الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

اية خيرة لهم إلّا ما قضاه الله ورسوله ، وحتى إذا كانت خيرة الاستئمار من أنفسهم او الشورى بينهم ، ثم اختيار ما قضاه الله ورسوله!

فادنى درك من العصيان هو خيرة كهذه التي توافق قضاء الله ، وأسفل درك منه بدار العصيان دونما تفكير ، وأوسطه العصيان بعد استئمار او شورى ، و (الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) تستأصل الثلاثة ، ثم لا تبقى إلّا الطاعة المطلقة دونما خيرة من أمرهم في جانحة ولا جارحة ، وانما مطلق الاستسلام! (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) تشمل الثلاثة (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) مهما اختلفت دركات الضلال والعصيان!

ان قضاء الله كوحي خاص في تشريع يحمله رسول الله في بلاغ الشرعة ثم قضاءه كوحي عام قضاء لرسول الله كولي لأمر الأمة بما أراه الله ، هو (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) ف ـ (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) مهما كان بلفظ القرآن او السنة ، او كان حكما سياسيا أمّاذا من احكام ، ف ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)!

و ـ «ان كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه ، وان كنت واليت عدوه فاخرج من ملكه ، وإن كنت غير قانع برضاه وقدره فاطلب ربا سواه»! (١) «يقول الله : من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلها غيري» (٢) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في كل قضاء

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٨٠ ح ١٢٣ في كتاب التوحيد باسناده الى الأصبغ بن نباتة قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) : ..

(٢) المصدر ح ١٢٤ فيه باسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قال الله جل جلاله : ..

١٤١

الله عز وجل خيرة للمؤمن» (١).

فالله يقضي زواجا بين قريبة الرسول الشريفة في قومها وبين عبده قضاء على سنة الفوارق ولا خيرة إذا دون خيرة الله! ثم الله يقضي زواج رسوله بحليلة دعيّه قضاء على سنة جاهلية اخرى وفارقة اخرى فارغة كما الاولى ، وليس للمؤمنين إلّا التسليم لقضائه! والله يقول الحق وهو يهدي السبيل! ولا سبيل مستقيما إلا الاستسلام المطلق امام قضاءه دون اختلاج خالجة في ضمير ، ولا سيما في الأقضية التي تتبنى الإسلام ، أصولا يؤتسى بها على طول الخط ، ولا بد من تجاوب من الأمة مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبنّي صرح هذه الرسالة السامية. فان يدا واحدة لا تصفق!.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧)

هذا زيد بن حارثة (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالتربية المحمدية قبل الإسلام وبالايمان بعده وانكحه شريفة بني هاشم بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) في احضانه بتربية صالحة وعتقه وإنكاحه بنت عمك وهي ترغبك دونه!. تقول له بعد منازعة مستمرة بينه وبينها (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وقضى الله إطلاقها لينكحك إياها هدما لسنة جاهلية (وَاتَّقِ اللهَ) وكان تقواه طلاقها في الواقع مهما كانت إمساكها في الظاهر (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) من فرض زواجها لك بعده كما

__________________

(١) المصدر ح ١٢٥ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

١٤٢

أبداه في اذاعة قرآنية (زَوَّجْناكَها ..) وليس مما أخفاه (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه انه عشقها رغبة الجنس لما رآها تغتسل كما اختلق عليه! ويشهد له (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وما أبدى الله إلّا اصل الزواج (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ)!

(وَتَخْشَى النَّاسَ) إن أبديت أمرك فيها أن يقولوا طمع في حليلة دعيّه ، كما انطلقت ألسنة المنافقين : «تزوج حليلة ابنه»! (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) في تحقيق قضاءه ، دون ان تخشى الناس في خشيته ، فانما خشية بلا وسيط!.

أترى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه المعركة الصاخبة خشي الناس ولم يخشى الله؟ وهو أخشي الله من كل (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) وهو ابلغ من (يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) فأخشاهم لله فانه (أَوَّلُ الْعابِدِينَ)؟.

إن خشية الله خشيتان ، خشية عن طريق الناس وقد خشيه عنهم فأخفى في نفسه ما الله مبديه ، لكيلا يمس من كرامة رسالته بما يتقوّله الناس ، وكما خشيهم في بلاغ رسالة الولاية (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ..) وخشي أزواجه في قصة مارية فحرمها على نفسه خشية تظاهرهن عليه (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)؟ فآمنه الله عما يخشاه: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) في بلاغ الولاية (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) في مارية (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) في زينب.

فقبل ان يؤمنه الله باس الناس ما كان ليأمنهم ان يمسوا من كرامة رسالته ، وكان عليه حفاظها تقديما للأهم على مهمه ، ثم الوحي الحبيب من الحبيب آمنه بأسهم ، فنقله من خشيته تعالى من طريق الناس ، الى خشية

١٤٣

خالصة لا وسيط لها (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)!

فذلك ـ إذا ـ انتصار له في صيغة عتاب ولا عتاب ، فانه يبرأ ساحته الرسالية في هذه الإذاعة القرآنية عن كافة التقوّلات الموجهة اليه : انه رآها فأعجبته (١) أما ذا من هرطقات جاهلية وهراءات عراء وساحة الرسول منها براء!.

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)! (٣٧).

لقد كان لزيد منها وطر : نهمة وحاجة مهمة ، قضاء على سنة جاهلية في التفاخر بالأنساب ، ووقاء لشهوة الجنس ، والاول مقضي بمجرد الزواج ولكنما الثاني باق ما بقي صاحب الجنس في إربته ، ثم ولا يحل لزوجته زواج آخر ما دامت في حبالته وإن قضيت إربته ، فكيف «زوجناكها»

__________________

(١) في نور الثقلين ٤ : ٢٨٠ ح ١٢٧ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فيما رواه القمي عن أبي الجارود عنه (عليه السلام) في الآية وساق القصة الى : ثم انهما تشاجرا في شيء الى رسول الله فنظر إليها رسول الله فأعجبته ...

وفيه ح ١٣٠ عن الامام الرضا (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد دار زيد بن حارثة في امر اراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها : سبحان الله. الذي خلقك ... فلما عاد زيد الى منزلة أخبرته امرأته بمجيء الرسول وقوله لها فلم يعلم زيد ما أراد بذلك فظن انه قال ذلك لما أعجبه من حسن فجاء الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان امرأتي في خلقها سوء واني أريد طلاقها فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امسك عليك زوجك واتق الله ...

أقول انهما ولا سيما الثاني مختلق على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو أراد زوجها شهوة لبادر إليها قبل تقديمها لزيد وقد كانت تريده (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم كيف يدخل الرسول بيتا دون استئناس من اهله لحد يرى امراة اجنبية تغتسل فتعجبه ويقول مقالته؟!

١٤٤

ان نهمة الجنس وشهوته قد تنقضي بطبيعة الحال ولم تنقض من زيد وهو في شبق الشباب ، وزوجه شريفة جميلة! وقد يقضيها هو بأسباب اخرى ولم تنقض ، من عدم الوفاق لحد ينجر الى الفراق فذلك قضاء وطر اوّل نهمّة وشهوة ، ان يطلقها في طهر لم يواقعها فيه ، فلو لم يقض وطرا منها لم يطلقها ، ثم ان بقي له وطر منها راجعها في عدتها ولم يراجعها! فقد قضى منها وطرا ثانيا وأخيرا إذ سرّحها دونما رجعة : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) حيث تم الزواج إذ تم قضاء الوطر بتمام العدة!.

فهنالك للزوج وهناك للزوج أوطار اخرى كحاجة وتمايلة الى زوجه بعد الطلقة الثانية ، ثم بعد الثالثة بمحلّل حيث يعقد عليها بعده ، ثم وطر بعد وطر حتى تبلغ الطلقات تسعا بمحلّلين ثلاثة ، ولا وطر له بعد الطلقة التاسعة حيث تتحقق بها الحرمة المؤبدة.

وأولى الأوطار التي يحل فيها زواجها بزوج آخر هي في الطلقة الاولى بمضي عدتها دون رجعة منه في الرجعية او منها في المختلقة والمبارأة حين يقبل رجوعها.

و «وطرا» هنا مطلق يشمل قبل الطلاق وبعده ولمّا تخلص العدة ، ويقيده بخلاص العدة قبل الرجعة آيات الرجعة ، والمطلقة رجعية زوجة ، فلا يحل لها زواج آخر ما دامت في العدة.

وهنا نرى الرسول وهو مأمور بزواجها لنفسه لا ينكحها بنفسه حتى يزوجه الله إياها : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها)(١) وان كان يخطبها

__________________

(١) في الدر المنثور ٥ : ٢٠٢ ـ اخرج الحاكم عن الشعبي قال كانت زينب تقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انا أعظم نسائك عليك حقا انا خيرهن منكحا ـ

١٤٥

في ظاهر الأمر (١) وقد كانت تفتخر على سائر أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بزواجها الإلهي (٢)!

ولماذا «زوجناكها» ألحظوة الجنس فقط؟ وقد كان له ان يتزوج بها قبل ان يزوجها لغلامه ولم يفعل وهي راغبة اليه (صلى الله عليه وآله وسلم)! أترى الشريفة القريبة الى النبي ترجّح غلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه ، ثم النبي يرجح ثيبة غلامه على البكر؟!

__________________

ـ واكرمهن سترا واقربهن رحما وزوجنيك الرحمن من فوق عرشه وكان جبرئيل (عليه السلام) هو السفير بذلك وانا بنت عمك ليس لك من نسائك قريبة غيري.

(١) يروى الامام احمد ومسلم والنسائي من طرق عن سليمان ابن المغيرة عن انس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : لما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع ان انظر إليها وأقول ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرها فوليتها ظهري ونكحت على عقبي وقلت يا زينب ابشري أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذكرك قالت : ما ان بصانعة شيئا حتى أوامر ربي عز وجل فقامت الى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل عليها بغير اذن

(٢) في الدر المنثور ٥ : ٢٠٣ ـ اخرج الطبراني والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق الكميت بن يزيد الاسدي قال حدثني مذكور مولى زينب بنت جحش قالت : خطبني عدة من اصحاب النبي (ص) فأرسلت اليه (ص) اخي يشاوره في ذلك قال (ص) فأين هي ممن يعلمها كتاب ربها وسنة نبيها؟ قالت : من؟ قال (ص) : زيد بن حارثة فغضبت وقالت تزوج بنت عمتك مولاك ثم اتتني فأخبرتني بذلك فقلت أشد من قولها وغضبت أشد من غضبها فانزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ..) فأرسلت اليه زوجني من شئت فزوجني منه فأخذته بلساني فشكاني الى النبي (ص) فقال له : إذا طلقها فطلقني فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر الا والنبي (ص) وانا مكشوفة الشعر ـ

١٤٦

فانما «زوجناكها» لسياسة رسالية : «لكيلا يكون على المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا» قضاء على سنة عريقة جاهلية هي حرمة حلائل الأدعياء اعتبارا انهم أبناء (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ما كان ليقضى عليها إلّا عملا جاهرا من الرسول نفسه وقد فعل بأمر الله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).

فقد قضى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على جاهلية الفوارق الطبقية في بعدي تزويجه شريفة بعبد ، ثم تزويج زوجة عبده لنفسه ، ومن ثم جاهلية حرمة حلائل الأدعياء قضاء على كونهم أبناء ، ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بسهولة ، حيث التقاليد الاجتماعية اعمق أثرا في النفوس من أن تزول بسنّ القوانين المجردة ، إلا أن يسنها ويطبقها الرسول عمليا في نفسه ، ويواجه المجتمع بهذه العملية الصارمة التي لا يستطيع أحد ان يواجه بها ذلك المجتمع الصلد العارم!

يأتيه (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد مرة بعد اخرى يشكو اضطراب حياته الزوجية ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمل امر الله في تزويجها لنفسه ، ولكنه يحسّ ثقل التبعة ان اظهر أمره ـ على نفاذ رسالته ، فهو على شجاعته في مواجهة قومه في أمّر أمر من العقيدة المضادة لما يعتقدون ، دون أية لجلجة ولا خشية ، إذ ما كانت لتمس من ساحة رسالته ، نراه هنا متلجلجا يخشاهم على رسالته خشية من ربه أن تتهدّم اركان دعوته بما يتوقعه من مجابهة عنيدة في هذه المواجهة فيقول : (أَمْسِكْ

__________________

ـ فقلت هذا امر من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال : الله المزوج وجبريل الشاهد.

١٤٧

عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) فأخفى في نفسه فعلا ما الله مبديه ، ويعلم أن الله مبديه ، ولكن اين إبداء محمد من إبداء الله؟ إذ هم ليسوا ليعارضوا الله ويتهموه! مهما تجاسروا على معارضة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ جاء وحي حبيب من الحبيب يطمئنه بعصمته من بأسهم فنقله من خشيته تعالى بهم الى خشيته في تعميتهم ، فمهما كان حقا لك ان تخشى الله احتراسا عن الناس حراسا على رسالتك ، فالله أحق أن تخشاه إذ يطمئنك عن بأس الناس ، فهو الذي أمرك بتحقيق أمره العجيب الإمر ، حملا لا عباء الرسالة مهما كانت ثقيلة : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) وهو الذي يلقي في قلب الزوجين عزيمة الفراق ، وهو الذي يزوجك زوجة زيد بعد ذلك الفراق ، بولاية قاطعة لا مرد لها ودونما استمارة واستئمار منكما «زوجناكها» فهو الخاطب لك وهو المجرى صيغة الزواج ، فيدخل عليها الرسول بمجرد نزول الآية ودونما استئناس ، وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة التي حملّها فحملها في مواجهة المجتمع الذي كان يكرهها ويتقول فيها كما تقوّل البعض من المسلمين والجاهليون والمسيحيون (١)!

__________________

(١) في الدر المنثور ٥ : ٢٠٣ ـ اخرج الطبراني والبيهقي سننه وابن عساكر من طريق الكميت بن يزيد الاسدي قال حدثني مذكور مولى زينب بنت جحش قالت : خطبني عدة من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسلت اليه (صلى الله عليه وآله وسلم) اخي يشاوره في ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : فأين هي ممن يعلمها كتاب ربها وسنة نبيها؟ قالت : من؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : زيد بن حارثة فغضبت وقالت تزوج بنت عمتك مولاك ثم اتتني فأخبرتني بذلك فقلت أشد من قولها وغضبت أشد من غضبها فانزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ..) فأرسلت اليه زوجني من شئت فزوجني منه فأخذته بلساني فشكاني الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له : إذا طلقها فطلقني فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر الا والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانا مكشوفة الشعر فقلت هذا امر من السماء دخلت يا ـ

١٤٨

ولكن (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لا يمنعه مانع ولا يردعه رادع! إذ :

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(٣٨)

ضابطة سارية المفعول ترسمها الآية لحملة الرسالات الإلهية ألّا تقية لهم من الناس في بيان او تطبيق شرعة الله. فالحرج على اقسام عدة ، فقد يتحرج عن أصل الفرض على أية حال فلا يفرض على النبي والامة على أية حال : ف ـ (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢ : ٧٨) وقد يتحرّج لأمر في نفسه يعرضه كمرض يحرجه في فرضه فهو مفروض إلّا في حرجه للنبي والأمة ، وقد يتحرج بتحريج الناس فيتقيهم بتركه ، فذلك خاص بالامة بمن فيهم الأئمة دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا تقية له ، و (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) يعني الثالثة ، فان (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) تثبت فرضه فيخرج المحرج في أصله ، ثم «له» يخرج المحرج في نفسه ، فانه موضوع عنه وعن الامة سواء ، فليكن هو المحرج الخارج عن نفسه من بأس الناس إذ يحرّجون موقفه من تطبيق (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) فليس له أن يتقيهم حيث ضمن الله وقايته عن بأسهم كما هنا وفي قصة مارية وقضية بلاغ الإمرة.

ولماذا (فَرَضَ اللهُ لَهُ) دون «عليه» لأن الفرض هنا كان «له» حظوة بشرية ودعوة رسالية ، وحتى فيما لا خطوة له فيه شخصية ، بل عبء وثقل ، فلا يثقل على كاهله ، بل يستقبل فرض الله بكل رحابة صدر ورياحة خاطر ، فكل فرائض الله «له» لا «عليه» إذ لا يستثقلها على أية حال!

__________________

ـ رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال : الله المزوج وجبريل الشاهد.

١٤٩

إذا فليس النبي ليتحرج فيما فرض الله له مهما كان عبأه وثقله ، لا في قرارة نفسه لأنه يحمل الرسالة فعليه ما حمّل ، ولا يحق للامة تحريج موقفه لأنهم مرسل إليهم وعليهم ما حمّلوا ، فلا تقية للنبي فيما يحمله من رسالة الله مهما صعبت الظروف والتوت لأنه يقرر مصير الامة وعليه تمام المسئولية ، وهذه من سنن الله الثابتة في الذين خلوا من قبل من الرسل مهما تخلّف المرسل إليهم عن هذه السنة ولا يفرض الله لنبي ما لا يطيقه او يحيقه مهما كان أمرا إمرا وعبئا ثقيلا «وكان» طول الزمن الرسالية «امر الله» لأنبيائه «قدرا» قدره بعلمه وحكمته لصالحهم الرسالي «مقدورا» لهم قدر الطاقة لا محرجا ولا معسورا.

فهناك يشجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك الزواج دون تحرّج من قالة الناس ، وعطفا لخشية الناس في الله الى خشية الله مجردا عن الناس وهنا يندد بالذين يحرّجون موقفه فيما فرض الله له كسنة ثابتة للرسول وعلى الأمة ثم نفي الحرج عن النبي ـ لا محمد ـ وفيما فرض الله له ـ لا عليه ـ يدلان على ان الفرض هو الفرض الرسالي الذي يقرر مصير الأمة إذا فلا تقية في بلاغه حتى على نفسه ، والله يكفي خشية على رسالته ،

واما المفروض على الامة فقد يكون فيه حرج وقد لا يكون فيفعل أحيانا ويترك اخرى ثم (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) في هذه السنة هم :

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٣٩)

إنهم رجالات رسالات الوحي حيث يكثرون البلاغ ويشدقون في رسالات الله التي حمّلوا بلاغها. ويخشونه فقط في سبيل التبليغ ، ولا

١٥٠

يخشون أحدا إلّا الله ، حتى فيما يخشى على ساحة رسالتهم ، حيث الله ضامن لهم أمرهم ، ف ـ «يخشونه» تحصر خشيتهم في الله (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تنفي خشيه اي أحد في الله إذ يطمئنهم الله عن باس من سوى الله في سبيله الى الله.

والخشية خوف يشوبه تعظيم ، فخشية الناس في الله ان يخافوا عظم ما يفعلون حيث يغضب الله ، فان كفى الله خطرهم فلا خشية الّا من الله دون سواه وكما كفي الرسول بأسهم فأمر أن يتحول من خشية الناس في الله الى خشية الله في الله. (١)

ومن الخشية في الله من غير الله خشية العنت ، أن يخلف تخلفا جنسيا

__________________

(١) وقد عدت الجمعية الرسالية الأمر مكية زواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب في عداد سيئاته قائلين : انه أخذ امراة زيد الذي تبناه مع ان قومه عيروه الا انه لم يبال بتعييراتهم لان الشهوة إذا استولت على المجرد من النعمة الإلهية اماتت منه الاحساس ، نعم وان داود وقع في خطيئة الزنا ولكن يوجد فرق جسيم بين الأمرين فلم يأخذ داود امراة ابنه وثانيا إنه استغفر ربه واعترف بذنبه وتاب اما محمد فجعل هذه الخطيئة سنة لكل انسان فادعى ان الله امره بذلك.

ويقول الدكتور فندر الالماني في كتابه ميزان الحق ردا على الإسلام ص ٢٥٤ ومن ذنوبه انه في يوم من الأيام يذهب الى بيت زيد دعيه فلما دخل سبقت نظرته الى امراة زيد فأعجبته وشغفها حبا فقال : سبحان الله خالق النور تبارك الله احسن الخالقين فشعرت زينب بذلك فأخبرت به زوجها زيد فطلقها زيد اما خوفا من محمد او حبا وإخلاصا له فاختلق محمد الآيات التالية ان امره ربه بنكاح زينب ...

أقول هذه وتلك من القالة التي قيلت عليه من المسيحيين فتسربت قالتهم الى روايات المسلمين وكما نراها في الدر المنثور ونحن نضربها عرض الحائط لأنها خلاف كتاب الله والثابت من عقمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

١٥١

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) (٤ : ٢٥) وخشية القول الإمر : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٢٠ : ٩٤) وخشية الارهاق كفرا (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (١٨ : ٨٠).

فكل خشية في غير الله منهية ، وخشية غير الله في الله مرغوبة ما لم يكن هنالك مندوحة كما خشي الرسول الناس من قالهم عليه ، وإذا كانت هناك مندوحة كأن يكفي الله بأس ما يخشى فمنهية بعد ما كفى الله ، لا قبله ، وكما الرسول لم يخش الا الله بعد ما كفاه الله قالة الناس ، فخشيته قبله لم يكن بذلك المنهي!

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) تبليغهم رسالات الله وخشيتهم الله وأجرهم على الله ، فلا حسيب في هذه وتلك إلّا الله ، كما ليس بلاغهم وخشيتهم إلّا لله وفي الله!

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

هذه الآية مما كفى الله بها محمدا بأس قالة الناس : انه تزوج حليلة ابنه ، استئصالا ان يكون أبا أحد من رجالكم ابوة اصيلة ام رضاعية ام دعيّة هي بالإسلام منفية ، فهلا كان أبا ابراهيم والقاسم والطيب والطاهر؟ اجل كان ولكنهم ماتوا قبل رجولتهم ، ثم و «رجالكم» لا تشملهم ولو كانوا في رجولتهم ، فإنهم ـ إذا ـ من رجاله دون رجالهم! أم لم يكن أبا الحسنين (عليهما السلام) ومن ثم الأئمة من ذرية الحسين (عليه السلام) وسواهم من ذريته؟ اجل ولكن «ما كان» تضرب إلى الماضي قبل نبوته وبعدها لحّد نزول الآية والحسنان بعد طفلان لم يتزوجا حتى ياتي دور حليلتيهما انهما حل له ام لا! ولمّا تزوجا كان قد قضى نحبه

١٥٢

بزمن بعيد ، ثم وهم ليسوا من رجالهم بعد رجولتهم بل من رجاله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

ففيما سبق استأصل بنوة الأدعياء : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) فلم يكن زيد ابن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل ، حتى تحرم حليلته ، وهنا يستأصل أبوته لأحد من رجالكم لا الرجال ولا رجاله ، نفيا لابوته لزيد فتحل له حليلته ، ام امكانية زواجه بحلائل ابنائه ، فإنهم بين من توفي في صباه ، ومن ترجل بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن تزوج بها لم تكن حليلة ابنه ، ومن تزوج من رجاله فانما كانت رجولته وزواجه بعد موته ، إذا ففرية زواجه بحليلة ابنه منفية عنه مع الأبد.

انه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) تنتسبون اليه بالبنوّة ، وليست علاقته بالمسلمين إلّا علقة النبي بالامة (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) يحمل الرسالة والنبوة القمة الأخيرة (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أن لم يجعله أبا أحد من رجالكم وأبطل سنة الأدعياء وجعله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء.

ولماذا (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) بعد (رَسُولَ اللهِ) لا «خاتم المرسلين» «نبي الله وخاتم النبيين» او (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) فقط؟

إن الرسالة الإلهية هي بعد وحي النبوءة ، ولأنها درجات بعضها فوق بعض اختصت العالية بصيغة النبوة من النبوة الرفعة ، لا النباء الوحي (١) ولذلك وصف النبوة ياتي بعد الرسالة دون معاكسة : كما (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١٩ : ٥١) في موسى و ٥٤ في إسماعيل و (الرَّسُولَ النَّبِيَّ) (٧ :

__________________

(١) لذلك لما يخاطب به نبئ الله يقول : لا تقل يا نبيء الله انا نبيّ الله.

١٥٣

١٥٧) في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الوصف الأعلى ياتي بعد العال ، فالنبوة هي منزلة اشرف من الرسالة.

ف ـ (رَسُولَ اللهِ) تثبت منزلته الثانية مطابقة وقبلها النبوءة الوحي التزاما ، (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) تثبت ثالثة هي النبوة ، ورابعة هي القمة والاخيرة انه ختم وتصديق للنبوات ، فليكن أفضلهم وآخرهم ، فلا نبوة بعده فضلا عن رسالة او نبوءة اللهم إلّا إلهاما على هامشة تفهما لنبوته دونما استقلال! وقد يعني «النبيين» جمع النبيء والنبي معا ، استئصالا لأية نبوءة وحي او نبوة رسالة وبينهما رسالة الوحي فذلك المثلث السامي مسلوب بعد نبوته ، مصدّق لمن قبله به ، فلا نبئ بعده ولا رسول ولا نبيّ حيث «ختم به الوحي»!فلو قال «خاتم النبيئين» لكان هنالك مجال الرسالة بعده او نبوّة! ولو قال «خاتم المرسلين» لكان بعده مجال النبوة ، فلما قال (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) زال كل مجال من مثلث الوحي على أية حال!

وحتى ان كان جمع النبي فكونه خاتمهم يقتضي انقطاع الوحي به ، فلما ذا يوحي بعده ، أتكميلا لما اوحي إليه كما في ولي العزم الآتي بعد سابقه؟ وهو خاتم النبيين فلا أفضل منه ولا يسامى! ام حفاظا وتصديقا لوحيه عن تطرق التحريف كما كان يوحى الى أنبياء بعد اولي العزم بهذا الصدد؟ وقرآنه محفوظ بحفاظ الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فلما ذا الوحي بعد ، اللهم إلّا إلهاما لعترته المعصومين ، تفصيلا لما أجمله من كتاب او سنة ، فان دور الإمامة لا يعني إلّا نشر الرسالة بتفاصيلها الواقعة ، دونما زيادة ولا نقيصة. فكل رسول بعد ولي عزم من الرسل كانت رسالته وقائية غير مكملة لما كانت مع ولي العزم ، فانما كان يوحى اليه ما أوحي من قبل ليواصل رسالته متحللة عن كل تحريف. وهذه الرسالة السامية معصومة بكتابها القرآن العظيم ، وهو العاصم لها عن كل

١٥٤

ما يتقوّل عليها دونما حاجة إلى رسالة متواصلة بعدها ، ثم الائمة المعصومون يوفون اكثر مما يوفى بأية رسالة وقد فعلوا!

ان أفضل النبيين هم الخمسة الذين دارت عليهم الرحى وهو خاتمهم الذي يرأسهم لأن في تصديقه لهم اثبات كيانهم ، وكما أخذ الله ميثاقهم بالايمان به والنصرة له : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

لذلك نرى «النبي» بمختلف صيغه في سائر القرآن اقل من «الرسول» كذلك (١) مما يوحي بقلة النبيين بين المرسلين ، وحين تذكر النبوة بعد الرسالة لا نجد من الخمس إلّا محمدا وموسى ، ومن سائر المرسلين إلا إسماعيل وان كان سائر الخمس وجماعة من المرسلين نبيين.

ثم رسالته الالهية هي القمة لحد يلمح كأنه الرسول لا سواه حيث «الرسول» معرفا لا نجده إلّا إياه (٨٤) مرة وكذلك «النبي» (٣٣) مرة لا يعني إلّا إياه ، مما يطمئننا أن الرسالات والنبوات الإلهية مركزة في جنابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الرسل والأنبياء انما جاءوا لتعبيد الطريق لهذه الرسالة النبوة السامية!

__________________

(١) النبي (٦٩) مرة والرسول «٣٩٤» مرة لكنهما معرفا مفردا لا يعنيان الا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي نور الثقلين ٤ : ٢٨٤ ح ١٤٣ في مناقب ابن شهر آشوب عن انس في حديث طويل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : انا خاتم الأنبياء وأنت يا علي خاتم الأولياء وقال امير المؤمنين (عليه السلام): ختم محمد الف نبي واني ختمت الف وصي واني كلفت ما لم يكلفوا».

١٥٥

فهو هكذا «رسول الله» وهكذا «نبي الله» لا فحسب بل (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) حيث ختم النبؤآت والرسالات والنبوات فلا نبئ بعده ولا رسول ولا نبيّ ، ولا وحي بعده ولا كتاب ، ولا شرعة بعده ولا اي جديد من سماء الوحي! ليس هو ـ فقط ـ خاتم النبيين ، بل (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) فالخاتم وهو اسم لما يختم به ويصدّق فهو أبلغ من الخاتم وأعمق دلالة على خاتميته للنبوات ، فقد بلغ من ختمه النبوات وتصديقه لها الى حدّ سمي بالخاتم كما الرسول والنبي على سواء ، دون من يختم كآخر لما يختمه وليس يصدقه ، او قد ياتي بعده من هو ارقى منه ، ولكن موقع هذا النبي من النبيين موقع الخاتم ختام (١) المكتوب حيث يصدقه والمكتوب تحته مكذوب ، وكذلك الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فمدعي النبوة بعده مكذوب والذي لم يصدقه ممن قبله غير مصدق ، فهو السطر الأخير من أسطر الوحي يصدّق ما قبله من وحي ، ويكذب ما بعده من دعوى الوحي وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): انه سيكون في امتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» (٢) وهو اللبنة الاخيرة من بناية الرسالة كما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» (٣).

__________________

(١) الخاتم ما يختم به وسمى خاتم الزينة به لان فصه كان يحكّ عليه اسم صاحبه يختم به كتاباته

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢٠٤ ـ اخرج ابن مردويه عن ثوبان قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه اخرج احمد عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : في امتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم اربع نسوة واني خاتم النبيين لا نبي بعدي

(٣) المصدر اخرج احمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... واخرج ما في معناه باختلاف يسير مع الاحتفاظ على الأصل ـ

١٥٦

ويوجد العديد من تصريحات خاتميته بطيات بشارات في كتابات الوحي برسالته وكما في الأصل العبراني من كتاب حبقوق؟؟؟ النبي الفصل ٣ : ٣ ـ ٦ إلوه متيماه يابوء وقادوش مهر پاران سلاه ... ٣ ونعه كااورتهيه ... ٤ هليخوت عولام لو ٦ :

الله من يتمان ياتي والقدوس من جبل پاران : فاران ـ حرى ـ مع الأبد .. شعاعه كالشمس .. ومسالك الأزل له» ف ـ «باران» هو جبل حرى (١) : فاران مطلع النور المحمدي ، اشراقه مع الأبد حيث شعاعه كالشمس ومسالك الأزل له ، فلا انطفاء لشعاعه إلّا بانتفاء الدنيا.

وفي «نبوءت هيّلد» وحي الطفل حسب الأصل الانقلوسي «محمد كايا إعابايا ديطمع هويا وهيهى كليليا» : محمد كبير قدير ـ الشجرة الرفيعة الطيبة ـ مأمول لإفناء ما كان وإطفاء النائرة ، وهو الكل والتاج وحمل على الأكتاف».

__________________

ـ البخاري ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واحمد والترمذي وصححه عن أبي بن كعب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي نور الثقلين ٤ : ٢٨٤ ح ١٤٤ في روضة الكافي باسناده الى علي بن عيسى رفعه قال : ان موسى ناجاه الله تبارك وتعالى فقال له في مناجاته : لا يطول الدنيا أملك ـ الى قوله عز وجل : له في وصيته له بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا موسى انه امي وهو عبد صدق ويبارك عليه كذلك فيما وضع يده عليه كذلك كان في علمي وكذلك خلقته به افتح الساعة وبأمته اختم مفاتيح الدنيا وح ١٤٥ في عوالي الكالى وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): انا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا».

(١) وهذا اجماع مؤرخي العرب ان فاران هو حرى وكما يصرح في سفر التكوين ٢١ : ٢١ «واقام ببرية فاران «يعني إسماعيل بن ابراهيم من هاجر ، راجع ص ٤٦ ـ ٥٣ من كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» تجد تفصيل هذه البشارة.

١٥٧

فكونه كلّا يفصح أنه مجمع جماع الرسالات الإلهية ، وكونه تاجا على رءوس رجالات الوحي يجعله أفضلهم ، فما ذا بعد الأفضل الكلّ؟! إلا الناقص الكلّ؟!

وفي إنجيل يوحنا ١٤ : ١٦ حسب الأصل السرياني : «وأنا بت طالبن من ببى وخين بار قليطا بت يبل لوخون هل ابد» :

«وانا أسأل الآب : الخالق ـ خالقي ـ فيعطيكم فارقليطا آخر ليقيم معكم إلى الأبد»

وفار قليطا في الأصل اليوناني : بريكليطوس بمعنى محمد ـ أحمد ، ومحمّد آخر يعني نبيا محمودا في غاية المحمودية هو آخر الآخرين ليقيم معكم الى الأبد (١).

وليست خاتمية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحاجة الى سرد الادلة ـ وهي كثيرة في الكتاب والسنة لأنها من الضروريات القاطعة الإسلامية حيث تردف رسالته بخاتميته دونما ريبة ، والآيات في مثلث من خاتميته بين المرسلين والنبيين ، وخاتمية كتابه بين كتب السماء ، وخاتمية شرعته بين الشرائع تبلغ عشرات.

__________________

(١) راجع رسول الإسلام ١٤٦ ـ ١٥٧ فيه تفصيل البشارة بفارقليط.

١٥٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)

١٥٩

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ

١٦٠