الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

فأين هذه الذرة الصغيرة الهزيلة التي تتلاعب بها الرياح ، وواجهة الجلال الذي لا تدركه الأبصار ، وتحار دون معرفته الأفكار ، وتتضاءل في ظله الظليل كل حقير وجليل ، اين هي كما هيه وتلقي ذلك النداء العال من الرب المتعال ، لولا اختياره؟!.

وانها لحظة ترتفع فيها البشرية ، فبحسبها ان يليق في جزء من أجزائها ان تتصل هكذا بالملإ الأعلى ، وأفضل منه وأعلى ، أن يخاطبها الله بتلك النداء!.

(يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) فأنت الآن يا موسى بقرب من الحضرة العلوية ، فتجرد عن نعليك ، ولا تطإ الوادي بهما وهو مجلى الطلعة المقدسة الربانية!.

أترى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ل (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)؟ وقد كان يعلم موسى أنه هو ربه ولم يكن خالع نعليه ، وليس الذي حدث الآن معرفة له جديدة انه هو ربه حتى يخلع نعليه ل (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)!

ثم وليس على كل موحّد لله ان يخلع نعليه على أية حال ، وانما (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ل (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

والواد المقدس الذي طواه ، هو واد الوحي الرسالي ، وهو اقدس واد في الكون ، فليكن طاويه أقدس من في الكون ، وخلع النعلين هو من كمال القداسة المناسبة لواد الوحي.

عرفنا الواد المقدس وهو مهبط الوحي فما هي «طوى» التي طوى ذكرها آيتا طوى ثانيتهما النازعات (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

قد تكون «طوى» اسما للواد المقدس ، ام اسم وصف له لأن الوصول اليه بحاجة الى طي مسافات بعيدة من مسالك المعرفة والعبودية أمّا هيه ،

٤١

ولكنه يقتضي قلب التعبير ك «انك بطوى الواد المقدس» فالواد بدل ـ إذا ـ عن طوى ام عطف بيان.

ام هي مصدر الطي ، منصرفة خلاف الأولى ، حالا عن الواد المقدس وعن موسى ، فهي بمعنى الفاعل والمفعول مبالغة في الطي ، فاعلا للواد المقدس حيث طوى موسى ، ومفعولا لموسى المطوي به عما سوى الله ، وعما سوى الوحي ، فليخلع نعليه اللذين طوياه عن نور الوحي ، فليكن موسى طوى كما الواد المقدس طوى ، طيا عما طواه وحواه من حجب ، الى ما طواه من الوحي وحواه في الواد المقدس ، فلما طوى ما طوى عن اهله وتجلل عنهم وسواهم ، طواه الله بالوحي بعد انتشار حاله وتفرق باله.

وقد تكون «طوى» مثلث المعنى ، اسما وصفيا للواد المقدس وحالا عنه وعن موسى ، ويا له من سمو المعنى.

ثم وما هما النعلان اللذان امر هنا لك بخلعهما (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)؟ أهما نعلا رجليه؟ إذ كانتا من جلد حمار ميت» (١) ولبس الميتة غير مشكور ، وهو في الصلاة محظور ، وطوى الواد المقدس هي كالصلاة بل اولى ، لذلك فرعت (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) على (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) وكان الواجب عليه خلعهما دون امر ، مع ما في لبسهما في الصلاة والواد من غضاضة» (٢).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٣ ابن بابويه في الفقيه سئل الصادق (عليه السلام) عن الآية قال : كانتا من جلد حمار ميت وفي الدر المنثور ٤ : ٣٩٢ اخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاكم عن علي (عليه السلام) مثله.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٧٣ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم (ع) حديث طويل وفيه قلت فاخبرني يا بن رسول الله عن امر الله لنبيه موسى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) فان فقهاء الفريقين ـ

٤٢

إلا أننا لا نعرف غضاضتها في الشرعة الموسوية وحتى في الصلاة! ولبس الميتة لا يلازم صحبتها في الصلاة ، بل ولا يصح لبس النعل الطاهرة فيها لقداسة الموقف ، وقدسية الواد كانت بحاجة الى بيان وقد تبين (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

قد يعني «نعليك» مصاديق لهما عدة ، أولاها في المظهر وأولاها في الظهور هما النعلان الملبوستان ، وهذه طبيعة الحال في كل واد مقدس

__________________

ـ يزعمون انها كانت من إهاب الميتة قال صلوات الله عليه من قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوته لأنه ما خلا الأمر فيها من خطيئتين : اما ان تكون صلاة موسى فيها جائزة او غير جائزة فان كانت صلاته جائزة جاز لبسها في تلك البقعة إذا لم تكن مقدسة وان كانت مقدسة مطهرة فليست بأقدس واطهر من الصلاة وان كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب على موسى (عليه السلام) انه لم يعرف الحلال من الحرام وعلم ما جاز فيه الصلاة وما لم يجز وهذا كفر ، قلت فاخبرني يا مولاي عن التأويل فيها قال صلوات الله عليه ان موسى ناجى ربه بالواد المقدس فقال يا رب اني قد أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك وكان شديد الحب لأهله فقال الله تعالى : اخلع نعليك أي انزع حب أهلك من قلبك ان كانت محبتك لي خالصة وقلبك من الميل الى من سواي مغسول».

أقول هذا الحديث معارض بما تقدم ، ثم هو متهافت من جهات عدة ، منها «جاز لبسها في تلك البقعة إذا لم تكن مقدسة» وهي مقدسة حسب نصّ الآية! اثم «فليست بأقدس واطهر من الصلاة» وهي اقدس منها لأنها بقعة الوحي ومعراجها ارفع من معراج الصلاة! ثم «فقد أوجب الله على موسى انه لم يعرف الحلال من الحرام» ولماذا ، فحين لا يعرف انها بقعة مباركة ، على الله ان يعرفه كما عرفه (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) ولما عرف خلع نعليه ، ثم «وعلم ما جاز فيه الصلاة وما لم يجز وهذا كفر» ، ماذا يعني؟ فهل هو علمه بالنسبة للصلاة وجهله حكمه بالواد المقدس ، وأين الكفر هنا او الفسق والوحي يعلّمه هنا انه الواد المقدس فاخلع ، ثم لا نعلم ان ذلك الخلع كان واجبا في الصلاة كما هنا ام لا ، إذا فالحديث متضارب في نفسه بعد تعارضه الحديث الأول ، وعل الحق ما قلناه في المتن ـ تأمل.

٤٣

يطوي وارده طيا وينطوي فيه انطواء ، فكما ان ادب الحضور في الصلاة ـ وهي معراج المؤمن ـ يقتضي إصلاح الأدب الظاهر على ضوء الباطن ، لبسا لطاهر الثياب ومحلّلها ونظيفها ، كذلك خلع النعلين مهما كانا نظيفين فإنهما للمشي في الطرقات دون الغرف المفروشة فضلا عن الواد المقدس طوى ، الذي هو اقدس من الصلاة وأطوى ، حيث العلوم الربانية فيها مطوية ، فالحفاء هناك اقرب الى التواضع والحفاوة ، ولأنه يلاصق قدمه الوادي فيتبرك به ، كما هو يتبرك ببركة الوحي الرباني ، فكيف يقدم الواد المقدس طوى وهو مطوي تعلقا بغير الله ، ام في رجليه بنعليه ، امّا هي من تعلقات تنافي الحضور المطلق.

وفي هذه الآية لمحة اكيدة ان لبس النعلين حالة الصلاة غير مشكور ، بل هو محظور ، (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) ولأنهما لم تقرنا بوصف الميتة ام سواها من محظورات ، نتلمح ان اصل النعلين غير صالح بالواد المقدس ، وأي واد اقدس لنا من وادي الصلاة وهي معراج المؤمن ، وحالة التطامن والذل لا يناسبها الوقوف بمظهر الماشي في الطرقات ، وقاية عن القذارات ، اللهّم لمن اضطر غير متجانف لاثم فلا اثم عليه ، كحالة الحرب والفرار عن المحظور ، والرواية القائلة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى في نعله قاحلة مفترية عليه جاهلة (١).

ومن ثم الأهل زوجة وأولادا ، حيث يتمشى بهما الآهل في حياته ،

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ٢٢ : ١٨ وقد صلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا : خلعت فخلعنا قال : فان جبريل اخبرني ان فيها قذرا» أقول واقذر منه نسبة هذه الفعلة الهاتكة الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) تاركا امر ربه (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

٤٤

و (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) والنعل من اللباس (١) والسالك الى الله ، والى وادي المقدس طوى ، عليه ان ينسى اهليه وعبأهم في هذه السبيل ، قدر ما هم يصدون عن السبيل ، ام عن تكملتها ، أم يخرج حبهم عن قلبه ، مهما يهتم بأمرهم قدر الواجب في شرعة الله ، فخالص الحب في الله ، ولا سيما بالنسبة لمن يحمل رسالة الله ، لا يلائمه حب غير الله ، ف (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) وليكن قلب الرسول مليئا كافة من حب الله والحب في الله.

وكذلك الأمر «خوفيك» خوفه من ضياع اهله وقد خلفهما بمخض ، وخوفه من فرعون» (٢) ف (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٣٣ : ٣٩).

فحين يريد الله ان يبلغ موساه الى مدرجة الوحي ، بالواد المقدس طوى ، وهو مطوي قبله بالكثرات ، يبتليه بالعسرات ، حيث يسلط عليه البرد وهو مع اهله في الصحراء ، وظلمة الليل ، وتفرق الماشية ، ومخاض المرأة ، وعدم انقداح الزندة ، وضلال الطريق حتى اندهش بغاية الدهشة ، واستوحش بالغ الوحشة ، ثم يريه نوره بمظهر النار المؤنسة ، ويبلغه الى الواد المقدس طوى ، طالبا منه (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

ومن ثم رابعة : الخلع ، ان يخلع نعلي الدنيا والآخرة ، ألا يهوى فيهما ولا منهما إلا رضوان الله ، دون هوات النعيم في الأولى ، ولا لذاته في

__________________

(١) ورؤيا النعل والحذاء في المنام تعبر بالزوجة ، ومن يقظته ان ابراهيم لما ذهب إلى مكة ليزور إسماعيل فلم يجده في بيته ولم تستقبله زوجته ، قال لزوجته إذا جاء إسماعيل فقولي له بدل حذائك ، فلما سمعها إسماعيل طلقها تعبيرا للحذاء بالأهل.

(٢) تفسير البرهان ٣ : ٣٣ ـ ابن بابويه بإسناد متصل الى الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) انه قال في قوله عز وجل لموسى : اخلع نعليك يعني ارفع خوفيك .....

٤٥

الأخرى ، فان نعيم القرب والرضوان أنعم من نعيم الآخرة والأولى.

وخامسة هي انخلاعه عن نعلي الحجب : حجاب الإنية الذاتية ، والحجب الخارجية ، حتى يستعد للوحي في مقام قاب قوسين دنوا الى الله حيث ليس بينه وبين الله أحد ، وكما

يسئل الامام الصادق (ع) ما تلك الغشية التي تعتري رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : ذلك هو الوحي ، ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد».

وسادسة هي انخلاعه عن نعلي الروح والجسم ، حيث الحيوية المتعودة تتبناهما ، فليتركهما وحالهما ، متجردا بقلبه الى الله ، سفرا سافرا الى الله ، لا يحسب نفسه شيئا بجنب الله ، متغافلا عما لديه عند الله ، متحللا عما سوى الله ، متعلقا ككلّ بالله.

هذه اماهيه من نعال فيها انشغال عن الله ، عليه ان يخلعهما (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)! فالنعل ما يمشى بها الى بغية ، مادية ام معنوية ، فإذا موسى واصل الى بغيته القصوى ، الى الواد المقدس طوى ، فليخلع نعليه ، واقفا حافيا بقدميه ، حيث يمشي منذ الآن ويمشّي براحلة الوحي من الله ، فلا حراك له بعد ولا سكون الا بالوحي ، دون سائر التعلقات والوسائل الماشية سوى الوحي ، فانه منذ الآن مختار الله.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) ١٣.

وترى موسى المختار لربه هو أدنى من الواد المقدس حتى يؤمر بخلع نعليه؟ اجل! انه كموسى قبل ان يوحى اليه ادنى من الوحي وواديه ، وليست قدسية الوادي الا بقدسية الوحي ، فان شرف المكان بالمكين ، فلا قداسة ولا نحوسة لمكان او زمان ، الا بما حل في مكان او زمان ، وقد حلت بارقة الوحي البازغة لموسى في ذلك الواد ، فقدس بها كما قدس موسى ، وأمر أن يخلع نعليه (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

وذلك حكم عام لكل واد مقدس ، كالمساجد وحضور الرسول (صلّى

٤٦

الله عليه وآله وسلم) والأئمة (١) ام قبورهم ، حرمة لله ، وتبجيلا للمقربين إلى الله.

هنا موسى خيرة الله ـ وطبعا على علم ـ على العالمين ، وإلّا فكيف يبعث رسولا الى العالمين ، كما هو الصيغة الشاملة لكافة المرسلين ، انهم خير العالمين باختيار رب العالمين.

و «اخترتك» هنا هي بصيغة اخرى هي ادل وأحرى في «طه» نفسها. (... فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٤٢) و (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٧ : ١٤٤) اجل (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢٠ : ٢٩) : تصريحات اربع تبين محتدة الرفيع التربوي الرسولي والرسالي!.

اجل والرسل كلهم صنائع الرب لنفسه ، ليحمّلهم رسالاته آمنين مأمونين ، حتى لا تشوبهم شائبة ، ولا تنال منهم نائلة نائبة ، فتصبح مساعيهم خائبة.

فيا لموسى تكريما كريما ان يختاره الله ويصطنعه لنفسه ، وهكذا تكون رسالة الوحي ، لا تستحق على الله ، فانها خيرة الرب لا سواه ، وليست سائر الأسباب للمختار برسالة الله ، إلّا تقدمة لظرفها الصالح لها ، دون ان تكون المساعي الشخصية ، او الشوراءات ، لها مدخل قاطع في تلقي الوحي ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٧٤ في الخرائج والجرائح قال علي بن أبي حمزة كنت مع موسى (عليه السلام) (اي موسى بن جعفر) بمنى ثم مضى الى دار بمكة فأتيته وقد صلّى المغرب فدخلت عليه فقال : اخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى فخلعت نعلي وجلست معه.

٤٧

فانما هي خيرة الله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥).

فهي إذا رعاية الرحيم الرحمان لهذا الإنسان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

والإختيار افتعال من الخير ، فقد يختار الإنسان نفسه بما يعتمل من صالحات فيكتمل ، ولكنه لقصوره في ذلك الاختيار لا يصل الى القمة وهي العصمة علمية وعملية وتطبيقية.

ولكنه حين تمتد اليه يد الرحمة الإلهية الخاصة ، بعد ما سعى سعيه وقد اختار له ربه ظروف السعي العليا منذ أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، والى الولادة والنضوجة العقلية ، آنذاك تشمله الخيرة الإلهية الثانية لإفاضة العصمة والتسديد الرباني ، فهو مختار الله في ابعاد ثلاثة ، والزاوية الوسطى بينها هي مساعي العبد باختياره على ضوء ما قدم الله له من قبل ، ونظرة ما يؤخره له من بعد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وهاتان آيتان بدائيتان من الوحي القدامي أمام وحي الرسالة ، تهيئان لموسى ظرف الاستماع لذلك الوحي بسمع القلب وقلب السمع ، (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) وكان سامعا لما اوحي قبلها ولكن منذ الآن عليه الاستماع بعد سمع ، تحضيرا لمسامع قلبه ولبه وفؤاده ، بعد سمعه.

فحين يتم الإختيار الرباني لرجل رباني يحين حين استماع الوحي بعد سماعه ، وبعد تحمل مشاق في سبل التخيّر ، التي فيها أشلاء ودماء وحرمانات وكل ما هو آت في هذه السبيل المليئة بالأتعاب والأشغاب.

وفي تفريع الاستماع (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) على الاختيار (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) دليل ان الاختيار دليل الاستماع ، فلولا الاختيار لم يك استماع لما يوحى ، فهو اختيار لوحي الرسالة ، بعد ما اختير لعبودية كاملة هي ذريعة للرسالة.

٤٨

وموسى هنا بطبيعة الحال يستعد للاستماع بكامله وقد يصح ما قيل فيه انه وقف على حجر واستند الى حجر ، ووضع يمينه على شماله ، والقى ذقنه على صدره وأصغى بشراشره ، فأصبح كله أذنا صاغية واعية ، ومن أدب الاستماع حضور المستمع بكل محاضره ومسامعه ، تأهّبا لتعلمه وتفهمه ، ثم تطبيقه ونشره ، وذلك هو الاستماع الكامل الحافل لغايته ، وهو استماع الرسالة ورسالة الاستماع ، وإلا فلا سماع ولا استماع.

فموسى الرسول هنا يستمع كرسول ، دون ما استمعه من قبل بما يتبنى شخصه قبل رسالته نبوءة شخصية : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٨ : ١٤).

فقد كان اصطناعه مرحليا كسائر الرسل ، شخصيا كما يجب ثم رساليا (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) :

وهنا يختصر الوحي في بدايته الرسالية في بنود ثلاثة مترابطة مع بعض ، التوحيد والعبودية والساعة ، وهي بصيغة اخرى : المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ، وهذه هي الأصول الموضوعية الرئيسية للشرعة الإلهية ككل وفي كافة الرسالات.

ولماذا (لِما يُوحى) بعد (أَنَا اخْتَرْتُكَ) دون «ما أوحي»؟ علّه لأنه مما يوحى لكافة الرسل ككل ، لا فقط لموسى ، بل «لما يوحى» على طول خط الرسالات ، إيناسا له بعامة الوحي وهامته :

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ١٤.

كلمات ثلاث هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، ومن ثم الى إحدى عشر آية ، عرض لواجب الرسالة تدريبا لآياتها (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ..

٤٩

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) ثم ذهابا الى فرعون وهو رأس الزاوية في متاهة الضلالة ، ومن ثم اثنتي عشرة آية أخرى يتطلب فيها موسى من ربه شرح صدره ، وتيسير أمره ، وحل العقدة من لسانه ، وشد أزره بوزير من اهله تكملة لأمره.

فقد فصّلت الأصول الثلاثة هنا لك بعد ما أجملت ، خلال ثلاث وعشرين آية ، عرضا موجزا عن كل الرسالة الموسوية وكافة الرسالات فانها سلسلة موصولة في خيوطها وخطوطها على مدار الزمن الرسالي إذ (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

«انني» لا سواي (أَنَا اللهُ) لا سواي (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لا سواي ، توحيدا في كافة جنبات الالوهية والربوبية.

وهذه هي قضية الحضور في الوحي ، تعريف المسمى الحاضر باسمه في توحيده ، تعريفا للذات بوصف الاسم ، لا تعريف الاسم بوصف الذات ، فالنص (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) لا «ان الله انا».

فالله ذاته هو حاضر بذاته ، يعرف نفسه باسمه الذي يخطؤه الجاهلون الى سواه : «انني انا» المسمى ب «الله» لا سواي ، ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١٩ : ٦٥)؟

وهنا بعد اثبات انه هو الله دون سواه ، إذا ف (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لان الكل غير الله ، فكيف يشرك غير الله بالله ، والالوهية الاصيلة خاصة بالله كما يعترف بها المشركون ، ولكنهم يشركون به من لا يسمونهم باسم الله ، وانما آلهة دون الله ، متهمين الله انه اشركهم بنفسه ، ام هم يشركونهم به إذ لا يصلون اليه نفسه ، فليصلوا بآلهة اخرى هم من خاصة عبادة (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣٩ : ٣).

وهنا «فاعبدني» يفرّع عبوديته الوحيدة على ألوهيته الوحيدة ، فاصل

٥٠

عبوديته ل (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) وانحصارها فيه حيث (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) والعبودية وهي خالص الخضوع والخشوع للمعبود لا تحق إلا لخالق الوجود ومدبر كل موجود ، وهو هو الله الخالق المدبر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤).

فالألوهية الوحيدة هي قوام العقيدة وقضية العمل وفقها ، والعبادة تشملها توجها الى الله الواحد في كل نشاطات الحياة وواجهاتها ، فليكن العبد بشراشره ظاهرة وباطنة عبد الله وتعبدا في الله ، وليست العبودية الا بعد المعرفة حيث تتبناها في البداية ثم زائد المعرفة تتبنى العبودية كما تتبنى سائر وسائلها.

ولان الصلاة هي قمة العبودية وعمود الدين العبادة ، لذلك تختص بالوصية بعد مطلق العبودية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فيا لهذا الوحي الحبيب من طلاوة ، وفي تلاوته من حلاوة ، حيث يؤثر فيمن يحمل غضاضة بكل هزازة وهو الخليفة عمر حيث يأخذ سيفه ليقتل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه صبأ وأصبأ معه جماعة آخرين ، فلما يقرأ طه الى هنا يؤمن! (١) اجل (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٩٢ ـ اخرج ابن سعد وابو يعلي والحاكم والبيهقي في الدلائل عن انس قال : خرج عمر متقلدا بالسيف فلقيه رجل من بني زهرة فقال له اين تغدو يا عمر قال : أريد ان اقتل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : وكيف تأمن بني هاشم وبني زهرة فقال له عمر ما أراك الا قد صبوت وتركت دينك قال أفلا ادلك على العجب ان أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما خباب فلما سمع خباب بحسّ عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم وكانوا يقرؤن طه فقالا ما عدا حديثا تحدثنا به قال فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه يا عمران كان الحق في غير دينك فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها فنفحها نفخة بيده فدمى وجهها فقال عمر اعطوني ـ

٥١

ولان (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) تحمل قمة البيان للصلاة والدافع لها وغايتها ، لأنها بداية الوحي على موسى ، وهي موجّهة كذلك وباحرى الى محمد آل طه ، فلتكن حاوية كل ما للصلاة من صلات بالعبد وبالله وبنفسها شروطا واجزاء ومقارنات ومقدمات ، بهذه الصيغة الاجمالية الجميلة ، وهي كذلك حين نتأملها كيف نتعملها.

ف «أقم» تحمل كافة القيامات الظاهرية والباطنية ، فردية وجماعية للصلاة ، فانها قد تؤتى غير مقامه بما يتوجب فيها ، وهذا قيام إليها دون اقامة لها (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٤٢) (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) (٩ : ٥٤) (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٤ : ٤٣) وهذه وأشباهها هي من اضاعة الصلاة ولم نؤمر في كل القرآن إلا بإقام الصلاة.

والصلاة تعمها قالا وحالا وافعالا ، فلتكن مقامة في مثلثها على أية حال.

__________________

ـ الكتاب الذي هو عندكم فأقرؤه فقالت أخته انك رجس نجس وانه لا يمسّه الا المطهرون فقم فتوضأ فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرء طه حتى انتهى الى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فقال عمر : دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال : ابشر يا عمر فاني أرجو ان تكون دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... فخرج حتى أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)

وفيه اخرج ابو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال حدثنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل (عليه السلام) قال قال الله عز وجل : اني انا الله لا اله الا انا فاعبدني من جاءني منكم بشهادة ان لا اله الا الله بالإخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي.

٥٢

ومن ثم «لذكري» تحمل احتمالات عدة تلائم ادب اللفظ وحدب المعنى :

فالذكر هنا بين دافع وغاية ، والاضافة في كلّ بين ما هي الى فاعل او مفعول ، واللام في «لذكرى» بين توقيت وتعليل ، والظرف بين تعلقه ب «فاعبدني» و «أقم» و «الصلاة».

ثم الذكر بين قال وحال وافعال ، تواصلا في ذلك المثلث البارع ، من ذكر اللسان وذكر الأفعال وذكر الأحوال ، فطرية وعقلية ، وفكرية وصدرية وقلبية ، ولبية ، وفؤادية ، حتى يصبح المصلي كله ذكرا لله كما كله عبد وعبادة لله.

فدافع الذكر للصلاة هو باضافة المصدر الى فاعله : لذكري إياك ، فكما اني أذكركم في عطيات دائبة فأقيموا الصلاة ذكرا لي كما أذكركم ، ذكرا بذكر واين ذكر من ذكر.

ودافع ثان ان ذكري مفطور في فطركم وعقولكم فأقيموا الصلاة بدافع ذكري الفطري ، حيث فطرتكم بتوحيدي ، حتى وان لم آمركم بها ، حيث الأحكام الفطرية ليست بحاجة الى أوامر منفصلة ، اللهم الا ان تكون لها ذكرى ، وكذلك سائر ذكري في الآفاق وفي أنفسكم ، من وحي العقل ووحي الرسالات ووحي الكائنات ان لا اله الا انا فاعبدني حيث الكائنات برمتها هي ذكر لله بما قرره الله!.

ثم وغاية الذكر بالصلاة هي باضافة المصدر الى مفعوله ، أقم الصلاة لذكرك اياي ، لتذكرني بها فانها خير ذكر قالا وحالا وافعالا ، والى فاعله لغاية ذكري إياك في أولاك وأخراك ، وهذه كلها في وجه التعليل المستفاد من اللام ، دافعية ام غائية.

ومن ثم «لذكري» توقيتا ، (أَقِمِ الصَّلاةَ) حين تذكرني ، لا حين

٥٣

الغفوة والغفلة كمن يأتون الصلاة كسالى ام سكارى ، ثم لوقت ذكري الذي فررته لي (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (٤ : ١٠٣) ومن ثم توقيتا هامشيا لمن نسي صلاته في وقتها ف (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) حين تذكرها كما (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (١٧ : ٧٨).

وانما كررت ـ فقط ـ هذه الاخيرة فيما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ، لأنها أخفى مصاديقها بين المحتملات بما هي هامشية غير اصيلة.

فقد «سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن رجل غفل عن الصلاة حتى طلعت الشمس او غربت ما كفارتها؟ قال : يتقرب الى الله ويحسن وضوءه ويصلي فيحسن الصلاة ويستغفر الله فلا كفارة لها الا ذلك ان الله يقول : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١).

ومن هنا يتبين ان الفائتة مقدمة على الحاضرة ، إلا إذا خيف على فوت الحاضرة كما استفاضت به الرواية عن الائمة الطاهرة (٢).

وهناك ذكر القال في قيلات الصلاة ، بحال ومنها النية الصادقة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٩٤ ـ اخرج الطبراني وابن مردوية عن عبادة بن الصامت قال : سئل ... أقول : وقد اخرج قضاء الصلاة هكذا سنادا الى الآية بعدة طرق عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم).

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٧٥ بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت اخرى فان كنت تعلم انك إذا صليت التي فاتتك كنت في الاخرى في وقت فابدأ بالتي فاتتك فان الله عز وجل يقول : أقم الصلاة لذكري ـ وان كنت تعلم انك إذا صليت التي فاتتك فاتتك التي بعدها فابدأ بالتي أنت في وقتها فصلها ثم أقم الاخرى.

٥٤

الصافية ، وبافعال هي كل افعال الصلاة ، وهذه المحتملات بضرب بعضها في بعض تصبح (٢٤٠) احتمالا وان كان بعضها مكرورا وآخر بين منكور ومشكور ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه الى احسن الوجوه ، ولان الصلاة هي خير موضوع لذلك «لا تترك الصلاة بحال».

وهكذا نرى ان للصلاة صلات عريقة دافعية وغائية وزمنية ، كلها تحور على محور ذكر الله (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وكيف لا؟ وانها أكمل صورة من صور العبادة وسيرها ، وأفضل وسيلة من وسائل الذكر حيث تتمخّص لهذه الغاية ، وتحصل بذلك الدافع ، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى ، فتجمّع الإنسان للاتصال بالله ، حيث تعلّقه بالله بما دنى بها العبد أو تدلى ، فكان قاب قوسين أو ادنى ، ولذلك يروى عن صاحب المعراج قوله «الصلاة معراج المؤمن»!

ثم وفي تقسيم خاصر يحوي كل هذه التقاسيم «لذكري» انه بين قلبي وقالبي ، وقلب الذكر هو ذكر القلب ، وليس القالب الا حاكيا عن القلب فمزيدا لذكر القلب ، والجمع فيهما هو جمع الذكر ، ان يصبح الإنسان كله ذكرا لله ، إيصالا للصلاة القالبية الى الصلاة القلبية ، ومن ثم الى كافة المراحل الروحية.

فحين تحلّق الصلاة الذكر والذكر الصلاة على الإنسان ككل ، يصبح كله صلات بالله بصلاة لله ، وآنذاك (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٢٩ : ٤٥).

ومن افحش الفحشاء الرئاء ، فصلاة المرائي ليست «لذكري» بل لذكر الناس في أسفل درك من الرئاء ، ولجمع الذكرين في سائر دركاتها ، وان ذكر الفطرة وذكر العقل وذكر الوحي لله ، وكذلك ذكر الله وكل ذكر دافعا وغاية ، انها تنافي الرئا وتنافيها الرئاء!.

٥٥

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) ١٥.

وفي هذه الزاوية الثالثة من أركان الشرعة الإلهية تكتمل اصول الدعوة مبدء ومعادا وما بين المبدء والمعاد ، وهذا هو الوحي بأحكام العبودية وفي قمتها الصلاة ، فتمت بذلك اصول الدين بفروع في صيغة مختصرة محتصرة ، هي لكل شرعة إلهية ، مهما اختلفت الشرائع في طقوس عبادية حسب المظهر والصورة.

ولأنه ليس ليلتزم عبودية الله ـ فقط ـ لأنه الله لا اله الا هو ـ إلّا من شغفه حبا وهي عبادة الأحرار ، وهم قلة قليلة بين عباد الله ، ثم الثلة الباقية هم بين عبيد وتجار ، لذلك يثنى دافع المبدء بالتوحيد المعرفة الخالصة ، بدافع المعاد ، فبين المبدء والمعاد يكثر العباد رغبة في الثواب وخوفة من العقاب.

وعرض المعاد في ذلك المثلث البارع ، عرض عريض في المعنى الاجمالي عن المعاد واقعا وغاية قصوى ، وهنا لك تتم الشرعة الإلهية أصولا وفروعا في مطلع الوحي الموسوي كما هو في كافة المطالع الرسالية السامية ، وقد جمعت لسيد المرسلين وامام النبيين أتمها وأعمها وأهمها كما يناسب الخلود.

نجد «الساعة» المعنية بها القيامة في احدى وأربعين آية بين (٤٨) مرة «الساعة» في سائر القرآن ، وهي ثانية الأسماء كثرة وشهرة بعد القيامة السبعين ، مما يدل على مدى اهميتها تعبيرا عن ذلك اليوم العظيم.

واصل الساعة من ساع الشيء إذا زال وضاع ، فهي إذا وقت ضياع الكائنات عن بكرتها في قيامة التدمير ، واطلاق الساعة على جزء من الزمان انما هو لتصرفه وضياعه دونما رجعة ، وكذلك امر الساعة إذ لا رجعة فيها الى الاولى ، وانما هي الاخرى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

٥٦

وقد تعنى «الساعة» الساعات الثلاث كلها «ساعة الرجعة والموت والقيامة (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) حيث المجهولية في كل منها تدفع الى السعي خوفة منها ، مهما كانت الاخيرة هي الاصيلة بينها ، والأوليان تتبنيانها.

ثم (أَكادُ أُخْفِيها) في مواصفة الساعة ، قد تعني سلب الخفاء وإيجابها معا ، فلو عنت السلب فقط ، فقضية الفصاحة : أكاد أظهرها ، حيث السلب في مادة الإفعال بحاجة الى قرينة تسلبها عن إيجابها كما في (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) اي مسلوبي الطاقة في الصيام ، ثم وعناية الإيجاب هي قضية ظاهر الإيجاب.

والجمع هنا بين سلب الخفاء وإيجابها جمع بين ما يعنى من الساعة ، ف (أَكادُ أُخْفِيها) سلبا لخفائها لمدى الحتمية القاطعة لوقوعها ، لحد أكاد أظهرها قبل أوانها ، ام أعلن بوقتها قبل مرساها ، ولكن (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٧ : ١٨٧).

فذلك السلب مستحيل ، و «أكاد» فيه مبالغة لتحقق وقوعها لحد أكاد أسلب الآن خفاءها ، ومن ثم سلب الخفاء عن واقعها وهو إقامتها في وقتها ، وذلك ممكن ، وأكاد فيه تقريب لوقوعها : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (١٧ : ٥١).

وإيجابا : ان الساعة خفيّة حسب الحكمة العالية والمصلحة الملزمة ،

٥٧

لحد (أَكادُ أُخْفِيها) على نفسي (١) كما أخفيتها على غيري ، ف «أكاد» هنا مبالغة لطيفة تعني غاية الخفاء لها ، لحد لو أمكن لكنت أخفيها على نفسي!.

و «أكاد» هنا لا تكاد تعني قرب الزمن لإخفائها سلبا او إيجابا ، وانما هي تأكيدة لامعة لتأكد واقعها في وقتها ، واستحالة إظهارها قبل وقتها حيث «ثقلت في السماوات والأرض لا يجليها لوقتها الا هو»!

وما ألطفها وأعمقها تعبيرا عن مدى خفاء الساعة ، ولماذا؟

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ .. لِتُجْزى ..) و (أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى) فأصل الجزاء هو غاية الساعة في إتيانها ، وخفاءها غاية «بما تسعى» ، ام (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) غاية لهما.

فان الساعة هي الموعد المرتقب للجزاء العدل والفضل ، فتتجه إليها النفوس المؤمنة فتحسب حسابها ، سائرة في الطريق مراقبة تخشى الانزلاق بجيئتها المفاجئة الفجيعة.

فإذا كانت المجازاة هي المقصودة من إتيان الساعة ، فلتكن قاطعة الإتيان لحد (أَكادُ أُخْفِيها) إزالة لخفائها ، ولتكن خفية في وقتها ليكون الخلق في كل حين على حذر من مجيئها ووجل من بغتتها ، فيستعدوا لها قبل

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٧٥ في مجمع البيان وروى عن ابن عباس «أكاد أخفيها من نفسي» وهي كذلك في قراءة أبي وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) أقول هذه القراءة مطروحة او مؤولة الى انها كتفسير لأخفيها وفي الدر المنثور اخرج تفسير «من نفسي» عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي صالح وعن ابن مسعود : أكاد أخفيها من نفسي يقول : اكتمها من الخلائق حتى لو استطعت ان اكتمها من نفسي لفعلت ، وعن أبي : أكاد أخفيها من نفسي فكيف اطلعكم عليها.

٥٨

حلولها ، ويمهدوا أنفسهم قبل نزولها (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

والمجهول زمنا ، القاطع اتيانا ، هو عنصر اساسي في حياة الإنسان ام اي مكلف كان ، لتكوينهم النفسي ، متطلعين اليه ، متبنين حياتهم عليه ، فلو كانت الساعة لهم مكشوفة لوقفت نشاطاتهم ، وامنت حياتهم ، ولكنهم وراء المجهول المأمول يجرّون ، فيعملون لما يأملون ، ويجربون ويتعلمون ، ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وسائر الطاقات ، فيرون آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق او لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد.

تلك الساعة المجهولة الأمد تبشرهم بثوابها إن عملوا الصالحات ، وتحذّرهم عن عقابها ان عملوا الطالحات ، فهم بذلك مندفعون الى كل خير ، دافعون عن أنفسهم كل شر ، حتى إذا أتتهم ساعة الجزاء فتبغتهم رابحين ، ساعة الموت او الرجعة ام القيامة الكبرى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٥٣ : ٤٠).

وهنا نعرف ان السعي ـ فقط ـ هو عامل الجزاء ليس إلا ، فلا فوضى هنا لك في الجزاء ، ولا تزر وازرة وزر اخرى ، ثم ولا جزاء بنيّة دون عمل فانها ليست مما «تسعى» اللهم الانية الصالحات لمن لم يسطع ان يعملها ، فلصاحبها الجزاء الحسنى فضلا من العلي الأعلى ، وذلك بدلالات اخرى غير (بِما تَسْعى) وكما ان آيات حصر الجزاء بالأعمال (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تخص العقوبات ـ فيما تخص ـ بالأعمال الطالحة دون النيات فقط.

ثم (بِما تَسْعى) دون «بما تعمل» قد تلمح بكدح في العمل ، فالصالحات المتفلتة دون سعي ، والطالحات مثلها كما اللمم ، قد لا يجزى

٥٩

بها ام يقل ، ففي الاولى القلة حاصلة ، وفي الطالحات العفو على شروطه المسرودة في الذكر الحكيم.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) ١٦.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) تأكيد صارم صدا عن الصد عنها ، تفريعا على (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) صدا عقيديا عن إتيانها ، او خفاءها ، ام جزاء كل نفس فيها بما تسعى ، ام صدا عمليا رغم التصديق بها ، والصاد عنها هو (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ) في نكرانها والدعاية ضدها ، فلو صددت عنها «فتردى» في جحيم الضلالة والمتاهة ، بما تتردى في همجية الأعمال بسفاسف الأخلاق.

وهناك ردى في نكران المبدء والمعاد هي أردى ، وهنا أخرى بنكران المعاد عقيديا ، وثالثة عمليا ، (فَلا يَصُدَّنَّكَ) تشمل ذلك الثالوث كله ، حيث الصد عن المعاد بعد الصد عن المبدء أردئ فتشمله «فتردى» بأولى وأحرى.

وقد تعني «عنها» و «بها» ـ فيما عنتا ـ كلمة التوحيد المستفادة من (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) والعبادة المعنية من «فاعبدني» والصلاة المذكورة بنفسها وفي خلالهما الرسالة المبيّنة لهما كما تعني الساعة أخيرا ، وقد تقتضيها طبيعة الحال في بنود الرسالة المسرودة هنا ، فان إثباتها يقتضي تأكيد السلب عن الصّد عنها ، وهنا لك تردّيات عدة في الانصداد عن كلّ منها ، فهنا في المرجع لضميري «عنها وبها» احتمالات يحتملها اللفظ والمعنى (١).

«فتردى» في هوّات الإشراك بالله عند الصد عن كلمة التوحيد ،

__________________

(١) رجوعا للأول تارة الى المجموعة المستفادة مما سبق ، واخرى الى كل واحدة منها ، توحيدا ونبوة وعبادة وصلاة وساعة ، وهكذا الأمر في الثاني ، والمحتملات ٢٨.

٦٠