الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢٥ : ٤٢).

رجعة الى ما بدء به في هذه السورة من : كيف كان المشركون يستقبلون الرسول وبه يستهزؤن؟ وذلك بعد شوط بعيد في سنن الدعوات ومصائر الغابرين ومصارعهم في صراع الحق.

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) دون أن يحسبوا لك حسابا آخر ، كأنك مهزئ لهم وملعب يتخذونك هزوا لأنك أنت ، وانك تذكر آلهتهم بسوء (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) حال انهم ـ وهم معترفون بالإله الرحمن ـ هم بذكر الرحمن هم كافرون ، ايمانا واحتراما بالآلهة الفروع ، وكفرا واختراما بالإله الرحمن» (١).

وذكر الرحمن ، وجاه (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) هو الذكر اللائق بالرحمن : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (١٧ : ٤٦) كفرا بالرحمن ، ولكنهم بذكر آلهتهم مؤمنون ، وحين تذكر كما هي فهم مستاءون ومستهزءون.

و (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) اضافة للمصدر الى مفعوله هو ان يذكر الرحمن ، وهو بتقدير اللام له مصداقان آخران ، القرآن ونبي القرآن فإنهما أفضل ذكر

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه ابو جهل ضحك وقال لأبي سفيان هذا نبي بني عبد مناف فغضب ابو سفيان فقال : ما تنكرون ان يكون لبني عبد مناف نبي فسمعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع الى أبي جهل فوقع به وخوّفه وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك وقال لأبي سفيان اما انك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية.

٣٠١

للرحمن ، ثم وسائر الذكر آفاقية وانسية حيث تذكّرنا الرحمن.

و (هُمْ كافِرُونَ) تأكيد في تأنيب ، انهم الذين يستاءون من ذكر آلهتهم بالحق تزييفا لأنهم بهم مؤمنون ، كيف هم يكفرون بذكر الرحمن وحده وهم به مصدقون : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢٩ : ٦١).

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ٣٧.

أترى ما هو العجل المخلوق منه الإنسان ، وعلى ايّ كان فلما ذا يندد به الإنسان وهو من خلق الرحمان؟ فهل انه مبالغة في مواصفته كأنه مخلوق من عجل؟ والمبالغة فيها شطر من الكذب وكلام الله منه براء! ثم وكيف ينسب الله الى نفسه ما هو فعل الإنسان!.

ام هو على القلب ان خلق العجل من الإنسان؟ وهو قلب لكلام الله! وتغلّب على ما رسمه الله! اضافة الى مبالغة كاذبة!.

«عجل» هنا هو المعجول به في نشأته إذ (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) معجول به في إنزاله وكما أب الإنسان الأول استعجل حيث خلق من عجل ، وهو ترابه وروحه المستعجل في نضوجه (١) ، فالعجل ـ إذا ـ في نشأته وذاته (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١٧ : ١١) منذ كان ماء دافقا ، فهو

__________________

(١) المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) ان آدم لما خلق وجعلت الروح في اكثر جسده وثب عجلان مبادرا الى ثمار الجنة وهم بالوثوب وفي تفسير القمي ل ما اجري في آدم الروح من قدميه فبلغت الى ركبتيه أراد ان يقوم فلم يقدر فقال الله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وفي الدر المنثور عن مجاهد في الآية قال : آدم ـ حين خلق بعد كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق فلما اجري الروح في عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.

٣٠٢

مستعجل بطلب ما يؤثره واستطراف ما يحذره ، والله سبحانه يعطيه ما طلب ويصرف عنه ما رهب على حسب ما يعلمه من المصالح ، لا ما يهواه من المطالح.

فالعجل في أصله خير تحريضا له على الاستعجال في مسارح الخيرات ، كدحا منه في الطلب ، وكبحا بلجام الصبر في مسارح الوقفة او الهرب.

فلا مأخذ على الله في خلق الإنسان من عجل وفي عجل تضمينا للنجاح في طلبات الخير ، بل هو على الإنسان الكادح غير الكابح في مجالاته الحيوية حيث يدعو بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا.

ومن ذلك العجل الطالح غير الصالح استعجال المكذبين بآيات الله بعذابات الله ، ولها اجل مسمى : «ولولا اجل مسمى لقضي بينهم» ومن قبلهم لهم آجال في الحياة الدنيا مستأجلة امهالا واملالا وهم يستعجلونها!.

(سَأُرِيكُمْ آياتِي) لوقتها (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) حينها بل وتستأجلونها ولات حين مناص ، إذ قد مضى يوم الخلاص.

فالإنسان بطبعه يمد ببصره ويده الى ما وراء اللحظة الحاضرة استعجالا لكل آجل وان كان فيه ضره ، الا ان يتصل برحمة من الله ، ويكل امره الى الله ، ويستسلم في كل عاجل وآجل لله ، ابتغاء مرضات الله.

ف «إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، والتساقط فيها عن إمكانها ، او اللجاجة فيها إذا تنكرت ، او الوهن عنها إذا استوضحت ، فضع كل امر موضعه ، وأوقع كل عمل موقعه» ف «مع التثبت يكون السلامة ، ومع العجلة يكون الندامة ، ومن ابتدأ العمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه».

ثم ومستأجل المستعجل هو كمستعجل المستأجل ، فليكن التعجيل والتأجيل كلّ لوقته المؤجّل.

٣٠٣

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ٣٨.

وترى ما هي الرباط بين صدق الوعد ومتاه وهم يرددون هذه القولة أمام الداعية كأنهم بذلك هم الغالبون!.

و (هذَا الْوَعْدُ) قد يعم عاجله وآجله في عاجل الحياة وآجلها ، وعلى أية حال فهو وعد مجهول الأمد ، معلوم البدد.

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ٣٩ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ٤٠.

«لو» قد تعني هنا استحالة علمهم بالزمن المحدد للوعد ، فالجواب مقدر ، لو يعلمون لكان شأنهم غير شأنهم المستهزء الشائن ، ام تعني تمني علمهم عرضا لحالهم الظاهر من قالهم ، و «حين» على الوجهين مفعول «يعلم» فلو يعلمون وقد ناشتهم النار من وجوههم وظهورهم ، في هذه المباغتة لوعدهم ، حيث تلقفهم النار وهم يلعبون : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٧ : ٩٨).

وانها مباغتة تشل الارادة وتذهل العقول ، فلا هم يكفون عن وجوههم النار او عن ظهورهم ولا هم ينصرون في ذلك الكف ، إذا فتبهتهم النار التي أحاطت بهم سرادقها (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) بقوة ذاتية ام نصرة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) تأجيلا وقد كانوا بها يستعجلون.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ٤١.

تسلية لخاطر الرسول الأقدس (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن لست بدعا من الرسل في هزئك (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ثم باغتهم

٣٠٤

العذاب في الاولى قبل الاخرى (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) نزولا وحلولا (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب الموعود ، وهو نفس استهزاءهم (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥ : ٤٣).

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ٤٢.

الكلاءة هي الحفظ للشيء وتبقيته ، فمن ذا الذي يحافظ عليكم من الخطرات الناجمة لكم الهاجمة عليكم إلا الرحمن الذي خلقكم ، (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١) (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (١١ : ٥٧).

ف (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ .. مِنَ الرَّحْمنِ) الا الرحمن وكما يقال : أعوذ بك منك! امّن يلكؤكم من بأس الرحمن .. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (٦ : ١٧) فلا كالئ إلا الرحمن (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) فهم غافلون ألّا كالئ لهم من الرحمن إلا الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) ٤٣.

تلك الآلهة الوالهة ، الجاهلة العاجزة الكالحة ، إذ لا يستطيعون نصر أنفسهم من بأس الرحمن (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) ويجارون ، افهم (تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) وهم «آلهة من دوننا»؟ آلهة من دوننا ، تمنعهم من دوننا!.

فحين لا كالئ لهم في الاولى وهي دار الأسباب والبلوى ، فكيف ـ إذا ـ بالأخرى وقد تقطعت الأسباب ، وحارت دونها الألباب؟.

٣٠٥

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) ٤٤.

انه ليس لهم حول ولا قوة في منعهم من دون الله (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) متاع الحياة الدنيا وزينتها فأترفوا فيها (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) في متعهم واترافهم في كل أطرافهم ، فنسوا ذكر الله ، وذلك هو الابتلاء البعيد السحيق بالمتعة النعمة ، حيث تبدل نعمة ونقمة ، فقد بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ...) ـ (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٣ : ٤١).

ذلك الإتيان الرباني هو إتيانه بالقوة القاهرة ارض الإنسانية لينقصها من أطرافها بعد إكمالها بأطرافها ، نقصانا لناسها النسناس (١) وهو من كمالها ، ام لناسها الناس كالعلماء الربانيين (٢) وهو من نقصها ، وعلى اية الحالين فهو انتقاص من ارض عن ساكنيها قلة ام ثلة ، كما ومن نقصانها الزلازل والبراكين المدمرة المزمجرة لاطراف منها ، حيث تعني الأطراف محيطاتها الحائطة بها فهي ـ إذا ـ كلّها ، وذلك المثلث من نقصانها تهدّد بمن يتمتعون كما الانعام ولا يرعوون ، فأوسطه للمسلمين الذين لا يسمعون ولا يعون من علماءهم والآخران للمكذبين بآيات الله الذين بدلوا نعمة الله كفرا.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٩ عن الحسن يقول في الآية : ظهور النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) على من قاتله أرضا أرضا وقوما قوما.

(٢) في المجمع : وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نقصانها ذهاب عالمها.

٣٠٦

وذلك من مسارح الغلبة الربانية على الذين هم عن ذكر ربهم معرضون (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)؟ كيف ، ونحن نرى الأرض طول تاريخها الانساني تطوى فيها رقعة الدول المتغلبة المتألبة فتنحسر وتتقلص وتتنكّس ، فإذا هي ويلات في دويلات بعد ما كانت امبراطوريات كالروماني والايراني ، وإذا هي مغلوبة على أمرها وقد كانت غالبة على آخرين.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) ٤٥.

إنذار رسالي ليس إلا بالوحي ، دعاء لمن يسمع الدعاء ، فاحذروا أن تكونوا من الصّم الذين لا يسمعون الدعاء فتطوى الأرض تحت أقدامكم ، وتقص يد القدرة الربانية اطرافكم ، فتصبحون جيفة جيفة بعد ما كنتم ـ كما تزعمون ـ في حياة ناعمة شريفة.

فلا قصور ولا تقصير في الإنذار بالوحي ، وانما ذلك فيمن ينذرون ولا يسمعون (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ٢٢) حيث تنازلوا عن السمع والعقل انسانيا ، فأصبحوا شر الدواب (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩):

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ٤٦.

«نفحة» فقط دون زيادة ، وهي النفحات الدنيوية بمختلف العذابات مستأصلة ودونها ، وهي على أية حال نفحة من العذاب واصابة اليسير منه القصير ، دون نفسه الطويل العسير ، يدل واقعه على عظيم متوقّعه ،

٣٠٧

وشاهده على فظيع غائبة.

وهنا لك الويل والاعتراف (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ولات حين مناص ،! وقد مضى يوم الخلاص.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ٤٧.

الموازين هي جمع الميزان : ما يوزن به ، و «القسط» عطف بيان للموازين ام وصف لها ، وانما أفردت تأشيرا الى وحدة الموازين في كونها قسطا ، مهما كان لكلّ حالة وقالة وفعالة ميزان من نوعها هو القسط المعني ، منها ، كما (الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) حيث الحق هو الوزن ، فحق الصلاة وزن لها ، كما حق الايمان ام أيا كان هو حقه المرام ، كتابا ونبيّا هما الجناحان المحلّقان على الحق المرام الطائران بنا الى الحق المرام.

فلذلك يجمع الوزن الحقّ بعده مفرّعا عليه : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ..) (٧ : ٩).

ولان القسط هو فوق العدل فهو أحق الحق ، فقد تلمح ان الله يثيب الصالحين اكثر مما عملوا قسطا ، ويعاقب الطالحين اقل مما عملوا للحد الذي لا ينافي العدل.

فالحق القسط هما الموازين وهما متمثلان في كتابات الوحي ورجالاته (١) ولكلّ جنبات من الميزان ، توزن بها الأقوال والأحوال والأعمال ثم لا وزن كما لا ميزان للباطل : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٣٠ في معاني الاخبار باسناده الى هشام قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية قال : هم الأنبياء والأوصياء.

٣٠٨

أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥) (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (١٠١ : ٧) وكما يروى «الحسنات ثقل الميزان والسيآت خفة الميزان».

فليس ـ إذا ـ الميزان ما له كفتان ام أيا كان من وزن نتعوده ف «ان الأعمال ليست بأجسام انما هي صفة ما عملوا ..» (١) فانما هو القياس للحسنات على الحق والقسط ، فعلى قدر تمثلهما فيها يكون الوزن ، ثم لا وزن للسيئات (٢) اللهم إلا قياسا على سيئات لغير من خفت موازينه كأهل الإسلام (٣).

__________________

(١) البرهان ٣ : ٦١ في الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث له مع سائل يسأله قال : او ليس توزن الأعمال قال ان الأعمال .. وانما يحتاج الى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفتها وان الله لا يخفى عليه شيء قال فما الميزان؟ قال : العدل ، قال : فما معناه في كتابه : فمن ثقلت؟ قال : فمن رجح عمله.

(٢) المصدر في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ والزهد في الدنيا في الآية اعملوا عباد الله ان اهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنصب لهم الدواوين وانما يحشرون الى جهنم وانما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام فاتقوا الله عباد الله.

(٣) الدر المنثور ـ اخرج جماعة عن عائشة ان رجلا قال يا رسول الله ان لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني واضربهم واشتمهم فكيف انا منهم؟ فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، فان كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وان كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل ، فجعل الرجل يبكي ويهتف فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اما تقرء كتاب الله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ...) فقال الرجل يا رسول الله ما أجد لي ولهم شيئا خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار.

٣٠٩

ومن قسط الموازين ـ حيث «لا تظلم (نَفْسٌ شَيْئاً) : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) تصويرا لا صغر ما تلحضه العيون ، تمثيلا مثيلا لأقل الحسنات ، واما السيئات فلا يؤتى بصغائرها لمن ترك كبائرها : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٤ : ٣١) وكذلك الكبائر المعفوة بتوبات ، وعلّه كذلك صغائر السيئات لمقترفي في الكبائر ، فلا تكفيهم كبائرهم بأسا ، وذلك قضية الحق القسط لمقترفي في السيآت(١).

فلا يفلت عن الوزن ماله وزن (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) حيث الحيطة العلمية والقدرة الّا محدودة وهو سريع الحساب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ

__________________

(١) البرهان ٣ : ٦١ عن الطبرسي في الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) في حديث له مع زنديق في جواب مسائله قال (عليه السلام): واما قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تعالى بعضهم من بعض ويجزيهم بأعمالهم ويقتص للمظلوم من الظالم ومعنى قوله : فمن ثقلت موازينه ومن خفت موازينه فهو قلة الحساب وكثرته والناس يومئذ على طبقات ومنازل فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب الى اهله مسرورا ، ومنهم من يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يتلبسوا من الدنيا بشيء وانما الحساب هناك على من تلبس منها هاهنا ومن يحاسب على النقير والقطمير ويصير الى عذاب السعير أئمة الكفر وقادة الضلال فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يعبأ بهم لأنهم لم يعبئوا بامره ونهيه يوم القيامة فهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها طالحون.

٣١٠

وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ

٣١١

كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ

٣١٢

سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧)

سرد لقصص من بعض المرسلين وما لا قوة وذاقوه من بأس المكذبين ، وما نصرهم الله عليهم والعاقبة للمتقين ، تسلية لخاطر الرسول الأقدس تأسيا بسنن المرسلين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ٤٨ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ٤٩.

«الفرقان» هو آية الرسالة الحقة المعبّر عنه هنا في التورات ب (ضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٢ : ٥٣) فليست التوراة بنفسها آية وفرقانا بين حق الدعوى وباطلها ، وانما هو القرآن الذي هو بنفسه فرقان وضياء وذكر للمتقين ، ولذلك يعقبها كلها ب (هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) ، ففرقان موسى هو ثعبان العصا واليد البيضاء واضرابهما من آيات الله الكبرى ، وفرقان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القرآن : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) (٣ : ٤) ـ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٢٥ : ١).

٣١٣

ثم (وَضِياءً وَذِكْراً) يتمثلان في التوراة ورسول التوراة ، فليسا هما الضياء والذكر ككل ، وانما (ضِياءً وَذِكْراً) ولكنما القرآن الفرقان هو الضياء والذكر ككل (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) كما هو الفرقان ككلّ.

و (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ..) مواصفتان للمتقين المستضيئين بضياء والمتذكرين بذكر ، (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وهو «بالغيب» و (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وهم «بالغيب» عن المشاهد» ام (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) بالغيب في قرارة أنفسهم ، ام بسبب الغيب وهو الآخرة التي هم منها مشفقون ، محتملات اربع تحتملها كلها «بالغيب» باختلاف الجار والمجرور صدقا ومصداقا (١).

(وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) القيامة «مشفقون» خوفا تشوبه الهيبة والعظمة.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ٥٠.

(ذِكْرٌ مُبارَكٌ) يحمل كل فرقان وضياء وذكر دون إبقاء ، فالبركة هي الرحمة الواسعة المباركة «أنزلناه» بعد كتابات السماء وآياتها كلها ، وهي تشملها وزيادة قضية الخلود «أفأنتم» المألوفون بمرور الضياء وكرور الذكر والفرقان «له» الشامل لها كلها «منكرون» فباحرى ان تنكروها إذا «أنتم (لَهُ مُنْكِرُونَ).

فنكران القرآن الفرقان نكران لكل فرقان لاي نبي كان ، ولا مجال لنكرانه لكتابي حيث الالفة بوحي الكتاب تلزمه على الايمان به ولا سواه ، فانه آية بيّنة الهية تدل على وجود الله لناكريه ، وعلى وحدته لمشركيه ، وعلى وحيه الرسالي القمة للمترددين فيه ، فهو الفرقان الضياء الذكر المبارك

__________________

(١) فالياء على الثلاثة الاول بين ظرفية وسببية ، وعلى الاخيرة سببية ، والغيب على الترتيب غيب الله ـ غيبهم عن الناس ـ غيبهم في أنفسهم ـ غيب الآخرة.

٣١٤

الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ٥١.

«من قبل» هنا قد يعني ـ فقط ـ من قبل موسى وهارون ، ولكنه إيضاح للواضح حيث القبلية الزمنية لإبراهيم واضحة لدى الكل!.

فقد تعني ـ فيما عنت ـ القبلية الرتبية وأوليتها بالنسبة لموسى مهما شملت الزمنية ، وكما عبر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأول العابدين فقد «أوجس (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ولم يوجس ابراهيم حين وضع في المنجنيق (١) وابتلي بابتلاءات لم يبتل بها موسى ، وهذه من قبليته الرتبية على موسى.

أم وقبلية في حياته ، ان رشده في الدعاية الصامدة التوحيدية كان قبل إمامته ورسالته ، حيث كان في حضانة آزر وهو بعد طفل ، لم يبلغ مبلغ الرجال ولا الشباب ، فقد بزغت دعوته هذه منذ بزغت حياته العقلية الطفولية ، وذلك الرشد هو من عطيات الله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) ولم تكن عطية مجانية فوضى ، بل (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) انه يوفّي ويكفّي أمانة الله.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٢ : ٣٥ عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن موسى بن عمران (عليه السلام) لما رأى حبالهم وعصيهم كيف أوجس في نفسه خيفة ولم يوجسها ابراهيم (عليه السلام) حين وضع في المنجنيق وقذف به في النار؟ فقال : ان ابراهيم (عليه السلام) حين وضع في المنجنيق كان مستندا الى ما في صلبه من أنوار حجج الله عز وجل ولم يكن موسى (عليه السلام) كذلك فلهذا أوجس في نفسه خيفة موسى ولم يوجسها ابراهيم.

٣١٥

إذا فليس رشده المؤتى من لدنا «من قبل» فوضى جزاف ، بل انه حلّ محلّه اللائق اللابق ، وذلك هو الرشد الرشيد لمن يبتعثه الله رسولا الى خلقه ، انه يصنعه بعينه ورعايته ، ما يعبّد طريقه الى الرسالة ، منذ أصلاب الآباء وأرحام الأمهات حتى الولادة والطفولة والغلمة البالغة والكهولة والشيخوخة ، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، ولكي يأهل لحمل الامانة الكبرى ، متعبا نفسه فيها.

وهذه الآية بما بعدها حلقة رسالية شاخصة في ميادينها تحلّق على تاريخها مقسّمة الى مشاهد متتابعة بينها فجوات ، بادئة بسابق الرشد لإبراهيم في ذلك المسرح الصريح الجريء (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وباستعداده لحمل الامانة الكبرى التي حملها المرسلون ، وهو صاحب الراية في الطليعة :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ٥٢.

وان بين قاله لأبيه آزر وقاله لقومه ردح من الزمن ، إذ قال لأبيه وهو تحت حضانته وكفالته ولما يبلغ مبلغ الرجال والشباب ليخوض خضمّ المجتمع حتى يكون له قوم ، مهما كان القال نفس القال ، لوحدة المجال ، وداء الشرك العضال.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (١٩ : ٤٣) ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦ : ٧٤). والتماثيل هي الأشباه ، إذ كانوا يعملون الصور المجسمة الشبيهة بذوات الأرواح ، وهي أشباح بلا أرواح ، وكيف يعكف ذوو الأرواح لما يصنعونه من غير ذوات الأرواح ، وهم لإن يعبدوا لها أحرى من أن يعبدوها ، لأنهم أولاء صانعوها.

٣١٦

وفي إنجيل القديس برنابا الحواري حوار بين ابراهيم وأبيه آزر نذكر منها هنا مقتطفات(١).

و (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) استجواب فيه تزييف آلهتهم التماثيل ، أجسادا بلا أرواح يعكف لها ذوو الأرواح؟!.

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) ٥٣.

قالوه عذرا لعكوفهم القاحل الجاهل على هذه التماثيل كسنة قومية محترمة بين الأقوام ، وذلك تحجّر عقلاني داخل القوالب التقليدية الميتة ، وتنازل عن العقلية الانسانية بل والحيوانية ، التي لا ترضى تذللا أمام الأذل الأرذل ، المصنوع للعابد نفسه وأضرابه.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ٥٤.

فالضلال المبين ، الذي يبين انه ضلال انه ليس ليتبع مهما كان سنة الآباء ، وليست عبادة الآباء لأنهم آباء بالتي تكسب هذه التماثيل قداسة

__________________

(١) الفصل ٢٦ : ٢٥ «كان ابراهيم ابن سبع سنين لما ابتدأ ان يطلب الله فقال يوما لأبيه يا أبتاه من صنع الإنسان .. (٤٦) : اي شيء تشبه الآلهة (٤٧)؟ أجاب يا غبي اني كل يوم اصنع إلها أبيعه لآخرين لاشتري خبزا وأنت لا تعلم كيف تكون الآلهة (٤٨) وكان في تلك الدقيقة يصنع تمثالا (٤٩) فقال هذا من خشب النخل وذلك من الزيتون وذلك التمثال الصغير من العاج (٥٠) انظر ما أجمله الا يظهر كأنه حي (٥١) حقا لا يعوزه إلا النفس (٥٢) أجاب ابراهيم إذا يا أبي ليس للآلهة نفس فكيف يهبون الأنفاس (٥٣) ولما لم تكن لهم حياة فكيف يعطون إذا الحياة (٥٤) فمن المؤكد يا أبي ان هؤلاء ليسوا هم الله .. (٥٧) ان كانت الآلهة تساعد على صنع الإنسان فكيف يتأتى للإنسان ان يصنع آلهة (٥٨) وإذا كانت الآلهة مصنوعة من خشب فان إحراق الخشب خطيئة كبرى (٥٩) ولكن قل لي يا أبت كيف وأنت قد صنعت آلهة هذا عديدها لم تساعدك الآلهة لتصنع أولادا كثيرين فتصير أقوى رجل في العالم ...».

٣١٧

وقيمة ، حيث القيم تنبع من الواقع المتحرر الطليق ، سواء عرفها الآباء ام جهلوها ، وليست مفتعلة تصبح سننا متّبعة مهما تواترت بين الآباء.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) ٥٥.

ومجرد استفهامهم هذا دليل تجردهم عن الحق ، وعن اي برهان لما هم عليه ، فانه سؤال المزعزع العقيدة ، حيث لا يطمئن الى ما هو عليه ، تيه يتخبط فيه من لا يدينون دين الحق ، انحسارا وتخلفا عن حكم الفطرة ، وانحصارا بالاحكام التقليدية القالحة الجاهلة.

(أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ) الناصع كما تدعيه (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) بعقائدنا ، تبديلا لها الى اخرى من اضرابها ، ام من اللاعبين بالحق حيث تظهر الباطل بمظهر الحق.

وقد يعنى من الحق فيما يعنى «الجد» بقرينة اللاعبين ، هل أنت مجد فيما تقول ام لاعب ، حيث الجد خلاف الآلهة بعيد عمن يعيش جوّ الإشراك.

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ٥٦.

بل جئت بالحق (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) لا هذه التماثيل التي أنتم خلقتموهن ، وقد فطر الله الخلق كله بفطرة التوحيد ، ومنه الإنسان المفطور على ذلك «وانا» المفطور على ما فطرهن «على ذلكم» الحق الناصع (مِنَ الشَّاهِدِينَ) والسماوات والأرض هي كلها بمن فيهما وما فيهما (عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) شهادة فطرية وعقلية وكونية اما هيه ، ولا تملك اية حقيقة هكذا شهود في كمها وكيفها ، ما يملكه التوحيد من شهود ، حيث الكون كله شهوده دون إبقاء ، الا من

٣١٨

تنازل عن فطرته وعقليته.

وعلّ «فطرهن» جمعا دون فطرهما ، لكي تشمل معهما هذه التماثيل ، فهو ـ إذا ـ رب للعابدين والمعبودين سواه ، فكيف يعبدون سواه؟.

فلست انا ـ فقط ـ الذي جاء بالحق في التوحيد ، بل الكون كله ، ولست أقوله دون ايمان كالذين (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) بل اشهد به كما يشهد الشاهدون ، فلست انا من اللاعبين ، بل جئتكم بحق مبين.

هذه شهادة ابراهيمية على التوحيد وانه الحق الجدّ ، وبالتالي يثنيّها بالواقع الذي توعّده.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) ٥٧.

موقف جريء ما اجرأه وأجراه على يديه ، أمام تلك الحشود المحتشدة المشركة ، تاركا ما اعتزمه من كيد الأصنام ، الأكيد ، مبهما دون إفصاح ، مما يضخّم أبعاد الوعيد ، وكأنهم نظروا الى وحدته دون ناصر فوهدته لو اعتزم ، فلم يأخذوا وعيده بعين الإعتبار ، سنادا الى قوتهم وضعفه ، لذلك لم يرجعوا له جوابا ، فلو كان لبان حيث الموقف موقف البيان.

كيد مؤكد لاصنامكم (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) كما ولّوا وتركوه ، تهوينا لكيده المعتزم وتوهينا لحقه المخترم وقبولا لعذره الكائد المكتتم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٣٧ : ٨٩) :

فلما هموا بالذهاب الى عيد لهم ، طلبوا اليه ان يرافقهم فأبى عن الانسلاك في سلكهم بعذره العاذر : (إِنِّي سَقِيمٌ) دونما سقم ظاهر ، إلا سقم النفس واضطراب الحال وكسوف البال ، حيث كان يتقطع حزنا على اشراكهم ، ويتميز غيظا لأنهم لم يلبوا ندائه ، وقد عقد عزمه ان يهدم صرح آلهتهم التي ألهتهم ويقوّض عرشهم ، لما رأى الحجة القولية لا تنفع

٣١٩

فأراد ان يشرك أبصارهم ببصائرهم ، وحواسهم مع افئدتهم علّهم الى رشدهم يثوبون وعن غيّهم يتوبون :

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ٥٨.

خلى الجو من رصد العيون ، فدلف الى أصنامهم فوجد باحة قد اكتظت بالتماثيل وانتشرت في ارجائها الأصنام فخاطبها محتقرا لشأنها «ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون» وأنّى للحجارة ان تأكل او تنطق ، فأخذ يلطمها بيده ويركلها برجله وتناول فأسا وهوى عليها يكسرها ويحطمها حتى جعلها جذاذا الا كبيرا لها في أجسادها ، ليجعلها جذاذا في قلوب عابديها بذلك الواقع ، بعد ان جعلها جذاذا من ذي قبل ب (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) جذاذات ثلاث تجتث جذور الخرافة الشركية لو كانوا يعقلون.

فلقد كاد أصنامهم ب (إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) حي خلى الجو لما اعتزم ، ثم جعلهم جذاذا : قطعا مكسورة مفتّتة مهشّمة (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) يرأسهم كأنه إله الآلهة (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) حيث الموقف يتطلب رجوعا الى كبيرهم كمتّهم في جعلهم جذاذ فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة ، ام هو الذي جعلهم جذاذا ليبقى في الميدان وحده كما هو قضية الحال في تعدد الآلهة لو كانوا يشعرون : «ولعلى بعضهم على بعض»! ثم رجوعا الى ابراهيم الذي تركوه لحاله وهو المتهم الثاني إذ لا حول ولا قوة لكبيرهم ، ومن ثم رجوعا الى الله بعد انتباهة هنا وهناك ، وضمير المفرد الغائب في «اليه» يتحمل الرجوع الى كلّ من الثلاثة على الأبدال ، حيث الكل من بنود الرجاء لإبراهيم وقد حصل على الأولين تماما ، وعلى الأخير بعضا حيث زلزل اركان تقاليدهم العمياء.

٣٢٠