الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وهنا (بِإِذْنِ اللهِ) يخص (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) إذا تكوينيا وشرعيا لسبقهم سائر الخيرين في الخيرات وهو العصمة القمة المتعالية ، دون (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) حيث الظلم غير مأذون في تشريع ولا تكوين ، وكذلك «مقتصد» فان الله لا يقتصر من عباده بالاقتصاد في معرفته وطاعته!

فإذنه تعالى للسابق بالخيرات هو ارادة التطهير وكما في آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣ : ٣٣).

هنا «باذنه» وكما في الدعوة الرسالية : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٣٣ : ٤٦) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٢ : ٥١) كما و (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠ : ٣) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢٢ : ٦٥).

فهنالك للمصطفين السابقين إذن يخصهم ، تكوينا في عصمة وتشريعا

__________________

ـ الحسن (عليه السلام) فقال الرضا (عليه السلام) لا أقول كما قالوا ولكن أقول : أراد العترة الطاهرة ، فقال المأمون : وكيف أراد العترة الطاهرة؟ فقال له الرضا (عليه السلام) لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله تبارك وتعالى (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ..) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم ، فقال المأمون ، من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا (عليه السلام) : الذين وصفهم في كتابه فقال عز وجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهم الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض انظروا كيف تخلفوني فيهما ، ايها الناس لا تعلموهم فإنهم اعلم منكم.

٣٤١

في ولاية شرعية ، لا يعم سواهم فكما (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كذلك ورثة الكتاب طاعتهم مفروضة على من سواهم : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤ : ٥٩) الذين ولّوا وراثة الكتاب بعد وحيه الى الرسول ، فولوا ازمّة امور المسلمين كما ولّي!

ولان «سابق» مطلق غير محدد ، فسبقهم ـ إذا ـ مطلق غير محدد ، فهم السابقون على كافة المصطفين على مر الزمن في الاصطفاءات ، اللهم إلّا من اوحي اليه القرآن!.

ولأن «الخيرات» جمعا محلّى باللام تعم كافة الخيرات عدّة وعدّة ، فهي الخيرات المعرفية والعقائدية والعملية. أما هيه ، المعنية من (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) المسبوقة ب «انما» الحاصرة فيهم قمة العصمة الإلهية.

وليس السبق هنا زمنيا ـ إذ ليس له فضل على اللّاحق الأفضل ، بل هو سبق في الرتبة ، كما الرسول في كونه (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) مهما سبق في علم الله وتقديره سبقهم هذا!.

فهؤلاء الأكارم الذين أورثوا الكتاب بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سبقوا بعده كافة السابقين في ميادين الخيرات ومسارحها ، فلذلك يفضّلون على سائر النبيين في سابق الخيرات طول الزمان وعرض المكان!.

ترى ولماذا يتقدم في هذا العرض العريض ظالم لنفسه على مقتصد وهما على سابق بالخيرات ، والأخير متقدم في ناصية الآية (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ..)؟

انه بيان لطرف الاصطفاء ، تقديما للاكثر افرادا (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) حيث تربو سيئاته لنفسه على حسناته ثم «مقتصد» قد تتعادل سيئاته وحسناته ، ثم (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) المصطفين من بينهم إذ ليست لهم سيئات!

٣٤٢

و «ذلك» الوحي للرسول ، ثم «ذلك» الايراث لأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إذ لا يساوى ولا يسامى في تاريخ الوحي والرسالات والوراثات.

فحصالة البحث عن آية الوراثة ان «عبادنا» هنا هم اصحاب الجنة من المسلمين في درجاتهم الثلاث أدناها (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) دون من يظلم دين الله ويظلم عباد الله ، فهم هنا غير موعودين بالجنة ، مهما دخلوها بعد حسابات وعقابات ام لم يدخلوها ، كما (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) يلمح بمدى ظلم الظالم لنفسه ، وخروج الظالم لغيره ، حيث العفو عنه ظلم بغيره.!

فليس «عبادنا» هنا كافة المكلفين ، ولا كل المسلمين ، وانما المسلمون الذين مصيرهم الى الجنة.

والمقتصد هو المعتدل المتعادل في حياته ، لا ظالم لنفسه حيث يتبنى حياة العدل مهما ابتلى بلمم ، والسابق بالخيرات هم الرعيل الأعلى من المقربين المعصومين من امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم الأئمة الاثنى عشر سلام الله عليهم أجمعين.

فهم ورثة الكتاب روحيا في ولاية مطلقة شرعية ، وآخرهم القائم منهم يرث الكتاب زمنيا وروحيا : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ١٠٦)!

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)(٣٥).

٣٤٣

علّ حق الفاعل في (يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ) هم الوارثون للكتاب المصطفون ، فإنهم سابق الكلام ومحوره وانهم (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)!

ثم المقتصد الحزين بما قصر او قصّر : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ثم «ظالم لنفسه : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).

ف (قالُوا) ـ الى ـ (شَكُورٌ) لا تناسب ساحة السابقين بالخيرات فلا ذنب لهم حتى يغفر ، ولا حزن حتى يذهب فإنهم من أفضل من «لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)!

ثم (الَّذِي أَحَلَّنا ..) يناسب الطوائف الثلاث اجمع ، حيث الجنة ـ فقط ـ هي من فضل الله كما النار هي من عدل الله.

ويحلّون من التحلية : التزيين ، «من أساور» اعجمية من دستواره وهي زينة الايدي ، واللؤلؤ معروف كما الحرير و (دارَ الْمُقامَةِ) هي دار الخلود التي لا حول عنها ولا خروج ، والنصب : التعب في جوها ، واللغوب هي التعب في طلب الحاجة فيها ، خلاف الحياة الدنيا التي هي تعب على تعب ، ولغب على نصب.

ويا له من مشهد حنون ، فالجو كله يسر وراحة ، حتى الجو الموسيقي لجرس الألفاظ كله هادئ ناعم رتيب حتى الحزن بدل الحزن ، فضلا عن (دارَ الْمُقامَةِ) .. والى صفحة اخرى من مسرح الحساب :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(٣٧).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم الخالدون المؤبدون في النار إذ (لا يُخَفَّفُ

٣٤٤

عَنْهُمْ) والخروج عن النار من التخفيف فأين الظالمون لغيرهم مسلمين ام كفارا غير مؤبّدين؟ لا نجد لهم هنا ذكرا ولا هناك قضية التفصيل في موارده وهنا موقع الإجمال!

(لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) تحصر حظهم فيها ، فلا خروج لهم عنها ، إذا فهم اصول الكفر متبوعين واتباعا كما يلمح له «كل كفور» : غليظ الكفر وحضيضه ، دون المزيج الكفر بإيمان ، فان له نصيبا من الرحمة.

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) في النار ، دون اصل الموت ولو مع النار ، فان قضية العدل نهاية العذاب كنهاية الاستحقاق ، وأنهى النهاية للعذاب ان يموت المؤبدون مع النار ، فلا نار ـ إذا ـ ولا اهل نار! : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٤٣ : ٧٧) في النار ـ وطبعا ـ ما دامت النار.

(وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) تخفيفا في زمن العذاب ان يموتوا قبل تمامة ام يخرجوا ، ام تخفيفا في قدره وهم في النار ، ان يتعودوا العذاب ، فانه أشكال متلاحقة فلا تعوّد فيه يخفف به ، و (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) بالغ في الكفر نهايته ، فهو بالغ في العذاب نهايته جزاء وفاقا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) بصوت غليظ مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الدركات (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وترى ان «صالحا» لا يصلح تصريحا ل (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)؟ اجل! فلكي يزيحوا كل شبهة عن أمرهم يفسرون «صالحا» ب (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) لكي لا يفسر صالحهم هذا بما كانوا يرونه صالحا (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!

لا! وانما صالحا في الحق ، يختلف عن كل صالح في زعمنا وكل طالح في واقعنا فنصبح من الصالحين حقا!

٣٤٥

(رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢٣ : ١٠٠) وهنا الجواب الحاسم يحمل تنديدا صارما صارخا بالمصطرخين في الجحيم (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ..)؟

وهنا الواو تقتضي معطوفا عليه محذوفا مثل «ا لم نذكركم بكل حجة صارحة وبينة صارخة» (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ..)؟ فقاطع العذر ليس إلا أمران اثنان : (نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ـ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) فان جاء النذير ولم يفسح مجال للتفكير كمن عاش حين النذارة ساعات او أياما لا تكفي للتذكير ، فقد اعذر.

ام عاش حياة الذكر ولم يأته نذير فقد اعذر فضلا عمن فقد النذير وفسحة التذكير فهو اعذر واعذر!.

وعلى هذا الأساس فكلما كانت النذارة أقوى وفرصة التذكر اكثر واندى ، فالعذاب أوفر واشجى ، وكلما كان قاطع العذر أضعف فالعذاب أخف ام يعفى عنه كما في (الْمُسْتَضْعَفِينَ .. لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

فمن عاش جو الغفلة والتغافل ، بمظاهر الشهوات وجواذب النزوات يخفف عنه حسب خفة الحجة ، ومن عاش جو الذكرى بمديد العمر ولم يتذكر فلا يخفف عنه العذاب.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) المكلف العاقل ك «من تذكر» من المؤمنين (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) زيادة للتذكير «فذوقوا» عذاب السعير «فما للظالمين بحق الله وخلقه «من نصير» (١).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٦٦ ـ ابن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن احمد بن أبي عبد الله البرقي باسناده رفعه الى أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل «او لم ـ

٣٤٦

هناك «عبادنا» في اقسامهم الثلاثة ، وهنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) بنا وبعبادتنا لحد «الكفور» وبينهما عوان لم يذكروا ، وانهما صورتان متقابلتان ، فهناك مسرح لكل عناية وتبجيل ، وهنا كل نكاية وتخجيل ، وكل ذلك بعلم الملك الجليل :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨).

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) علم شامل دقيق لطيف ، يحيط بكتابي التكوين والتدوين وما في الصدور وتحتاجه الصدور ، وبذلك العلم الشامل يجري كل الأمور.

__________________

ـ نعمركم ..» توبيخ لابن ثماني عشر سنة أقول وعلّه اوّل توبيخ قارع حيث مضت عليه سنون ثلاث ، وليس هذا القدر كضابطة ، فقد لا يوجد ظرف الذكرى في ثلاثين وقد يوجد في يوم واحد ، وهذا الحديث ناظر الى الحالة الاكثرية في جو الذكرى. وفيه بسند له عن أبي بصير قال قال الصادق (عليه السلام) ان العبد لفي فسحة من امره ما بينه وبين أربعين سنة وإذا بلغ أربعين سنة اوحى الله الى ملكية اني قد عمرت عبدي عمرا فغلظا وشددا وتحفظا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره».

٣٤٧

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً

٣٤٨

فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً)(٣٩).

هذه اشمل آية في خلافة الأرض للإنسان ، تعم خلافة هذا النسل بأجمعه عمن سلفه وانقرض ، حيث تعني «كم» هذا النسل كله ، خطابا على وجه القضية الحقيقية ، دون الخارجية الخاصة بالموجودين زمن

٣٤٩

الخطاب ، وكما تلمحناه من آية الخلافة الاولى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢ : ٣٠).

كما وتعني ـ فما تعنيه ـ خلافة كل قرن من هذا النسل قرونا مضت ، وهنا تخص الخطاب ما سوى القرن الأول البادي لهذا النسل ـ وهو داخل في الخطاب الاول.

وكما للخلافة الاولى دلالة من آية البقرة كنص ، واخرى من هذه كمطلق ظاهر وفي الانعام (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (١٦٥) كذلك للثانية آيات عدة (١).

ثم وهامة هذه الخلافات هي الاخيرة ، المحلقة على كافة بني الإنسان طول الزمان وعرض المكان ، زمن القائم المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٢٧ : ٦٢)!

وانها خلافة عامة اسلامية سليمة تختلف عن كافة الخلافات ، حيث تطبق شرعة الله على ارض الله ، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أنصاره وأعوانه.

وان في تتابع الأجيال تلو بعض ، بانتهاء جيل وابتداء آخر ، وانتهاء دولة وقيام اخرى ، بانطفاء شعلة واتقاد اخرى ، ان في ذلك لآية لمن

__________________

(١) «ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (١٠ : ١٤) «وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» (١٠ : ٧٣) «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» (٧ : ٦٩) «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» (١٧ : ٧٤).

٣٥٠

القى السمع وهو شهيد ، ان لكل بداية نهاية ، فليستعد عاقل لكي يخلّد نفسه بعد النهاية ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)!

ومن شأن السائح في هذه الرحلة المتعاقبة المتخالفة ان يحسن ثواءه القليل ويترك وراءه الذكر الجميل. وان عجلة القرون المتتابعة سارعة متصارعة ، دون ان يحمل أهلوها إلّا التبعية الفردية (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) في أولاه وعقباه (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) مهما يزيدهم عند أنفسهم في الشهوات خبطا.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) عن ذلك المقت الناتج عن ذلك الكفر!

ان مقت ربهم في نفسه خسارة عليهم ، فلانهم ليسوا ـ هنا ـ ليشعروا مدى خساره ، فليثنّ بصراح الخسار.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً)(٤٠).

(.. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فضلا عن شرك في السماء ، فكيف ـ إذا ـ هم آلهة وليس لهم شرك في خلق لا في الأرض ولا في السماء ، فإنهم (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)!

الهم شرك.؟ فاروني (أَمْ آتَيْناهُمْ) أولاء المشركين «كتابا» فيه سماح للاشراك (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) فأروني؟ كلا! فلا واقع للشرك لا ملموسا برؤية ، ولا واردا برواية من كتاب وحي (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ

٣٥١

بَعْضُهُمْ بَعْضاً) فيما يشركون «إلّا غرورا» إذ لا يملكون حجة فيما يعدون «إلا غرورا»!

وإذ ليس هنالك كتاب من الله يسمح بذلك الإشراك ، ولا كتاب من الشركاء لرسلهم ، فيه دعوة إليهم ، فهذه الوهة فاضحة فاضية ، وليست الا غرورا!

كلّا! ليس هنا او هناك شرك ولا من قطمير في سماء ام في ارض ، بل :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١).

هذه! ولا ثانية لها إلا في الحج : (.. وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٦٥).

وإمساك السماوات والأرض ان تزولا ، يعم زوال الفناء ، وزوال السماوات وقوعا على الأرض ، وزوال الأرض سقوطا الى عمق السماء ، وزوال كلّ وقوعا لاكنافها بعضا الى بعض أما ذا من زوال؟

«ان الله» لا سواه (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) عن كل زوال عن حالتهما العامرة (وَلَئِنْ زالَتا) ألا يمسكهما الله وكفى (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) مسكة بعد الوقوع ام اشرافه ، فهو الممسك لهما وهو المزيل ، كما هو الخالق لهما دون اي بديل.

وصحيح ان ذلك الإمساك في كافة جنباته ليس إلّا بقدرته الخلاقة ، ولكنه عالم الأسباب ، يتطلب منه سببا في ذلك الإمساك ، وعلّه عمد لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢)

٣٥٢

إذا فثمّ عمد ولكن لا ترونها ، من عمد القوة الجاذبية أمّاهيه؟

إنه ليست السماوات والأرض ـ وهما الكون كله ـ كبناء يبنى فيبقى متماسكا ما له مسكة في أجزاءه ، إذ لا مسكة ذاتيا في أجزاء الكون ، لا في كونه ولا كيانه ، إذ ليس إلّا فقرا إلى الله ، فبمجرد تركه تعالى إمساكا لكائن في أية جهة ، فهو زائل من تلك الجهة دونما حاجة إلى إزالة.

فكما لا يملك أي كائن قبل تكونه شيئا من كونه وكيانه ، فهو الآن ـ بعد خلقه ـ كما كان ، دون أية غنى واستقلالية عن خالقه ولا قيد شعرة في آن من الأوان! سبحان الملك المنان!.

فالإمساك عن الزوال هو عبارة أخرى عن الإيجاد بعد الإيجاد ، استمرارية للكائن بعد تكوينه الاوّل ، كونا أو كيانا ، فما كان إمساكه للكون فالكون كائن ، فإذا زال زال ، زوالا على قدر زوال!.

فنظرة ناظرة إلى ناضرة السماوات والأرض ، أنهما لا تقومان ـ في ظاهر الحال ـ بعمد ، ولا تشدان بأمراس ، جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية الحفية ، القاهرة القادرة ، التي تمسكها عن أي زوال!

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤٢).

يروى أنه يبلغ قريشا قبل جيئة هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى

٣٥٣

من إحدى الأمم (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً)!

وهذا الوجه قد يقرّب لسابق ذكر المشركين ، وقد يبعّد لأن قريشا كانوا قوما ليست لهم سابقة الإنذار حتى يستقبلوا منذرا برحابة صدر ، وقسما بالله وهم مشركون!

إذا فهم أهل الكتاب : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢ : ٨٨) وبطبيعة الحال كفر الكتابي ـ ولا سيما في زيادة النفور ـ إنه أضل وأنكى.

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) هو مدى الطاقة والمشقة منها أن بالغوا وغلظوا في مختلف أيمانهم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) من النذر وقد (كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) فهم له منتظرون (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) لسابق الأنس بوحي الكتاب ، وسابغ البشارات بهذا النذير (.. أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ولماذا إحداهم؟ لا «كل الأمم» لأنهم أنفسهم الأمم الكتابية ، والمشركون هم أحدى الأمم ، إذا فهم المشركون ، دون اليهود والنصارى ، إذ ليسوا هم بإحدى الأمم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) وتباعدا وهروبا ، ولماذا ذلك النفور بعد جهد الأيمان وذلك الاستفتاح؟.

وقد تعني (وَأَقْسَمُوا) كليهما ، مهما كان أهل الكتاب أصلاء في ذلك المكر السيء والمشركون فروعهم!.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا

٣٥٤

بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(٤٣).

وإنه لقبيح ما أقبحه ، ومكر سيّئ ما أمكره ، أنهم بعد ما استفتحوا على المشركين وأقسموا بالله جهد أيمانهم : (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) فإنه مادة أصيلة لضلال المشركين ، أن لو كان خيرا لسبقونا إليه لسابق الوحي الكتابي لهم ، وسابغ إيمانهم!

ولم يكن ذلك النفور الزائد إلّا (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) كيف يأتيهم نبيّ إسماعيلي ويهدم صرح النبوة الإسرائيلية ، (مَكْرَ السَّيِّئِ) فالسيئ قد يسيء دون مكر فيجتنبه المتحري عن الحق ، ولكنه إذا مكر فوا ويلاه للبعيدين عن الحق ، حيث يتخذون ذلك المكر حجة على الحق ، فهو ـ إذا ـ المكر السيّء من ماكر سيّئ ، وهل يحيق المكر السيء بغير أهله ، من الله أو الرسول أو المؤمنين اليقظين؟ كلّا!

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) : ماكرا وممكورا ، فمن لا يمكر ولا يمكر لا يحيق به المكر السيّء ، فإن المؤمن هو الكيس الفطن ، لا يحار ولا يغار مهما كان المكر محيرا مغيرا! (١).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ) انتظارا ، بعد ذلك المكر السيء (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) من مكذبي النبيين ، سنة الله في إهلاكهم واستئصالهم؟ (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أن يجريها في الغابرين ، ويستثنيها عن الحاضرين ، فلا قرابة ولا نسبة لهم إلى ربهم يفقدها الأولون!

__________________

(١) الدر المنثور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إياكم والمكر السيء فانه لا يحيق المكر السيء الا باهله ولهم من الله طالب.

٣٥٥

فالنواميس الإلهية والسنن الربانية مطردة ماضية ، مستقبلة وحاضرة وماضية ، دون تبديل بغيرها ، ولا تحويل لها إلى غير أهلها ف (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)! (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥).

لقد سن الله سنة تكوينية لكل من الحسن والسوء ، والحسن والسيّء في النشأتين ، كضابطة سارية المفعول (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) إلى غيرها ، ثوابا إلى عقاب أم عقابا إلى ثواب (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) من أهلها إلى غير أهلها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!.

إن القرآن يقرر هذه الحقيقة حقها جهارا وتكرارا لكي لا ينظروا إلى الأحداث فرادى ام هي فوضى ، عائشين الصّدف والفوضويات ، وإنما هناك سنن ثابتة مطردة و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)!

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً)(٤٤).

وإذا لم يذكروا بما جاءهم من نذير فكذبوهم بكل نفير (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) في تاريخها الجغرافي وجغرافيا التاريخي «فينظروا» بصرا وبصيرة أحوال الماضين (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في تكذيبهم رسلهم «و» قد (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في أموال وأولاد ومادية الأحوال (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) حتى ولو كانوا ـ هم ـ أقوى من الذين من قبلهم وهم أضعف منهم (.. مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) كيف يعاملهم «قديرا» بما ينتقم منهم.

٣٥٦

فالأرض بأكنافها الواقعية والتاريخية كتاب مفتوح ... لكل سائر فيها ، وهي من الآيات الآفاقية القريبة إلينا فلما ذا التغافل عنها؟ ثم وأرض القرآن أصدق عرض لتأريخ الغابرين (١) تجاوبا رائعا بين أرضي التدوين والتكوين في ذلك العرض المتين!

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥).

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١٦ : ٦١).

«ولو» عرض لواقع استحقاق عذاب الظالمين ومداه ، (يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) ـ بظلمهم» مؤاخذ العقاب ، لا ـ فقط ـ العقاب ، فانه ملئ الكتاب ، فلو جعل الله دار العمل هي دار الجزاء (ما تَرَكَ ..).

وترى هؤلاء الظالمون يؤاخذون فما بال غير الظالمين من الناس وما بال سائر الدواب على ظهر الأرض؟!

إنه بالنسبة لغير الظالمين فتنة غير عذاب ، ولهم عذاب فوق

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٦٧ ـ القمي عن الكليني بسند عن أبي الربيع الشامي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (قُلْ سِيرُوا ..) فقال : عنى بذلك انظروا في القرآن فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم وما أخبركم.

٣٥٧

عذاب : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(٨ : ٢٥).

ثم هو بالنسبة للدواب على ظهرها لا فتنة لها ولا عذاب ، وإنما عذاب للظالمين حيث يفقدون منافع لهم منها كما يفقدون أنفسهم ، حيث الأرض بما فيها مخلوق لهم : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩)

ففي آيتي الفاطر والبقرة تجاوب لطيف حفيف ، عرضا للأرض بما فيها لاستثمار إنسان الأرض كما يرضاه الله ويصلح حيوية إنسانية تضم سائر مصالح الإنسان دنيوية وأخروية.

ثم وآية الفاطر والنحل تتجاوبان في ضخامة الظلم والطغيان للإنسان ، أن لو يؤاخذهم الله بظلمهم وما كسبوا لما ترك على ظهرها من دابة ، فإنه عذاب شديد يعم الأرض ويطمّها ، ويقلّبها ظهر بطن ، وذلك هو طبيعة العذاب والدار واحدة ، ولكن أرض الجنة والنار متباعدتان!

ولكنه (يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) حيث الدنيا دار عمل ولا جزاء ، وأنّ في استئصال غير الظالمين وسائر الدواب ظلما وما الله يريد ظلما للعباد!

لذلك تراه يبدأ ب «ولو» تأشيرا بشيرا بالامتناع ، ثم نذيرا بمستقبل العذاب (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو القيامة الكبرى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) الظالم منهم والمظلوم ، ثم يجزون بما كانوا يعملون!

وهذا هو الإيقاع الأخير ، البشير النذير ، في هذه السورة بنهاية

٣٥٨

الحياة والحياة النهاية ، وكما بدء ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ..) حيث يحملون رسالات السماء تذكيرا لسكنة الأرض ، وبين المبدء والختام تلك المسارح المصارح من حوار وحجاج ، وسير في الآفاق والأنفس ولكي يعرفوا المبدء والختام.

٣٥٩

سورة الاحزاب : احزاب صالحة وطالحة ـ تقوى النبي............................ ١٠ ـ ١٩

قلبين في جوفه؟ جاهلية الأدعياء!........................................... ١٩ ـ ٣١

الولاية الشرعة المطلقة للنبي ، لا تكوينية ولاتشريعية ـ الولايات العشر؟............ ٣١ ـ ٤٢

نطاق الأولوية في أولي الأرحام وأبعادها ـ ميثاق النبيين؟......................... ٤٢ ـ ٥٤

حرب الأحزاب بحذافيرها ـ هنالك ابتلي المؤمنون ..! موقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض ـ الرسول الأسوة؟ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه......................................................................... ٥٥ ـ ٩٠

تخلفه عارمة في نساء النبي ـ نصايح وتهديدات لهن ـ مضاعفة العذاب والثواب..... ٩٠ ـ ١١٤

آية التطهير في قول فصل ـ المعنيون من اهل البيت خمسة في التنزيل واربعة عشر في التأويل ـ قرابة ألف راو لنزولها فيهم في مائة كتاب..................................................................... ١١٤ ـ ١٣٨

زواج الرسول بحليلة زيد في قول فصل ـ لقد كان واجبا رساليا حيث فرض الله له ـ خاتم النبيين؟ ١٤١ ـ ١٦٠

من اختصاصات النبي في الزواج والأزواج................................... ١٧٦ ـ ١٨٨

الداخلون بيوت النبي؟ كيف نصلي عليه وما هو التسليم.................... ١٩١ ـ ٢٠٦

... يدنين عليهن من جلابيهن ..؟ كأنها أولى آات الحجاب! عرض الأمانة وخيانتها من الإنسان الظلوم الجهول؟       ٢٠٩ ـ ٢٢٢

سورة سبأ : من آبات کروه الآرض ونظرات حولها.......................... ٢٣٥ ـ ٢٣٩

داود وسليمان بميزات رسولية ورسالية..................................... ٢٤٠ ـ ٢٥٣

سبأ في مسرح الفرح والشرح............................................. ٢٥٥ ـ ٢٥٩

إنما أعظمكم بواحدة؟ ليس اجر الرسالة إلاّ لهم!........................... ٢٧٧ ـ ٢٨٢

سورة فاطر : اجنحة الملائكة؟........................................... ٢٩٠ ـ ٢٩٥

كيف «اليه يصعد الكلم الطيب ..»؟ «والعمل الصالح يرفعه»!............. ٣٠٩ ـ ٣١٢

ذاتية الفقر للناس وكل الكائنات.......................................... ٣٢٠ ـ ٣٢٤

من هم روثة القرآن المعصومون؟.......................................... ٣٣٦ ـ ٣٤٣

فسخة زمن التكليف للمسئولين يوم الدين ـ موت الخالدين في النار مع النار ـ الناس هم خلائف الأرض؟      ٣٤٤ ـ ٣٥١

كيف «لو يوآخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة»؟............. ٣٥٧ ـ ٣٥٩

٣٦٠