الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الروايات (١) وكلما تدعوا استجابة لدعائك (٢) وكلما تذكر ربك (٣) فلتعش

__________________

(١) المصدر اخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن الحسن بن علي رضى الله عنه قال : قالوا يا رسول الله أرأيت قول الله : إن الله وملائكته يصلون على النبي؟ قال : ان هذا لمن المكتوم ولولا انكم سألتموني عنه ما أخبرتكم ان الله وكل بي ملكين لا اذكر عند عبد مسلم فيصلي علي الا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ولا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلي علي الا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله وملائكته لذينك الملكين آمين «أقول : آمين من الله اخبار عن الاستجابة لا دعائها وفيه اخرج احمد والترمذي عن الحسين بن علي (ع) ان رسول الله (ص) قال : البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي واخرج ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قالا قال رسول الله (ص) من نسي الصلاة علي اخطأ طريق الجنة أقول : يعني به التناسي والتساهل.

واخرج البيهقي في الشعب عن انس (رض) قال قال رسول الله (ص) اتاني جبرئيل فقال : رغم انف امرى ذكرت عنده فلم يصل عليك واخرج القاضي إسماعيل عن الحسن (رض) قال قال رسول الله (ص) كفى به شحا ان يذكرني قوم فلا يصلون علي.

وفي نور الثقلين ٤ : ٣٠٢ ح ٢٢٠ في من لا يحضره الفقيه روى زرارة عن أبي جعفر (ع) انه قال : وصل على النبي (ص) كلما ذكرته او ذكره ذاكر عندك في أذان او غيره.

(٢) المصدر اخرج عبد الرزاق عن ابن عينية قال اخبرني يعقوب بن زيد التيمي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتاني آت من ربي فقال : لا يصلي عليك عبد الا صلى الله عليه عشرا فقال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! ألا اجعل نصف دعائي لك؟ قال : ان شئت قال : الا اجعل كل دعائي لك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : اذن يكفيك الله هم الدنيا والآخرة.

(٣) المصدر اخرج الترمذي وحسنة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله ـ

٢٠١

ذكر الله (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) وتعيش على ضوئه الصلاة على رسول الله (١) وكما ندرس ذلك القرن الدائب من الشهادتين!

انما الواجب من الصلاة عليه ما في تشهد الصلاة ، ويليه على أشراف الواجب كلما ذكر ، ثم وسائر الصلاة عليه سنة ، فصلوات الله عليه وعلى آله ما طلعت الشمس وغربت (٢) وواجب التسليم له (صلى الله عليه وآله وسلم) يشمل كل حياة التكليف في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد مماته (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك سنة التسليم عليه فانه

__________________

ـ وسلم) قال : ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم الا كان عليهم ترة فان شاء عذبهم وان شاء غفر لهم وفيه اخرج البيهقي في شعب الايمان عن جابر (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النبي الا قاموا عن أنتن جيفة.

(١) المصدر اخرج الترمذي وحسنة وابن حبان عن ابن مسعود (رضي الله عنه) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٠١ في عيون الاخبار باب ما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون عن محض الإسلام وشرائع الدين «والصلاة على النبي واجبة في كل موطن وعند العطاس والذبايح وغير ذلك وفي الخصال عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال : هذه شرائع الدين ـ الى ان قال : ـ والصلاة على النبي واجبة في كل المواطن وعند العطاس والرياح وغير ذلك أقول عله يعني من واجبة ثابتة مهما اختلفت الثبوتات فرضا وندبا ، وفي ثواب الأعمال عن أبي المعزا قال سمعت أبا الحسن (ع) يقول : من قال في دبر صلاة الصبح وصلاة المغرب قبل ان يثني رجليه او يكلم أحدا (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اللهم صل على محمد وذريته قضى الله له مائة حاجة سبعين في الدنيا وثلاثين في الآخرة قال قلت ما معنى صلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمن؟ قال : صلاة الله رحمة من الله وصلاة ـ

٢٠٢

المجيب ميتا كما يجيب حيا (١) ثم الصلاة عليه في صلاة وسواها فانه يسمع سلامنا وصلاتنا دون ان تهدر بلا جواب وصواب او ثواب! (٢).

ولان الصلاة عليه احسن هدية اليه وهو أحق من يهدى اليه فقولوا : «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة ، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد» (٣) وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم صل على محمد وأبلغه درجة الوسيلة من الجنة اللهم اجعل في المصطفين محبته ، وفي المقربين مودته ، وفي علّيين ذكره وداره ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم

__________________

ـ الملائكة تزكية منهم له وصلاة المؤمنين دعاء منهم له.

(١) المصدر اخرج البيهقي في الشعب والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا كفي امر دنياه وآخرته وكنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة وعنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فانها معروضة علي.

(٢) المصدر أخرج البيهقي في شعب الايمان وابن عساكر وابن المنذر في تاريخه عن أنس بن مالك (رض) قال قال رسول الله (ص): إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا من صلى علي يوم الجمعة وليلة الجمعة مائه مرة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا ثم يوكل الله بذلك ملكا يدخله في قبري كما يدخل عليكم الهدايا يخبرني بمن صلى علي باسمه ونسبه الى عشرة فأثبته عندي في صحيفة بيضاء.

(٣) الدر المنثور ٥ : ٢١٩ ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجه وابن مردويه عن ابن مسعود قال : إذا صليتم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحسنوا الصلاة عليه فانكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا : فعلّمنا قال : قولوا ...

٢٠٣

انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد» (١).

وأخصر صلاة عليه «اللهم صل على محمد وآله» يكتفى بها حال الدعاء كما في الصحيفة السجادية ، ثم «وآل محمد» كلما ذكر ، ثم أحسنوا الصلاة عليه حسب المستطاع في سائر الحالات والمجالات وكما في صلاة الجمعة والميت.

ومن اللمحات اللامعة في هذه الآية فرض الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا مات ، وكما صلى عليه اهل المدينة واهل العوالي (٢) فصلوات الله عليه حيا وصلوات الله عليه حين مات وصلوات الله عليه مدى الدهر ، كما ومن التسليم له التسليم لمن وصاه بأمر الله (٣).

__________________

(١) المصدر اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! قد عرفنا كيف السلام عليك فكيف نصلي عليك قال : ...

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٠٣ ح ٢٢٨ في اصول الكافي عن أبي مريم الانصاري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له كيف كانت الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : لما غسله امير المؤمنين (عليه السلام) وكفنه وسجاه ثم ادخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف امير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم وقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) فيقوم القوم كما يقول حتى صلى عليه اهل المدينة واهل العوالي وفيه عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجا فوجا قال وقال امير المؤمنين (عليه السلام) سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في صحته وسلامته : انما نزلت هذه الآية علي بعد قبض الله لي (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ..) أقول : يعني انها تعني فيما تعني الصلاة علي بعد موتي.

(٣) المصدر ٣٠٥ : ٢٣٤ في كتاب الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) فاما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتاب الله فهو قول الله سبحانه (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) ولهذه الآية ظاهر وباطن ، فالظاهر قوله «صلوا عليه» والباطن قوله (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اي سلموا لمن وصاه واستخلفه عليكم فضله وما عهد به اليه تسليما وهذا مما أخبرتك انه لا يعلم تأويله الا من لطف حسّه وصفي ذهنه وصح تمييزه.

٢٠٤

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(٥٧).

إيذاء الله ورسوله لا تحمله إلّا هذه الآية ، وقرن الرسول في ايذاءه بالله مما يؤذون ان في إيذاء الرسول إيذاء الله ، فانه يحمل رسالة الله ، فإيذاءه كرسول إيذاء للمرسل ، واين إيذاء من إيذاء؟

الذين يؤذون رسول الله ينالون منه ويظلمونه ، انتقاصا من ساحته وتكديرا لقلبه ، وتكويرا لنوره ، فهو يتغير بما يغيّرون ويتأثر بما يتقولون ويفتعلون : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩ : ٦١).

ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٣٣ : ٦٩).

أترى الوقيعة في اهل بيت الرسول (عليهم أفضل الصلوات) وشكيمتهم لا تؤذيه؟

او ان سن السباب على أخيه وخليفته علي امير المؤمنين (عليه السلام) لا يؤذيه؟

ام إن تحريض المؤمنين في حرب الجمل من صاحبة الجمل لا يؤذيه؟

سلوا خال المؤمنين وأمهم امّن هم من هؤلاء الذين نكلوا بأفلاذ كبده وركلوهم ، هل إن هذه تفرحه ام تؤذيه ف (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)!

ثم الله ليس ليتأذى كخلقه سواء ، إذ لا يتغير بانغيار المخلوقين ، فإيذاءه أمّاذا من هذه المتشابهات يجرّد عما للخلق من تأثّر وتغيّر ، ويستخلص كما يناسب ساحة الربوبية في تحرير خلو عن اي تعيير ، فكما ان

٢٠٥

غضب الله عذابه ، كذلك ايذاءه من موجبات عذابه.

وما أشنعه وأبشعه وهم يحاولون أذى ربهم وما هم ببالغيه ولو بشق الأنفس ، وانما ذلك تعبير يصور حساسية مرهفة بإيذاء الرسول ، وكأنما هو إيذاء لله ، كما وإجاعة المؤمن كأنها إجاعة الله ، أماذا من تعابير تصور فضاضة الفعل وهزازته في ميزان الله ، وكأنها واصلة الى الله! ثم ومن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يستطرد الى المؤمنين :

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(٥٨).

قد يكتسب المؤمن ذنبا بحق الله او الخلق فيؤذى حدا او تعزيرا كما حدد في شرعة الله ، او يعتدى عليه كما اعتدى ، وأما أذاهم بغير ما اكتسبوا في براءة متأكدة ، ام جريمة غير ثابتة فإنها احتمال لحملين اثنين.

١ ـ (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) حيث الأذى من مؤمن الى مؤمن تنادي في ظاهر الحال انه اكتسب إثما به يؤذى ، فرية عملية وبهتة فعليه.

٢ ـ (وَإِثْماً مُبِيناً) في اصل الإيذاء شكيمة له وتحسسا منه ، قد يخلّف ما لا تحمد عقباه ، وهكذا تكون الأذى قوليا بقالة السوء عنهم ، واشاعة التهم ضدهم ، ثم ويلاه الجمع بين قالة وفعلة مؤذية ، وكما افتعلوها باهل بيت الرسالة القدسية ومن نحى نحوهم من الكتلة الايمانية (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٠٦ ح ٢٤١ عن المفضل بن عمر قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) إذا كان يوم القيامة نادى مناد اين الصدود لاوليائي فيقوم قوم ليس على ـ

٢٠٦

قضية الايمان هي الرحمة الى اهله ، وقضية اللاايمان الشرس إيذاء إلهه ، وبينهما عوان لا رحمة ولا أذى هو من ضعفاء الايمان ، غير الملتزمين بقضايا الايمان ولزاماته.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٩).

كما تحرم أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، كذلك يحرم التعرض للأذى بتهيئة أسبابها ، وذلك في بعدية بالنسبة للمؤمنات اشدّ وأنكى ، فعلى نساء المؤمنين إماء وحرائر (١) ما دمن مؤمنات ان يدنين عليهن من جلابيبهن : الملابس الشاملة قرن ذيل ، فلا يرسلنها مبسوطة ترى زينهن من خلالها ، فهنالك حجاب لرءوسهن هي الخمر : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) سترا للصدور والثديّ الثغور ، وهنا حجاب لسائر أبدانهن هي الجلابيب : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وكما الباء في «بخمرهن» تلمح بتبعض الحجاب في رءوسهن فلا يشمل وجوههن ، كذلك «من» في «من جلابيبهن» والوجوه هي اقل تقدير من الخارج عن فرض حجابهن ، ثم اليدان والرجلان وكما في متظافر الأحاديث.

__________________

ـ وجوههم لحم فيقال : هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم ثم يؤمر بهم الى جهنم و ٢٤٢ في الخصال عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : الناس رجلان مؤمن وجاهل فلا تؤذي المؤمن ولا تجهل على الجاهل فتكون مثله والقمي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من بهت مؤمنا او مؤمنة أقيم في طينة خبال او يخرج مما قال.

(١) هنا روايات وردت في الدر المنثور ان هذا الفرض يخص الحرائر ، فهل ان الإماء المؤمنات لا باس في إيذائهن والتعرض للإيذاء؟ هذه خرافة طبقية قومية تجنب عنها ساحة الإسلام.

٢٠٧

«ذلك» الإدناء دون إرسال ، (أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) بالعفاف (فَلا يُؤْذَيْنَ) فالمرأة المكشوفة ، المسترسلة المبتذلة تؤذى زعم انها من اهل التونس ، فلتظهر العفيفة بمظاهر العفاف كيلا تؤذى ، زعم الباطل بحقها.

إن أذى القالة فيهن ومن ثم متابعتهن الى الفعلة فيهن من قبل الفساق واضرابهم ، هي من مخلفات عدم حجابهن كما يجب ، إذ لا يعرفن بالعفاف حيث لا ظاهرة له ، فكما يفرض عليهن عفاف الباطن كيلا ينجذبن بجواذب من سراق الجنس ، كذلك عليهن آياته الظاهرة من حجاب وسائر الملامح كيلا يخيّل فيهن عدم العفاف.

فإذا تحجبت بكاملها ولكنها تغنجت وأبرزت حركات وقولات تدل على سخافتها فقد عرفت بعدم العفاف ، فلم ينفعها الحجاب ـ إذا ـ إلّا هزء بكل حجاب ، وهي اشر ممن لا تحتجب وليست عليها ملامح عدم العفاف إلّا عدم الحجاب ، وخير منهما غير المحتجبة التي تلمح بعفافها قولة وفعلة وفي حركات وتصرفات ، ولكنما الواجب على المؤمنة الجمع بين العفافين منعا لإثارة الجنس واستثارته ، فمهما عرفت بالعفاف فلا يؤذيها الفساق ، ففي تبرّجها او عدم الحجاب تأذي المؤمنين وتبذل المؤمنات!

وقد يبدو من ملامح آية الجلابيب ـ وكما تؤيده الروايات ـ انها اولى آيات الحجاب ، حيث تكتفي ب «ادنى» ان يعرفن فلا يؤذين «كحكمة اولى هي أقوى الحكم لفرض الحجاب ، ومن ثم آية النور (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ... وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ ... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ..) تفرض حجابا فوق الحجاب ، وبصورة مطلقة تحلّق على «ان يعرفن» او لا يعرفن ، او ذين ام لا يؤذين ، حيث الحجاب الإسلامي على النساء تتبناه حكم عدة أولاها وأولاها (أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

٢٠٨

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً)(٦٠).

تهديد شديد يعم المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، منهم كأنحسهم ومن سواهم من المشركين ام ضعفاء الايمان المستغلين ، كذلك والمرجفون في المدينة أية رجفة ضد الطمأنينة الإسلامية.

لئن لم ينتهوا (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : نحرضنك عليهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) فيها بعد ذلك التحريض «إلّا قليلا» من الوقت ، او قليلا منهم هم اقل إرجافا وإرهافا ، ومن ذلك التحريض الحكم الصارم :

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)(٦١).

«ملعونين» في حساب الله إذ لعنهم الله و «ملعونين» بين المؤمنين بالله إذ عليهم طردتهم وعزلهم عن جوّ الايمان كيلا يكدّروه ويقذروه.

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) و (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فآخر الدواء الكي حين لا يكفي طردهم بأسهم.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦٢).

سنة دائبة إلهية (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) مؤمنين وسواهم ، طردا وقتلا للمرجفين ضد الرسل والرسالات الإلهية ، وواجبا جماهيريا للكتلة المؤمنة أن يطهروا الأجواء حسب المستطاع من المرجفين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

وليست التقية في ظروفها تبديلا لهذه السنة السنية ، حيث التكليف مرفوع عندها ، وانما تطبّق هذه السنة عند الاستطاعة حسب المستطاع.

٢٠٩

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ

٢١٠

فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)(٦٣).

سئوال عن وقت الساعة تعنتا لها ونكرانا ، كأنها حين لا جواب عنه فلا حقيقة لها ، والجواب الحاسم (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ولا جواب سواه إلّا ترجي قربها (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) عل البداية هي خلق هذا الإنسان حيث السائلون هم من هذا النسل فلا يعرفون مدى قربها إلا بمعرفة البداية ، ام هي بداية خلق المكلفين قبل هذا الإنسان ، فقربها يطمئننا ان الأكثر أيا كان لقد مضى ، وعلى اية حال :

٢١١

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(٦٥).

السعير نار شديدة الحرارة والزبانية ، وهي من مظاهر اللعنة الاخروية ، (خالِدِينَ فِيها) اللعنة بمطلق الخلود الذي فيه خروج ، او الخلود المطلق الذي ليس فيه خروج ، والخلود ـ أيا كان ـ يخص الكافرين ، واما سواهم ممن يستحق العذاب ، فعذاب البرزخ ، ثم الشفاعة في القيامة ، ثم مس سقر دون خلود ، اللهم الا من هو كالكفار المعاندين ، كما ومن الكفار من لا يخلد او لا يعذب وهم القاصرون.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)(٦٦).

(تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ) عما كانت يوم الدنيا الى حقائقها النحسة الكالحة ، وتقلب» حال بعد حال في سيئات الأحوال ، و «تقلب» من جهة على النار كاللحم يشوى ، والى سائر التقلبات السوء هناك حسب سوء التقلبات هنا جزاء وفاقا.

ثم «يا ليتنا» التحسر الدائب عذاب فوق العذاب ، كما :

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧).

وهي مقالة الأتباع ، حيث الكافرين يعمهم والمتبوعين وللكل خلود ، مهما اختلف خلود عن خلود وهذه القيلة لهم حيلة كأنها لهم عاذرة عن كفرهم ، ام مخفقة عن عذابهم ، واما مضاعفة العذاب لمضلليهم فهو لا محالة واقع :

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨).

٢١٢

مهما لا يستجابون ككل ، فقد يضاعف لهم العذاب ، واخرى (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٧ : ٣٨) مهما اختلف ضعف عن ضعف ، فضعف المضللين لضلالهم واضلالهم ، وضعف المضللين لضلالهم وتخاذلهم في اتباعهم!.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً)(٦٩).

هذه اذية خاصة فيها فرية وتهمة لمكان (فَبَرَّأَهُ اللهُ) مهما كانت مطلق الأذية محرمة : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..) ولكن اذية الفرية هي العن وأنكى.

ول (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣٢ : ٣٨) فضلا عن الرسل ، فلا تبقى فرية على رسول إلّا مبرئة بما وعد الله ، مهما طالت المدة ام قصرت ، ومهما مضت على الفرية ردح فالمهم هو الوجاهة عند الله (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

ومما آذوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي قصة الإفك ، وقصة حليلة زيد ، وقد برأه الله في اذاعة قرآنية خالدة ، كما برء موسى مما نسبوا اليه من فاحشة (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧١).

القول السديد هو شديد السداد حيث يسدّ عنه تخلفه عن العقيدة فانه نفاق ، ام تخلفة عن الواقع فهو كذب ، ام تخلفه عما يعنيه فهو لغو ، فليسدّ عن اقوال المؤمنين كافة الثغرات والنوافذ الى باطل ، وهذا من مخلفات تقوى الله ، إذ تشمل القول الى العمل الى الاعتقاد.

٢١٣

والقول السديد يصلح الأعمال ، وهو ذريعة لغفر الذنوب ، ثم القول السديد وصالح العمل هما طاعة الله الرسول ، وهي الفوز العظيم.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣).

آية الامانة هذه منقطعة النظير في عرض الأمانة على الكون كله فإبائها عن حملها والإشفاق منها وان الإنسان حملها (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) فما هي تلك الامانة وما هو عرضها وحملها والاباء عن حملها؟

الامانة ـ بوجه عام ـ هي كل ما يؤمن عليه ويطمئن به مالا او حالا او عملا إمّا ذا من واجب الأداء الى أهلها كما اؤتمنت وحيث وأنّى وكيفما ، ولا تصدق الأمانة إلّا فيما قبلت طوعا او كرها فأداء لها ام خيانة فيها ، واما التي لم تقبل حتى يؤمن عليها فتؤدى او تخان ، فلا تحمل اسم الامانة مهما وجب قبولها او لم يجب ، وكما وهي مستحيلة بالنسبة للأمور التي ليست لتنفصل عن المؤتمن حتى يأتمن غيره فيها.

ثم المقبولة طوعا كسائر الأمانات او كرها كامانة السماوات والأرض والجبال ومن ضمنها الإنسان ، هي بين محمولة دون رد وبين مؤداة ، فمن طبع الامانة أداؤها لا حملها إلّا لأدائها ، فمن حملها فقد خانها : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) (٣ : ٢٨٣) إن (اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٤ : ٥٨) كشريطة من شروط إسلام التكليف ، وباحرى ايمانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) (٨ : ٢٧) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٢٣ : ٨).

٢١٤

وقد تختلف الأمانات وجاه متقبليها في عرضها ، فلا تعرض امانة العقل على من ليس يعقل ، ولا امانة الشعور على من ليس يشعر ، ولا اية امانة على ما ليس ليحملها ، وهنا «الامانة» معروضة على الكون كله فكائنة كامنة في الكون كله ، المعبر عنه هنا وفي سائر القرآن ب (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وتخصيص الجبال من زمرة غير العقلاء يعني مثالا لأصلب كائن وأصلده ، كما تخصيص الإنسان من زمرة العقلاء يعني اعقل كائن ، فهذه الامانة من الرحمة الرحمانية بعد الخلق كالهداية العامة (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ومن الهدى لكل شيء هدي التسبيح (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وتجمعهما الولاية وكما في رواية.

إذا فليست هي فقط ـ امانة العقل إذ تخص العقلاء ، ولا امانة الشعور إذ تخص الدواب ، ولا اية امانة تخص كائنا دون سواه ، فهي إذا امانة تعم كل كائن هي مخلوقة معه مفطورة فيه ، خلقت مع الخلق كله وعرضت على الخلق كله فانقسم في هذا العرض العريض الى من (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) فهي ـ إذا ـ الولاية ، شعور التسبيح بحمد الله وواقعه.

ولأنها امانة فقد تحملها الكون كله كرها في تكوينه ، إذ لا تسمى امانة وجاه من لم يتقبلها ، ثم ولا موقف لها امانة إلّا أداؤها او خيانتها : (فَأَبَيْنَ ... وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) بعد تحملّها في كره التكوين فحمل الامانة هو خيانتها ، والإنسان هو رأس الزاوية في خيانة الامانة ثم الجن ثم سائر المكلفين ، فهو من هذه الناحية ـ ككلّ ومجموعة ـ في أسفل سافلين ، ومن حيث السابقين والمقربين واصحاب اليمين هو رأس الزاوية في أداء الامانة سليمة فهو في أعلى عليين ، حيث الرسالات الإلهية في الأصل ليست الا في

٢١٥

قبيل الإنسان. ولو ان حمل الامانة يعني ـ فقط ـ تحملها ، لم يكن للإباء عنها مجال لأي كائن ، حيث العرض الرباني لها بجمعية الصفات «انا عرضنا» ليس الا لصالح الكائنات ، فالتخلف عن قبولها تخلف عن ارادة الله ، ولو كان بالإمكان لكان من العصيان ، فقبولها طاعة ، فكيف يعلّل (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) إذا ب (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ، ومن ثم «ليعذب ..» فهل ان مطاوعة الرب في تقبل الامانة المعروضة ظلم وجهل يستتبعان العذاب؟!

إذا فهي بعد ثان من تكوين كل شيء وكينونته ، لكل حسب مستواه ومستطاعه ووهبته دون زائد ولا ناقص ، فهي لمن يعقل تكليف العقل قدره ، ولمن يشعر تكليف الشعور قدره في حيوان ام نبات ام جماد : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١٧ : ٤٤).

ان امانة التكليف بصيغة اخرى هي «الولاية» (١) ولاية الله في تسبيح دائب كما لسائر الكون ، وسائر الولايات في درجاتها لكل كتلة كما تناسبها كولاية الرسل لسائر المكلفين وولاية الرسول والأئمة (٢) في خاتمة الرسالات

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٠٩ ح ٢٥٨ في عيون اخبار الرضا باسناده الى الحسين بن خالد قال : سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ..) فقال : امانة الولاية من ادعاها بغير حق كفر وفي معاني الاخبار ح ٢٦٠ مثله وفي ح ٢٦٧ بصائر الدرجات عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال الولاية أبين ان يحملنها كفرا وحملها الإنسان والإنسان الذي حملها ابو فلان أقول حملها كفرا هو خيانتها كما خانها ابو فلان.

(٢) المصدر ح ٢٦١ في اصول الكافي عن إسحاق بن عمار عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) أقول انه من ـ

٢١٦

للخلق أجمعين ، والتكليف صفة عامة في الولايات بدرجاتها ومن أهم الأمانات العملية الصلاة (١).

اجل! انها بوجه يعم ويطم هي امانة التكليف طوعا او كرها حيث كلّفها كلّ وسعه ، وتسبيح الله بحمده واقع لا ريب فيه في كل شيء ، اللهم الا الإنسان وأضرابه (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)!

وعرض الأمانة هذه بذلك العرض العريض ليس ليعني عرض التخيير الترديد ، بل هو عرضها على كل كائن بفرضها في ذات تكوينه ، عرض يعني عرض الحال للبعد الثاني في كل كائن ، حال واقعة لا مناص عنها في كينونته ، ف (إِنَّا عَرَضْنَا ..) ليس إلّا عرض واقع الحال للإنسان الظلوم الجهول ، انه المتخلف الوحيد في الكون كله بمن معه من أضرابه الجن امّن ذا ، وكما الأسماء عرضت على الملائكة لبيان حالهم وجاه العلم بها (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) (٢ : ٣١) وكما الصافنات الجياد عرضت على سليمان (٣٨ : ٣١) كما (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) (١٨ : ٤٨) كعرض الخير على اهله ، ويماثله في اصل العرض الشر لأهله : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٨ : ١٠٠) (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (٤٦ : ٤٠) (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٤٠ : ٤٦).

__________________

ـ باب الجري والتطبيق على بعض المصاديق فقبلها ولاية الرسول وقبلهما ولاية الله ، والاخيرة هي العامة للكون كله.

(١) المصدر ح ٢٦٥ في عوالي اللئالي في الحديث ان عليا (عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلون فيقال له مالك يا امير المؤمنين (عليك السلام) فيقول : جاء وقت الصلاة وقت امانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها أقول صلاة كل شيء بحسبه فهي لهذه الثلاث التسبيح كما في آياته.

٢١٧

فكما الجنة والرحمة هما البعد الثاني لاهلهما لزاما لهما عطاء من ربك جزاء وفاقا ، وكما النار هي البعد الثاني لأهلها جزاء حسابا يوم الاخرى ، كذلك الامانة المعروضة على الكون كله هي البعد الثاني في الاولى ، المتبني حياة الاخرى الى سجين ام الى عليين!

«انا» في جمعية الصفات لا الذات وسبحانه «عرضنا» كذلك الأمر «الامانة» : مطلق التكليف لا التكليف المطلق الخاص بذوي العقول ، فسائر الكون مكلف بمعداته ان يعيش سائرا إلى ما خلق لأجله ، امام الخالق مسبحا وأمام الخلق عدلا سائرا (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) دون رد وبأداء كما حمّلن ، فان حمل الامانة مطلقا دون أداء خيانة لها مطلقا ، وفي أداء غير سليم خيانة نسبية ، فأبين ان يخونها وكل يعمل كما حمّل (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) خوفا خليطا بتعظيم ، خوفا من الله وتعظيما لجلال الله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٣ : ١٥) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٢٢ : ١٨).

فهناك في الكون كلّه تسبيح وسجود لله والكل مسخر بأمره (... وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) (١٦ : ٧٩) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ...) (٢٤ : ٤١). هؤلاء وهؤلاء من حيوان ونبات وجماد (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

أترى بعد ان في حمل الامانة تحملا لها ظلما وجهلا حتى يؤنب قبيل

٢١٨

الإنسان بذلك الحمل ، وفي تحملّها وأدائها كما حمّل عدل وعلم! فليكن حملها خيانة لها ناشئة عن ظلمه بها وجهله بمن حمّلها إياه (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤ : ٣٤).

«فقد خاب من ليس من أهلها انها عرضت على السماوات المبنية والأرض المدحوة والجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول ولا اعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شيء بطول او عرض او قوة او عز لامتنعن ولكن أشفقن من العقوبة وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان انه كان ظلوما جهولا» (١).

انه لا أظلم من الإنسان ولا أجهل وجاه الامانة العامة إلّا القليل ممن وفى لرعاية الحق فيها فمؤديها كما حمّل ، فهو في احسن تقويم إذا وعى ورعى ، وهو في أسفل سافلين إذا أودع وغوى ، فلا مثيل له في سائر الكون في حمل الامانة خيانة وأدائها صيانة.

«انه كان» فيما كان أيا كان وأيان ، في كينونة الخلقة فان النفس لامارة بالسوء ، مهما خلقت له الفطرة والعقل ، ولكنه بالفعل في الاكثرية الساحقة تتغلب هواه عقله وطبعه فطرته.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) فيما يؤتمن من امانة وما لا يؤتمن ، ظلوما بنفسه وغيره وأمانته ، ظلوما بحقه وكل حق وحقوق الآخرين ... «جهولا»

__________________

(١) نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي عن الإمام أمير المؤمنين (ع) وأخرجه عنه (ع) في الكافي مثله.

٢١٩

بحق الله وامانة الله ورعاية الحق في خلق الله!

ومن مخلفات حمل الامانة في دركات الخيانة (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) ومن ذلك في عدم تحملها كما حمّل قصورا او تقصيرا في أداء الامانة كما يجب : (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ويبقى الرعيل الأعلى من المقربين ومن ثم اصحاب اليمين الذين أدوها كما حمّلوها في واجب التحمل والأداء ، هؤلاء لا عذاب لهم إذ لم يحملوها حيث أدوها سليمة ، ولا توبة إذ لم يقصروا فيها ولا هم قاصرون وجاهها.

فالتقسيم الثلاثي هنا راجع الى مقسم حملها خيانة كما في المنافقين والمشركين ، وتقصيرا او قصورا كما في المؤمنين ، دون من لم يحملها على اية حال كالمعصومين.

و «المشركين» هنا يعم الكافرين ، وثنيين وكتابيين امن ذا ممن أشرك في توحيد الله او شرعته وامره ، او في طاعته ، فهو يشمل كافة دركات الإشراك بالله في مختلف دركات العذاب ، كما «المؤمنين» يعم كتلة الايمان بدرجاته ، الذين يعيشون حياة الايمان مهما تفلتت عنهم صغيرة او كبيرة حيث تكفّر بتوبة او شفاعة او رجاحة الحسنات او ترك الكبائر أما ذا من معدات التوبة من الله : (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

فيا للإنسان من ظلوم بحق الامانة ما أظلمه وجهول بها ما أجهله وهو اعقل من في الوجود ، وقد منح ما لم يمنح غيره من معدات التكامل!

٢٢٠