الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

حيث جمع كل جوانب الربوبية لربهما كرب العالمين ، سلبا لسائر الربوبيات المدّعاة ، فان الكل فقيرة في ذاتها فضلا عن إعطاء خلق ام هدى لسواها! فالخلق بهداه الواسعة الشاسعة ، والشاملة كل كائن من الذرة وما دونها وما فوقها ، من الخلية الواحدة الى ارقي اشكال الحياة ، مشمول ل (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

هذا الكون الكبير المؤلّف مما لا يحصى من الذرات والخلايا ، كل ذرة فيه تنبض وكل خلية تحيا ، وكل كائن يتفاعل او يتعامل مع الكائنات الاخرى .. تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في كينونتها او غريزتها او فطرتها وعقليتها ، بلا تعارض كوني ولا خلل ولا فتور.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ٥١.

لما أفحم الطاغية بهذه الحجة البالغة المحلقة على الأصول الثلاثة ، انتقل في حواره الى واجهة اخرى ، استبعادا لها : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) والبال هو الفكر والحال ، الحال التي يكترث بها كما يقال : ما باليت بكذا بالة ، اي ما اكترثت به ، والحال التي ينطوي عليها الإنسان فيقال : خطر ببالي.

فهنا استبعاد أول في بال الفكر للقرون الاولى ، إذ كانت الاكثرية المطلقة منهم مشركين ، فإذا كان التوحيد حقا فما بال القرون الاولى إذ كانوا مشركين؟ سنادا في ابطال الحق الى الاكثرية الساحقة من القرون الاولى كأنها حجة تدمغ بالغة الحجة.

ثم استبعاد ثان ، ان لو كان التوحيد حقا وان العذاب على من كذب وتولى ، فما حال القرون الاولى التي مضت وضلت في الأرض ، فهو كقيلة لهم اخرى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

١٢١

(٣٢ : ١١).

ما شأن القرون التي مضت ، اين ذهبت ، وكيف ومتى عذبت؟

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) ٥٢.

لماذا لم يؤمنوا؟ (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي)! وكيف يتواجدون حتى يعذبوا؟ (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) ما كتبه عليهم من اعمالهم فهي تابتة في أنفسهم وفي أماكنهم وسائر الشهود (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ... لا يَضِلُّ رَبِّي) عما خلق وهدى ، وعما أمات وأحيى ، فهو عالم بخلقه على أية حال ، ثم (وَلا يَنْسى) بعد ما علم ، علم دائب لا حول عنه ولا خلل فيه ولا نقص يعتريه.

فالخالق كل شيء ، الهادي كلا الى شيئه بما أعدّ له من طاقات وامكانيات ، كيف يضل عن فعله او ينسى؟.

ولماذا «ربي» دون «ربك» او «ربنا» او (رَبِّ الْعالَمِينَ)؟ لعله تاشير الى أن الربوبية الخاصة التي تجعل لمثلي علما هكذا ، فأفحمك بجملة قاطعة ، إنها باحرى ان تحلّق علما على القرون الاولى وسواها.

إذا فليس (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) تحويلا للجواب الى ربه ، علما بانه تعالى ليس ليجيبه ، بل هو جواب حاسم ان ربي لا يضل عما خلق وهدى ولا ينسى ، لأنه (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

ومن هداه الفطرية ، وهي بال القرون الاولى مهما تخلفوا عنها ، ومن هداه تسجيل أقوالهم واعمالهم والحفاظ على أرواحهم بأجسادهم بعد موتهم كما قبله ، فلا يضلون عن علمه ولا ينسون ، فهو هو يجازيهم يوم القيامة بما كسبوا وما الله بغافل عما يعملون.

ومن ثم يذكر لربه مواصفات تؤكّد علمه المحيط وجزاءه الأوفى لكل من سعى :

١٢٢

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) ٥٣.

«كم» فيها لا تختص بحاضر الإنسان زمن الخطاب كقضية واقعية ، بل الخطاب فيها وأمثالها قضية حقيقية تشمل مثلث الزمان حاضرا ومستقبلا وغابرا ، منذ سكن إنسان الأرض والى يوم الدين.

فلقد كانت الأرض قبلكم ولم تكن مهدا ، ثم الله جعلها لكم مهدا : متحركة بحراك دائب ، فكما مهد الطفل يحركه لإراحته ، وهو مربوط بربطتين تربطانه والطفل عن السقوط والتبعثر ، كذلك مهد الأرض فانها مربوطة برطاتات منها القوة الجاذبية العامة ، تربطها وأطفالها عن السقوط في هوّات الأجواء البعيدة ، وهي متحركة بحركات عدة متداخلة لطيفة حنونة ، لحد لا ندرك منها الا كلّ رياحة.

ومن ثم هي مهد المهاد (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧٨ : ٦) حيث مهدت لحياة الإنسان بسائر الأحياء المستخدمة لصالح الإنسان ، فمهدت للإنسان كل حاجيات حياته ، مهدا حانيا على طفولة الإنسان يضمه ويرعاه ، وتمهده ـ ان سلك فيها سبيل ربه ـ للحياة الاخرى ، وهي أحرى من الاولى وارقى.

ف (سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) لا تختص بالسبل الحيوانية لحياته ، بل وانسانية الحياة هي الأهم الأحرى ، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

وكذلك الأمر في (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) : نابتات نباتية وحيوانية وإنسانية اما هيه : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧).

. و «أزواجا» هنا تعم الذكورة والأنوثة كظاهرة مطردة في كافة الأحياء الثلاثة الأرضية ، والنبات يحمل في الغالب خلايا التذكير

١٢٣

والتأنيث معا في نبتة واحدة ، وأحيانا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية ، وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع.

وقد جمعت الآية عطية الخلق والهدى ، الناحية منحى هدى الإنسان الى غايته القصوى ، اعطى الأرض خلقها ثم هداها بتمهيدها لطفولتها التي تختضنها بمهدها ، وسلك سبلها ثم هداها ان سبّلها لإنسانها في مختلف سؤله روحية ومادية ، وانزل من السماء ماء ثم هداه وهدى الأرض ان اخرج منها أزواجا من نبات شتى.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ٥٤.

«كلوا» من نباته الشتى (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) منها ، ان في ذلك الإنعام لكم وللأنعام «لآيات» تدل على توحيد الله والحياة الأخرى وما بينهما (لِأُولِي النُّهى).

و «النّهي» جمع النّهية وهي العقل الناهي عن القبائح كلها ، حيث التاء هنا للمبالغة كما في العلّامة ، فلم يقل «اولي العقول» حيث العقل منه مدخول لا ينهى بل وينهى بناهية النفس ومن ناحيتها ، ام لا ينهى ولا ينهى ، بتلة بطلة كأن لا كون لها ولا كيان ، فلا تستعمل لصالح الحياة ولا طالحها ، كالعقول المجنونة ، او المحجوبة عن فاعلياتها.

وهذه الآيات انما هي (لِأُولِي النُّهى) تلك العقول الناضجة الناتجة عن تعقلات وتنهيات عن الهوى ، فالعقل ما عبد به الرحمن واكتسب الجنان ، فالذي في معاوية وكل طاغية هو النكراء والشيطنة ، حيث تستخدمه الهوى وتربطه بنفسها فيصبح صاحبه كله هوى دون أية نهى ، ورسل الله وأئمة الهدى هم أفضل اولي النهى (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٢ في تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن علي ـ

١٢٤

فما من عقل مستقيم يتأمل ذلك النظام البارع العظيم متطلعا ، ثم لا يطّلع فيه على آيات تدله على الخالق الهادي الحكيم (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) سبحان الخلاق العظيم!

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) ٥٥.

«كم» في هذه الثلاث تعم كافة الأنسال الإنسانية الحالية الباقية الى يوم الدين ، والسابقة المنقرضة.

وهذه الآية تحمل رباطات ثلاث بين الإنسان ومهده المسبّل له في مختلف مراحله ، قبل الدنيا وفيها وبعدها ، وما أجمله تعبيرا عبيرا عن مثلث الكيان للإنسان ، عبرة للمعتبر ، وتبصرة للمتبصّر!.

وهنا «خلقنا» دليل انه ليس من تتمة المقال لموسى ، وعل (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ..) ايضا هكذا ، فلحدّ «لا ينسى» هي من حوار موسى ، ثم

__________________

ـ بن رئاب عن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) قال : نحن والله اولوا النهى ، قلت : ما معنى اولي النهي؟ قال : ما اخبر الله به رسوله مما يكون بعده من ادعاء أبي فلان الخلافة والقيام بها والآخر من بعده وثالث من بعدهما وبني امية فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان كما اخبر الله به نبيه وكما اخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا وكما انتهى إلينا من علي فيما يكون من بعده من الملك في بني امية وغيرهم فهذه الآية التي ذكرها الله في الكتاب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) الذي انتهى إلينا علم ذلك كله فصبرنا لأمر الله عز وجل فنحن قوام الله على خلقه وخزانه على دينه نخزنه ونستره ونكتم به من عدونا كما كتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى اذن الله له في الهجرة وجاهد المشركين فنحن على منهاج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى يأذن لنا في اظهار دينه بالسيف وندعو الناس اليه فنصيرهم عليه عودا كما صيرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بدوا» ..

١٢٥

الآيات الثلاث الاخرى تلحيقات تكملها في هذه الشرعة الأخرى.

وقد تكون هذه الثلاث في آيتنا تعنيها السجدتان فيما عنت وعنتا فالسجدة الاولى : اللهم انك منها خلقتنا ، ورفع رأسك : ومنها أخرجتنا ، فقد تعنيهما (مِنْها خَلَقْناكُمْ) والسجدة الثانية : وإليها تعيدنا ، ورفع رأسك من الثانية : ومنها تخرجنا مرة اخرى» (١).

ثم (مِنْها خَلَقْناكُمْ) تعني تناسل الذرية الى جنب الإنسان الاول ، مهما بان البون بين الخلقين من تراب ، (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) اعادة ما خلق منها فيها (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) إخراج لما خلق منها وأعيد فيها ، و «كم» في هذه الثلاث تعني جزئي الكيان الانساني جسدا وروحا وهي أحرى ان تعينها «كم» فقد خلقنا بأرواحنا وأجسادنا من الأرض منذ البداية في تناسل الذرية ، فالإنسان الأول خلق جسمه من تراب ثم روحه المنفوخ فيه سلالة من الجسم نفسه ، ثم الإنسان عبر التناسل مادة ارضية حتى الجنين ومن ثم (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) روحه المنفوخ فيه هو إنشاءه خلقا آخر ، سلالة من جسمه ، وعلى حد المروي عن أئمتنا هو «جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا».

فجسم الإنسان الظاهر وجسمه المثالي ، بروحه النباتي والحيواني والانساني ، انه في هذه الخماسية مخرج من الأرض ثم يعاد فيها ثم يخرج منها مرة أخرى كما الاولى ، بالأجزاء الأصيلة التي عاشها طول الحياة وكما يناسب الحياة الأخرى.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٢ في العلل باسناده الى احمد بن علي الراهب ، قال قال رجل لأمير المؤمنين (عليه السلام) يا ابن عم خير خلق الله ما يعني السجدة الأولى فقال : تأويله اللهم.

١٢٦

فهنا لك امر محفوظ من كل نفس في هذه المراحل الثلاث ، وعلّه النطفة التي خلق منها كل نفس بالروح المنفوخ فيها بعد اكتمالها جنينا ، فالخارج من الأرض يوم الحشر هو المخلوق منها في البداية ، وسائر الاجزاء البدنية بين الخلق والحشر زيادات لا تعني حشرا ولا يعنيها الحشر ، حيث القصد إيصال الجزاء الى الروح ببدنها الذي عاشته طول الحياة ، دون الاجزاء الاخرى التي هي اصول لنفوس آخرين ام فروع لكل نفس هي ضيف تأتي وتروح ، والادلة العقلية والنقلية الثابتة كتابا وسنة لا تثبت اكثر من حشر الروح ببدن مّا هو باحرى الجزء الأصيل الذي عاشه طول الحياة بما فيها حياة التكليف.

وهذه عظة وعبرة لاولى النهي وكما قرأها رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) على بنته حين دفنها ثم قال : بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله» (١).

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) ٥٦.

وترى ما هي (آياتِنا كُلَّها) ولم تبرز في هذا المجال إلا آيتان ، ثعبان العصا واليد البيضاء :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٢٦ : ٣٣) وهنا لك آيات بجنب آية طه تذكر ما أريه فرعون

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٢ ـ اخرج احمد والحاكم عن أبي امامة قال لما وضعت ام كلثوم بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في القبر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : منها خلقناكم ... بسم الله ...».

١٢٧

بجميع الآيات (١) ومنها آية مضت من طه نفسها (٢).

«آياتنا» هنا وفي سواها تعني التسع التي أرسل بها موسى الى فرعون وملإه على طول الخط ، لا فحسب في بداية الرسالة : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ. إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً. قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٧ : ١٠٢) (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢٧ : ١٣).

واما «كلها» فقد تعني كل التسع المقررة للطاغية ، ام انها نماذج من كافة الآيات البصرية التي أعطيها رسل الله ، مهما اختلفت عنها اشكالها ام توافقت ، ام انها مثلثة الآيات ، على التوحيد والنبوة والمعاد ، عقلية بصيرية وحسية بصرية ، ف «كلها» هي الكل الجمعي ، دون استغراق الأفراد منها ، موزّعة على كافة الرسل.

«فكذب» بها «وابى» عنها ، ناسبا لها الى سحر دونما أية برهنة :

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ٥٧ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) ٥٨.

هنا «بسحرك» دليل انه أراه من آيات الله ، فيهدده : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ

__________________

(١) «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها ..» (٧ : ١٠٣) (١٠ : ١٠) و (١١ : ١٢).

(٢) وهي «اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي» فانه ذهاب رسالي الى فرعون وملائه ككل ، دون بدايتها حتى تخص بالآيتين النموذجيتين.

١٢٨

بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) وكما في الأعراف : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ. قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ..) (١١١).

(قالَ أَجِئْتَنا) استفهام انكار بكل استكبار (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى)؟.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٧٨). (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٢٣ : ٤٧).

و (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) نموذجة تعني هذه كلها ، ان تستلبونا سلطاننا فلنخرج من أرضنا إذ لسنا نعيش تحت سلطتكم ولا ان نبدل ديننا ، وذلك إمحاء لنا عن كياننا ، واجتثاث لجذور حيوياتنا.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) مماثلة في اصل السحر ولكنا نحن الغالبون : (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٢٦ : ٤٠) في سحرهم سحره فتطلّب موسى في البداية ان يرسل معه بني إسرائيل ، والطاغية يقتّل أبناءهم ويستحيي نساءهم خوفا من تكاثرهم فتغلّبهم ، ثم ظهور آية خارقة بيده ، لذلك خاف على ملكه ، وهذه الثلاث قاهرة باهرة على فرعون وملائه.

فهنا الطاغية يتهم موسى سياسيا لإثارة الساسة والرعية ومن يحبون ارض الوطن ، وفي نفس الوقت يتهمه دينيا (لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ـ وفي الغافر ـ يجمع بينهما : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٤٠ : ٢٦).

١٢٩

(٤٠ : ٢٦).

وهما من أهم ما يهم كل امة ، تمسكا بمبدءي العقيدة والقومية ، وحين تجتمعان فهنا لك الطامة الكبرى على من يعارضهما ، وهكذا يكيد فرعون أمام موسى بمسمع ومرأى حاشيته وشعبه ، تفلتا عن برهانه ، وتلفتا الى ما يصرفهم عنه علّهم يثبتون (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

ثم وليعارضه ـ على زعمه ـ يتطلب اليه ان يجعل موعدا لمغالبته في سحره! :

(فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) لمعارضة السحر ومغالبته (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) موعدا لا يعذر أحد منا عن حضوره ، (مَكاناً سُوىً) وسطا بين الطرفين ، سويا دون ارتفاع ولا انخفاض ، فان السّوى هي المستوي طرفاه ، وهو يعم استواءه في نفسه وبالنسبة للطرفين في المباراة.

ونرى الطاغية في ذلك الكيد الأكيد يستحكم موعده زمانا ومكانا سوى ، ولكي يخيّل الى شعبه انه على شيء ، والا فلما ذا أصل الموعد ، ثم لماذا التأكد من زمانه ومكانه العام لتكون المظاهرة في مشهد ومسرح عام؟.

انه يستحكمه اعتمادا على شايع قدرته وبالغها عند شعبه ، فلأن موسى وليد بينهم فلا بد انه تلميذهم.

وقد كان ذلك باشارة من حاشيته : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٧ : ١١١).

وهذه طبيعة الحال ممن يعارض البرهان ، فليس على موسى ان يتطلب ذلك الذي طلبوه لأنه على حجته الباهرة القاهرة ، ثم على استعداد تام ليكرر لهم حجته يوم حشرهم لتتمّ عليهم كلهم ، فلذلك يجاوبهم من فوره :

١٣٠

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) ٥٩.

وقد اختار موسى لتلك المباراة أفضل وقت في اجمع يوم : (يَوْمُ الزِّينَةِ) العيد الشعبي العام حيث الناس فيه يحشرون ، اضافة الى نداءه العام ان يجمعوا فيه لهذه المباراة من سحرة ومن الناس (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ. لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٢٦ : ٤٠).

ثم (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) ليكون الوقت ضاحيا في أوضح فترة من فترات النهار وأشدها تجمعا يوم الزينة ، لا في الصباح الباكر والجميع لمّا يغادروا البيوت ، ولا في الظهيرة إذ قد يعوقهم الحرّ ام حاجة الغذاء ، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع ام من وضوح الرؤية ، وانما وسطا بين الظهيرة والمساء. وذلك مربع (١) من الحائطة الفائقة لتجمّع اكثر عدد ممكن لمسرح المباراة ، وليعلم فرعون وقومه ان موسى احرص منه وأحرى بتلك المباراة ، وان ما عنده أقوى مما عند فرعون من قوة في ذلك الصراع.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) ٦٠.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) عن موسى وعن الحق الذي جاء به وعن مجلس المواعدة (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) المنتشر بين السحرة والحاشية الملكية وفي نفسه اللئيمة ، فما أبقى كيدا الا جمع بعضه الى بعض علّه يتغلب على موسى الذي زعمه ساحرا كسائر السحرة.

__________________

(١) وهو ان الموعد يوم الزينة ـ وقد دعي السحرة ـ ودعي معهم الناس ـ وان يحشر الناس ضحى ، وهذه الزوايا الأربع هي التي تجعل ذلك المجتمع اضخم ما يكون وأهمه.

١٣١

فقد أجمل «كيده» كل قاله وحاله وفعاله في كيده مما أشار به ملائه وأشاروا له ، وما دار بينه وبين السحرة والحاشية من تحميس وتحريض وتحريص ، ووعد بكل ثمين ورخيص ، «ثم» بعد ذلك الجمع الجامع الجامع في ظنه «أتى» يوم الموعد بكل خيله ورجله ورجّاله (١) فما هو ـ اذن ـ دور موسى في ذلك الجو الكادح الكالح! وليكون الباطل هو الفالج والحق هو الفالح.

انه يبدأ قبل كل شيء في هذه المباراة بالعظة الحسنة ، المذكرة المحذّرة :

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ٦١.

«قال لهم» وهم فرعون وملائه وسحرته فإنهم من كيده (٢) وضمير الجمع راجع اليه بكيده الشامل لهم كأصول ، ثم سائر الجمع كهوامش الضلالة ، وكلهم من المفترين على الله كذبا ، فرية في اشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وتسميتهم وحي الله أساطير ، وآية الله سحرا ، ورسول

__________________

(١) البحار ١٣ : ١٢١ القمي عن الامام الصادق (عليه السلام) في حديث له طويل عرض فيه القصة على طولها وقد مضى شطر منها «فلما ارتفع النهار من ذلك اليوم وجمع فرعون الخلق والسحرة وكانت له قبة طولها في السماء ثمانون ذراعا وقد كانت لبست الحديد الفولاذ وكانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر احد ان ينظر إليها من لمع الحديد ووهج الشمس ...

(٢) البحار ١٣ : ١٢١ في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) .. وجاء فرعون وهامان وقعدا عليها (القبة) ينظران واقبل موسى ينظر الى السماء فقالت السحرة لفرعون : انا نرى رجلا ينظر الى السماء ولم يبلغ سحرنا السماء وضمنت السحرة من في الأرض فقالوا لموسى اما ان تلقي واما ان نكون نحن الملقين ...

١٣٢

الله ساحرا ، وقد اشترك ذلك الجمع كلهم في هذه الافترائات أصولا فيها ام فروعا وهوامش ، فالنصح ـ إذا ـ يشملهم كلهم ، و «ويلكم» كلمة مركبة من «وي ـ و ـ لكم» اي تبا لكم وواها وعذابا وآها.

(لا تَفْتَرُوا .. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) ان افتريتم على الله كذبا دون توبة ولا أوبة ، والإسحات من السحت وهو استئصال الشّعر بحلق ، فهو الاستئصال والإهلاك الساحق الماحق ، و «بعذاب» يعم مثلثه ، هنا وفي البرزخ والاخرى ، وقد شمل فرعون بجنوده في كل زواياه لأنهم كانوا هم الأصلاء في فرية الكذب على الله (وَقَدْ خابَ) وخسر على أية حال «من افترى» على الله ام وعلى خلق الله ، فالفرية دركات كما التصديق درجات.

والخيبة وهي عدم الوصول الى الهدف من الفرية ، هي عذاب فوق العذاب ، فللمفتري إسحات عذاب وخيبة أمل ، ظلمات بعضها فوق بعض.

لقد قال موسى كلمته القاطعة القاصعة ، فلمست منهم بعض القلوب غير المقلوبة من السحرة فتلجلج في امر موسى ، وأخذ المصرون على المباراة يجادلونهم متنازعين :

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) ٦٢.

وهكذا تنزل الكلمة الصادقة كالقذيفة في معسكر المبطلين فتزعزع نفسياتهم على قدراتهم فتوقع الربكة واللجلجة في صفوف السحرة المقربين المدربين ، فتحوجهم الى إسرار النجوى خوفة من فرعون وموسى!.

والتنازع من النزع وهو جذب شيء من مستقره لينقلع ، والنجوى هي المسارّة في امر بكلام وسواه ، وإسرارها هنا تعميق في إخفائها كيلا يسمعها موسى.

١٣٣

ولقد كان «أمرهم» الذي تنازعوه بينهم امر التصديق والتكذيب لموسى ، فطائفة تحنّ الى تصديقه ، واخرى الى تكذيبه ، وثالثة عوان بين ذلك ، متجاذبين أمرهم بينهم في سر مستسر ، فالاولى لا تجرء على اظهار أمرها تخوفا من فرعون وملائه ولمّا يظهر امر موسى ويبهر ، وحتى يتبلج امره بعد ما تلجلج ، فضلا عن ان يجذب المعاندين الى الحق ، والثانية تحاول جذبها والثالثة الى التكذيب ، وبالفعل أصبحت هذه الأقلية الصالحة تحت ضغط الاكثرية الكالحة فسكتوا عما :

(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ٦٣.

وعله خطاب ذو بعدين من الأكثرية المضللة ، لأنفسهم استحكاما لعرى ضلالهم ، وللحائرين مزيدا في تحيرهم ، سنادا الى أهم الأمور الحيوية لكل امة سياسيا وروحيا ، إخراجا من أرضكم ، وإذهابا بطريقتكم الروحية المثلى ، وكل ذلك بسحر دون أية حقيقة ، فهو ـ اذن ـ باطل يريد ان يذهب بحقين حقيقين بالبقاء لكل امة.

فإذا هو ساحر فأنتم اولى بالسحر منه ، ثم اولى منه بأرضكم وعرضكم ، وطريقتكم المثلى التي لا نظير لها ، وذلك اخطر كيد على امة ، لتبقى تحت نير الذل والفرعنة دون ان يؤتى لها مجال التفكير لصالحها يوما مّا!

فلقد استحثوا دفائن ثورتهم من فورتهم يدا واحدة ضد من يريد القضاء على بعدي الحياة الراقية! فاليوم هو يوم المعركة الفاصلة بين الحق والباطل :

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) ٦٤.

١٣٤

اجماع كيد جماعي في صف واحد متراصّ للاستعلاء على من يريد القضاء على السلطة الزمنية والروحية ، وليس ـ فقط ـ من الاكثرية المضللة ، بل ومن الاقلية المتلجلجة ايضا (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)!

ولإجماع الكيد بعد ان ، اوّلهما جمع كافة مكائدهم مع بعض البعض دون فراق ، وثانيهما ان يتشاوروا فيما بينهم في ذلك الكيد المجموع.

فالى ميدان النزال للنضال حتى يعرف الداني من العال ، آخذين كل حائطة حاضرة وبائتة :

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ٦٥.

وهنا عدم البدءة من موسى سياسة لائقة به لابقة في المباراة ، فانه مدافع وليس مهاجما حتى يبدأ ، ثم البادئ في الحوار خاسر على أية حال لا سيما إذا لم يكن مؤيدا من عند الله ، فليخسروا هم بتلك البادئة الخاسرة ، فلا يرد عليه ان تقديم الشبهة على الحجة إدخال في اللجة ثم لا يعلم الخروج عنها؟ لأن حجية هذه الحجة لم تكن لتظهر الا بعد ظهور الشبهة ، ثم البالغة الدامغة للشبهة!.

ثم هؤلاء المتعودون على اتباع فرعون لم يكونوا لينظروا الى الحجة البادئة بعين الاعتبار لأنهم في انتظار ما أتى به السحرة ، ولكنهم بعده يتأكدون من الحجة اللاحقة الماحقة له ، فلتكن حجة الرسالة لاحقة دمغا لسحر السحرة.

وعلّ خطورة الموقف دفعتهم الى تخييره في الإلقاء ، دون إلزام عليه احد الأمرين ، ثم تقبّلهم ما اختاره موسى هو من مخلّفات اقتراحهم واختياره ، ثم من غرورهم بعددهم وعددهم وهم بمحضر فرعون وملائه ، وكأنهم يرونهم في (أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) متقدمين عليه بكل شجاعة وهيمنة

١٣٥

لا يتخوفون عن إلقاءه ، ولا يتحرجون دفاعه في إلقاءه!

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) ٦٦.

و «القوا» هنا خطابا لجمع السحرة إلغاء لسحرهم قبل إلقاءهم ، فلو لم يطمئن موسى الى غلبه عليهم كان «القوا» منه إلغاء ، لإلقاء نفسه بعدهم الى التهلكة ، وهذه اولى خطاه توهينا لما يلقون ، وتهوينا بإلغائه ما يلقون.

وترى كيف خيّل الى موسى من سحرهم انها تسعى ، وقد آتاه الله ما آتى؟ إن «يخيّل» هنا هو طبيعة الحال من سحرهم لكلّ من رأى ، خيالا لا يعارض يقينا في بال على أية حال ، وذلك نصيب موسى من سحرهم ولكن لمن سواه (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (٧ : ١١٦).

ثم «يخيل» المستقبل دون «خيل» الماضي ، تقضي على ذلك الخيال ايضا فلا تعني «يخيل» إلا طبيعة الحال من سحرهم لمن يخال دون واقع الخيال لموسى.

ثم السحر من السحارة وهي ما ينزع من السحر ـ طرف الحلقوم ـ عند الذبح ، فيرمى به ، وجعل بناءه بناء النّفاية والسقاطة ، فالسحر هو إصابة السحر كسقاطة ونفاية دون واقع ، فالساحر كأنه يذبح المسحور وليس يذبح ، ويأخذ عقله وحسه وليس يأخذ ، وانما هو تخييل لا يرجع الى عقل ولا واقع.

فالسحر مهما بلغ من حالة خارقة للعادة ، ليس ليأخذ مأخذه في القلوب والعقول ، وانما خطفة من عين ام أذن ، وهو يبطل بسحر مثله وكما

١٣٦

يبطل مثله ، ولا يؤثر فيما يؤثر إلا بإذن الله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ١٠٢) اللهم إلا في دعوى الرسالة ام معارضة آية الرسالة ، فانه اضافة الى القصور الذاتي فيهما يبطله الله تعالى عن بكرته لكيلا ينغرّ به ضعفاء العقول ، فضلا عن ان يأذن الله!.

وتراه كيف يأمرهم بسحرهم والسحر محرم في شرعة الله ، ولا سيما ذلك المضلّل لعباد الله؟.

انه يأمرهم به لكي يغلب الحقّ في صراع الباطل ، ولا يظهر له غلب عليه لولا ذلك الصراع! ولكي يدافع عن نفسه تهمة السحر الموجّهة إليه من فرعون وملائه.

وهنا (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) وهناك (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) يشيان بعظمة ذلك السحر وضخامته عددا وعددا حتى ليوجس خيفة في نفس موسى :

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ٦٧.

والوجس هو الصوت الخفي ، فالإيجاس هو التصويت الخفي ، فلو كان جليا لتجلى في صفحات وجهه ، وكان محجوجا بسحرهم قبل آيته ، فلم تكن إلا «خيفة» خفيفة واجسة طفيفة في قرارة النفس ، دون استقرار فيها ولا استغرار لها ، وانما هي على غرار ما خيّل اليه.

ويا عظماه من سحرهم ووا عجباه إذ بلغت بهم البراعة في فنهم واليراعة في سحرهم الى حدّ يوجس في نفسه خيفة موسى ، وما هي النفس البشرية لو انقطعت عنها العصمة الإلهية آنا مّا ، خافت عما لا يخاف منها ، وقد تكون هذه الوجسة مشيرة الى عظم الموقف وضعف الواقف في نفسه حتى تدركه العصمة الإلهية بالبشرى ، وإيجاس الخوف لا يطارد العلم بانه غالب ، وكما يخاف الميت على علم انه لا حراك له ولا ضرر منه.

١٣٧

ام قد تكون خيفة موسى من ضلال الناس في هذا المجال ، ف «لم يوجس موسى خيفة على نفسه اشفق من غلبة الجهال ودول الضلال» (١).

ام الوجستان معنيتان معا وهما ناحيتان منحى براعة الصناعة وسرعتها وهيبتها ، فجاءته من ربه البشرى :

(قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) ٦٨.

أنت الأعلى في آيتك العظمى ، وأنت الأعلى في هدى من اهتدى حيث يتحرى عنها.

«لا تخف» ـ (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فمعك الحق كله ومعهم الباطل كله ، معك ربك ومعهم الطاغية ، معك العقيدة ومعهم الحرفة بغية اجر المباراة ، أنت متصل بالقوة الكبرى وموصول النياط والنيّات بالرب الأعلى ، وهم يتصلون بالأرذل الأدنى ، ف (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى).

«لا تخف» هنا كما «لا تخف» عند ما (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) فانه لم يكن عشيرا لخارقة قبل ان يرى ما رأى من آيات ربه الكبرى ، ام سحر خيّل اليه بحبالهم وعصيهم انها تسعى ، فكان من طبيعة الحال خوفه ، ولكنه أمام الآية الالهية ظاهر (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (٢٧ : ١٠).

فهنا خوف ظاهر يوليه مدبرا عن آية باهرة ، ولكن هناك إيجاس خيفة

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

١٣٨

لأنها خارقة خارفة ، والخوف هو طبيعة الحال مما لم يأنسه الإنسان على اية حال ، ولكنه لما طمأنه ربه ـ وقبل ان يلقي ـ أخذ يعظهم وينبئهم بغلبة عليهم بعد قليل (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (١٠ : ٨٣). ثم حقق ما أنبأ وأوعد بأمر الله :

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ٦٩.

وهنا بصورة قاطعة إفلاج الساحر رغم محاولته في إفلاحه ، وهناك (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) مما يبرهن ان الساحر المتحدي آيات الرسالة فالج غير فالح حيث أتى ، وبأية قوة واية كيفية كانت ، وعلى ضوءه ندرس ان الآية المعجزة غالبة على اية حال على السحر أيا كان وحيث أتى.

وهكذا نعالج بأس كل ساحر بسحره بقراءة آيات من الذكر الحكيم على موضع السحر بنية صادقة فيبطل.

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إذا أخذتم السارح فاقتلوه ثم قرأ : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) : قال لا يأمن حيث وجد» (١) والقدر المعلوم منه من يعارض بسحره آية النبوة.

وانما (ما فِي يَمِينِكَ) دون «عصاك» على طوله واجمالها ، واختصارها وصراحها؟ عساه ينتبه مرة اخرى ان ليست عصاه بما هي عصاه تلقف

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٣ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ...

١٣٩

ما صنعوا ، تخلية لها عن اعتماده عليها ، وتحلية لها بتجردها عن نسبتها اليه ، وان الله هو الذي يحولها كما يريد ، وهو الذي يعيدها سيرتها الاولى كما خلقها.

ثم و (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) كنتيجة حاسمة لتحولها ثعبانا مبينا يلقف كيد ساحر : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) (٧ : ١١٩).

فبالفعل ألقى موسى عصاه ووقعت المفاجأة الفاجعة الكبرى ، فحولت كامل مشاعرهم لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه ، ولا يكفي النطق للإفضاء والإفصاح به ، فانهارت كل طاقاتهم النفسية فوقعوا على الأرض سجّدا وكأنها دون اختيار ، حيث الساحر اعرف بسحره من غيره ، فأعرف بالآية الربانية التي تختلف تماما عن كل انواع السحر (١).

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ٧٠.

وهنا «فألقي» المجهول يصوّر ضخامة الموقف ، بمدى تأثير الآية

__________________

(١) البحار ١٣ : ١٢١ في حديث الامام الصادق (عليه السلام) ... فالقى موسى عصاه فذابت في الأرض مثل الرصاص ثم طلع رأسها وفتحت فاها ووضعت شدقها العليا على رأس قبة فرعون ثم دارت والتقمت عصي السحرة وحبالها وغلب كلهم وانهزم الناس حين رأوها وعظمها وهو لها مما لم تر العين ولا وصف الواصفون مثله قبل فقتل في الهزيمة من وطء الناس بعضهم بعضا عشرة آلاف رجل وامرأة وصبي ودارت على قبة فرعون قال (عليه السلام) فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأسهما وغشي عليهما من الفزع ومر موسى في الهزيمة مع الناس فناداه الله : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) فرجع موسى ولف على يده عباءة كانت عليه ثم ادخل يده في فمها فإذا هي عصا كما كانت ...

١٤٠