الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

وهذا ملك الكيفوفية في الأشياء ، ثم العرش في الوصل منفرد عن الكرسي لأنهما بابان من اكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه يطلع البدع ومنه الأشياء كلها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبداء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي وعلمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال : رب العرش العظيم ، أي صفته أعظم من صفة الكرسي وهما في ذلك مقرونان» (١).

ثم الآية التالية بيان لذلك العرش وكما نجد له بيانا في كل آيات العرش :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(٦).

«له» فقط لا سواه (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومعهما ـ بطبيعة الحال ـ السماوات والأرض (وَما تَحْتَ الثَّرى).

عرفنا السماوات والأرض ، فما هو الثرى وما تحت الثرى؟ هذه الآية منقطعة النظير في (ما تَحْتَ الثَّرى) فما هنالك آية اخرى تفسرها ، إلّا ان آيات انحصار الكون في السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، تجعل ما تحت الثرى مما تحتهما ، إما في السماوات أم في الأرض ، هذه ام سائر الأرضين المعنية من الأرض؟ فلنفتش عن الثرى وما تحتها في هذه الثلاث.

__________________

(١) المصدر عنه باسناده الى حنان بن سدير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش والكرسي فقال : ...

٢١

الثرى هي التراب النديّ ، او الذي إذا بلّ لم يصر طينا لازبا ، والأرض الثريّة هي الندية والليّنة بعد الجدوبة ، وأثرى المطر بلّ الثرى ، وفي الحديث «فإذا كلب يأكل الثرى من العطش» أي التراب الندي ، وثرّى التراب إذا بلّه ، وارض مثرية إذا لم يجف ترابها.

إذا ف (ما تَحْتَ الثَّرى) هو ما تحت الترابات الندية للأرض ، وهي في الأغلبية الساحقة في باطن الأرض ، وهنا الثرى لا تشمل ما في الأرض على أكنافها حيث تشمله (ما فِي الْأَرْضِ) فلتكن الثرى الترابات الباطنة لها ، وهي بطبيعة الحال ندية.

إذا ف (ما تَحْتَ الثَّرى) تعم كافة المواد الأرضية التي هي تحت تراباتها الندية من ثروات تحت الأرضية كالفلزات والبترول والفحم الحجري وما الى ذلك من أثقالها الباطنة تحت ثراها ، والى الواجهة الخلفية لكل أفق من الأرض ، فحينما كانت الكرة الأرضية مستورة الواجهات الأخرى ، وراء الآفاق التي كانوا يعيشونها ، ف (ما تَحْتَ الثَّرى) تعني ـ فيما تعني ـ خلفيات الثرى كلها من ثرواتها ، ومن الآفاق الخلفية الأرضية ورائها.

إذا فآية الثرى من آيات الكروية الأرضية ، وكما تلمح لأرضين أخرى هي ايضا (ما تَحْتَ الثَّرى) وتوضّحها آية الطلاق (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أرضون ست اخرى تماثل أرضنا ، وهي كلها (ما تَحْتَ الثَّرى) منبثّة حول الكرة الأرضية في خضمّ الفضاء ، فان كل أفق من الأرض ما تحتها واجهة اخرى من الأرض ، فارض اخرى غير هذه الأرض ، فقد تحول الأرضون الست حول هذه الأرض في مكاناتها ، كما ان ما تحت الثرى تعمها كلها.

ولماذا (ما تَحْتَ الثَّرى) دون «ما فوق الثرى» حين تعني سائر الأرضين؟ لأن المجهول عند الناس حين نزول القرآن والى زمن بعيد هو

٢٢

(ما تَحْتَ الثَّرى) واما ما فوقها وهي السماء بانجمها فمعروفة للناظرين ، إذا فحق الكلام كما هو : (ما تَحْتَ الثَّرى).

واصدق ما يروى وأحسنها تفسيرا لما تحت الثرى ما عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين سئل «ما تحت هذه الأرض قال : خلق ، قال : فما تحتهم؟ قال : ارض ، قال : فما تحتها؟ قال : خلق ، قال : فما تحتهم؟ قال : ارض حتى انتهى الى السابعة ..» (١).

ف «تحت هذه الأرض» تعني تحت الأفق الذي كان يعيشه السائل ، وطبعا فيه خلق ، فان في كل أكناف الكرة الأرضية خلق كما نحن ، ثم «ما تحتهم ارض» هي الأرض الثانية ، توسعة في التحت لكل أكناف الأرض! إذا ف «تحت الثرى» تعم التحت المتصل بالأرض وهو ثرواتها ، ووراءها ، والمنفصل عنها ومنها سائر الأرضين.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٩٠ ـ اخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال كنت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك إذ عارضنا رجل مترحّب يعني طويلا فدنا من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأخذ بخطام راحلته فقال : أنت محمد! قال : نعم ـ قال : اني أريد ان اسألك عن خصال لا يعلمها احد من اهل الأرض الا رجل او رجلان فقال : سل عما شئت قال يا محمد ما تحت هذه يعني الأرض قال : خلق .... ـ الى السابعة ـ قال : فما تحت السابعة؟ قال : صخرة ، قال فما تحت الصخرة؟ قال : الحوت. قال : فما تحت الحوت قال الماء قال فما تحت الماء قال الظلمة قال فما تحت الظلمة قال الهواء قال فما تحت الهواء قال الثرى قال فما تحت الثرى ففاضت عينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالبكاء فقال : انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ايها السائل ما المسئول بأعلم من السائل قال صدقت اشهد انك رسول الله يا محمد اما انك لو ادعيت كنت الثرى شيئا لعلمت انك لساحر كذاب اشهد انك رسول الله ثم ولى الرجل فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ايها النّاس هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله اعلم قال : هذا جبريل.

أقول : ونحن لا نعلم عما تحت الأرض السابعة مما روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) شيئا.

٢٣

وقد تعني (ما تَحْتَ الثَّرى) كل ما نجهله من خلق الله ، فتحت ثرى الأرض منها وهو ثرواتها وخلفها المتصل بها ، ثم تحتها من سائر الأرضين الست ، هذه الثلاث هي من عامة ما كنا نجهلها ، وقد عرفنا شطرا منها بعد أمة من الزمن! ثم يبقى علينا الأرضون الأخرى ولمّا نكشف النقاب عنها ، وقد صرح بها آية الطلاق كما لمحت لها آية الثرى ، هذا!.

وأما (ما تَحْتَ الثَّرى) ككل ما هنا لك ف «هيهات هيهات عند ذلك ضل علم العلماء» (١) «عند ذلك انقضى علم العلماء» (٢) «وما يعلم تحت الثرى إلا الله» (٣) مهما كان الرسول (ص)

__________________

(١) المصدر عن ابان بن تغلب قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأرض على اي شيء هي قال : على الحوت قلت فالحوت على اي شيء هو؟ قال : على الماء قلت فالماء على اي شيء هو قال : على الصخرة قلت فعلى اي شيء الصخرة ، قال : على قرن ثور الملس ، قلت : فعلى اي شيء الثور؟ قال : على الثرى قلت فعلى اي شيء الثرى قال : هيهات ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٧٢ في تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) سئل عن الأرض على اي شيء هي؟ قال : على الحوت ، قيل له : فالحوت على اي شيء هو؟ قال : على الماء ، فقيل له : الماء على اي شيء هو؟ قال : على الثرى ، قيل له : فالثرى على اي شيء هو قال : عند ذلك انقضى علم العلماء.

(٣) المصدر في علل الشرايع عن علي (عليه السلام) قال ليهودي وقد سأله عن مسائل : اما قرار هذه الأرض لا يكون الأعلى عاتق ملك وقدما الملك على الصخرة والصخرة على قرن الثور والثور قوائمه على ظهر الحوت والحوت في اليم الأسفل واليم على الظلمة والظلمة على العقيم والعقيم على الثرى وما يعلم تحت الثرى الا الله ....

(٤) المصدر في اصول الكافي باسناده الى المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يذكر فيه الأئمة (عليهم السلام) وفيه : جعلهم الله ... ومثله في بصائر الدرجات بسند عن محمد الجعفي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ... وفي الكافي عن سعيد الأعرج عنه (عليه السلام) مثله.

٢٤

والأئمة «جعلهم الله؟؟؟؟ الأرض ان تميد بهم والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى» (٤) والحجة البالغة على شيء عارف ـ بطبيعة الحال ـ ذلك الشيء ، فضلال علم العلماء وانقضاءه عند (ما تَحْتَ الثَّرى) يعني غير الحجة البالغة ، واختصاص علمه بالله هو حق العلم بما تحت الثرى كما الثرى وما فوقها.

وممن تحت الثرى سكنة سائر الأرضين ، والأنجم العامرة التي فيها مدن كمثل التي في الأرض (١).

والأحاديث الواردة في ترتيب الثرى بما قبلها مجهولة المعنى إلّا في تجهيل من سوى الله لما تحت الثرى.

ولنا ان نفتش عما تحت الثرى ، كما حصلنا لحد الآن على مواضيع منها ، وبقيت اخرى لمّا نصل إليها ، منها ما علّنا نصل إليها على ركب العلم روحيا وزمنيا مهما ضل عنها الأوّلون ، ومنها ما لن نصل إليها كما يشير إليها أئمة الهدى «عند ذلك ضل وانقضى علم العلماء ، وما يعلم تحت الثرى إلا الله».

وبعبارة اخرى وصيغة أحرى ، إن العلم الحق وحق العلم بكل ذلك ، كما حقّ القدرة والقدرة الحقة ، ان ذلك كله مخصوص بالله تعالى ، كما تلمح له «له ..» حيث يدل تقديم الظرف على الحصر ، ونحن لا نعلم ـ فيما نعلم منها ـ إلّا ظاهرا ضئيلا ، وجانبا قليلا (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)!

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ٧

__________________

(١) في البحار عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) قوله : ان لهذه النجوم التي في السماء مدائن كمثل التي في الأرض مربوطة بعمودين من نور طولها في السماء اثني عشر عاما.

٢٥

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أيا كان ، مع ربك كما في صلاتك وسائر دعائك ، ام مع غيره او نفسك ، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) فضلا عن الجهر.

فلما ذا (تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) مع ربك؟ ألأنه لا يعلم السر؟ (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)! أم لأنك تلتذ بسماع صوت الدعاء الى الله منك أو سواك ، فلا عليك إذا أن تجهر بالقول ، ام لأنك تعني بجهرك أن تسمع الآخرين تشجيعا على الدعاء ام تعليما؟ فكذلك الأمر ، ام لأنك ترائي في جهرك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) مهما لا يعلم من نيتك السريرة غير الله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦٧ : ١٣) سرا وأخفى ، ولكن ادب الدعاء يقتضي دون الجهر العال : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١٧ : ١١٠) (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٧ : ٢٠٥) (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (٢١ : ١١٠).

ولقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يجهر ـ أحيانا ـ في الدعاء تعليما ، وهو محبور دون الجهر العال إلّا إذا اقتضت الحال : ف «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى : لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة الا بالله ولا نعبد الا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا اله الا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» (١).

__________________

(١) تفسير روح المعاني للالوسي ١٦ : ١٦٣ قد صح ما يزيد على عشرين حديثا في انه (صلّى الله عليه وآله وسلم) كثيرا ما كان يجهر بالذكر وصح عن أبي الزبير انه سمع عبد الله بن الزبير يقول : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ....

٢٦

هذا ولكنه دون المرتفع العال وكما قال (ص) لمن ارتفعت أصواتهم «يا ايها الناس اربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون أصم ولا غائبا انه معكم سميع قريب» (١).

اجل ولكل قال مجال ، ولكل حال قال يقتضيه المجال ، فلا جهر لإسماع ربنا المتعال ، ولا فوق العال على أية حال ، فلا مرجح لجهر القول في الدعاء في ذاته بل هو مرجوح غير ممنوح ، اللهم إلّا لتعليم او تذكير ، ام سنّ سنة الدعاء ، ام حظوة من سماعها تزيد في عمقها.

ثم ذلك هو السرّ فما هو الأخفى؟ «السر ما أكننته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته» (٢) ثم وأخفى من ذلك الأخفى ما لم تنوه ، او لم تعلمه ثم تنويه ، أو لم تعلمه فتفعله ام لا تفعله (٣) والأخفى المطلقة في الآية تعمهما وما لن ينوه او يعلمه أو يفعله ابدا ، مثلث من الأخفى تقابل السر ، والكل مقابل الجهر ، وهذه الخمس في علم الله سواء: (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٣ : ١٠) مهما كان لا سواء بالنسبة لنا علما وحظوة في الدعاء الجاهرة في رنينها وطنينها وحنينها.

__________________

(١) المصدر عن الصحيحين من حديث أبي موسى الاشعري قال : كنا مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ....

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٧٣ بسند متصل عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) قال : ....

(٣) الدر المنثور ٤ : ٢٩٠ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في الآية قال : السر ما اسره ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفى عن ابن آدم مما هو فاعله قبل ان يعلمه فانه يعلم ذلك كله فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة.

٢٧

وقد يعني «السر» ما هو سر عنك كما عن غيرك حيث أنسيته ، ثم «أخفى» ما لم تعلمه بعد ، وما لن تعلمه ، حيث السرّ هو الكائن السرير ، فالأخفى هو غير الكائن الذي بالإمكان كونه بعد ام لا ، وعوان بين السرّ والجهر هو النجوى ، فانه جهر لمن تناجيه وسر عن سواه ، وهي هنا مشمولة للسرّ ، وان كان مع النجوى كالظرف والمجرور إذ اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (٤٣ : ٨٠) (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٩ : ٧٨).

فلأن الآية في مقام عرض العلم المحيط ، لم تكن الأخفى لتختص بما سوف تعلمه او تويه او تفعله ، بل وما لن تعلمه من الحقائق الكائنة في الكون ، بل وغير الكائنة كوّنت بعد أم لم تكوّن ، كما السر لا يختص بغير النجوى ، إذا فالسرّ هو دون الجهر من القول من نجوى يسمعها صاحبها ، ومن إخفات تسمعه في نفسك وقد يسمعه غيرك ، ام إخفات لا تسمعه في نفسك وانما تعلمه وهو النية السريرة.

ومثلث العلم لله : جهرا وسرا وأخفى ، هي المواطن الثمانية ، ١ ـ جهرا ، ٢ ـ دون الجهر نجوى ، ٣ ـ إخفاتا قد يسمعه غيرك ، ٤ ـ إخفاتا لا يسمعه غيرك وتسمعه في نفسك ، ٥ ـ أم لا تسمعه ، ٦ ـ وسرا عن نفسك ما كنت تعلمه ثم أنسيته ، ٧ ـ أم لم تكن تعلمه وبالإمكان ان تعلمه ، ٨ ـ ام ليس بالإمكان ان تعلمه.

فهذه الآية تتكفل عرضا موجزا عن عرش العلم في مواطنه الثمانية كما آية الثرى عرضت عرش الملكية المالكية المطلقة ، فهما إذا تفسيران لعرش الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ومن ثم الأسماء الحسنى لذي العرش الواحد القهار ، عرضا لوحدة

٢٨

الأسماء الحسنى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ٨ «الله» قد يكون تعريف التصريح باسم الجلالة بعد المواصفات السابقة السابغة ، من (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ .. الرَّحْمنُ .. لَهُ ما فِي السَّماواتِ .. فَإِنَّهُ يَعْلَمُ) فذلك المربع الصفات هو «الله ...» خبرا عن «هو» المحذوفة ، وكما انه مبتدء لخبريه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ـ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) والجمع اجمع وأوفر ، رباطا بما قدم وأخر ، مهما كانت هنا لك احتمالات أخر (١).

في سائر القرآن آيات اربع تتحدث عن اسماء الله الحسنى (٢) هذه منها ، وقد تحدثنا عنها في حشرها (٣) ونزيد هنا ان أسماءه الحسنى لا تختص بالصفات ذاتية وفعلية ، بل والرعيل الأعلى من عباده المخلصين هم من أسمائه الحسنى ، نتيجة الصفات الفعلية العليا ، فإنهم يدلون على الله ويوجهون الى الله بما يحملون من رسالات الله وحيا أو إلهاما.

وفيما أمرنا ان ندعوه بها ونذر ما وراءها : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (٧ : ١٨) تعم الدعوة الدعاء الخالصة ، فهي بالأسماء الأولى ، كل دعاء باسم يناسبها ، وبواسطة المقربين ، سواء في دعاء الاستغفار وسواه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤).

__________________

(١) كأن يقال «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ـ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» هما وصفان و «الله» خبرا ل «هو» أما ذا والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه على احسن الوجوه.

(٢) وكذلك الآيات ٧ : ١٣٧ و ١٧ : ١١٠ و ٥٩ : ٢٤.

(٣) في الفرقان ٢٨ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٢٩

أم في دعاء المعرفة والعبودية فهي برجالات الرسالات حيث يعرّفونه كما عرّف لهم نفسه ، ويبيّنون طرق عبوديته ومسالك طاعته كما بيّن لهم.

فدعاء الله بغير الأسماء الحسنى ـ سواء الأولى او الأخرى ـ قبيحة ملحدة نذرها وراءنا ظهريا ف (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١٧ : ١١٠).

وأحسن الأسماء الحسنى هو «هو» وهو «الله» اسمان للذات المقدسة ، وهما مذكوران في كلمة التوحيد التي هي احسن الكلمات ، وهي ضمان الجنة كما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ما زلت اشفع الى ربي ويشفعني واشفع اليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال : لا إله إلا الله ـ قال ـ : يا محمد! هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا ادع أحدا في النار قال : لا اله الا الله» (١).

اجل وهي الشجرة الطيبة الطوبى ، والكلم الطيب ، والحق المتواصى به ، والواحدة الموعوظ بها ، والوقفة المسئول عنها ، والقول الثابت في الأولى والأخرى.

وقد قال موسى : يا رب علمني شيئا أذكرك به ، قال : قل لا اله الا الله ـ قال : كل عبادك يقولون : لا اله الا الله! فقال : قل لا اله الا الله! قال : انما أردت شيئا تخصني به! قال يا موسى : لو ان السماوات السبع ومن فيهن في كفة ولا اله الا الله في كفة لمالت بهن : لا إله الا الله (٢).

وهي بطبيعة الحال ليست فقط قالة القال فانها قال ، بل هي قالة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٢ : ١٠ عن انس بن مالك قال قال عليه السلام : ...

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٢ : ١١ ان موسى بن عمران قال : ...

٣٠

حاكية عن الحال على أية حال وهي درجات.

وترى من قالها بقلبه ولمّا تظهر على لسانه دونما ضنّة ولا استكبار ، هل هو من أهلها؟ اجلّ! وانها اجلّ من قالها باللسان لأنها حكاية عما في الجنان ، وهو محطة الإيمان ، فلو عكس الأمر ، قالا باللسان دون الجنان فلا ايمان ، مهما قبلت كظاهر الإسلام!

هذا ـ ولكن الذي يعتقدها ثم لا يبرزها بلسانه ، كيف يعرف ايمانه في كتلة الإيمان؟ وحتى إذا عرف فما باله لا يبرزها باللسان وهو شعار الايمان وشعور بالايمان! (١) اللهم (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١٦ : ١٠٦) وطبعا فيما إن كانت البقية على نفسه أنفس من ظاهرة الإيمان.

ثم بعد اسمي الذات ، الأسماء الثلاثة لصفات الذات : الحي العليم القدير ، ومن ثم سائر التسعة والتسعين هي أسماء صفات الفعل ، وكلها حسنى.

فاختلاق اسماء الله في أيّ من هذا المثلث إلحاد في أسمائه ، كما اختلاق رسالة ليست من الله إلحاد في أسماءه.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ٩ إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) ١٠

(وَهَلْ أَتاكَ؟) ومتى أتاه ومن أين وهو أمي «وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان» (٤٢ : ٥٣) إلّا ان يأتيه بالوحي ، وقد ذكرت القصة في القصص بتفصيل اكثر مما هنا ، وهي بطبيعة الحال مؤخرة عن «طه»

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠ ـ ان عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): من قام في السوق فقال : لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير «كتب له الله الف الف حسنة ومحا عنه الف الف سيئة وبنى له بيتا في الجنة.

٣١

وإلّا فقد أتاه حديث موسى ان كانت مقدمة عليها ، مهما كان في النقلين فوارق تكمّل كل الأخرى ، والاستفهام هنا لتقرير العجاب عن حديث موسى واولى به ثم اولى.

فالقصص تقص الذي حصل لموسى قبل قصته هنا ، وهذا بداية الوحي الرسالي لموسى بعد وحي النبأ من ذي قبل : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٨ : ١٤).

(إِذْ رَأى ناراً) (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٨ : ٢٩) : ـ.

(فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) مكثا يسيرا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) والإيناس هنا مما يلمح أنه كان في برد قارص كما يدل عليه (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) كما تلمح انه ضل الطريق وكان الليل مظلما (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١) وكما يقال انه في رجوعه من مدين ضل الطريق في ليلة ظلماء وبردة قرصاء ، وريح عاصفة وغنم له متفرقة وطلق الزوجة ، فرا نارا فقال لأهله امكثوا ، كأنهم كانوا ناظرين فرجة إلهية وهي الآن على مشارفها!.

وقد نهتدي من (أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) الى تفرّسه من هذه النار هدى رسالية بعد ضلاله في سنيّه العشر ، كما (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) قد يخبر بهذه الفروسية.

وطبيعة الحال في هذه الفترة الطائلة عشر سنين تقتضي ان يتفرس في

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٧٣ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله : آتيكم منها بقبس «يقول : آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد او أجد على النار هدى ـ كان قد اخطأ الطريق ـ يقول : او أجد على النار طريقا.

٣٢

رجعته هذه من النار نورا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ـ (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) وعلى هامشه القبس الجذوة لعلكم تصطلون ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) لعلكم تهتدون.

هنا موسى ـ وهو بمنصرفه من مدين الى مصر ومعه اهله ـ يأنس من جانب الطور نارا ، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ استئناس شخصي لموسى دون اهله ، وإلّا فلما ذا (إِذْ رَأى ناراً) دون اهله؟ ولو كانت اهله ترى ما يرى فلما ذا «قال (لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُناراً) دون «ألا تستأنسوا نارا» وقد أكد شخصية الرؤية ب «إني» ثم (لَعَلِّي آتِيكُمْ) دون «تعالوا معي الى النار» مما يؤكد ان رؤية النار وأنسها كانت له دونهم ، فقد يطمئن انه تفرس من النار نورا ، فان كانت نارا ف (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) ـ (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) وان كانت نورا (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) دون «نجد» إذا فهي في الأصل هدى شخصية ، مهما كانت على هامشها هدى الطريق لأهله (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ).

وترى أكانت معه زوجته فقط لمكان «اهله»؟ اهله هنا هم جماعة ، منهم زوجته لمكان «امكثوا ـ تصطلون»! وقد تركهم بعد هذه القالة المردّدة ثم لا خبر عنم حتى نهاية الرسالة.

وان قصص موسى هي اكثر القصص المقصوصة في الذكر الحكيم ، محلّقة على الحياة الولادية والرسالية الموسوية في بنودها الأصيلة ، التي تمت بصلة في الدعوة الرسالية وما تبنّاها او تبنّته من موادها.

وهي تعرض بمختلف المسارح المناسبة في سور عدّة كما تناسب جوّ السورة ، وهنا في «طه» يسبقها مطلع يشفّ عن رحمته تعالى ورعايته لمن يصطفيهم لحمل أعباء الرسالة ، وبلاغ الدعوة ، طمئنة وذكرى لخاطر الرسول الأقدس (ص) القريح الجريح من أذى المشركين ولظاهم وكما هي

٣٣

الحال في ذكريات سائر الرسالات (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (١١ : ١٢٠).

وكما هي في سائر مجالاتها وحلقاتها ، إذا فلا تكرار في جلواتها ، إلّا تكرارا لمجالاتها المناسبة لها ، كلّ على قدر.

وترى كيف «را نارا» وهي في الحق كان نورا تشبه النار؟ انها في رؤيته البدائية ومن بعد كانت نارا! ولأنه لم يتأكد كونها نارا قال (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) دون «رأيت نارا» ثم «لعلي» مرددة بين (آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) تؤكد انه لم يتأكد كونها نارا ، مهما احتملت «لعلي» عدم التأكد من احد الأمرين إذا كانت نارا ، وهي قائمة مقام إن شاء الله!.

والنيران خمس : نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى ، ونار محرقة بلا نور وهي نار جهنم ، ونار تجمعهما وهي المعروفة لدينا ، ونار لا حرقة فيها بالفعل ولا نور وهي نار الشجر الأخضر فمنه توقدون ، ونار كلّ مادة تظهر في التفجرات الذرية.

و (حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) هو ما حدث له بالفعل لأوّل مرة في بزوغ الوحي الرسالي ، ولماذا (أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) دون (مِنَ النَّارِ) لأن قضية الحال في النار الموقدة في الصحراء أن عندها أهلا عليها فهم يهدوننا الطريق ، ام إن على النار نفسها هدى وكما اهتدى بما أوحي له منها.

ثم «قبس» كما هنا ، و «جذوة» كما في القصص هما بمعنى ، وهو قطعة منها تتجزى (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) وتستوقدون فتعملون بها لأنفسكم نارا بها تكتفون (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٩٠ ـ اخرج احمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي ـ

٣٤

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ

__________________

ـ حاتم عن وهب ابن منبه قال : لما راى موسى النار انطلق يسيرا حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضر يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى الا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدري ما يصنع الا انه قد ظن انها شجرة تحترق وأوقد إليها موقد فنالها فاحترقت وانه انما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع ان يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك اهدى إليها بضغث في يده وهو يريد ان يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء باوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر موسى في أمرها فقال هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأ موسى ذلك قال ان لهذه شأنا ثم وضع أمرها على انها مأمورة او مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بما أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدري أيرجع ام يقيم فبينا هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا هو أشد مما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها يغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنورا تصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكلّ دونه الأبصار كلما نظر اليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع الحنين والوجس الا انه سمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى الكرب واشتد عليه الهول نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه وما كان سرعة اجابته الا استئناسا بالانس فقال لبيك مرارا اني لا سمع صوتك وأحس حسك ولا ارى مكانك فأين أنت! قال : أنا فوقك ومعك وخلفك واقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى علم انه لا ينبغي هذا الا لربه فأيقن به فقال : كذلك أنت يا الهي فكلامك أسمع ام رسولك ، قال : بل انا الذي أكلمك ، فادن مني فجمع موسى يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت الا ان روح الحياة تجري فيه ثم زحف على ذلك وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى : ما تلك بيمينك ...

٣٥

الْمُقَدَّسِ طُوىً) ١٢.

وأخيرا أتاها (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) أمن النار ام من الشجرة الطالعة منه النار ، تقص لنا القصص انها من الشجرة المنوّرة المباركة : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٣٠) وطبعا من النور المتطلعة عليها (إِذْ رَأى ناراً ..).

أو كان هناك في الشجرة ام نارها النور تجل من الله ، حتى نودي موسى منها (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ)؟ حتى يهرف هارف ويخرف خارف (إِنِّي أَنَا اللهُ) قائلا :

روا باشد «انا الحق» از درختي

چرا نبود روا از نيكبختي! :

إذا جاز لشجرة ان تقول : اني انا الله ، فلما ذا لم يجز من سعيد مثلي : منصور الحلاج ـ ام با يزيد البسطامي ـ أن أقول : انا الله ، حيث تجلى فيّ الله كما في الشجرة.

نص الآية «نودي يا موسى ـ من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ـ : اني انا الله» فالشجرة ـ إذا ـ هي ـ فقط ـ مذياع النداء من نورها ، وليس يلزمه ان يكون المذيع بذاته فيها ، وكما الملائكة يحملون ندا آت الله ولا يحملون ذات الله ، فالنداء ـ كما الشجرة والنار النور ـ هي من فعل الله ، ومهما كان لنداء الله سمت وصوت ، فليس لذات الله سبحانه سمت ولا صوت ، وانما خلق منه كسائر خلقه ، من دون لسان ولا شفه ولا أي عضو ، فانما صوت مخلوق في الشجرة ، كما يخلق في الألسنة ، والفارق هو خرق المتعوّد من الصوت النداء ، وكما ان اصل الوحي خرق لعادة التعليم ، فذلك النداء خارقة في خارقة ، بارقة في بارقة نور النار في الشجرة المباركة الميمونة.

٣٦

لقد كانت هذه النداء الربانية من نور من هذه الشجرة من جانب الطور الأيمن (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠) وهي الزيتونة (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (١٩ : ٥٢) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (٢٨ : ٤٦) (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٥٢ : ١) (وَطُورِ سِينِينَ) (٩٥ : ٢).

آيات بينات تتجاوب مع بعض في مذياع النداء لموسى انه النور الساطع من الشجرة الزيتونة في البقعة المباركة من شاطئ الواد الأيمن ، دون ان يكون المذيع ماكنا فيها ، ام متجليا لها ، اللهم إلّا بأنوار وحيه في صوغ كلامه لسوق وحيه الى موساه ، ولذلك يقول هنا (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وهي هنا ربوبية الوحي ، وهناك (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) حيث الوحي موجّه الى العالمين «ربك» وحيا إليك و (رَبِّ الْعالَمِينَ) فانه بلاغ منك الى العالمين!.

فلقد كان يرجو نارا فأوتى نورا ف «كن لما لا ترجو أرجي منك لما ترجو فان موسى (عليه السلام) ذهب يقتبس نارا فانصرف إليهم وهو رسول نبي فأصلح الله تبارك وتعالى أمر عبده ونبيه موسى في ليلة وكذلك الله تعالى يفعل بالقائم الثاني عشر من الأئمة يصلح الله امره في ليلة كما أصلح الله امر موسى ويخرجه من الحيرة والغيبة الى نور الفرج والظهور»(١).

وقد عبر عن مجيء وحيه بجيئته تعالى لأنه إتيان ربوبيته وحيا الى رسله وكما في الأصل العبراني في التورات تبشيرا بمهابط الوحي الثلاثة :

__________________

(١) بحار الأنوار ١٣ : ٤٤ عن أبي عبد الله (عليه السلام).

٣٧

«وزئت هبر أخاه أشر برخ موشه إيش ها إلوهيم إت بني يسرائيل لفني موتوا ويومر يهواه مسيني باو. زارح مسعير لاموا هو فيع مهر فاران وآتاه مرببت قدش مي مينوا إش دات لاموا». (سفر التثنية ٣٣ : ١ ـ ٢).

«وهذه بركة باركها موسى رجل الله بني إسرائيل عند موته ١ وقال : الله من سيناء جاء. تجلى من ساعير ، تلعلع من جبل فاران ، وورد مع آلاف المقدسين ، من يمينه ظهرت الشريعة النارية» (١).

وقد جاء مثلها في دعاء السمات «وبمجدك الذي ظهر على طور سيناء فكلمت به عبدك ورسولك موسى بن عمران ، وبطلعتك في ساعير ، وظهورك في جبل فاران بربوات المقدسين وجنود الملائكة الصافين وخشوع الملائكة المسبحين».

وعلى أية حال فلا تجلّي هناك للذات ولن يكون ، وانما جلوات من ربوبية الوحي على موسى كما على المسيح ومحمد (عليهما السلام) وسائر المرسلين مهما اختلفت الدرجات والكيفيات.

(فَلَمَّا أَتاها) وفي خلده أن يقتبس منها قبسا لعلهم يصطلون أو يجد على النار هدى ، فإذا فاجئته هذه الجيئة بنداء من الرب ، وطبعا هو عرف انها نداءه دون ريب ، فان ذلك هو طبيعة الحال في الوحي وان لم تسبق له سابقة ، فالذي يوحي الى عبده ، يوحي له معه انه وحيه ، فانه لزام استقرار الوحي في مستقره ، دون أية ريبة فيه ، ولا شبهة تعتريه.

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ص ٤٤ ـ ٥٣ تجد تفصيل البيان حول هذه البشارة الموسوية ومن حبقوق النبي (عليه السلام).

٣٨

لا فحسب رجالات الوحي يعرفون نداء الوحي ، بل الإلهامات الإلهية ـ كذلك ـ معروفة لدى أهليها قضية تقوى الله ، والتوسم الحاصل منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٨ : ٢٩) وكلما كانت التقوى أقوى فالفرقان على ضوئها أقوى ، حتى إذا كانت عاصمة معصومة ، ففرقانها ايضا عاصم معصوم ، لا يخالجه شك ولا ريبة.

وقد يروى انه «لما نودي يا موسى قال (عليه السلام) من المتكلم؟ فقال : انا ربك ـ فوسوس اليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان! فقال (عليه السلام) : انا عرفت انه كلام الله تعالى باني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء!».

ومهما يكن من شيء فلا ريب انه عرف كونه كلام الرب وحيا ومن سائر الجهات ، إذ كان الكلام دون جهة من النور خارق العادات ، سمعه بكل كيانه سمع الأذن والقلب ، وسمع الفؤاد المتفئّد بنور المعرفة القمة ، فأصبح هو بكله سمعا وسماعا.

وقد تنادي «نودي» مجهولا ، دون «ناديته» أن لم تكن نور الشجرة مجلى لذات الرب سبحانه ، وانما خلق فيها صوت النداء دون جهة خاصة.

وعلى أية حال كان ذلك وحيا دون وسيط ملك الوحي ، مهما كان بوسيط كلام من لسان النور الساطع من الشجرة ، حجابان اثنان ، حيث الوحي درجات عدة كما يقول الله تعالى :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (٤٢ : ٥١).

فقرن «وحيا» ب (مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) قرينة انه يعني وحيا بلا أي حجاب ، اللهم إلّا حجاب الذات القدسية الألوهية ، وقد حصل

٣٩

ذلك الوحي ـ فقط ـ للرسول الأقدس محمد (ص) ليلة المعراج ، ام وليلة القدر حيث انزل عليه القرآن المحكم ، دون اي وسيط ، لا ملك الوحي ، ولا كلام ولا نور ولا نار ولا شجرة أمّا هيه من وسائط وحجب ، وانما من الرب الى قلبه القدسي الرسالي القمة : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وهو في مقام «او أدنى» وهو لما تدلّى ، خالعا نعل نفسه وحجاب ذاته بعد سائر الحجب ، فلم يكن حينئذ بينه وبين الله أحد حتى نفسه! (١).

وقد لا يكون سائر الوحي الى سائر رجالات الوحي وحيا أمام ذلك الوحي وكما في الشورى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...) (١٣).

كما وان صاحب ذلك الوحي القمة كأنّه هو الرسول النبي لا سواه ، بما طواه وحواه ، وهو لامح من آيات عدة تخاطبه كأنه هو الرسول لا سواه.

واما متن النداء الأولى لموسى ـ وما أمتنها وأمكنها في قلبه بما طواه وحوى ـ فهو :

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) اني المكلّم إياك «انا» لا سواي «ربك» بربوبية رحيمية خاصة (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

وفي مفاجأة هذه الجيئة ، بهذه المشاهدة المنيعة ، لقد كان القلب يجف والكيان يرتجف ، موسى الفريد في صمت مخيّم ، بليل دامس ، وبرد قارص وهو كارث ، واهل بلا حارس ، فإذا بنداء لم تسبق لها نظير (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ..)!

__________________

(١) راجع الفرقان تفسير سورة النجم حول آيات المعراج.

٤٠