الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

فلأن الحرمان عن عدم الرجوع يوم القيامة لا يخص (قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) فانها يوم الجمع ، وان ذلك الحرمان محدّد ب (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ...) فليكن رجوعا خاصا قبل يوم الجمع ، وذلك حسب تلميحات آيات وتصريحات روايات محتوم على «من محض الايمان محضا او محض الشرك محضا» (١).

إذا ف (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) هي بيان لمادة الحرمان (حَرامٌ ... أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أم هي بتقدير اللام «لأنهم لا يرجعون».

فقيلة القائل ان «لا» هنا زائدة ، هي نفسها قيلة زائدة بائدة ، اللهم إلا على غرار (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) حيث تعني ما منعك عن السجود ، ولكن الممنوع هناك غير مذكور ، يعرف من (أَلَّا تَسْجُدَ) ما منعك عن السجود الا تسجد ، فلا زائدة هنا وهناك.

ثم (حَتَّى إِذا) تحتّم رجوعهم عند الفتح لأنه غاية محتومة لحكم الحرمان أيا كان ، فان كان حرمانا عن الرجوع الى الدنيا فهو رجوع عند الرجعة واقتراب الوعد الحق ، كما يلوح من الآية ، وان كان حرمانا عن عدم الرجوع فهم يرجعون (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) رجوعا محتوما عند الفتح ، ومحروما عنه قبل الفتح.

وفي الحرمان الثاني تعريض على الناكرين للرجوع يوم الدين ، فإنهم لو صدقوا رجوع (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فما هم بمصدقي رجوعهم ، والآية هنا تقول «وحرام عدم رجوعهم» يوم الدين ، بل وعدم رجوعهم حتى يوم الفتح ، فهم على أية حال راجعون مرة ليوم الجمع

__________________

(١) البحار ٥٣ : ٣٩ عن أبي عبد الله (عليه السلام) .. وان الرجعة ليست بعامة وهي خاصة لا يرجع الا من محض الايمان محضا او محض الشرك محضا».

أقول والقرى الهالكة هي القدر المعلوم ممن محض الشرك محضا فهم يرجعون.

٣٦١

ككل ، ام واخرى قبلها (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ..) وهو للقرى الهالكة ، وقد يعنيهم (فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) في النمل (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا ..) (٨٣).

فالرواية القائلة ان القرى الهالكة لا ترجع لا تناسب آيتي الأنبياء والنمل ، فهي مأوّله أو مطروحة (١).

وفي رجعة اخيرة الى الآية (وَحَرامٌ عَلى) تعني حرمانا شاملا على القرى الهالكة ، يبيّنه (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى ..) ام ل (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى ..) ام هم محرومون عن عدم الرجوع ـ إذا ـ فهم يرجعون حتى .. فهم على آية حال راجعون يوم الرجعة ليذوقوا وبال أمرهم مرة اخرى ، ولعذاب الآخرة أمرّ وأنكى.

__________________

(١) البحار ٥٣ : ٥٢ عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليهما السلام) في الآية قالا : كل قرية أهلك الله اهله بالعذاب لا يرجعون في الرجعة فهذه الآية من أعظم الدلالة في الرجعة لان أحدا من اهل الإسلام لا ينكر ان الناس كلهم يرجعون الى القيامة من هلك ومن لم يهلك فقوله : «لا يرجعون» عني في الرجعة فاما الى القيامة يرجعون حتى يدخلوا النار.

أقول : ولكن لا يرجعون ـ أيا كان ـ محدد ب (حَتَّى إِذا ...) فهم إذا يرجعون!

وفيه (٦١) عن القمي وقال الصادق (عليه السلام) كل قرية أهلك الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرجعة فاما الى القيامة فيرجعون ومن محض الايمان محضا وغيرهم ممن لم يهلكوا بالعذاب ومحضوا الكفر محضا يرجعون.

وفيه (١١٨) تفسير النعماني في ما رواه عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال : واما الرد على من أنكر الرجعة وقوله سبحانه (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) في الرجعة فاما في القيامة فهم يرجعون ،

أقول ويرد كل ذلك (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ) إذا فهم عنده يرجعون!

٣٦٢

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ...) فصلناها في آية الكهف ، وانه فتح الشر الشامل للأرض ، حيث تملأ به الأرض ظلما وجورا ، ثم يملأها الله بالمهدي (عليه السلام) قسطا وعدلا.

(فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم كل من محض الكفر محضا أحياء وأمواتا ، حيث هم يحشرون يوم الرجعة عند اقتراب الوعد الحق.

ثم (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قد تعني كافة الاحداب والمرتفعات الجوية والبرية والبحرية ، والنسل هو الانفصال عن الشيء ، انفصالا عن مثلث المرتفعات لإفساد الأرض بمن عليها ، وانفصالا عن احداب الأصلاب والأرحام ، إذا فالأشرار كلهم ينسلون ولادة عن كل حدب ، ونزولا عن كل حدب.

وقد يعني : (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) فيما يعنيه ، المفسدين من بني إسرائيل وسواهم ممن يعيث في الأرض فسادا في المرة الثانية من مرتي الإفساد الاسرائيلي ، حشرا من كل حدب لجموع المفسدين ، يرأسهم (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) و «بنو إسرائيل» كأصول ، ثم وسائر المفسدين في الأرض هم على هوامشهم وآثارهم يهرعون.

فآية الإسراء (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) تؤصّل بني إسرائيل في عالمية الإفساد ، وهذه توصل (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) إذا فهما أصلان في ذلك الميدان ، يتمازجان ام يتناحران في الإفساد العالمي بعلو كبير (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)!.

فطالما لا ذكر عن (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) في الإفساد الاول ، ولكنهم محادبون مع بني إسرائيل في الثاني (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ).

٣٦٣

ان احزاب الإفساد العالمي باحدابها ، ليست لتنهض النهضة الاخيرة المدمرة إلّا عند ما (اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) تعبيدا سلبيا لاقامة دولة الحق ، كما وايجابيته هي التحصّل على أنصار هذه الدولة المباركة.

فدولة الباطل الاخيرة تكرّس كافة الطاقات المفسدة وامكانياتها لكي تملأ الأرض ظلما وجورا ، ثم دولة الحق تملأها قسطا وعدلا.

وعلّ «كل حدب» دون «كل مرتفع» للتأشير الى أصلاب الأحداب الناسلة عنها كل يأجوج ومأجوج ، وكذلك كافة القوات المتظاهرة المتظافرة ، فان اصل الحدب هو مرتفع الظهر ، فانه ظهير القوة البدنية ، إذا ف «كل حدب» قد تعني كل طاقة مرتفعة مترفعة انتسالية ، ام حربية وسياسية واقتصادية وثقافية وعقيدية اما هيه من احداب وقوات بشرية ، حيث تحشر في آخر الزمن ، فتهدر الانسانية الى هوّات البهيمية من ناحية والى سقطات مختلف الموتات روحية وبدنية من اخرى ، فتصبح الحياة الانسانية ظلمات بعضها فوق بعض ، ويحلّق الظلم على كافة جنبات الحياة ، فلا يبقي من الحيوية الانسانية أثرا وثمرا الا اجترم ، ولا حرمة الا اخترم ، حتى يقوم قائم الحق الذي «به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا»!

وقد تؤشر (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) لبني إسرائيل ، ان يأجوج ومأجوج ، هم أيا كانوا ، ليسوا إلا من جنودهم الأصلاء في الإفساد العالمي بعد الجنود الاسرائيليين ، حين يسيطر بنو إسرائيل على كافة الأحداب ، فتنسل يأجوج ومأجوج ومن معهم من «كل حدب» وكما هم أنفسهم ينسلون.

فإذا تم فسادهم وطمّ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا في دولة الإمام القائم المهدي (عليه السلام) ، وهناك في القيامة الكبرى قائلين هنا وهناك :

٣٦٤

(يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) فانها كانت غفلة التغافل التجاهل ، عامدة مقصرة غير قاصرة ، تفجع المفجوء الذي تتكشف له الحقيقة الرائعة المروّعة بغتة فيذهل ويشخص ببصره فلا يطرف ، ويدعو بالويل والثبور ، معترفا بالتقصير متندما وقد فات الأوان.

فهذه الدولة المباركة السعيدة ـ بتلك الرجعة عندها ـ هي من أشراط الساعة ، كما والرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو نبي الساعة ونبوته من أشراط الساعة ، كما وبعض آياته الرسالية كانشقاق القمر ، هي من أشراط الساعة : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ولكنما الدولة الاخيرة هي اقرب شرط من أشراط الساعة ، وهي باقية حتى الساعة!.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ٩٨.

(ما تَعْبُدُونَ) تعم كل ما يعبد من دون الله أوثانا وطواغيت ، فلا تعني «ما» فقط غير ذوي العقول بل وذوي العقول ايضا كالطواغيت فإنهم أحرى حصبا لجهنم مما لا يعقل ، ولا ضير في شموله ـ إذا ـ لعباد الله الصالحين حيث هم ناجون لمكان مكانتهم من الله ، وانهم لم يدعوا أحدا الى عبادتهم ، وقد سبقت لهم الحسنى فهم عنها مبعدون كما بعد آيتين ، واستعمال «ما» في ذوي العقول ، او في المجموعة غير شاذ في القرآن ، و (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) تؤيد هنا العموم ، وعلّ «ما» هناك دون «من» للتأشير الى ان عبادتهم خلاف المعقول ، وان الداعي منهم الى نفسه داع الى غير معقول ، فغير الداعي الذي لا يدعي لنفسه ما يدّعون ، كالذين سبقت لهم الحسنى ، فهم عنها مبعدون.

وترى هؤلاء الطواغيت حقا عليهم انهم معهم حصب جهنم ، فما بال الأصنام وهي لا تشعر وليست لها دعوة؟.

٣٦٥

انها لا تلمس العذاب ولكن عابديها يلمسونه بما تدخل هي في النار ، عذابا لهم فوق العذاب ان آلهتهم كامثالهم وقود النار ، فكما ان أبدانهم أنفسهم لا تحس العذاب وانما الاحساس للأرواح ، كذلك أوثانهم ، والقصد إيصال العذاب نفسيا الى أرواحهم الجهنمية ، وكما تبينه :

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) ٩٩.

حيث الإله يورد النار ولا يردها ، إذا فما هؤلاء الواردون فيها بآلهة ، وكل من العابدين والمعبودين فيها خالدون ، وهذه الحجة برهان واقعي ووجداني ينتزع من نفس المشهد الواقع هناك ، المعروض عليهم هنا وكأنه المشهود الآن! وحصب جهنم هي وقودها التي تتقد النار بها ، لأنهم اصول الضلالة عابدين ومعبودين ، فليكونوا اصول الجحيم (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٤) فالناس هم العبدة والطواغيت هم المعبودون والحجارة هي الأصنام (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠).

فما الحصب ـ فقط ـ الحطب ، إذ لا حطب في الجحيم ، وانما الوقود أجسادا وأحجارا هنا ، ووقودات اخرى تناسب تلك النار المتأججة الشديدة ، من طاقات حرارية فوق ما نعرفها في حياتنا الدنيا.

والحصب في اصل اللغة هو ما يرمى به من الحصباء وهي الحصى الصغار ، يقال : حصبنا الجمار : قذفناها بالحصبات ، فشبه سبحانه قذفهم في جحيم النار بالحصباء المرمية فيها ، من ذلّ مقاذفهم ، وهوان مطارحهم.

ولماذا هناك (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) وهنا (ما وَرَدُوها)؟ علّ اللام للتأشير انهم كحصب الوقود يصلحون للنار حيث يصلحونها إحراقا لمن في النار ، فمن اهل النار من يردها وهم المصطلون بوقودها الصلاء ، ومنهم من

٣٦٦

يردونها لأنهم أنفسهم الصلاء.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) ١٠٠.

«لهم» العابدين والمعبودين اللهم إلا غير ذوي العقول منهم (فِيها زَفِيرٌ) وهو صوت برد النفس الى داخل ضغطا عليها حتى تنتفخ منه الضلوع ، وازدفر فلان كذا ، إذا تحمله بمشقة فتردد فيه نفسه ، (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) بعضهم أصوات بعض كما لم يسمعوا يوم الدنيا صوت الحق.

وحين يصل الأمر الى ذلك الحد الحديد الإمر ، قد ينبري المشركون قائلين للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : تزعم ان الله انزل عليك هذه الآية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) وقد عبدنا الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى بن مريم ، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟! فتنزل إذا :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) ١٠١ (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٥٩ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : لما نزلت هذه الآية وجد منها اهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري وكفار قريش يخوضون في هذه الآية : ـ انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ... ـ فقال ابن الزبعري أمحمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا : نعم ـ قال ابن الزبعري لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما فقال : يا محمد أرأيت الآية التي قرأت آنفا فينا وفي آلهتنا خاصة ام الأمم وآلهتهم؟ فقال : بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم وفي آلهتهم الا من استثنى الله فقال ابن الزبعري خصمتك والله الست تثني على عيسى خيرا وقد عرفت ان النصارى يعبدون عيسى وامه وان طائفة من الناس يعبدون الملائكة؟ أفليس هؤلاء مع الالهة في النار؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لا ، فضجت قريش وضحكوا ، قالت قريش خصمك ابن الزبعري فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : قلتم الباطل اما قلت : الا من استثنى ـ

٣٦٧

... «مبعدون» عابدين ومعبودين ، وسابق الحسنى وسابغة الأحرى هو للملائكة والنبيين ، من عبدوا من دون الله وسواهم على سواء ، فانما حصب جهنم هو للدّاعي الى نفسه كإله ، والمتقبل ان يعبد من دون الله وان لم يدع الى نفسه صراحا ، والعابد من دون الله ، فذلك

__________________

ـ الله وهو قوله تعالى : ان الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ، لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ، وقوله : حصب جهنم يقول يقذفون فيها قذفا وقوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) «ويعني الملائكة وعيسى بن مريم (عليهما السلام).

وفيه عن قرب الاسناد للحميري باسناده الى أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الله تبارك وتعالى ياتي يوم القيامة بكل شيء يعبد من دونه من شمس او قمر او غير ذلك ثم يسأل كل انسان عما كان يعبد فيقول كل من عبد غير الله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، قال : فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة اذهبوا بهم وبما كانوا يعبدون الى النار ما خلا من استثنيت فأولئك عنها مبعدون.

واخرج مثله في الدر المنثور ٤ : ٣٣٨ بألفاظ عدة يجمعها ذلك الاستثناء ، ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال جاء ابن الزبعري الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : تزعم ...

وفي تفسير البرهان ٣ : ٧٢ عن محمد بن العباس عن النعمان بن البشير قال : كنا ذات ليلة عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) سمارا إذ قرأ هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فقال : انا منهم وأقيمت الصلاة قريب وهو يقول : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) ثم كبر للصلاة ، ورواه ايضا صاحب كشف الغمة عن النعمان بن بشير.

وفي تعليقات احقاق الحق ٣ : ٣٩٠ عن أبي حيان الاندلسي وروي ان عليا كرم الله وجهه قرء هذه الآية ثم قال : انا منهم (بحر المحيط ٢٦ : ٣٤٢) وممن أخرجه الترمذي في مناقب مرتضوي (٥٩) والآلوسي في روح المعاني ١٧ : ٨٩ والبيضاوي ٣ : ١٠٠.

٣٦٨

الثالوث المنحوس (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ثم سائر اهل النار يتحصّبون بهم اتقادا في النار ، حيث يتحسّبون منهم أتباعا.

(الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) هم السابقون والمقربون وشطر من اصحاب اليمين الداخلين الجنة بغير حساب ، مبعدين عن النار على طول خطها في البرزخ والاخرى ، ثم بين من هم حصب جهنم والسابقة لهم الحسنى ، درجات ودركات لم يذكروا هنا وهناك.

والحسنى السابقة ، منها الصابغة لهم استجابة لربهم : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) (١٣ : ١٨) وهي السابغة لهم الحسنى الأخرى كما هنا وفي سواها : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٥٣ : ٣١).

وهي الحياة الحسنى الموعودة لهم سابقة فقد (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) واقعا هنا ووعدا لما هناك.

ولماذا «مبعدون» وهي تلمح بدخولهم فيها ثم إبعادهم عنها؟ علّه لأنه (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١٩ : ٧٢).

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) ١٠٢.

والحسيس هو الصوت المحسوس من زفير وشهيق ، ولكنهم وهم واردوها مع أهلها كما لا يعذبون بحرها ، كذلك (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ثم (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) عند ورودها وخروجها ودخول الجنة ، دون اي سغب ولا لغوب.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ١٠٣.

ومن الفزع الأكبر ما يطمّ كل اهل الحشر في النفخة الاولى : (وَيَوْمَ

٣٦٩

يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٢٧ : ٨٧) وذلك فزع الصعقة للأرواح موتا ام غشية : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨) (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٣٣ : ١ ـ ٢).

فلانهم ـ وهم ممن شاء الله ـ لا يفزعون ولا يصعقون في تلك النفخة ولا يعذبون بعذابها الشامل إذا ف (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بل و (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقيامة الإحياء في النفخة الثانية (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) «فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه وطاش لله وذكر ذنبه وشغل بنفسه الا ما شاء الله» (١).

قائلين لهم (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وهذه الحياة المشرقة فيه هي من الحسنى السابقة لهم.

ليس فقط انه (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بل (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٦١ في ارشاد المفيد ولما عاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من تبوك الى المدينة قدم عليه عمرو بن معد يكرب الزبيدي فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اسلم يا عمر ويؤمنك الله من الفزع الأكبر فقال : يا محمد وما الفزع الأكبر فاني لا أفزع؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : انه ليس كما تظن وتحسب ان الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميت الا نشر ولا حي الا مات الا ما شاء الله ثم يصاح بهم صحية اخرى فينشر من مات ويصفون جميعا وتنشق السماء وتهد الأرض وتخر الجبال وتزفر النار بمثل الجبال شررا فلا يبقى ذو روح الا انخلع قلبه وطاش لبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه الا ما شاء الله فأين أنت يا عمر ومن هذا؟ قال : الا اني اسمع امرا عظيما ، فآمن بالله ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا الى قومهم.

٣٧٠

خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٢٧ : ٨٩).

فلا الموت عن الحياة الدنيا يفزعهم لأنه لقاء الله ، ولا النفخة المفزعة المصعقة تفزعهم او تصعقهم ، لأنهم ممن شاء الله ، ولا اي فزع يومئذ ، فانما (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بكل سلام ووئام الى يوم الله.

«فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم اسماعهم عن أن تسمع حسيس نار ابدا ، وصان أجسادهم ان تلقى لغوبا ونصبا ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١).

وفي ظل (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) «المتحابون في الله في ظل الله يوم لا ظل الا ظله على منابر من نور يفزع الناس ولا يفزعون» (٢).

ف (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ..) وتراه اي يوم «يومكم ..» و «لا يحزنهم؟ انه :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ١٠٤.

وذلك يوم قيامة الاماتة ، فإذا لا يحزنهم ذلك الفزع العام الطام لأهل

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي امير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٤٠ ـ اخرج الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : ... واخرج البزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) للمهاجرين منابر من ذهب يجلسون عليها يوم القيامة قد امنوا من الفزع ، واخرج الطبراني عن أبي امامة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال بشر المدلجين في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة يفزع الناس ولا يفزعون.

٣٧١

الحشر لأنهم ممن شاء الله فبأحرى الا يحزنهم الأفزاع التي بعده في مسارح الحساب والجزاء.

وطي السماء هو نقض بنيتها وإعفاء جملتها عن صورتها ، حيث تطوى حتى تجتمع بعد انتشارها ، وتتقارب بعد تباعد أقطارها ، فتصبح كالسجل المطوي وهو ما يكتب فيه ، والكتب هنا جمع الكتابة.

إذا نطوي أوراق السماء المتفرقة المتباعدة بما كتب عليها من كواكب ، نطويها للكتب جديدا ، لا طيا فيه القضاء التام الحاسم على السماء بكتبها ، فللأخرى سماء كما للأولى ، ولسماء الاخرى كتب كما للأولى بل هي احسن وأحرى (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣٩ : ٦٧).

وقد يحتمل ان الكتب هنا كما في غيرها هي المكتوبات ، فالسجل هو الصحيفة المكتوبة هي فيها ، إذا طويت انطوت بطيّها كتبها عن الشهود ، وهي في الغيب لا تخلو عن وجود ، فكما السجل المطوي لا ينعدم ، وكتبها لا تنمحي عن الوجود ، كذلك سجل السماء بكتبها الأنجم ، وكتبها الأعمال المسجلة عليها ، المستنسخة فيها ، انها لا تنمحي ، فمهما تنمحي صورة الكون ، ولكن صور الأعمال باقية في سجلات الكون ، حيث سجلت فيها للشهادة يوم يقوم الأشهاد (١).

وعلّ «السماء» هنا هي صيغة اخرى عن الكون كله ، فانها مطلق

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٧٥ ابن بابويه بسند عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ان في الهواء ملكا يقال له إسماعيل على ثلاثة آلاف ملك كل واحد منهم على مائة الف يحصون اعمال العباد فإذا كان رأس السنة بعث الله إليهم ملكا يقال له السجل فانتسخ ذلك منهم وهو قول الله تبارك وتعالى : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب.

٣٧٢

الجو الحامل للكرات ، والأرض كسائر الكرات من المعلقات في جو السماء.

والمعنيان ـ علهما ـ معنيّان ، فالطيّان إذا مرعيّان ، وذلك يناسب الحالة الطليقة في أسلوب القرآن ، وهما يناسبان هنا ادب اللفظ وحدب المعنى!.

آيات ثلاث بين اضرابها تقرر ان هناك مضاهاة بين العود والبدء ، فكما كان اوّل خلق من الإنسان ـ وهو آدم ـ (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) كذلك ثاني خلقه.

وكما الإنسان الأوّل خلق من صلصال من حماء مسنون (١٥ : ٢٦) ومن طين لازب (٣٧ : ١١) كالفخار (٥٥ : ١٤) وكل ذلك دون تحوّل للتراب منيا ثم جنينا ، ودون نسل من صلب ومكوث في رحم ، بل هو قفزة من تراب الى انسان تسلّلا في سلالات ، فكذلك خلقه ثانيا في المعاد ، حيث يعاد كلّ من طينه كما يناسب العدل والحكمة الإلهية وقضية الحساب والجزاء والخلود.

فأصل القفزة في المعاد للمعاد كما الإنسان الاوّل ، والتسلل فيها كما يخلق كل انسان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢٣ : ١٣) (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ١١).

فسلالة الماء المهين هي النطفة الجرثومية المتسللة عنه ، فليكن كذلك العود طبق البدء في صورتيه ، قفزة في التحول ، وتسللا عن ترابه.

إذا فالمعاد في المعاد هو نفس النطفة التي خلقت منها ، بما معها من الاجزاء الاصيلة التي تعيشها طول حياتها ، وقد نمّتها فطمّتها وأتمّتها جنينا

٣٧٣

حتى (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١).

ثم وكما بدأنا عراة حفاة كذلك الاعادة حيث «استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم الى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(٢).

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ١٠٥.

بشارة عظيمة في إشارة تحملها هذه الكريمة بين الكريمات الى الدولة الاسلامية الاخيرة العالمية ، وعدا من الله محتوما لا حول عنه كما (وَعَدَ اللهُ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال يبعثهم الله يوم القيامة على قامة آدم وجسمه ولسانه السريانية عراة صفاة عزلا كما ولدوا» أقول : المصدق منه الجملة الاخيرة واما قامة آدم ولسانه فلا اللهم ان يعني كما خلق آدم من تراب.

(٢) نهج البلاغة عن الإمام علي امير المؤمنين (عليه السلام) وفي المجمع ويروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال : تحشرون يوم القيامة عراة حفاة عزلا (جمع الأعزل وهو الذي لم يختن) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).

وفي الدر المنثور ٤ : ٣٤٠ ـ اخرج ابن جرير عن عائشة قالت دخل علي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعندي عجوز من بني عامر فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت : احدى خالاتي ، فقالت ادع الله ان يدخلني الجنة فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ان الجنة لا يدخلها العجوز فأخذ العجوز ما أخذها فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ان الله ينشئهن خلقا غير خلقهن ثم قال : تحشرون حفاة عراة غلفا ، فقالت : حاش الله من ذلك فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بلى ان الله تعالى قال : كما بدأنا اوّل خلق نعيده وعدا علينا انا كنا فاعلين ...

٣٧٤

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ..) (٢٤ : ٥٥).

فذلك وعد للحياة الدنيا في عاقبتها (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٨ : ٨٣) وكما وعدوا كذلك ميراث ارض الجنة طبقا عن طبق : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (٣٩ : ٧٤) ف (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) (٢٣ : ١١).

فلا يختص الوعد المكتوب (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) فقط ميراث الأرض بعد الموت برزخا وأخرى (١) كما لا يختص بالحياة الدنيا وان كانت هي الظاهرة من «الأرض» حين إطلاقها ، وقد يؤيد الشمول لهما ، تلحيق الآية بالأخرى وقبلها الرجعة الى الاولى : (فَمَنْ يَعْمَلْ .. وَحَرامٌ .. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ .. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ .. إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ .. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ .. وَلَقَدْ كَتَبْنا ..) فلتحقّ آية الوارثة ل (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ـ (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) كلتا الوراثتين في كلتا النشأتين ، فمهما كانت الاولى هي القدر المعلوم من نفس الآية ، ولكن الثانية تلحقها بآيات القيامة وآية الزمر واضرابهما ، مهما اختلف ميراث الاخرى عن الاولى في درجات ، ولكنهما يلتقيان في ظاهرة باهرة لدولة الايمان ، ولا سيما بين دويلات الكفر التي يقضى عليها في هذه الدولة المباركة الكريمة.

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٧٥ عن محمد بن العباس بسند عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في الآية قال : آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ومن تابعهم على منهاجهم والأرض ارض الجنة أقول قد يئول ارض الجنة بان ارض الدنيا حينئذ تصبح كأرض الجنة ، ام انها تشمل ارض الدنيا الجنة وارض الجنة.

٣٧٥

والوراثة الاولى ل (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) هي السلطة الطليقة عن أسر الطواغيت بأسرها ، ليبلغ بها «الصالحون» لها كما لا تهم المقدرة لهم في هذه الحياة ، مادية ـ هي من الذريعة ـ ومعنوية هي الغاية المعنية في دولة مباركة عالمية ، فلا ينتكسون حيوانا في وسط الحضارة المادية المزخرفة ، ولا يهبطون الى دركات اللاإنسانية المتخلفة ، ولا يبتعدون عن مظاهر الحياة متقشفين عن الماديات ، أخلاء لميادين الحياة للشيطنات والفرعنات ، وانما صلاحا تاما طاما كافة جنبات الحياة ، دون ان تزوى عنها شطرات ، جاعلين غير الصالحين في زواياهم منعزلين عن كل حيوية الا صالحة.

ونحن نرى طول التاريخ الرسالي والانساني عدم التوازن والتناسق في الحياة الارضية المرضية ، حيث تشيل كفة من ميزانها وترجح اخرى.

فقد يغلب ـ تغلبا ـ على الأرض بكل ثرواتها وبركاتها جبارون وظلمة وطغاة ، ام همج متبربرون غزاة ، ام كفار فجار يحسنون استغلال طاقاتها وثرواتها في الشهوات والحيونات ، وهي الاكثرية المطلقة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، فلا تبقي للصالحين رمقا إلّا محقا وسحقا ، وهم بين قاصرين لا حول لهم ولا قوة ، ومقصرين متقشفين يرون الحياة انعزالية عن وراثة الأرض.

فحيثما يجتمع صالح الايمان ـ وهو ايمان القلب ـ وصالح العمل الجبار في امة صامدة قائمة ، فعندئذ تتحقق وراثة الأرض في كافة الحيويات الميسورة منها.

ولكن حين يفترقان هذان العنصران ، فالميزان يتأرجف ، فتقع الغلبة للآخذين بالواجهة المادية للحياة ، حين يهمل المؤمنون الأخذ بها ذريعة لتحقيق دولة الايمان ودولته.

ف (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) هم الجامعون لكل صلاحيات الحياة

٣٧٦

وحسنييها ، إذ لا قوة للايمان بجنب القوات الكافرة وزخرفات الحياة ، إلا على ضوء دولة قاهرة باهرة تحلّق على كافة الطاقات الحيوية ، مجتثة جذور الافسادات والشيطنات ، ليخلو جو الحياة لتطبيق الحق كما يحق.

تلكم البشارة المسجلة (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) هي الشاملة للصالحين ورثة للأرض ، وللطالحين منعزلين عن وراثة الأرض ، وهي كما يعلمه العالمون لم تتحقق حتى الآن ، وحتى في زمن المرسلين ، فلها ـ إذا ـ ميعاد يأتي.

وترى ما هو الزبور من بعد الذكر ، المكتوب فيه هذه البشارة ، وما هو الذكر؟.

اللائح من «الزبور» مفردا هو زبور داود تحمله آيات ثلاث ، هذه (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٤ : ١٦٣ و ١٧ : ٥٥) مهما كانت هنالك سبع اخرى في جمعه الجامع لكل الزبر (١) وقضية الإفصاح في كتاب البيان القرآن «الزبر» ـ ان كان المعني من «الزبور» كل الزبر ، اضافة الى ان «الذكر» ايضا من الزبر ، توراة ام قرآنا ام سواهما مما زبر من كتابات الوحي.

و «الذكر» السابق على هذا الزبور هو التوراة ، ولأنه الأصل في الكتابات الاسرائيلية ، وما تخصيص الزبور بالذكر (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) الا لبالغ اهميته بين الكتابات الملحقة بالذكر ، اللاحقة له ، وان هذه البشارة بينة صريحة في آيات من الزبور.

وقد اطلق الذكر على التوراة في هذه السورة مرتين (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (٧) ـ (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)(٤٨)

__________________

(١) وهي ٣ : ١٨٤ و ١٦ : ٤٤ و ٢٦ : ١٩٦ و ٣٥ : ٢٥ و ٥٤ : ٤٣ و ٥٢ و ٢٣ : ٥٣.

٣٧٧

و (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) كما تتعلق بمقدر «الكائن» ولقد كتبنا في الزبور الكائن من بعد الذكر ، كذلك تتعلق ب «كتبنا» فهذه الكتابة تعم الذكر ، ومن ثم ـ وعلى هامشه ـ الزبور ، كتبنا في الزبور من بعد ما كتبنا في الذكر.

بشارة مسجلة في كتابات التوراة خاصة وعامة (١) ومن بعد «في الزبور» وهو ابعد من التحريفات والتجديفات التي ابتلي بها الذكر ، وقد يعني الذكر هنا كل ذكر سماوي قبل الزبور (٢) كما نجد هذه البشارة تصريحة واشارة في كتابات اخرى قبل التوراة وبعدها ، ولا سيما في «الزبور».

ام ان «الذكر» هو الذكر الحكيم في اللوح المحفوظ «عند الله» و «الزبور» هو جنسه الشامل لمطلق الزبر السماوية (٣).

وقد يعني (الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) كل ما ذكر على الترتيب الرتيب ، دون اختصاص بواحدة دون الاخرى ، مهما كان الأولى كل أولى فأولى حسب القرائن المسرودة عندها.

وزبور داود ، المخصوص بالذكر هنا ، يحمل تصريحات عدة بشأن وراثة

__________________

(١) التوراة الخاصة هي الاسفار الخمسة ، والعامة هي هيه وسائر أسفار الأنبياء من بني إسرائيل.

(٢) البرهان ٣ : ٧٥ القمي في معنى الآية قال قال الكتب كلها ذكر الله ان الأرض يرثها عبادي الصالحون قال قال : القائم (عليه السلام) وأصحابه.

(٣) نور الثقلين ٣ : ٤٦٤ في اصول الكافي بسند عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه سأله عن قول الله عز وجل (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ما الزبور وما الذكر؟ قال : الذكر عند الله والزبور الذي انزل على داود وكل كتاب نزل فهو عند اهل العلم ونحن هم.

٣٧٨

الأرض في الدولة الاخيرة التي يقودها ابنه من بنته : القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وإليكم فيما يلي نصوصا من تلك البشارة الغالية ، تجدو تفاصيلها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» وهنا نماذج ملتقطة تحلق على كل ذكر في كتابات السماء.

ففي المزمور ٣٧ من الزبور : الا تفر من الأشرار ولا تحسد عمّال الإثم ٢ فإنهم مثل الحشيش سريعا يقطعون ومثل العشب الأخضر يذبلون ٨ كفّ عن الغضب واترك السخط ولا تغتر لفعل الشر ٩ لان عاملي الشر يقطعون والذين ينتظرون الرب هم (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) ١٠ بعد قليل لا يكون الشرير تطلع في مكانه فلا يكون ١١ اما الودعاء (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) ويتلذذون في كثرة السلامة ١٢ الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرّق عليه أسنانه ١٤ الأشرار قد سلوا السيف ومدّوا قوسهم لرمي المسكين والفقير لقتل المستقيم طريقهم ١٥ سيفهم يدخل في قلبهم وقسّيهم تنكسر .. ١٨ الرب عارف ايام الكملة وميراثهم الى الأبد يكون .. ٢١ الشرير يستقرض ولا يفي اما الصديق فيترأف ويعطي ٢٢ لان المباركين منه (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) والملعونين منه يقطعون .. ٢٩ الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها الى الأبد .. ٣٤ انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار تنظر .. ٣٨ لاحظ الكامل وانظر المستقيم فان العقب لإنسان السلامة ٣٨ اما الأشرار فيبادون جميعا ، عقب الأشرار ينقطع ٣٩ اما خلاص الصديقين فمن قبل الرب حصنهم في زمان الضيق».

هذه آيات بينات مكررات ثمان عدد أبواب الجنة تصرح (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) والآية (٣٤) تصرح ان داود (عليه السلام) من

٣٧٩

سواعد تلك الدولة المباركة في وراثة الأرض!.

وهذا الفصل فقط من الزبور يحمل أربعين آية كلها تحوم حوم انقراض الأشرار ووراثة الأرض للأخيار (١).

وفي المزمور ٧١ : ١ ـ ٢٠ مواصفات للقائد الأول لهذه الوراثة ومنها ١٧ «يكون اسمه الى الأبد ، ما دامت الشمس ، ينمو اسمه ويتبارك فيه جميع قبائل الأرض وتغبطه كل الأمم .. ١٩ وتبارك اسم مجده الى الأبد ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين (٢).

وفي مزمور ٤٥ : ١٨ «يكون بنوك عوضا عن آبائك تقيمهم رؤساء على جميع الأرض».

وفي «أهونود گات» في يسنا گاتها ٤٨ : ٢ ـ ١١ : الترجمة الحرفية عن الأصل البهلوي الاوستائي (٣) : «عرفني يا أهورامزدا! (الله) هل ان قبل القيامة يوم الجزاء المحتوم سوف يهزم أتباع الصدق أتباع الكذب فإنه حقا بشارة حسنة لهذا العالم.

وفي يسناها ٣٠ : ١٠ بعد استرجاء الحياة الجديدة في آخر الزمن يقول «وفي ذلك الزمان ينكسر عالم الكذب بفلاح الصدق ، وكذلك في عالم الخير (القيامة) ..».

وفي يسناها ٤٦ : ٣ «متى يا مزدا (الله) يصلنا اوّل النهار ، الشريعة

__________________

(١) راجع رسول الإسلام في الكتب السماوية ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) راجع رسول الإسلام ٢٢٩ ـ ٢٣٣.

(٣) نقلنا عن الترجمة الفارسية عن الأصل للاستاذ بور داود أستاذ اللغة الاوستانية في جامعة طهران.

٣٨٠