الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

٢٨١

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦).

«انما» دليل الحصر «أعظكم ب موعظة «واحدة» واحدة تتمثل في قومة واحدة متضمنة الأصول الثلاثة ، تحلّلا عن أسر الآصار التقليدية للآباء القدامى وآثارها البئيسة التي تجعلكم كأنكم لا شيء وهم أولاء كل شيء. كما وهم كانوا يقتفون آثار آبائهم فتسلسلا للّاشيء! فالى قومة صارمة تحلّلكم عن الكونية الجوفاء والنفسية الفارغة الخواء ، وتجعلكم تفكرون وتديرون أموركم بأنفسكم ، خروجا عن الحياة الهامشية كالماشية!

«قل» للناكرين أولا وللمصدقين ، فان التصديق بحاجة الى تقدّم على ضوء القيام الدائب والتفكير (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)!

«انما» ليس إلّا كلمة واحدة ونصيحة واحدة ، تضم كافة الكلمات ، وتحلق على كافة الوحدات والكثرات.

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) قياما فطريا ـ عقليا ـ فكريا ـ علميا ـ فرديا ـ جماعيا ، قيامة عن نومتكم وموتتكم المأسورة المحصورة في التقاليد الجاهلة العمياء ، بعيدا عن الأهواء والمصلحيات والملابسات الأرضية ، وعن المواقف والدوافع والعواطف التقليدية ، التي تتشجر في القلب فتشجره وتفجره ، بعيدا عن التيارات السائدة في البيئة الجاهلة القاحلة.

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) في الله والى الله بما منحكم الله من فطرة سليمة وعقلية عليمة ، وكل موهبة إلهية حكيمة! (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢ : ٢٣٨) فان الحياة الانسانية وعلى ضوء شرعة الله هي حياة القيام لله!.

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) : اثنين اثنين متعاونين ـ و ـ» فردا فردا ، فما ضم الثاني في ذلك القيام إلا ضما لقيام الى قيام. ولكي يكمل

٢٨٢

السير الى الله بازدواجية القيام ، فإذا لم يحصل الانضمام ، أم اضرّ بالقيام ف «فرادى» متحللين عن كافة موانع القيام ، عن ثنويات وثانويات التقاليد الجاهلة العمياء!.

ف (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) هي فريضة لكل فرد فرد ، قومة في قرارات النفوس ، وقومة عن نومة الفطر والعقول في كافة الحقول ، فليس «مثنى» الا ليراجع أحدهما الآخر فيأخذ كلّ ما عند الآخر ، فتصبح اخذة رابية شورى ، ثم تعاونا في تطبيق ، دون تأثر بعقلية الجماهير الخاطئة ، ام الأكثرية التي تتملى منها العيون الظاهرة ، فإذا اضرتكم «مثنى» فقوموا ـ إذا ـ «فرادى».

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فانه في الأصل قيام فكرى على ضوء العقل والفطرة ، والفكر حركة من المبادئ ومن مبادئ الى المراد ف «تتفكروا» في ذلك القيام ، إنما تتبنى آيات انفسية واخرى آفاقية ، مستخدمين لها للوصول الى الحق المرام. فطالما يرمى «صاحبكم» بالجنون ، والرامون كثيرون مترفون ، فلا تغرنكم هذه الكثرة المتراكبة ، بل :

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) : الذي بصاحبكم من جنة تدّعى ، فما هي؟ وما هي آثارها وتبعاتها؟ وقد صاحبكم ردحا بعيدا دون جنة (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦).

أفلا تكفى تلك المصاحبة منذ الولادة حتى الأربعين ان ليست به جنة؟ وأنتم تعتبرونه في هذه الفترة اعقل العقلاء؟ ثم إذا ما دعاكم الى ما تقبله الفطر والفكر أصبح ذا جنة!.

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ليس بصاحبكم من جنة ، ذاتية ام خارجية ، فلئن تغاضيتم عن انه اعقل العقلاء ، فلأقل تقدير (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يصدر عن عقل ويرد الى عقل فتفكروا ...

٢٨٣

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) عذاب بين يديكم إذ يستقبلكم ويأتيكم ، وكل آت قريب حاضر ، والحائطة في النذارة عقلية حائطة ، وحتى عن نذارة مجنون ، فكيف بعاقل فضلا عن أعقل العقلاء!.

وكيف بمن يملك من بينات آيات الله ما يبين انه رسول من الله ، وما اوتي الرسل قبله معشار ما أوتيه!

«ايها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ الله ورسوله اعلم! انما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو فأقبل لينذرهم وخشي ان يدركه العدو قبل ان ينذر قومه فأهوى بثوبه ايها الناس أتيتم! ايها الناس أتيتم! ايها الناس أتيتم!» (١).

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤٧).

لقد سبق انه (صلى الله عليه وآله وسلم) سألكم المودة في قرباه بصيغة الأجر (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٤٢ : ٢٣) فخيّل الى بعض انه يسأل عليه من اجر ، وهنا يوضح انه «لكم» حيث المودة في قربى الرسول تجركم من أبوابهم الى مدينة علمه ، ثم الى الله (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٣٥ : ٥٧) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك الى رضوانك.

فلست أسألكم أنتم من اجر ، مهما كان صيغة الأجر ف (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٢).

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل حدثنا ابو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريرة عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فنادى ثلاث مرات ايها الناس ...

(٢) راجع آية الشورى في سؤال الأجر تجد تفصيل البحث في قول فصل.

٢٨٤

خذوا أنتم الأجر الذي سألتكم إياه ، واجعلوه زادا لتعرّف اكثر الى المبدء والمعاد ، وصاحبكم الذي هو بين المبدء والمعاد ، نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٤٨).

(إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ)(عَلَى الْباطِلِ)! (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (٢١ : ١٨) فليس الباطل يقذف الحق ، (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) لأنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والحق يحمل الغيوب والباطل لا يملك حتى الشهود ، ف (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)؟

وكذلك (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) في قلوب اهليه وهم الذين يتحرون عنه وهم به مؤمنون! (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)(٤٩).

لقد جاء حق تلو حق منذ بزوغ الرسالات ، ولكن الحق كل الحق إنما جاء جديدا صارما عتيدا مهيمنا على سائر الحق ، خالدا على مر الزمن بمر الحق!

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ)؟ إظهارا لأمر بدائي بديع لم يسبق؟ كلا «ما يبدئ» : وليس ليبدئ!.

(وَما يُعِيدُ)؟ من غابر الباطل الدفين ليدحض به الحق (وَما يُعِيدُ) : ليس بمعيد شيئا! (١).

فحين لم يجيء كل الحق ما كان الباطل يبدئ شيئا او يعيد ، فكيف إذا (جاءَ الْحَقُّ) (كله). ف (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)؟! ثم (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) في الأولى (وَما يُعِيدُ) في الاخرى ، فانه زاهق في الأولى وفي الاخرى!

__________________

(١) ف ـ «ما» هنا استفهامية ونافية ، تعنيهما مع بعض وتلو بعض وما أفصحه وأبلغه!

٢٨٥

أتقولون بعد انني ضللت وأنتم المهتدون؟

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠).

أترى حين يصح (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) فأين تذهب تبعة أتباع الضال وهو ظاهر بمظهر داعية الهدى؟

(عَلى نَفْسِي) هنا لها واجهتان اثنتان : ان رأس الزاوية في الضلال هو الضال مهما ضل به غيره ، ومن ثم حين يتجرد الضال عن الدعوة الى ما هو فيه مسايرة في الحوار ، فهو هو المختص بضلالة ، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ويا له أدبا بارعا في الاعتراف بضلاله لولا هدي الوحي من ربه.

فلو كانت بي جنة فمن نفسي وعليها ، وان اهتديت دون زلة ولا ضلالة (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) انه سميع» دعوة الداعين «قريب» إليهم ، وقد تعني ضلال التوحيد دون ضلال في سائر جنبات الرسالة ان لو كنت ضالا في دعوة التوحيد رغم بيناته فلا ضير لكم ان تعبدوا إلها واحدا.

وان اهتديت فهنا الضير كل الضير في تكذيبي فإنه تكذيب لربي! فلا عليكم ـ إذا ـ إن ضللت ، ولكم إن اهتديت فلان آثار الهدى في باهرة فعليكم ـ إذا ـ اتباعي!

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٥١).

(وَلَوْ تَرى) : ليتك ترى الآن «إذ فزعوا» هؤلاء المشركون بأثلاث الافزاع : فزع الرجعة والموت و «الفزع» الأكبر» (٢١ : ١٠٣) وهو المحور وهو الآخر!؟.

٢٨٦

ثم (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) تشملها كلها ، وحتى البعيد في قياسهم البعيد البعيد ، هو في تلك الأخذة الشاملة قريب : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥٠ : ٤١).

وكيف لا يكون قريبا وربك الآخذ منهم قريب قريب ، وعلمه قريب وقدرته قريبة وما ذلك من الله ببعيد غريب! وحين الرجعة عند قيام القائم بالحق يؤخذ المشركون احياء وأمواتا من مكان قريب ، فكما حيهم في هذه الأخذة قريب ، كذلك ميتهم وما ذلك على الله بعزيز (١).

__________________

(١) في تفسير القمي في الآية حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال قال ابو جعفر (عليه السلام) والله لكأني انظر الى القائم (عليه السلام) وقد أسند ظهره الى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول : يا ايها الناس من يحاجني في الله فانا اولى بالله ، ايها الناس من يحاجني بآدم فانا اولى بآدم ، ايها الناس من يحاجني في نوح فانا اولى بنوح ايها الناس من يحاجني بإبراهيم فانا اولى بإبراهيم ايها الناس من يحاجني بعيسى فأنا اولى بعيسى ، ايها الناس من يحاجني بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانا اولى بمحمد ، ايها الناس من يحاجني بكتاب الله فانا اولى بكتاب الله ـ

ثم ينتهي الى المقام فيصلي ركعتين وينشد الله حقه ، ثم قال ابو جعفر (عليه السلام) هو والله المضطر في كتاب الله في قوله : أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ـ

فيكون اوّل من يبايعه جبرئيل ثم الثلاث مائة والثلاثة عشر ، فمن كان ابتلي بالمسير وافى ، ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه وهو قول امير المؤمنين (عليه السلام) هم المفقودون عن فرشهم وذلك قول الله : فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ـ قال : الخيرات الولاية ، وقال في موضع آخر : ولئن أخرنا عنهم العذاب الى امة معدودة ـ وهم اصحاب القائم (عليه السلام) يجمعون اليه في ساعة واحدة ـ فإذا جاء الى البيداء يخرج اليه جيش السفياني فيأمر الله عز وجل الأرض فيأخذ بأقدامهم وهو قوله عز وجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ـ

٢٨٧

وانه لا فوت في هذه الأخذة القريبة الغريبة ولات حين مناص ، إذ فات زمن الخلاص!.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٥٢).

هم في الأخرى (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) إلينا ، ثم لا تناوش لهم ولا تناول للأولى ، وقد بعدوا بهذه الأخذة القريبة عنهما ، ف (أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هو دار الجزاء ، لاستحالة النقلة الى دار العمل!.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٥٣).

أنى لهم (آمَنَّا بِهِ ... وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) و (أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ .. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)؟! حال «ويقذفون» من قبل «بالغيب» قذف الإبطال والاستنكار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هو الأولى عن الاخرى ، وهو بعد العلم فيها عنها ، والاخرة غيب عن الدنيا ، وهم غيّب عنها فكيف (يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ

__________________

ـ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) [يعني بالقائم من آل محمد (عليهم السلام)] (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ... وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) يعني ان لا يعذبوا (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) يعني من كان قبلهم من المكذبين هلكوا (مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).

والروايات مستفيضة من طرقنا وطرق إخواننا كما في الدر المنثور بطرق عدة عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وعمر وبن شعيب وام سلمة وصفية وعائشة وحفصة ونفيرة امرأة القعقاع وسعيد بن جبير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ألفاظه ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني عن ام سلمة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يبايع الرجل من امتي بين الركن والمقام كعدة اهل بدر فيأتيه عصب العراق وأبدال الشام فيأتيهم جيش من الشام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ثم يسير اليه رجل من قريش أخواله كلب فيهزمهم الله ..».

٢٨٨

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)؟!.

انهم يقولون ما لا يعلمون ولا يتحققون ، كالرامي غرضا وبينه وبينه مسافات متباعدة ، فلا يكون سهمه ابدا إلا قاصرا عن الغرض عادلا عن السدد.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤).

وعلّ هنا «من قبل» يصدق الشمول ليوم الموت والرجعة ، فان فيهما (من قبل ومن بعد) واما الآخرة فهو يوم الجمع (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) ثم «من قبل» في موقف القيامة علّه «قبل» رتبيّ ، أم إن الحيلولة هي في موقف الحساب والعقاب وله من قبل ومن بعد (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)!

وعلي أية حال فالمحور الرئيسي هنا هو الآخرة ، والأوليان تلحقانها من باب الجري كما استفاضت به الرواية.

و «ما يشتهون» هنا تعم شهوة الضلالة التي كانوا يعيشونها ، فحيل بينهم وبينها ، والهدى التي هنا يرجونها ف «انهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال وقد كان لهم مبذولا من حيث ينال» (١) وهما في الأولى ، كما (حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ألّا يعذبوا في الاخرى : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(٣٥)!

الا وكل «ما يشتهون» عنهم منفية ، وكل ما يكرهون لهم مقضية ، فهم عائشون هناك الحيلولة بينهم وما يشتهون ، كما عاشوا هنا وما

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٥٥ ـ القمي بسند عن أبي حمزة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله : وأنى لهم التناوش من مكان بعيد قال : انهم ..

٢٨٩

يشتهون ، جزاء بما كانوا يعملون (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) يريب الضعفاء كأنهم على بينة من شكهم فهم بذلك الشك المريب يتشككون!.

٢٩٠

سورة فاطر مكيّة

وآياتها خمس وأربعون

٢٩١
٢٩٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ

٢٩٣

شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨)

سورة تتسمى باسم من اسماء الله «الفاطر» فانها كسائر السور من «الفاطر» وهنا تبتدأ ب (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ثم واسم لها آخر «سورة الملائكة» قضية البداية بها بعد الفاطر ، فهي اسم لها بعد الفاطر ، كما وانهم بعد الفاطر.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

هنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مبرهنا بالربوبية المطلقة رحمانية : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعبيرا عن الكون كله ، ورحيمية : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ...) ونجد الرحمتين مع (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في خمسة اخرى بغيار يسير في صيغة التعبير (١).

__________________

(١) «قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (٦ : ١٤) «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» (١٢ : ١٠١) «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ ـ

٢٩٤

ولأن الفطر هو الشق ، إذا فالسماوات والأرض مشتقتان عن مادة مخلوقة قبلهما ، المعبر عنها في هود ب «الماء» وكما فصلت فيها وفي آيات من فصّلت والأنبياء (١).

(... جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ..) وتذكر الملائكة بمختلف صيغها (٨٨) في القرآن كله ، مما يدلنا على مدى اهميتهم في رسالاتهم الروحية وسواها في ميزان الله.

وقد وصفهم امير المؤمنين وقائد الغر المحجلين (عليه السلام) بقوله : «خلقتهم وأسكنتهم سماواتك ، ليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية ، اعلم خلقك بك ، وأخوف خلقك منك ، واقرب خلقك إليك ، وأعملهم بطاعتك ، لا يغشيهم نوم العيون ، ولا سهو القلوب ، ولا فترة الأبدان ، لم يسكنوا الأصلاب ، ولم تتضمنهم الأرحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين ، أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك ، وأكرمتهم بجوارك ، وائتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الآفات ، ووقيتهم البليات ، وطهرتهم من الذنوب ، ولولا قوتك لم يقووا ، ولولا تثبيتك لم يثبتوا ، ولولا رحمتك لم يطيعوا ، ولولا أنت لم يكونوا.

أما إنهم على مكاناتهم منك ، وطاعتهم إياك ، ومنزلتهم عندك ، وقلة غفلتهم عن أمرك ، لو عاينوا ما خفي عنهم لاحتقروا اعمالهم ، ولأزرأوا

__________________

ـ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ..» (١٤ : ١٠) «قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (٣٩ : ٤٦) «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ..» (٤٢ : ١١).

(١) الآيات ٩ ـ ١٢ من فصلت و ٢٩ من الأنبياء.

٢٩٥

على أنفسهم ، ولعلموا انهم لم يعبدوك حق عبادتك ، سبحانك خالقا ومعبودا ما أحسن بلائك عند خلقك!» (١).

وهنا «لو عاينوا» إحالة لمعاينتهم هذه ، وتلميحة انه (عليه السلام) عاين ما لن يعاينوه ، وعلم ما لم يعلموه!.

«جاعل» بالنسبة للملائكة بعد «فاطر» لسائر الكون ، تغاض عن لمحة لخلقهم كيف هو ومم هو؟ فانما جعل الرسالة الملائكية ، وقد يلمح لأنهم انما أنشئوا إنشاء من المادة الأم أماهيه ، دون تطور بتطوير ، وكما أشار اليه الامام (عليه السلام) : ثم و (أُولِي أَجْنِحَةٍ ..) بيان لكيف هم بعد خلقهم؟ أن لهم اجنحة هي على الأكثر (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وقد يقل فيهم (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) خلقا لأجنحة لهم زائدة على «رباع» ام لسائر الخلق ، وكما (السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) : نظرية التوسعة.

فلا وقفة في اصل الخلق وطوره وكوره ، مشيّة مطلقة واسعة شاسعة ، في اصل الخلق وفرعه! .. ولان «الملائكة» جمع محلّى باللّام ، مما يفيد استغراق العام ، فهم ـ إذا ـ كلهم دونما استثناء ، من ملائكة الوحي الى النبيين ، والعمال في سائر التكوين ، من رسل الإماتة : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦ : ٦١) والكرام الكاتبين والمصورين في الأرحام والمهلكين : «ولما جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكو اهل هذه القرية (٣٠ : ٣١) وسائر عمال رب العالمين.

والأجنحة جمع الجناح آلة الطيران أيا كان ، ريشا وسواه كأجنحة

__________________

(١) تفسير البرهان عن القمي وقال امير المؤمنين (٣ : ٣٥٧).

٢٩٦

الطائرات فلا تختص بريش وزغب ، بل هي كما تناسب كيانهم ، إن نورانيين أماهيه فأجنحة نورانية أماهيه؟.

وعلى أية حال فهم ـ على كونهم ملائكة ـ صنوف في أجنحتهم ووظائفهم ودرجاتهم وكما يقول سيد الساجدين وزين العابدين» : (١) ولا

__________________

(١) في الصحيفة السجادية وكان من دعائه على حملة العرش وكل ملك مقرب : اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ، ولا يسأمون من تقديسك ، ولا يستحسرون عن عبادتك ، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك ، ولا يغفلون عن الوله إليك ، وإسرافيل صاحب الصور الشاخص ، الذي ينتظر منك الإذن وحلول الأمر ، فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور ، وميكائيل ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك ، وجبريل الأمين على وحيك ، المطاع في سماواتك ، المكين لديك ، المقرب عندك ، والروح الذي هو على ملائكة الحجب والروح الذي هو من أمرك ـ

اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك ، واهل الامانة على رسالاتك ، والذين لا يدخلهم سأمة من دؤوب ، ولا إعياء من لغوب ولا فتور ، ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ، ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك ، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك. المستهترون بذكر آلائك ، والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا الى جهنم تزفر على اهل معصيتك : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! ـ فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك ، واهل الزلفة عندك ، وحمّال الغيب الى رسلك ، والمؤتمنين على وحيك ، وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك ، وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك ، وأسكنتهم بطون سماواتك ، والذين هم على أرجائها إذ انزل الأمر بتمام وعدك ـ

وخزّان المطر وزواجر السحاب ، والذي بصوت زجرة يسمع زجل الرعود ، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق ، ومشيّعي الثلج والبرد ، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، والقوام على خزائن الرياح ، والموكلين بالجبال فلا تزول ، والذين ـ

٢٩٧

نجد في القرآن مذكورا باسمه إلّا جبريل وميكال ام والروح ان كان من الملائكة ، اللهم إلّا بشغله كالكرام الكاتبين : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٣٧ : ١٦٤) مقاما في كيانه ومقاما في عمله.

ومهما يكن من شيء في كونهم فليسوا إلّا انبثاقا لطيفا من المادة الام كسائر المواد ، مهما كانوا من ألطفها ، كما تدل على ذلك آيات خلق الكون ككل.

ومهما يكن من أمرهم ، فهم بأجنحتهم عمال امر الله ، دون استقلال لهم بجنب الله ، او استغلال من امر الله ، بل هم اداة لتحقيق امر الله ، لا لحاجة له إليها ، بل لان الكون مسرح الأسباب ، وهو تعالى مسبب الأسباب.

انهم ـ بأمر الله ـ يجمعون كافة الخطوط بخيوطها في نظم بارع ونضد رائع ، في قبضها وبسطها ، وشدها وإرخائها ، اللهم إلّا ما لكائن فيه اختيار ، ولكنه ـ أيا كان ـ ليس اختيار تفويض كما لا إجبار.

__________________

ـ عرفتهم مثاقيل المياه ، وكيل ما يحويه لواعج الأمطار وعوالجها ، ورسلك من الملائكة الى اهل الأرض بمكروه من ينزل من البلاء ، ومحبوب الرخاء ـ والسفرة الكرام البررة ، والحفظة الكرام الكاتبين ، وملك الموت وأعوانه ، ومنكر ونكير ، ومبشر وبشير ، ورؤمان فتان القبور ، والطائفين بالبيت المعمور ، ومالك والخزنة ، ورضوان وسدنة الجنان ، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والذين يقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، والزبانية الذين إذا قيل لهم : خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ـ ابتدروا سراعا ولم ينظروه ، ومن ألهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منك ، وبأي امر وكلته ، وسكان الهواء والأرض والماء ، ومن منهم على الخلق ـ فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد ، وصلّ عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم وطهارة على طهارتهم ...

٢٩٨

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

ان الله تعالى ـ بملائكته العمال ـ هو الفاتح لرحمة ، وهو الممسك لها لا سواه ، فلا تجعلوا لله الأبدال الأمثال! وليست خزائن رحمته إلّا ملكه في ملكه : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧ : ١٠٠) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٣٨ : ٩) إذا فلا فاتح لها إلّا هو ، ولا ممسك لها بعد فتحها ام قبله إلّا هو!

و «من رحمة» تستغرق كل رحمة مادية وروحية ، تدفقا على من يشاء ، أو إغاضة عمن يشاء ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في فتحها وإمساكها ، إذ لا ممسك لها ولا مرسل «من بعده» إرسالا وإمساكا «الحكيم» فيهما ، فتحا بحكمة وإمساكا بحكمة دونما فوضى جزاف!

هنالك تنقطع عن شبهة كل حول وكل قوة إلّا بالله ، حيث تغلق كل الأبواب إلّا باب الله ، فلا تدق من الأبواب إلّا باب الله.

فكل نعمة يمسكها الله تنقلب نقمة ، وكل نقمة تحفها رحمة الله تنقلب نعمة ، فقد تنام على شوك برحمة الله فإذا هو مهاد ، او تنام على حرير وقد أمسكت عنك رحمته فإذا هو شوك القتاد!

ترى يوسف في غياهب السجن هو في رحمة الله حيث يبتعد هناك عن سخط الله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وهناك العزيز وامرأته في نعمة البلاط وهما في نقمة الله ، وكما ظهرت لهما بعد ردح من الزمن. هنالك رحمات والطاف خفية إلهية لا يدركها إلّا أهلوها ، خليطة باشواك ، ظاهرة بمظهر الهلاك ، ولكنها باطنها فيها الرحمة وظاهرها من قبلها العذاب!

٢٩٩

ليست هنالك ـ وفي دار المحنة وتناسل الذرية ـ رحمة خالصة دون تعب وشغب ، فحين تعيش مع الله ، راضيا بمرضاة الله ، ملتزما طاعة الله ، فلا عليك أن يضيق سائر الرزق ، وتخشن سائر الحياة ، ويشوك المضجع ، فانه حياة الرحمة والراحة ، حيث تعيش أصل الرحمة.

وحين يعكس الأمر حيث تفقد الزلفى الى الله ، فكل رحمة سواه نقمة وزحمة ، إذ ليست فيها طمأنينة : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

من الخليقة من يعيش الرحمتين : ظاهرة وباطنة ، ومنهم من يحرمهما فوا ويلاه! ومنهم من يعيش الروحية ويحرم الظاهرية ، ومنهم عكسها ، وقد يفضل الثالثة على الأولى حيث الأجر على قدر المشقة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وكما نرى السابقين الأقربين من عباد الله محرومين ـ في الأكثر ـ عن النعم الظاهرية ، وقليل من هم ، المجموعة لهم ظاهرها الى باطنها (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)!

وإذ لا رحمة إلّا من الله فتحا وإمساكا ، فمن ذا نرجو إلّا الله؟ ومن ذا نخاف إلّا الله ، «ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء»!

ثم (فَلا مُمْسِكَ لَها) كما (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) تعني من دون الله ، وحين ان الرحمات كلها هي من الله وإرسالا وإمساكا ، فباحرى ان تكون رحمة الهداية بشرعة سواها ، منحصرة في الله ، منحسرة عمن سوى الله! فما يفتح من هدى فلا ممسك لها إلّا هو ، وما يمسك فلا مرسل له الا هو ، وقد أرسل رحمة الشرعة الاخيرة دون إمساك فهي باقية حتى القيامة الكبرى ويا لها من آية وحيدة ترسم للحياة صورة جديدة يسيرة مديدة ، لو استقرت في قلب الإنسان لصمد للأحداث كالطود الوطيد وتضاءلت امامه الأشخاص

٣٠٠