الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

حيث تبيد ، اللهم إلّا من يهدوننا الى الله زلفى باذنه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)!

وهكذا تصنع آية من القرآن العظيم من يتعاملون مع الحقيقة التي يمثلها ، دون إخلاد الى جمال الألفاظ ـ فقط ـ ام كمال المعاني فحسب ، طالما يتذرعون هذه وتلك الى تمثيل القرآن في واقع الحياة بكل جمال وكمال!

وهذه الآية ـ ومعها سائر القرآن ـ هي بنفسها تكفي رحمة لا تبقي على رحمة حيث تسكب في القلب رحيقها بحقيقتها المجردة ، فها هي نموذج من رحمة الله لا ممسك لها ، الّا عمن اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، إذا فهو فيهم وليس فيهم ، يموتون عطاشا وهم يعيشون شاطئ بحره ، وخضم قعره ، و «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه»! (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ويا ليتنا نذكر نعمة الله المتواصلة ، ورحمته المتآصلة غير المتعاضلة دون غفوة عنها ولا غفلة بوضمة عين ونبضة قلب :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣).

«الناس» هنا كل الناس من ناس ونسناس حسب مختلف الدرجات والدركات «اذكروا» لا بلفظة لسان ، بل بالأعمال والجنان (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ومنها انه منحنا بخطابه الكريم ، وقرآنه العظيم ، وفطرنا على توحيده ، ورزقنا من آيات آفاقية وانفسية رخيّة ندية ، نتذكر بها نعمة الله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)؟ فان معرفة الخالق بالوحدانية أعظم نعمات الله ورحماته!

ف «هل» سؤال من قرارات النفوس : عن فطرة ساذجة وعقلية

٣٠١

ناضجة غير مارجة ولا مازجة ، فهنا الجواب : كلا يا الله!

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) و «من» هنا لها موقعها المكين ، والقول إنها زائدة قولة زائدة مايدة ، حيث تجتث هنا كون اي خالق إلّا الله ، حتى من قد يسمى خالقا في كلام الله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) فان «اذني» يخرجه عن حق الخالقية وحاقها ، فانما هو خلق «باذني» وليس دونه خلق حتى كهيئة الطير دون روح!

ومن شؤون الخالق ان يرزق الخليقة ، ف (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ ..) وإذ ليس غيره خالق ، ولا غيره رازق (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) صرفا الى غير الخالق الرازق وهو مخلوق مثلكم مرزوق؟!.

... (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ :) رزقا للأرواح والأجساد ، فمن سماوات الوحي ترزق أرواحكم ، ومن الأرض وسماء الأرض ترزق أبدانكم!

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خالقا ورازقا (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون كذبا وخداعا ، الى من لا يملك خلقا وهو يخلق ، ومن لا يملك رزقا وهو يرزق؟! (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)!

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤) :

لا تأسف على تكذيبهم ، فقد كذبوا رفاقك من قبل ، وما أنت الّا رسول ، : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٦ : ٣٤)!

٣٠٢

ثم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تصديقا وتكذيبا وجزاء وفاقا ، دونك والذين من قبلك!

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٥).

(وَعْدَ اللهِ) ليوم الحساب ، والجزاء الوفاق «حق» ثابت لا حول عنه ولا تبديل ، الا عجزا او نسيانا ، ام ظلما وعدوانا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)!

وذلك الوعد الحق لا بد لكم ان تعيشوا ذكراه في حياة النسيان ، وحذار حذار (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عن الوعد الحق (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) في توحيده ووعده الحق «الغرور» الذي يعيش غرورا وتلبيسا ، والشيطان هو رأس زاوية الغرور بذريعة الحياة الدنيا «الغرور» والنفس الأمارة بالسوء «الغرور» فحذار حذار من ثالوث الغرور ، الحائر محور الحياة الدنيا ، فانها هي دار الغرور ومجالة الغرور : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٣ : ١٨٥) و (... مَتاعُ الْغُرُورِ) (٥٧ : ٢٠) و (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (٨٧ : ٢٠). ويا له من ثالوث منحوس يثلث ذكره في الذكر الحكيم (٣١ : ٣٣ و ٥٧ : ١٤) وانها لمسة وجدانية صادقة حين يستحضر الإنسان صورة المعركة الصاخبة الدائبة بينه وبين عدوه الشيطان :

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)(٦).

فحين ذكراه يتحفز بكل قواه للدفاع عن نفسه ونفيسه ، دفعا عن كل غواية وإغراء ، مستيقظا مداخل الشيطان الى نفسه ، متوجسا من كل حادثة

٣٠٣

وهاجسة ليعرضها على حجة الله ، فعلّها خدعة مستسرة من عدوه القديم. استعدادا دائبا لخوض هذه المعركة المصيرية (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)!

أمن العقل ان يتخذ العدو صديقا ، اغترارا متواصلا متأصلا بغروره ، وقد غر من قبل أبوينا الأولين (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ)! (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) كما أعلن منذ البداية ، ووعد مواصلة العداء حتى النهاية : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) إذا (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) مبدئيا لا طارئا قد يصادق بعد ما يعادي «إنما» ليس إلّا (يَدْعُوا حِزْبَهُ) وهم كل من ينغر بغروره (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).

فهنالك حزبان : حزب الله وحزب الشيطان ، وبينهما عوان مذبذب هو ايضا من حزب الشيطان ، حيث الذبذبة دعوته وكيانه ، ماهيته وبيانه ، اللهم الا من يعيش حياة الايمان فهو من حزب الرحمن مهما نال منه الشيطان إذ لا يخلو منه انس ولا جان ، إلّا المخلصين من عباد الله فليس له عليهم من سلطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

قاعدة مطردة عادلة صارمة للذين كفروا وماتوا كافرين ، والذين آمنوا وماتوا مؤمنين ، إلّا أن العذاب الشديد لا يربو شد الكفر ، أو قد ينقص ، ومغفرة واجر كبير يربوان شدّ الايمان ، قضية العدل هناك والفضل هنا (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)! (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨).

٣٠٤

أترى من ذا الذي يزين سوء العمل ليرى حسنا وهو إضلال؟ ام لا يزين فهو هدى؟ (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُ .. وَيَهْدِي ..)! وذلك التزيين إضلال هو في الأصل من الشيطان حين يرى له ظرفا قابلا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) واضرابهم : (.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٢٩ : ٣٨).

ثم الله لا يهديهم في هذه المعركة لأنهم هم السبب فيها مستبصرين ، فيذرهم في غيّهم يتيهون جزاء بما كانوا يعملون.

إذا فللتزيين هنا نسبتان ، نسبة الى الشيطان تعاملا مع الذين كفروا ، ونسبة الى الرحمن حيث لا يحول دونه وإياهم (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) (٢٧ : ٤).

فلكل من الخيرات والشرور نسبة الى الله عدلا او فضلا ، مهما تنسب الى فاعليها خيرا أو شرا (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

ولعمر الله ان ذلك مفتاح الشر كله ان يزيّن للإنسان سوء عمله فيراه حسنا ، معجبا بنفسه وكل صادر منه ووارد له ، فلانه واثق من عمله فلا يفتش عنه ولا عن مصدره ومورده ، فهو من الأخسرين أعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

وانه باب فسيح للشر كله ، ونافذة السوء كله ، ومفتاح الضلالة كلها ، نموذج الضال الهالك ، البائر المائر ، السائر الصائر الى شر مصير (جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

ورغم ان من كمال الإنسان التدرج الى كمال وأكمل ، وليس ذلك إلّا ان يعيش نقدا بكل يقظة في أموره ، فالذي يرى كل اعماله

٣٠٥

حسنة ، ليس ليخلد الى خلده نقص وخطأ ، فهو مكبّ على وجهه ، مخلد إلى نفسه ، واقف لحدّه السيء البئيس ، وهو يراه الحسن النفيس!

فيا ويلاه حيث يهبط الإنسان الى ذلك الدرك المهين والضلال المبين ، وذلك بما قدمت يداه وان الله ليس بظلام للعبيد!.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ

٣٠٦

فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)

جولات متتابعة في مسارح من الكون هي مصارح تعرض للبصائر بالأبصار ، تدليلا لتوحيد المبدء ، وتوطيد المعاد.

ففي مشهد الحياة النابضة بعد الموت ، الناهضة المتواترة المتقاطرة على ذوات الميتات الارضية حجة. :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٩).

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٧ : ٥٧) ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا

٣٠٧

أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٠ : ٥٠).

هنا «أرسل» ماضيا ، ضاربة الى اعماق الماضي منذ خلقت الأرض والسماء وعمّرتا ، وقبل خلق الإنسان فهو الآن أحرى ، وفي الروم والأعراف «يرسل» تدليلا لاستمرار ما مضى ما هما عامرتان ، فذلك إرسال في مثلث الزمان!.

ثم الرياح منها مغيرة آية العذاب كريح صرصر في ايام نحسات سببا لموتات نحسات ، ومنها مثيرة تثير السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) و (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لحياة وحياة!

فالرياح المغيرة ترسل الى بلد حي للإغارة والموت ، والمثيرة (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) لإثارة الحياة ، ف «الى» هنا تهدف صالح البلد كما تلمح له «البلد» في الأعراف.

والسحاب هو المسحوب من ابخرة المياه الأرضية ، تسحب الى جو السماء ، ثم الرياح الساخنة تثيرها ، ثم الباردة تقلها سحابا ثقالا حيث تثقلها وتكثفها ، ثم بالتيارات الجوية في مختلف طبقاتها تساق لبلد ميت اليه (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)!

دليل واقعي مكرور امام الأعين غير منكور ، فكيف ينكر هؤلاء حياة النشور؟! فكما الله يعلم ميت البلاد فيحييها ، كذلك يعلم ميت العباد فيحييهم وأحرى (كَذلِكَ النُّشُورُ) فالعلم هو العلم والقدرة هي القدرة وإذا كان إحياء البلاد هنا فضلا يجوز تركه ، فإحياء العباد عدل لا يجوز تركه (كَذلِكَ النُّشُورُ)!.

٣٠٨

هذا! والى نقلة من حياة الجسم الى حياة الروح وهي أنبل وأحرى (١) :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)(١٠).

الحياة الدنيا بزهراتها وشهواتها هي حياة الغرور الممر الهزة ، والحياة العليا الزاهرة هي حياة المقر العزة ، فخذوا من ممركم لمقركم ، ومن هزتكم لعزتكم!

فالعزة بحق المعني من الكلمة هي لله جميعا ، إلّا من يعتز بالله فعزيز بالله على قدره : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).

و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) في اعماق الزمان والمكان أيا كان وأيان ، فان «كان» تستأصل كل آصله وحاصلة ومستقبلة ، فارادة العزة أينما حصلت طول الزمان وعرض المكان (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) فلتطلب منه العزة لا سواه ، فالعقيدة الوثنية المتحللة عن التوحيد ، المهلهلة ، ليست لتحصل على أية عزة.

__________________

(١) الدر المنثور بسند عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يحيى الله الموتى؟ قال اما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال : بلى قال : كذلك يحيى الله الموتى وكذلك النشور والقمي في (كَذلِكَ النُّشُورُ) حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا أراد الله ان يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

٣٠٩

وارادة العزة قد تعني ارادتها لنفس العزيز (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) إذ يعز من اعتز به! وأخرى تحرّيها لمن يعبد عزيزا (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) فله العبودية والطاعة جميعا! وأما إرادة العزة الإلهية ان تحصل للعبد كما هي لله فمستحيلة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) لا تعطى لسواه!.

فان (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) لا سواه (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) لا سواه ، فالعزة جميعا هي لله لا سواه! والكلم اسم جنس جمعيّ يذكّر مرة ويؤنث اخرى ، وهكذا يكون كل جمع لا يختلف عن واحده إلّا بالتاء. ولان الله تعالى ليس له مكان عل فلا يعني صعود الكلم الطيب اليه امّا هو ، صعودا من سفال الى عل في المكان ، فانما هي المكانة العالية له على كل من سواه وفي ذاته المقدسة ، فكل شيء لديه سفل وهو ـ فقط ـ العال. إذا فصعود الكلم الطيب اليه هو صعود في المكانة سماع القبول ، انه يبلغ رضاه على مداه وينال زلفاه دون ضياع ولا إهمال ولا ذرة مثقال.

صعودا إليه يوم الدنيا هكذا ، مهما يملك فيه سواه ما يملكه ، وصعودا إليه في الأخرى إذ لا يملك الحكم فيه إلّا الله! فعبثا يحاولون من يعبدون إلّا الله في كلماتهم واعمالهم ونواياهم ، زعم انها واصلة الى معبوديهم لأنهم لديهم فإنهم : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)! إذا ف (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) دون سواه ، فعلينا الّا ندعو إلّا إياه ولا نرجو الّا إياه :

هنا كلم ونية ومعرفة وتصديق وعمل وتعامل مع الواقع ، هي لزام بعض البعض في تبنّي الطيب ، فما هو ـ إذا ـ الكلم الطيب؟ الطيب هو ما يستطاب في ميزان الحق ، فالكلم المستطاب لله ، وهو طبعا مستطاب لقائليه وسامعيه الطيبين ، انه في مثلث من الطيب وهو كماله وتمامه ، مهما

٣١٠

كان رأس الزاوية ـ وهو تمام الزوايا ـ هو الله. ولا يستطاب الكلم في الحق تماما ، الّا بنية صادقة ، ومعرفة فائقة ، وتصديق لائق وعمل مصدّق ، وتعامل مع الواقع ، وآخر المطاف في طيب الكلم هو العمل وفقه.

صحيح ان الكلم الطيب دون العمل تخطى منازله إلا العمل ، ولكن الذي يرفعه هو العمل الصالح : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وفاعل الرفع للكلم الطيب هو العمل الصالح ، ومهما كان حق الفاعل هو الله ، فلا يرفعه الله الا بالعمل الصالح.

فالكلم ما لم يزود بزاده هو خبيث مهما اختلفت دركات خبثه حسب الدرجات ، فان العمل الصالح هو الذي يرفعه فالعمل الطالح يضعه (١) والحالة العوان ، لا إليه ولا الى ضده عوان بين رفعه ووضعه. وكلما زاد صلاح العمل زاد الكلم ارتفاعا ، كما كلما زاد طيب الكلم زاد صلوحا للارتفاع : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ..) (٥٨ : ١١).

ومن طبع الكلمة الطيبة ان ترتفع ثابتة دون زوال ، حتى يتلوها العمل الصالح فارتفاعا فوق ارتفاع : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها.) (١٤ : ٢٤).

وكلما كان الكلم الطيب أسعد ، فهو بطبيعة الحال اصعد ثم ارفع ،

__________________

(١) في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان لكل قول مصداقا من عمل يصدّقه او يكذّبه فإذا قال ابن آدم وصدق قوله بعمله رفع قوله بعمله الى الله وإذا قال وخالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث وهوى به الى النار.

٣١١

فالكلم الطيب الذي يطيب الجماهير المحتشدة ، دون اختصاص بمكلّمه ، صعودها وارتفاعها هما بميزانية آثارها قضية الجزاء الوفاق وعند الله مزيد.

ورأس الزاوية في (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(١) ثم يتلوها (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ومن ثم تتمة الولاية التوحيدية وهي الزاوية الثالثة ولاية علي (عليه السلام) والأئمة من ولده الطاهرين (عليهم السلام) (٢)

فالكلم الطيب هو «الولاية» بصورة مطلقة ، الشاملة لهذه الثلاث ، وكل كلم طيب يتبنى التوحيد كأصل ، ومن ثم المعاد وهو لزام التوحيد ، كما النبوة ، ثم الولاية الرسالية المتمثلة فيمن يحملونها كما هي. إذا فالكلمة

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٥٨ ـ الطبرسي في الاحتجاج عن الأصبغ بن نباتة عن امير المؤمنين (عليه السلام) وقد سأله ابن الكوا قال : يا امير المؤمنين كم بين موضع قدمك الى عرش ربك؟ قال : ثكلتك أمك يا ابن الكوا اسأل متعلما ولا تسأل متعنتا ، من موضع قدمي الى عرش ربي ان يقول قائل مخلصا (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)! قال : يا امير المؤمنين (عليه السلام) فما ثواب من قال : لا اله إلا الله؟ قال : من قال : لا اله إلّا الله مخلصا طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرق الأبيض ، فإذا قال ثانية : لا اله إلّا الله مخلصا خرق أبواب السماوات وصفوف الملائكة حتى تقول الملائكة بعضها لبعض : اخشعوا لعظمة الله ، فإذا قال ثالثة مخلصا لم تنته دون العرش فيقول الجليل اسكني وعزتي وجلالي لأغفرن لقائلك بما كان فيه ثم تلا هذه الآية (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يعني إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله وكلامه.

(٢) المصدر عن الكافي بسند عن الامام الرضا (عليه السلام) في الآية قال : الكلم الطيب هو قول المؤمن لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله وخليفته حقا وخلفاءه خلفاء الله والعمل الصالح يرفعه فهو دليله وعمله واعتقاده الذي في قلبه بان الكلام صحيح كما قلته بلساني.

٣١٢

الطيبة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هي الكلم ، حيث تجمع في حقها وحاقها كل الكلم الطيب.

ف (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) فها هي في الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، عزة الحظوة المعنوية ، وعزة الزلفى الى مبدء العزة ومنشئها.

والعرش بمكانه ومكانته هو مصعد الكلم الطيب كما هو مصعد الملائكة : «ولو لا إقرارهن له بالربوبية وإذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه ولا مسكنا لملائكته ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه» (١).

فليست العزة عنادا جامحا على الحق ، جانحا غارقا في انانية الشهوات ، ضاربا في كل عتو وتجبر واستكبار ، فانها تنازلات عن صراط الانسانية الى حمأة الحيوانية النكراء!

انما العزة هي الاتصال بمعدن العزة غير المحدودة ، بالتقرب اليه والزلفى لديه ، في سلب مطلق «لا اله» سلبا لكل عبادة وخشوع وخنوع آفاقية وأنفسية ، ثم إيجاب مطلق «الا الله» فلا يعبد إلّا إياه ، ولا يطيع الا إياه ، هنالك ترتفع الجباه صامدة في سجودها لله ، متعالية عن الخنوع لغير الله!.

هذه هي العزة وهؤلاء هم الاعزة! لكن :

(... وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)(١٠).

__________________

(١) في نهج البلاغة عن الامام علي (عليه السلام) وضمير الجمع في إقرارهن راجع الى السماوات.

٣١٣

هنا (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) وهناك (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) دون مكر ، وهنالك حسنات هي ـ بطبيعة الحال ـ خالية عن كل مكر ، حيث المرائي في حسنات ليست حسناته حسنات.

(يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) ابتغاء العزة منها وهي ـ في الحق ـ من اسباب الذلة ، و (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) إراءة للضعفاء والمستضعفين انها هي اسباب العزة ، ذلك المكر الماكر يجعل من سيئاتهم عقبات متعديات ان يضل بها من لا يعقلون ، ويغتر بها من لا يشعرون وهنالك الطامة الكبرى!

لفاعل السيئات غفران ام عذاب غير شديد ، ولكن ماكر السيئات له عذاب شديد (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) بائر غير سائر إلّا ردحا من زمن الامتحان (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)!

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(١١).

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) هل تعني خلق الإنسان الاوّل وزوجه فاننا خلقنا بخلقهما و (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) تعني خلق سائر الإنسان إلا أبوينا الأولين؟ وقد يبعده (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) حيث الزوجة ابتدأت منذ الأولين المخلوقين من تراب! او تعني «خلقكم» كل الخلق أولا وأخيرا (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إلّا الأولين ، ولكن (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) توخر الزواج عن الخلق من نطفة ، فتخرج الزواج الاوّل!

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) بعد (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) تختص الزواج بغير الأولين كما النطفة ، ولكنهما لا تخصصان (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) بالأولين ، حيث

٣١٤

النطفة ايضا مخلوقة من تراب ، مهما اختلف تراب عن تراب ، وتؤيده آيات خلق الإنسان ـ ككل ـ من تراب او طين (١) :

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) عنصر ميت في أصله ، حي في نسله منذ النطفة حتى الجنين حيث تتم الحياة الانسانية ، فمن اين أتت هذه الحياة وكيف وأنى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)!

فالنقلة من حياة الى حياة ارقى هي قريبة ، ولكنها من موت الى حياة بعيدة غريبة ، إلا أننا نعيشها على مر الزمن ، (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)!

ثم هذه النطفة في صورتها الوحيدة ، وهيدة لانقسامها الى ذكر وأنثى (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ـ سبحان الخلاق العظيم! ومن ثم حمل الأزواج بكمه وكيفه ليس إلّا بعلمه (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) والنص في إطلاقه العام يتخطى أنثى الناس الى كل أنثى ، و «من» هنا تأكيد مستغرق للنفي وهو العام المستغرق لكل أنثى :

من حيوان البر والبحر والجو ، ومن الزواحف والحشرات ما تلد وما تبيض ، فالبيضة حمل من نوع خاص إذ لا يتم نموه داخل الجسم ، بل ينزل بيضة ثم يتابع نموه خارج جسم الام بحضانتها ام حضانة صناعية اما هيه؟ حتى يصبح جنينا كاملا ثم قفسا ومتابعة لسائر نموه الحيوي! فكل حمل وكل وضع هو بعلمه كما هو بقدرته ثم :

__________________

(١). «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً» (١٨ : ٣٧)؟ «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» (٣٠ : ٢٠) «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ..» (٤٠ : ٦٧) «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ..» (٢٢ : ٥)

٣١٥

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ..) وهو اللوح المحفوظ ، دون كتاب المحو والإثبات ، حيث الآية تنحو منحى العلم الثابت ، ان يعمر معمر عمره حتى الأجل المحتوم ، او ينقص من عمره لأجل معلق ، و «عمره» هو المحتوم لا يزيد عليه وقد ينقص.

«ان ذلك» البعيد البعيد ، العسير العسير هو (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وأنتم تعيشونه طول الحياة وعرضها ، فباحرى «ان ذلك» الرجع في الاخرى (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) بل هو أهون عليه.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٢).

كما البحران مختلفان في الصورة ، متفقان في سيرة الرحمة النافعة المترعرعة اليافعة ، فهما معنيان لوحدة الفائدة ، كذلك الموت والحياة ، ففي كلّ عائدة ، مهما كانت بعد الموت زائدة خلاف ما يزعم من صورته.

فالبحر العذب : المستطاب ، الفرات : الذي يروّي العطشى بساهل انحداره في الحلوق ، وبارد طبعه وعذوبته ، والبحر الملح : غير المستطاب للشراب ، الأجاج الحارق الحلوق لملوحته المرة ، هما على حالتهما المتضادة ـ مع بعض ـ من نعم الله حيث يلتقيان بتسخير المنان في خدمة الإنسان : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٦ : ١٤).

والبحران قد يعنيان ـ ضمن ما يعنيان ـ مثل المؤمن والكافر ، حيث العناية في بقاء الكافر رغم كفره قد تكون لما يخرج منه المؤمن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) و (كَذلِكَ النُّشُورُ) إذ يخرج الله الاحياء من الأموات كما اخرج الأموات من الاحياء!

٣١٦

ارادة التنويع في خلق الماء بواقعها ظاهرة ، ووراءها حكمة ظاهرة في العذب الفرات ، باطنة في الملح الأجاج ، فمهما كان العذب الفرات سائغا شرابه ، ولكن الملح الأجاج سائغ فائق لحمه وحليه ، وان كان (مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) واين حلية من حلية ولحم من لحم؟

و (لَحْماً طَرِيًّا) هو الأسماك المحللة دون لحوم البحر كلها حتى الكلاب والخنازير ، فانها حرمت بالسنة القطعية ، و (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) هي اللؤلؤ والمرجان : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٥٥ : ٢٢)(١).

(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) ـ (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) (١٦ : ١٧) والمواخر هي المشاق حيث الفلك تشق البحر وكأنها أصبحت «فيه مواخر فيه» حيث الأمواج الهائجة تجعل الفلك في خضمّها وهي غائبة غارقة فيها ، وكل ذلك (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(١٣).

«يولج» ايلاجا واقعيا حيث يلج من أفق الليل في أفق النهار شتويا ، وعكسه صيفيا ، وآخر في المنظر حيث يلتقيان فجرا ومغربا ، ففي مشهد

__________________

(١). راجع تفسير «الرحمن» في الفرقان ٢٧ : ٢٨ ، تجد فيه تفصيل خروجهما من البحرين باختلاف الكم والكيف ، وان البحرين يشتركان في وجود اللؤلؤ والمرجان فيهما كما ويصدقه العلم الباحث عنه الكاشف له.

٣١٧

ولوج الليل في النهار وعكسه وكأنما هناك عراك بين عسكر الليل والنهار ، والفتح والفلح لعسكر الليل أحيانا ولعسكر النهار أخرى.

وفي الولوجين منظرا وواقعا آية لكروية الأرض ، وإلّا فليكن ليلا كله او نهارا كله!

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ادارة لهما وسيرا كما سخر لادارة الكون قدر ما قدّر.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) دون من تدعون (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وهو اثر على رأس النواة ، مثلا للصغر.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤).

لا سماع لدعاء ممن لا سمع له كالأوثان ، والذي يسمع كالطواغيت ليس ليسمع اجابة ، ولو سمع ليس بامكانه اجابة ، ثم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) «و» هنا «لا ينبئك» بهذه الحقيقة المرة «مثل» القرآن ونبيه «خبير» بواقع الأمور وعواقبها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ

٣١٨

بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)

٣١٩

ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥)

تعريف الخبر «الفقراء» هنا يعني كونه معروفا فلا يخبر به إلّا للتنبيه ، ومن ثم القصر كأنهم هم الفقراء لا سواهم كما (اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) يحصر الغنى في الله. بيان ناصح ناصع لكيان الناس وهم في احسن تقويم ـ إذا ـ فما هو كيان من دونه في سائر التقويم؟ فهو حجة قارعة لفقر الكون كله ، وليس إلا الى الله الغني الحميد ، تقريرا لكلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) نفيا لاي غنى عن سائر الكون ، ثم اثباتا لكل غني لخالق الكون!

وترى لماذا الحصر (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) كأن سواكم من الخلق أغنياء ، ام ليسوا بفقراء الى الله؟ علّه لما كان المشركون يزعمونهم أغنياء في أنفسهم بآلهتهم ، والله هو الفقير إليهم إذ يدعوهم إلى عبادته : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ...) (٣ : ١٨١) (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٥ : ٦٤).!

لذلك يرد عليهم بمعاكسة (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) لا (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)! فأنتم محصورون في الفقر لا ان الفقر محصور فيكم.

ثم ذلك الفقر الفاقر ضارب الى الأعماق لحد كأن ليس كيان الإنسان إلّا فقرا : (الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) لا ان هناك انسان ام أيا كان له الفقر الى الله ، بل هو بذاته الفقر الى الله بذاته الغني ، دون امكانية التحول من

٣٢٠