الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

فتهلك في هذه الردى.

«فتردى» في الشهوات واللهوات في صدك عن عبادته وعن الصلاة لذكره تعالى.

«فتردى» عن التزامات العبودية والصلاة ولزاماتها عند الصد عن الساعة ، فهنالك ـ إذا ـ ثالوث من التردّيات والتهلكات في الانصداد عن مثلث المعتقدات.

وقد تعني كلّ من «عنها وبها» فيما عنتا ، كلا من هذه الثلاثة ، حيث اللاإيمان في كلّ منها يصد عن الاخرى كما يصد عن نفسها ، فنكران التوحيد صدّ عن العبودية والساعة ، ونكران العبودية والصلاة صد عن المبدء والمعاد ، ونكران الساعة كذلك صد عنهما.

ومن هنا نعرف ان الواجب في اصول الدين وفروعه ليس هو الإعتقاد بها والعمل لها فحسب ، بل والتصلب والصمود فيها لحد لا تنفصم عراها.

وهنا في واجب العلم بالأصول وفروعها مراحل : القناعة الشخصية دون تزعزع ولا تلكّؤ ، ثم الحفاظ عليها في المخالطات الضرورية مع الناس ، ومن ثم في السّبح الطويل في خضم المجتمع ، ثم الدعوة إليها والدعاية الصالحة لها.

فالمرحلتان الأوليان مفروضتان ، إذ لا بد للإنسان من مخالطة حيوية مع المجتمع ، كضرورة للحياة ، والثالثة لا تصح إلا لمن صحح يقينه لحد لا ينفصم بمن يصد عنه ، وإلا فذلك تورط وترد في ورطات وهوات.

والرابعة هي للدعات الى الله على شروطاتها ، أخذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والى القيادة الربانية الشاملة غير المعصومة ، والى قيادة العصمة في أئمة الهدى ، الى قيادة الرسالة ، وكلّ درجات

٦١

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

والبلاء العام في (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) هو (وَاتَّبَعَ هَواهُ) إذ لا برهان على الصد عنها فطريا ولا عقليا ولا أيا كان ، اللهم إلا اتباع الهوى ، ولا يتبع هوى أصحاب الهوى إلّا من هو من أصحابها ، تغافلا عن فطرته وتجاهلا عن عقليته ، وتعاميا عن آيات الرسالات الإلهية.

ف «انما أخاف عليكم اثنين اتباع الهوى وطول الأمل اما اتباع الهوى فيصد عن الحق واما طول الأمل فينسي الآخرة» (١) و «انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع واحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو ان الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى» (٢).

وترى موسى المختار من ربه لوحيه ما كان موحدا يعبد ربه ويصلي لذكره ويعلم آتية الساعة ، حتى يخاطب في بازغ وحيه جملة عن تفصيل ما اوتي في الألواح ، بهذه الأصول المعرفية والعملية.

اجل ولذلك اختاره الله ، ولكنه كرسول يحمل ـ بما يوحى ـ رسالة الله الى العالمين ، اضافة الى تكملته نفسه بأكمل مما كان كما هو قضية الحال في كل رسول على آية حال ، وقد امر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)»

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣ عن اصول الكافي بسند عن يحيى بن عقيل قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) : ...

(٢) اصول الكافي بسند متصل عن امير المؤمنين (عليه السلام) ومثله في النهج باختلاف يسير في بعض ألفاظه.

٦٢

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وما الى ذلك من أوامر ، تصطنع شخصه اكثر مما كان ، ورسالته الى العالمين.

هنا لك تمت المرحلة الأولى لنداء موسى ، حاوية جملة الرسالة ، وبينما هو في شغف الاستماع وشعفه بكل كيانه حيث أصبح كأنه كله سمع واستماع ، إذا بمرحلة ثانية في مسائلة حبيبة :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ١٧.

«و» هنا عطفا على نبوءة الوحي قد تلمح ان في سؤاله بجوابه وحي آخر نبوءة أخرى كما مضت ، أم رسالة أما هيه من خارقة إلهية.

ثم «ما» سؤال عن الماهية دون فاعليتها ، و «تلك» اشارة الى عصاه تأشيرا انه تعالى يعرفها كما هيه ولكنه يعني بسؤاله موسى ان يعرفها كما هي ، يعرفها لبيان البون بينهما ، الذي لا يعرفه موسى.

و «بيمنك» دون «يدك» علّه لبيان الموضع ، فعلّ بيساره شيئا آخر كالخاتم وسواه.

فلم يكن السؤال استفهاما ، بل هو اختبار لمدى معرفة موسى بعصاه حتى يزيد اخرى لا يعرفها ، وما اختيار موسى لما يوحى بالذي يدل على انه يعرف الأمور كلها ، بل هو كما كان هو الآن بحاجة في معرفة عصاه الى تعريف من ربه ، فضلا عما سواها من معرفيات.

ونرى موسى بدلا عن ان يجيب عن ماهية عصاه ، يكتفي بذكر اسمها ثم مآربها عنده ، وقد كان يكفي (هِيَ عَصايَ) عسى ان يزيده ربه تعريفا بعصاه ، ولكنه لشغفه البالغ لتلك المحاورة الحبيبة مع ربه ، حين ما يسأله عن أبسط شيء متعطفا عليه ، لذلك يطوّل في الجواب بأقصى ما يعرفه عن عصاه ، عساه ان يزيده ربه علما بعصاه.

٦٣

وقد عني من هذا السؤال ان يستحضر موسى معرفته بعصاه ، وانها كعصاه منسوبة اليه ليست إلا كما عرفها ، فلما تصبح حية تسعى او ثعبانا مبينا بما ألقى ، يعرف ان ذلك من ربه وليس منه ، فقد كانت معه ردحا كثيرا من الزمن فلم تكسب من معيته ما كسبت من مفارقته بإلقاء موسى ، ثم ليؤكد انها خشبة كسائر الأخشاب حتى إذا قلّبت حية تسعى فلا يخشاها ، بل يعرف انها قلبة الهية عصا رسالية لموسى بعد ما كانت عصى بشرية ، واين عصى من عصا؟.

وترى ان موسى بذلك الخطاب دون حجاب يفضّل على نبينا؟ كلا حيث خوطب نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) دون اي حجاب ، ولموسى حجاب النور والشجرة ، ثم موسى لم يصل في وحيه الى مقام (أَوْ أَدْنى) ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصلها ، وقد أعلن الوحي الخاص الى موسى في اذاعة توراتية وقرآنية ، ووحي محمد الخاص به لم يعلن بعد : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)!

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ١٨.

«قال» موسى «هي» التي بيميني «عصاي» وفي الخبر انها «قضيب من آس من غرس الجنة» (١).

«كانت لآدم (عليه السلام) فصارت الى شعيب ثم صارت الى

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٣٤ عن الكافي بسند عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله يقول : كان عصا موسى قضيب آس من غرس الجنة أتاه بها جبرائيل لما توجه تلقاء مدين وهي وتابوت آدم في بحيرة طبرية ولن يبليا ولن يتغيرا حتى يخرجهما القائم (عليه السلام) إذا قام.

٦٤

موسى وانها عندنا» (١) اي اهل البيت (عليهم السلام) ، ولا تصدقها (هِيَ عَصايَ ..) او تكذبها ، ولئن كانت فيها من قبل خوارق عادات لذكرها في عداد العاديات من فوائدها ، اللهم إلا ان تكون معنية فيما يعنى عن (مَآرِبُ أُخْرى).

ولو ان (مَآرِبُ أُخْرى) تعني ما قد يروى من خوارق العادات ، فكان موسى ـ إذا ـ تعودها منها ، فلما ذا يخافها إذا هي حية تسعى؟! (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)!

ومن المحتمل ان الخوارق من هذه العصا بدأت منذ ألقى ، والى ضربها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، والبحر فحصل بها فيه اثنى عشر طريقا يبسا ، ثم الى القائم منا (عليه السلام) وعساه يعمل بعصاه هذه اكثر من موسى وكما قد يروى.

وموسى هنا بعد تسمية العصا ذكر لها مأربين من مآربه ، قاصدا تطويل الجواب آنسا طائلا في نداء ربه ، إذا بالكلام متفلتا عنه استحياء منه ام لعدم مساعدة الحال واضطراب البال فأجمل سائر مآربه الى قوله

__________________

(١) المصدر عن الكافي بسند عن محمد بن الفيض عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كانت عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران وانها لعندنا وان عهدي بها آنفا وهي خضراء كهيئته حين انتزعت من شجرتها وانها لتنطق حين استنطقت ، أعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع بها موسى (عليه السلام) وانها لتروع وتلقف ما يأفكون ، وتصنع ما تؤمر به انها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون يفتح لها شعبتان إحداهما في الأرض والاخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا تلقف ما يأفكون بلسانها.

وفيه عنه (عليه السلام) قال : خرج امير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول همهمة وليلة مظلمة خرج عليكم الامام عليه قميص آدم وفي يده خاتم سليمان وعصى موسى.

٦٥

(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) او يعني بها ما يجهله الآن وقد تلمّحه من ملامح البيان عساه يذكره ربه لعصاه ، وبينهما مآرب التوكؤ والهش ، فلنفسه : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) اعتمادا في مثلث القيام والمشي والوقوف ، ولغنمه : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) خبطا لأوراق الأشجار الهشّ وهو الرخو اللين سريع الحث والكسر لحد يكفيه هش العصا.

ثم ومن (مَآرِبُ أُخْرى) التي أجملها ، الاستظلال بها ركزا لها وجاه الشمس وإلقاء لكسائه عليها ، ودفعا لذئب وسواه من الضاريات حين تعرضه وغنمه اما هيه من مآرب اخرى معنيّة.

والمآرب جمع المأربة وهي الحاجة ، وقد ذكر منها اثنتين بعد تعريفه بما بيمينه ، ثلاثة غير مسئول عنها حيث السؤال ب «ما» ليس إلا عن الماهية ، دون «كيف» واضرابها التي هي للكيفية ، ولكنه ما كان ليعرف من ماهيتها الا (هِيَ عَصايَ) ثم الله ابرز لها ماهية اخرى فإذا هي حية تسعى.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى ١٩ فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ٢٠.

ترى ولماذا إلقاءها هنا لتكون حية تسعى؟ ان ذلك تدريب له بما تعدّ له من آيات ربه الكبرى ، وليكون على معرفة وأهبة بما سوف يفعله الله عند فرعون آية لموسى!.

وقد يعني على هامش ذلك المعني إبرازا لسيرة ما يتوكؤ عليه من غير الله انه حية تسعى ، تخليصا. لموسى ان يتوكأ نفسيا على اي متكإ سوى الله ، كما خلع عنه نعليه إذ هو بالواد المقدس طوى ، حيث التجرد من كل التعلقات لزام الحضرة الربانية لتلقى الوحي ، وهنا لك ينعكس خلع النعلين ـ لتخلّيه عما سوى الله ـ وحيا يوحى ، ثم إلقاءه عصاه آية لوحيه أمام عدوه حية تسعى.

٦٦

وكيف تنقلب العصا حية تسعى كما هنا ، ام جانا مهتزا كما في النمل (٣١) والقصص (١١) : (رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) ام ثعبانا مبينا كما في الشعراء (٣٢) والأعراف (١٠٧) والأوليان حالة واحدة ، والأخيرة حين ذهب الى فرعون؟.

إنها خارقة الهية كآية تدل على وحي الرسالة ورسالة الوحي ، وركب العلم السائر مهما كان حائرا فيها وحق له ان يحتار ، ولكنه ببلوغه ذروة من رقيّه يختار ما فيه يحتار ، انه في امكانية الانقلاب يوافق الأصول العلمية الثابتة ، ولكنه لا يسطع عليه الا الله دون سواه ، حيث العناصر تتركب من جزئيات ، وهي من ذرات ، وهي من أجزائها من الكترونات وبروتونات ..

إذا فالأصول الفيزياوية والكيماوية لكافة العناصر هي الذرات المنتهية الى أجزائها معروفة وسواها ، وما اختلاف العناصر والجزئيات والذرات إلا باختلاف التركبات مادة ومدة وعدّة وعدّة.

وقد اتيح للعلم لحد الآن تبديل عناصر الى اخرى! أفلا يتاح للقدرة الربانية الخلاقة لها تبديلات أخرى لا يقدر العلم عليها ، اختصاصا بساحة الربوبية كما هو في اصل الخلق وفروعه.

فالأجزاء التي تتشكل منها الحية هي هي التي شكلت منها العصا ، ثم هنا لك. خارقتان اثنتان ، أولاهما القفزة الزمنية لذلك الانقلاب سراعا ، وقد يحتاج الى الآفات من السنين وتوافقات لا يعلمها ويقدر عليها إلا الله ، وثانيتهما خلق روح الحية كما في سائر الأرواح على الإطلاق.

إذا فليست الخارقة الإلهية خرقا لضوابط العلية ، وحرقا للعلل ، بل هي تسريع في ترتيب العلل بقفزة زمنية أما هيه من جانب علة العلل ، فهو الخالق للأسباب والمسببات ، وله الأمر في شروطاتها وكافة لزاماتها

٦٧

وتدبيراتها وتقديراتها (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

ثم وما خلق حية تسعى من عصا بأصعب منها المخلوقة بولادتها ، ام في أصلها الاول حيث خلقت من تراب ، والأفعال الإلهية كلها من اختصاصات ساحة الربوبية ليس لأحد فيها نصيب حتى المرسلين ، فإنهم ليسوا إلا أداة ومظاهر لفعل الرب ، وحيا ام آية تثبته.

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) ٢١.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٢٨ : ٣١) (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧ : ١١).

لقد خاف موسى من حية تسعى وهي من عصاه؟ عساها تلدغه علّه ظلم وعصى ، فنهاه ربه «لا تخف» بعد ما (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) (لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) كمن معك ، و (لا يَخافُ .. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ)» كما ظلم فرعون وخاف ثعبانه العظيم (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)

(خُذْها وَلا تَخَفْ) وهي حية تسعى «سنعيدها» بعد أخذك إياها (سِيرَتَهَا الْأُولى) وهي العصا.

وترى كيف يجوز لموسى ان يخاف فعل الله الآية ، وهو لدى الله ، رسالة من عند الله ، يخاف آية الرسالة الإلهية؟.

موسى هنا وفي بداية الحال ، المنقطعة النظير حتى الحال ، لم يكن يعرف انه آية الهية لرسالته ، فعله حسبها امتحانا من الله ببلية جلية عما قدم فأخره عن رسالته وكما قال حين قضى على القبطي (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي

٦٨

فَاغْفِرْ لِي) (٢٨ : ١٦) ام خافها خوفة ان تكون هي الحية التي أضل آدم وأغوى.

ثم وخوفه منها دليل ان قلب العصا إليها لم يكن من فعله فما هو إذا بسحر حيث السحر من فعل الساحر فلا يخافه ، وهكذا تكون آيات الرسالة كلها انها من افعال الله تظهر على ايدي رسل الله لتدل بذلك على اختصاصهم بالله فيصدّقون في وحي الله.

وهنا «سنعيدها» دليل امره بأخذها وهي حية تسعى ، ولكنه تعالى طمأنه انه سيعيدها بعد أخذها سيرتها الاولى ، وهي آية اخرى ، فكما ان قلب العصا آية كذلك قلب الحية عصى آية ، وفيها كرامة لموسى ان اظهرهما بيده ، ولكي يعرف بذلك اختصاصه بكرامة ربه رسالة بآية بينة. فانما عليه الإلقاء وعلى الله قلبها بذلك حية تسعى ، ثم عليه أخذها وعلى الله ان يعيدها سيرتها الاولى ، وقوعا للمعجزة في صورتها الاخرى كما كانت العصا في حالتها الاولى.

ولماذا (سِيرَتَهَا الْأُولى) دون صورتها ، حيث الصورة الأولى لا تلازم السيرة الاولى ، فقد يجوز ان تتصور الحية بصورة العصا ، ولكن السيرة الاولى وهي الخشبية تلازم صورتها الاولى.

وترى ما هو عامل النصب ل «سيرتها» انصبا بنزع الخافض؟ : الى سيرتها الاولى ، ام بفعل مقدر من نفس السيرة : تسير سيرتها الاولى ، والحذف دون مرجح ولا قرينة خلاف الفصاحة!.

«نعيدها» ادبيا تتطلب مفعولا ثانيا هو بطبيعة الحال (سِيرَتَهَا الْأُولى) وهو المتعين معنويا حيث الإعادة متعلقة بحية تسعى ، والمعاد هنا ليست الصورة الاولى بل مثلها ضمن السيرة الاولى الخشبية ، والمادة نفس المادة ، زيدت لها صورة حية تسعى بسيرتها ، ثم أعيدت المادة نفسها الى ما كانت

٦٩

سيرة وصورة ، وذلك اعادة مثل الصورة الاولى الى المادة وليست هي الا هيه.

وإعادتها صورتها الاولى نفسها مستحيلة في بعدين ، إعادة المعدوم فانها ممتنعة ، وتبديل المادة صورة بلا مادة ، واما إعادتها سيرتها فليست اعادة شيء بل هي تعني قلب الصورة الثانية وسيرتها الى الصورة الاولى وسيرتها والمادة هي المادة.

فهنا في قلب العصا حية تسعى ، قلب لصورة العصا وسيرتها ، إعداما لهما الى اخرى ، ثم في إعادتها سيرتها الاولى سلب اوّل هو سلب روحها ، وسلب ثان هو سلب صورة الحية ، وبينهما خلق لمثل الصورة الاولى ، ومجموع هذه الثلاث عبر عنها بإعادتها.

هناك قال موسى عن عصاه (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) .. عصى لمآربه كموسى ، وهنا انقلبت الى عصى الرسالة حيث يتوكؤ عليها فيها ، ويهش بها على غنمه ـ وهي أمته ـ هشا ، ولانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجر ، ولنفس العدد طريقا يبسا في البحر ، ثم له فيها مآرب اخرى قدّرها الله لهذه العصا ، علّ منها مآرب القائم المهدي (صلوات الله عليه) من هذه العصا أفضل مما كان لموسى.

هذه آيتا العصا ، ومن ثم آية اليد البيضاء ، وهي ألصق به من الآية الاولى :

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) ٢٢.

٧٠

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٢٨ : ٣٢).

الجناح هو الكتف والإبط تشبيها بجناح الطائر حيث يعنى منه هنا ان يجنح طائر الرسالة الموسوية الى محطة الدعوة القاسية الفرعونية ، فأصبحت اليد والعصا برهانين من ربه الى فرعون وملئه.

و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) تعني ان بيضاءها سليمة دون برص أو مرض (١) ، فلذلك ، ترجع الى ما كانت كما أعيدت العصا الى سيرتها الاولى.

وقد خرجت يد موسى ـ وعلّها هي اليمنى ـ بيضاء مشرقة وقد كانت سمراء (٢) وقد تكون اشارة الى اشراقة اليد الرسالية الموسوية في بلاغها ، وكما خرجت مشرقة في بلوغها ، فهنا موسى يسلك يده ويدخلها تحت إبطه ، وقد صور له صورة الجناح لما فيها من رفرفة وطلاقة في ذلك الموقف المجنح الطليق من رتبة الأرض وثقلة الجسم لتخرج بيضاء من غير سوء آية اخرى.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) ٢٣.

«لنريك» قد تتعلق ب «ألقها» و «اضمم» كبداية وتقدمة : قلنا لك

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٧٥ في كتاب طب الائمة باسناده الى جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في الآية قال : يعني من غير مرض وفي البرهان ٣ : ٣٥ عن ابن بابويه بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : من غير مرض.

(٢) البرهان ٣ : ٣٥ ـ عن تفسير القمي بسند عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان موسى شديد السمرة فاخرج يده من جيبه فأضاءت له الدنيا.

٧١

ألقها واضمم لنريك ... واخرى ب «اذهب» كغاية : اذهب لنريك من آياتنا الكبرى ، كما قدمنا لك من آياتنا الصغرى مثالا ونموذجا للكبرى ، وحقا إن الآيات التي أوتيها موسى هي من الآيات البصرية الكبرى ، لها دلالالتها البالغة القصوى ، آيات لفرعون وملئه ، واخرى لهم ولقوم موسى.

وترى إذا كانت العصا واليد البيضاء (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) فكيف تكون آية القرآن هي الكبرى وهي في القمة العليا ، لا نظير لها ولا تسامى؟.

«من» هنا تعني أنها البعض من الكبرى ، مهما كانت الكبرى درجات ، كما اولوا العزم من الرسل خمسة وهم درجات ، ام تعني ـ فقط ـ الآيات البصرية وهي في الحق من الكبرى ، وقد تسامي آيات بصرية لرسول الهدى ، واما الآية البصيرية فهي منحصرة في القرآن ، منحسرة عما سواه من كتابات الوحي ، فلا تعنيها هنا «الكبرى» لأنها الوحيدة لا تناظر او تسامى ، فلا تدخل في نطاق الجمع من (آياتِنَا الْكُبْرى) وهي الكبرى الوحيدة غير الوهيدة بأيّة نظيرة في آيات الرسالات ، لأنها منقطعة النظير بين كل بشير ونذير!

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ٢٤.

يذكر فرعون في اربعة وخمسين موضعا من الذكر الحكيم ، مما يدل على مدى فرعنته اللعينة ، ثم «الشيطان» في (٦٨) مهما ذكر إبليس (١١) مرة ، والمجموع تزيد خمسة وعشرين على فرعون ، فهو ـ إذا أخ له كبير بين الملائين الملاعين من اخوته الشياطين!

ولما تبلغ الفرعنة الى ذلك الطغيان على الله ادعاء للربوبية : (أَنَا رَبُّكُمُ

٧٢

الْأَعْلى) ، وعلى عباد الله استخفافا فتعبدا له : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) عند ذلك التنمرد والتمرد التفرعن يؤمر موسى بالذهاب اليه ، دون نظرة لذهاب فرعون اليه ، إذ صده طغيانه عن الله فضلا عن رسول الله!

فالى هنا كان الوحي بآياته لموسى نبوءة دون رسالة ، وهنا بزغت الرسالة الضخمة الصعبة الملتوية ، فلقد عاش جوا من طغيان الفرعنة ردحا من عمره ، فلا يرى من نفسه بنفسه نجاحا تاما في هذه الرسالة الا بإمدادات ربانية ، فليسأل ربه في هذه الحضرة المباركة ما يطمئنه في هذه المواجهة الخطيرة ، ويكفل له قوامه في هذه الرسالة ، فلذلك :

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ٢٥ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ٢٦ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ٢٧ يَفْقَهُوا قَوْلِي) ٢٨.

هنا يتطلب نصرة ذاتية متصلة بساحة هذه الرسالة في بنود ثلاثة ، ومن ثمّ نصرة منفصلة في ثلاثة أخرى هي أزر للأولى واولى له ثم اولى ان يستعد بزاد أزيد وراحلة ارحل في هذه السفرة الشاقة الطويلة ، لا لأمر إلا ل (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)!

نرى سؤل موسى هنا في احدى عشر آية ، لم يكن ليسألها قبل امر الرسالة ، مما يدل على انها كلها سؤل الرسالة بمسؤولياتها الخطيرة.

والبند الاول من سؤله الاول (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) وذلك شرح لتلك الرسالة بعد شرحه للوحي النبوءة فليس ـ إذا ـ سؤالا لسؤل حاصل ، فانه سؤال جاهل ، وسئول قاحل ، فقد اختاره الله حين اوحى اليه ، وكيف يختار ضائق الصدر عن تلقي الوحي؟ وكما شرح الله صدر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وان كان دون سؤال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ

٧٣

صَدْرَكَ) «لك» كرسول الى قوم لدوّامة خالدة ، وكذلك لموسى الى فرعون اللدود وامة لدودة.

فانشراح الصدر لنبوءة الوحي أمر ، وانشراحه للرسالة بعدها والنبوة أمر آخر ، حيث يلتقي فيها جماهير الامة ، ومكذبو الرسالة ، فلكلّ مجال حال ولكل حال مجال ، ولكل هدى شرح للصدر كما لكل ضلال ضيق : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ..) (٦ : ١٢٥).

فانشراح الصدر في سبيل الرسالة يحوّل مشقة المسؤولية الكبرى الى متعة ، وعناءها الى لذة ، مهما كانت السبيل شاقة شائكة وملتوية طويلة ، وهنالك ينجح الرسول وتنجح الرسالة في هدفها الأسمى بمكانتها العليا.

اجل انه وجد لنفسه ضيقا في هذه الرسالة دون ما قبلها : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) فشرح الله صدره عن ضيقه في نفسه وبوزيره هرون.

وفي تقديم نداء الرب في الدعاء «رب» تعليم لكيفية الدعاء أنها تبدء باسم الربوبية ، فان من قضيتها الاستجابة بعد الدعاء بشروطها ، والتربية الرسالية تتطلب في سؤلها شرح الصدر عطاء من الله ، كما تتطلب العصمة الإلهية.

و «لي» هنا دون «لنا» دليل الاختصاص لذلك الشرح ، فللمؤمنين به ، الصابرين معه ، المثابرين على إيمانهم ، إن لهم شرحا كأمة ، ولموسى الرسول شرح كرسول واين شرح من شرح؟.

٧٤

اجل «اشرح لي» فانا الذي امرتني بالذهاب الى فرعون ، اشرح لي حتى لا يضيق إذا ازدحمت عليّ عقبات الدعوة وخلفيات الدعاية.

والبند الثاني : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) وطبعا هو امر الرسالة المعسور ، يتطلب الى ربه ان يجعله الميسور ، وليس ذلك سؤالا لتخفيف في رسالته ، ام تطفيف عن وحيه ودعوته ، كأنه يباين سؤل الرسالة ، فانه مزيد منها في كل حلقاتها ، وحيا وآية وسعة في دعوة ودعاية.

انما هو يسرها لموسى على عسرها ، بمثلث من التأييد الرباني ، مزيدا في تصبّره ، ووزيرا من اهله ، وتأييدا في نجاحه من عنده تيسرا للعسير ، لا تقليلا للكثير ، فانه حط من ساحته ، ومسّ من كرامته ، وكيف يدعو عاقل ربه هكذا فضلا عن نبي كموسى!.

ففي ذلك التيسير ضمان لنجاح الرسالة ، مهما أوذي الرسول في سبيلها ، حيث الهدف الأسمى منها نجاحها ، لا أريحية الرسول في حياته الدنيوية دونما أية صعوبة ، فان طبيعة كل رسالة هي الدوائر المتربصة بها ، المحتفة عليها ، كلما كانت الرسالة أوسع ، والمرسل إليهم اشرس ، فدوائر السوء عليها اكرس واكرث.

والبند الثالث : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي).

ففقه القول الرسالي ضرورة في متن الرسالة ، فلتحلل كافة العقد عن لسان الرسول حتى يفقهوا ما يقول.

أترى «عقدة» هنا كانت حبسة في لسانه لخلل عضوية (١)؟ وتلك حبسة في أوصل وسائل الرسالة ، ونقص في الرسول ، فان السنة القولية هي

__________________

(١) في نور الثقلين ٣ : ٣٧٧ عن تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن ـ

٧٥

من مثلث السنة المعصومة الرسالية ، بل هي أولاها دلالة مهما كانت العملية أولاها تأثيرا ، فقصور اللسان ام تقصيره في بلاغ الرسالة خلاف كونه حجة بالغة الهية ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)!

ثم (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٢٨ : ٣٤) انها تكذب نقص العضو ، وتحبس عن لسانه حبسته العضلانية ، فان معقود اللسان ليس فصيحا حتى يكون هارون افصح منه.

ثم الفصاحة ليست سبب التصديق ، ولا خلافها سبب التكذيب ، فرب فصيح يكذّب ، ورب غير فصيح ام اخرس يصدق!.

فتلك إذا عقدة عن الإفصاح تقية أمّا هيه ، فحل عقدة هنا هو إزالة التقية عن لسانه وكفاية سطوة فرعون وغواته ، حتى يؤدي عن الله آمنا ، ويقول متمكنا لا خائفا ولا وجلا ، فلا يكون معقود اللسان بالتقية ، ومعكوم الفم بالخوف والمراقبة.

فتراه يقول (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ.)

__________________

ـ العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون ويربى موسى ويكرمه ولا يعلم ان هلاكه على يده فلما درج موسى كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال : الحمد لله رب العالمين ـ فأنكر فرعون ذلك عليه وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته وكان طويل اللحية فهلبها اي قلعها فآلمه ألما شديدا فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته : هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمتك إياه فقال فرعون : بل يدري فقالت له : ضع بين يديه تمرا وجمرا فان ميز بينهما فهو الذي تقول فوضع بين يديه تمرا وجمرا وقال له : كل فمد يده الى التمر فجاء جبرئيل فصرفها الى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه وصاح وبكى فقالت آسية لفرعون : ا لم اقل لك انه لم يعقل فعفى عنه.

٧٦

وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) فكما ان ضيق صدره كان بالنسبة لهذه الرسالة ، كذلك عدم انطلاق لسانه لأنه ربي عند فرعون وليدا ، وقتل من غواته نفسا ، وطبيعة الحال هنا تقتضي بتثاقل اللسان مهما كان فصيحا ، وبتكذيبه وهو اصدق الصادقين: (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٦ : ٢٢).

فقد يعقد لسان المتكلم الفصيح لعقد نفسانية ام خارجية ، فلا يسطع افصاحا لمرامه ، او مضيا في مرامه ، او يطلق لسان غير الفصيح ، وحتى المعقود اللسان او الأخرس ، لطلاقة نفسية وتجاوب خارجي ، وموسى على سابقته ، بمجابهة فرعون أن قتل منه نفسا ، رغم تربيته الولادية عنده ، ما كاد ليفصح عما يروم ، صدا نفسيا عن إفصاحه ، وآخر خارجيا وجاه فرعون وغواته ، فلا بد له إذا من وزير تخفيفا عن وزره ، وشدا لأزره ، وردءا لكلامه.

هذا وان كنا قد نصدق حسب الرواية هذه الحبسة العضوية الى حين الرسالة ، حفاظا على حياة موسى ، ولكنها حلّت منذ الرسالة بدعائه المستجاب : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وقد تلمح «عقدة» منكرة دون «العقدة» انها تعني العقدتين وقد حلهما بازالة الرثّة العضوية والضيقة النفسانية ، ثم بأخيه هارون ردأ يصدقه.

ومن هنا يبدأ بتطلب سؤله الثاني في بنود ثلاث ليكتمل الأول في إنجاح رسالته.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ٢٩ هارُونَ أَخِي ٣٠ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١

٧٧

وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ٣٢ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ٣٣ وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ٣٤ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) ٣٥.

وهنا البند الأول (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) وهو حامل وزر الرسالة الموسوية وحيا ودعوة ودعاية ، فكما الله وضع عن محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وزره بوزيره علي (عليه السلام) أخيه ، كذلك يضع عن موسى وزره بهارون أخيه ، وكما تواتر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي» فعلي يحمل وزر الرسالة المحمدية دون وحي ورسالة ، وهارون يحمل وزر الرسالة الموسوية بوحي ورسالة ، والوزارة هنا كالوزارة هناك إلا النبوة.

والوزير من الوزر : الثقل ـ حيث الوزير يحمل ثقل الملك مع الملك ، ام من الوزر : الجبل الذي يلتجئ اليه ، حيث الملك يلتجئ اليه في مهامه ، والاول اسلم لساحة النبوة حيث يكون فيه الوزير الحامل الثاني لحمل الملك وعبأه ، وهو الشخصية الثانية لمسؤولية القيادة العليا ، زمنيا او روحيا ام كليهما ، كما هما حق للقادة الروحيين أنبياء وأئمة وعلماء ربانيين.

ثم البند الثاني والثالث هما كتفسير وإيضاح لحدود الوزارة ، فشد الأزر هو تحكيم القوة الرسالية والعون فيها ، والشركة في الأمر هي في أمر بلاغ الرسالة بالوحي ، وليس الوحي فقط إذ لم يكن عبئا عليه شخصيا ، وإنما هي في حمل الرسالة بكل مسئولياتها ، واما الدعاية لها والدعوة إليها بعد بلاغها الرسالي ، فهو على عواتق المؤمنين بها ككل ، دون اختصاص بوزير من اهله ، فإنهم كلهم وزراءه في ذلك الأمر قضية الإيمان به ، فالوزارة ـ إذا ـ منصب خاص يتلو منصب القيادة العليا بانتصاب إلهي ليس إلا.

فلتكن الشركة المعنية هي في شؤون الرسالة وقيادتها الشاملة روحيا وزمنيا ، فهو النائب الاول ، والوزير الوحيد في كل ما قل وجل من

٧٨

الشؤون الاصيلة الرسالية كما هي على عاتق موسى ، إزرا وردءا وتصديقا لتلك الرسالة السامية (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٢٨ : ٣٤).

وقضية الحال هنا ان لو دام هارون بعد موسى لكان خليفته في رسالته ، فان الوزير في حياة الأمير هو الشخصية الاولى بين الشعب في كافة شروطات القيادة ، فهو الأمير بعد وفاته دون سواه.

هنا (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) تقتضي الشركة في كافة شؤون الرسالة ، وحيا وبلاغا وحجة أما هيه ، ولذلك نرى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يجعل عليا منه كما هارون من موسى ثم يستثنى النبوة.

ولا فحسب ان عليا (عليه السلام) وزير الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في متواتر السنة تنظيرا بآية الوزارة ، بل وهو اخوة وولده بل ونفسه المقدسة لآية المباهلة ومتواتر السنة ، فقد كملت الشروط وافية فيه لعرش الخلافة الاسلامية ، ولادة واخوة ووزارة ونفسية نفيسة هي انفس القواعد الأربع لعرش الخلافة.

ولنرجع هنا الى مادة الدعاء لموسى في هذه الوزارة السامية ، لكي نتعرف الى الوزارة العلوية العالية ، وعلى ضوء متواتر الرواية عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) على غرار الآية وقرارها.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً ..) دليل ان جعل الوزارة الرسالية مخصوص بالله ، وليس للرسول أن ينتصب لنفسه وزيرا في أمره فضلا ، عن أمته فكما الرسالة هي من الله ، كذلك وزارتها من الله ، والا فلما ذا يسأل الله ان يجعل له وزيرا.

٧٩

و «من اهلي» وطبعا هي الأهلية الرسالية دون النّسبية فحسب ، ولا سواها من أهليات لا تؤهل لوزارة الرسالة.

(هارُونَ أَخِي) ويا للأهلية من جمع جميل ان تعم جانبي الرسالة والرسول ، فهارون اهل لذلك الرسول رساليا ، واهل له نسبيا ، فهو اخوه في كلتا المرحلتين.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) والأزر من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده إذا استعد لصعاب الأمور ، وهارون يشد أزر موسى في بلاغ الرسالة رساليا ، لا فقط ايمانيا ، فانه يعم كافة المؤمنين بهذه الرسالة ، ولذلك يلحّق اشراكه في الأمر بشد الأزر.

(وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) شركة رسالية في كافة بنودها دونما إبقاء لواحدة منها ، إلا ان موسى هو القائد الرسالي وهارون وزيره.

فالأزر هنا هو ظهر الرسالة الموسوية ، لا يشد إلا بمظاهر رسالي من نفس النمط وهو عضد الرسالة كما قال (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) (٢٨ : ٣٥).

وقد تنطبق هذه المواصفات بصورة اجلى وسيرة اسمى وأعلى في وزارة علي (عليه السلام) للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسورة الإنشراح تشرح آية الوزارة ، ومتواتر الرواية عن طريق الفريقين يؤكد ذلك الشرح.

هنا تعالى معي الى سرد لألفاظ ما أخرجه الحفاظ والرواة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لتعرف ابعاد هذه الوزارة العلوية العلوية.

لقد روى حديث المنزلة أول ما روى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الله تعالى إذ «هبط جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله

٨٠