكورين هم أفضل النبيين ككلّ.

ففيم يسئل : متى أخذ ميثاقك»؟ (١) «متى استنبئت»؟ (٢) «متى كنت نبيا» (٣)

«متى وجبت لك النبوة» (٤) «متى جعلت نبيا»؟

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٨٤ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):!.

(٢) المصدر اخرج ابن سعد قال قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! : ..

(٣) المصدر اخرج البزار والطبراني في الأوسط وابو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):. وأخرجه مثله احمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن مسيرة الفخر قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! ::. واخرج مثله ابن سعد عن مطرف بن عبد الله ابن الشخير ان رجلا سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٤) المصدر اخرج الحاكم وابو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال قيل للنبي (صلّى ـ

٤٧

(١)؟ يجيب : «وآدم بين الروح والجسد» ـ «وآدم منجدل في الطين» «وآدم بين الروح والطين» وكان إذا قرأ الآية قال : بدى بي في الخير وكنت آخرهم في البعث (٢) «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدىء بي قبلهم» (٣) وعلى الجملة «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (٤) فهل يعني من نبوته «وآدم بين الروح والجسد» نبوته في علم الله؟ وقد كان يعلمها قبل ان يخلق الخلق! وكان يعلم نبوة سائر النبيين كذلك ، وذلك مخصوص به.

او يعني كونه مخلوقا قبل خلق آدم أبيه؟ ولم يخلق إلّا من أبيه! ام يعني نبوته في الروح قبل ان يخلق جسده من آدم ، فكونه قبله ـ إذا ـ ليس كونه ككلّ فانما هو نبوته؟ والقرآن ينص على ان واقع نبوته كان بعد ردح من خلقه في جسده!

ام يعني منها كيان نبوته حينذاك لا كونها كما كان يوم مبعثه ، وكما تدل عليه آية الميثاق له (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ... لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ولا نبيّ كمثله يؤخذ على من قبله ميثاق نصرته والايمان به وهو لم يبعث بعد؟ وهذا صحيح في نفسه ولكنما الميثاق المأخوذ عليه بينهم وقبلهم هنا

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) .. قال بين خلق آدم ونفخ الروح فيه.

(١) المصدر اخرج ابو نعيم عن الصنابحي قال قال عمر : ..

(٢) المصدر اخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ ...

(٣) المصدر اخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وابو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية : ...

(٤) كما استفاض من طرق الامامية.

٤٨

يتطلب له كونا يجنب ذلك الكيان ، فهم كلهم مشتركون في كون مّا ، أخذ عليهم فيه الميثاق العام ، وهو قبلهم في ذلك الكون اضافة الى ذلك الكيان.

فقد كان قبل ان يخلق ويبعث نبيّا له كيان الايمان به والنصرة له من النبيين أجمع ، كما له كون في الروح قبل خلقه ككل وقبل بلوغه ذروة النبوة ، وقد يصلح هذا المعنى لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أخذ علي الميثاق واستنبئت وآدم بين الروح والجسد (١).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٢٩٤ ح ١ علي بن ابراهيم قال حدثني أبي عن النضر بن سويد عن ابن سنان قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) اوّل من سبق الى الميثاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وذلك انه كان اقرب الخلق الى الله وما كان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به الى السماء تقدم يا محمد لقد وطئت موطئا لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولو لا ان روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر ان يبلغه فكان من الله عز وجل كما قال الله كقاب قوسين او ادنى اى بل ادنى فلما خرج الأمر وقع من الله الى أوليائه عليهم السلام ، فقال الصادق (عليه السلام) كان الميثاق مأخوذا عليهم لله بالربوبية ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة ولأمير المؤمنين والائمة عليهم السلام بالامامة فقال : الست بربكم ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيكم وعلي (عليه السلام) إمامكم وأئمة الهادين (عليهم السلام) أئمتكم؟ قالوا : بلى فقال الله : شهدنا ان تقولوا يوم القيامة اى لئلا تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين فاوّل ما أخذ الله الميثاق على الأنبياء له بالربوبية وهو قوله : وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم فذكر جملة الأنبياء ثم ابرز عز وجل أفضلهم بالاسامي فقال : ومنك يا محمد فقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأنه أفضلهم ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم فهؤلاء الخمسة أفضل الأنبياء ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضلهم ثم أخذ بعد ذلك الميثاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الايمان به وعلى ان ينصروا امير المؤمنين (عليه السلام) فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم يعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لتومنن به ولتنصرنه يعني امير المؤمنين (عليه السلام) تخبروا أممكم بخبره وخبر وليه من الائمة (عليه السلام)

٤٩

عرفنا الميثاق له منهم في نصرة له وايمان به هما لزام نبوتهم ، وإيتاء الكتاب والحكمة لهم ، فما هو الميثاق الذي يعمه معهم (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)؟.

قد يعنيهما «منهم» دون «منكم» وقد كان يتطلبه «ومنك» خطاب الحاضر ، (أَخَذْنا مِنْهُمْ) لك كما في آية آل عمران ، وأخذنا منهم وأنت فيهم كما هنا ، فغلظ الميثاق علّه لغلظ الموثوق له ، فميثاقهم ككل «ميثاقهم» و (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) لك (مِيثاقاً غَلِيظاً) امّا ذا؟

قد نتعرف الى ميثاقهم كلهم من (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) ومن سؤالهم أنفسهم ألا يتحرجوا في الإنذار كما أمروا : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ... فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧ : ٧) (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (٣٣ : ٢٣٨)

واوّل الإنذار الجماعي هو عن الإشراك بالله (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٣ : ٤٥) وألّا يسألوا أجرا على بلاغهم ويستقيموا اليه.

كذلك والسنة الجماهيرية الرسالية (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٩٢) (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣).

ثم و (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) لها واجهتان كما للميثاق ، ف ـ «الصادقين» المسئولين عن ميثاقهم له (صلّى الله عليه وآله وسلم) هم

٥٠

النبيون ، إذ يسألون عن صدقهم في إقرارهم وأخذهم الإصر في ميثاقهم ليؤمنن به ولينصرنه (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) بهذه الرسالة الاخيرة (عَذاباً أَلِيماً)

وفي واجهة عامة يسأل الصادقون ـ النبيون ـ عن صدقهم في ميثاقهم ، والصادقون سواهم كذلك ، والمسئول والمسئول عنه شاهدا صدق على صدقهم (عليهم السلام) فيما كان عليهم.

وكما يسأل الصادقون الآخرون عن صدقهم في تصديقهم لهم (صلوات الله عليهم) وتطبيقهم شرعتهم (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) تصديقا او تطبيقا (عَذاباً أَلِيماً).

ثم وفي وجهة عامة (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) من نبيين وسواهم «عن صدقهم» فيما حمّلوا ، هل عملوا بما تحمّلوا من تبليغ ومن تطبيق ، وقد تعنيها الآية كلها ، فالكل مسئولون عما أرسلوا وعما حمّلوا وتحملوا عما اعتقدوا و .. (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ..) (٥ : ١٠٩).

ذلك ميثاق غليظ على النبيين أجمعين ليسئلهم «الصادقين» عن صدقهم (١) وليسأل الصادقين المرسل إليهم عن صدقهم أولاء وعن صدقهم أنفسهم

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٨٣ ـ اخرج الطبراني وابن مردويه وابو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني ان أعرابيا قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما اوّل نبوتك؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم ثم تلا (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ...) ودعوة أبي ابراهيم قال : وابعث فيهم رسولا منهم وبشارة المسيح بن مريم ورأت ام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامها انه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام.

٥١

في تصديقهم ، مما قد يلمح بأخذ الميثاق من المرسل إليهم مع المرسلين ، وعلّه من فطرهم أما ذا مما هو حجة عليهم ، إذ لم يكونوا قبل كونهم في كون أو كيان به يعقلون (١) وقد يعنيه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما يرويه «خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ اهل الشمال بيده الاخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فأما اصحاب اليمين فاستجابوا اليه ... قال قائل فما العمل فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل كل قوم لمنزلتهم.» (٢) فأهل اليمين هو من استجاب لفطرته خلاف اهل الشمال ، دون ان يسبقهم عالم قبل خلقهم إذ لا يذكره احد فكيف يكون حجة عليه اللهم إلّا أحكام الفطرة التي فطر الناس عليها!

__________________

(١) المصدر اخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من عالم الا وقد أخذ الله ميثاقه يوم أخذ ميثاق النبيين يدفع عنه مساوي عمله لمحاسن عمله الا انه لا يوحى اليه.

(٢) المصدر اخرج الطيالسي والطبراني وابن مردويه عن أبي العالية قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... فاستجابوا اليه فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال الست بربكم قالوا بلى فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم يا رب لم خلطت بيننا فان لهم اعمالا من دون ذلك هم لها عاملون؟ قال : ان يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم (عليه السلام) فأهل الجنة أهلها واهل النار أهلها فقال قائل فما العمل فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... فقال ابن الخطاب اذن نجتهد يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

٥٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ

٥٣

يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا

٥٤

وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)

٥٥

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

غزوة الأحزاب ـ الخندق؟!

لقد جند الكفر أحزابه وتجمع خيله ورجله في خندق واحد ضد الايمان كله حول المدينة المنورة ، وهنا مقطع من سورة الأحزاب في تسعة عشر آية ، يتحدث عن غزوة الأحزاب كحدث ضخم من الأحداث التي ابتلي بها المسلمون في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) يتحدث هنا عن موقف المؤمنين ووقفة المنافقين بينهم وبين الأحزاب مزعزعين ، وموقف النعمة الخاصة الربانية التي خصتهم في تلكم الزلزال والزعزعة ، مما يتوجب عليه أن يدخروه زادا لهم في عراقيل السبيل الى تحكيم الدولة الاسلامية على مرّ الزمن حتى تقوم الدولة الاسلامية العالمية زمن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

غزوة الأحزاب ـ في السنة الرابعة او الخامسة من الهجرة ـ كانت

٥٦

امتحانا للمؤمنين ، وامتهانا للمنافقين ، ومدحرة للأحزاب الكافرة التي استهدفت بتحزّبها الجماعي الجماهيري استئصال ناشئة الإسلام ، فاندحرت هي رغم عدّتها وعدتها الهائلة (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

لقد تحزب المشركون واليهود بأسرهم ، ومعهم اضرابهم من منافقين وسواهم تدخلا في حرب او تخلفا عن حربهم ، فحلّقوا على المدينة من فوق ومن أسفل حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظن ظانون بالله الظنونا ، وابتلي المؤمنين وزلزلوا زلزالا شديدا ، وقال المنافقون قولتهم وفعلوا فعلتهم ، وهنالك أدرك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين نصر من الله ف ـ (كَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ..)! :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٩).

في هذا العرض الوجيز تبدأ المعركة وتختم بعناصرها الغيبية الحاسمة لها لصالح المؤمنين ، و (نِعْمَةَ اللهِ) دون «نعمة من الله» توحي انها كانت لدنّية خاصة ، كأن نعمة النصرة الايمانية منحصرة فيها منحسرة عن سواها ، فهنالك هجمة الأحزاب (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ففاجأتها ما لم يخلد بخلدها (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) ـ وقد قال الرسول

٥٧

(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب : «الآن نغزوهم ولا يغزونا» (١).

وكيف تحزبوا ضد المؤمنين بكل طاقاتهم وامكانياتهم ، وكيف قتلوا وأسروا وحسروا وانحسروا دون حرب طاحنة؟ (٢) فهذه الآيات يقص

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٩٢ ـ اخرج احمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب : ..

(٢) علي بن ابراهيم القمي يذكر قصة الأحزاب بتفصيل يقول فيه .. فانها نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك ان قريشا تجمعت في سنة خمس من الهجرة وساروا في العرب وجلبوا واستفزهم لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوافوا في عشرة آلاف ومعهم كنانة وسليم وفزارة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين اجلى بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة وكان رئيسهم حي ابن اخطب وهم يهود من بني هارون فنجا أحدهم من المدينة صاروا الى خيبر وخرج حي بن اخطب الى قريش بمكة وقال لهم ان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا وأجلا بين عمنا بني قينقاع فسيروا في الأرض واجمعوا حلفاءكم وغيرهم وسيروا إليهم فانه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق وانا احملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ويكونوا معنا عليهم فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين وهو الموضع الذي يسمى بئر بني المطلب فلم يزل يسير معهم حي بن اخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه والعباس بن مرداس في بني سليم فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستشار ـ

٥٨

القصة كما يتضمن رءوس أقلامها وكما يضمن بقاءها على مدّ الزمن نموذجا بارعا من نماذج النصر ، كاشفة لهم من جوانبها ما لم يدركوها ، ويلقي

__________________

ـ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل فقال سلمان يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة ولا يمكنهم ان يأتونا من كل وجه فانا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أشار بصواب فامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحفرة من ناحية احد الى راتج وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه فامر فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وامير المؤمنين (عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعيي وقال : لا عيش الا عيش الآخرة اللهم ارحم للأنصار والمهاجرة فلما نظر الناس الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب فلما كان في اليوم الثاني بكروا الى الحفر وقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجد الفتح فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم يعمل المعاول فيه فبعثوا جابر بن عبد الله الانصاري الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلمه بذلك قال جابر فجئت الى المسجد ورسول الله مستلقي على قفاه ورداءه تحت رأسه وقد شد على بطنه حجرا فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه فقام مسرعا حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثم شرب ومجّ في ذلك الماء ثم صبه على ذلك الحجر ثم أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها الى قصور الشام ثم ضرب أخرى فبرقت برقة نظرنا فيها الى قصور المدائن ثم ضرب اخرى فبرقت برقة اخرى فنظرنا فيها الى قصور اليمن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اما إنه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ثم انهال علينا الجبل كما ينهال علينا الرمل فقال جابر : فعلمت ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقو اي جائع لما رأيت على بطنه الحجر فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل لك في الغذاء؟ قال : ما عندك يا جابر؟ فقلت : عناق ـ

٥٩

اضواء منها على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبّئات الضمائر ولكي يتدربوا ويتأدبوا بمعدات الحرب الدفاعية الوقائية كيفما كانت عدّة المهاجمين وعدّتهم وتلك نعمة منقطعة النظير في هكذا الخطر الخطير (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) من فوقكم ومن أسفل منكم .. (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) وابتليتم وزلزلتم زلزالا شديدا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) راحت بها راحتهم وانزاحت عدّتهم وعدّتهم (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وعلّهم رأوها وهابوها فانهزموا دون حرب طاحنة

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)

قد تكون هذه الريح ريح الصبا كما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) والجنود علّهم من الملائكة المردفين كما في آية اخرى.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(١٠).

(مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) هما جانبان من جوانب المدينة ، والمهاجمون على أحزابهم حزبان : اليهود والمشركون ، إذا فأحدهما (جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) والآخر (مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وطبعا المشركون من جانب مكة فهو جانبها الغربي : (مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) فأحزاب اليهود من

__________________

ـ الأنثى من أولاد المعز) وصاع من شعير فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم وأصلح ما عندك قال جابر فجئت الى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير وذبحت العنز وسلختها وأمرتها ان تجز وتطبخ وتشوي فلما فرغت من ذلك جئت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم.

(١) الدر المنثور ٥ : ١٨٥ ـ اخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.

٦٠