الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)

٢٨١

وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٤٧)

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(٣٠).

.. الم ير الذين كفروا آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ ...) عطفا على ما أراهم الله تعالى ولم يروا ولم يتبصروا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا) او منهم هنا هم المشركون المقسّمون الخلق والتدبير بين الله والآلهة ، لا الماديين او والكتابيين مهما شملهم (الَّذِينَ كَفَرُوا) هامشيا حيث الحوار كان مع المشركين دون سواهم.

والرؤية المستاءل عنها هي العلمية رأيا كأنها رؤية بصر ، وهي الاكثرية الساحقة من إطلاقات الرؤية ، ولا سيما المقرونة بما هنا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) فأين كانوا هم ومن قبلهم حتى ينظروا الى فتقهما بعد رتقهما ومنهما خلقهما؟ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (١٨ : ٥١).

وذلك الرتق والفتق في بناية الكون ، وهما متواصلان بمختلف الصور على طول الخط ، انه نقض صارم على خرافة التفرقة بين الخلق والتدبير ، فإنهما مجموعان لصق بعض في كل رتق وفتق ، فهما ـ إذا ـ فعل واحد من فاعل واحد ، وحتى إذا كانا منفصلين فتناسق الخلق والتدبير في كل رتق

٢٨٢

وفتق دليل وحدة الناسق ، المدبر الخالق ، وكما وحدة الخلق دليل وحدة الخالق.

ثم الرؤية العلمية ، عقلية او تجريبية ، بالنسبة للفتق بعد الرتق ، منها ما هي حاصلة عبر القرون البشرية لكل راء مراع صالح الرؤية ، ف (أَوَلَمْ يَرَ) هنا استفهام إنكار ، انهم رأوا ثم حكموا بخلاف ما رأوا ، سواء الماديين منهم استدلالا بالتحولات المتواترة عبر الكائنات على المكوّن ، او المشركين استدلالا بوحدة الخلق والتدبير على وحدة الخالق والمدبر ، او الكتابيين ، حيث تضاف الى رؤيتهم العلمية الرؤية الكتابية القائلة بفتق بعد رتق ، فليوحدوا الفاتق الراتق ، وليؤمنوا بالشرعة القرآنية الفاتقة لما رتق قبلها ، الفاتحة لما انغلق.

ومن ثم رؤية اخرى يدفعون إليها على مرّ الزمن ، فالاستفهام ـ إذا ـ استنكار لمن لا يتدبرون حتى يروا فتقا بعد رتق اكثر مما رأوا ، حيث هما بعد بدايتهما مستمران مع الزمن في كافة اجزاء الكون.

إذا ف (أَوَلَمْ يَرَ) غابر يحلّق على المستقبل والحاضر ، حيث الرؤية الحاضرة والمحضّرة تعم عامة المكلفين دون إبقاء واستثناء.

فكما اختصاصها بالماضين تضييق لنطاق الدعوة القرآنية ، كذلك ـ وباحرى ـ اختصاصها بالآيتين من العلماء الغربيين ، اختلاقا من بعض المفسرين المتفرنجين المتأرجفين ، انهم هم المفترضون فرضية انفصال الأرض من الشمس ، تأويلا عليلا ل (أَوَلَمْ يَرَ) الى «أولا يرون» و (الَّذِينَ كَفَرُوا) بهؤلاء فقط ، و «السماوات» بالشمس «والأرض» هي الأرض ، ف (كانَتا رَتْقاً) انهما كانا جرما واحدا ، ثم «ففتقنا هما» بفصل

٢٨٣

الأرض عن الشمس»!!! (١).

تخريجات فيها تحريجات وتهريجات كأنها خدمة غالية للقرآن ، وفقا بينه وبين هذه الافتراضة غير القانونية ولا الثابتة ، المقبورة ـ أخيرا قانونيا علميا ـ مع الأبد.

ولقد فصلنا في فصلت على ضوء الآية (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...) فصلنا هناك مدى خرافة هذه القيلة الغائلة الغيلة ، وانها تفسير للقرآن عن ساحته وسماحته وليس تفسيرا له ، فانه المحور في كل صغيرة وكبيرة عبر القرون ، وليس حائرا حول الافتراضات التي لا سند لها علميا فضلا عن الواقعية المسنودة الى قوانين تجريبية.

فكيف يعبّر عن مستقبل خاص بماض عام؟ وعن الشمس وهي قطرة صغيرة من خضمّ يمّ السماء الدنيا بالسماوات؟ وعن انفصال الأرض عن الشمس بفتقهما عن رتقهما وهو يعم المعاكسة أولا ويخص الانشقاق لا الاشتقاق ثانيا؟.

__________________

(١) تفسير الجواهر للشيخ الطنطاوي ١٠ : ١٩٧ تحت عنوان : القرآن إذ اخبر بأمور لم تعلم الا في القرن التاسع عشر يقول : تبت عن اهل اوروبا في هذه العصور إذ هم الذين قرروا هذا العلم وقالوا ان الشمس كانت كرة أشبه بالنار دائرة ملايين من السنين ، والأرض والسيارات وتوابعها كانت معها ، ثم ان أرضنا انفصلت كما انفصل غيرها من السيارات انفصلن جميعا من خط الاستواء الشمسي أثناء سرعة سير الشمس وجريها حول نفسها فتباعدت أرضنا والأرضون الاخرى وهي السيارات فان شمسنا والسيارات الاخرى كلها سيارات وكلها أرضون وهكذا كل الشموس التي نراها كأنها كواكب ثابتة على هذه الحال لها سيارات وقد اشتقت منها وقد قدروا على سبيل الظن ان الأرضين في العوالم كلها لا تنقص عن ثلثمائة مليون ارض مسكونة ... فثبت ان أرضنا مشتقة من الشمس والشمس ايضا من شمس اكبر .. منها أقول وفي كل ذلك اسئولة ولا جواب له عنها!.

٢٨٤

كلا! وآيات «فصلت» توخر خلق الشمس عن الأرض بمرحلتين اثنتين حيث (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ..) والشمس هي من مصابيح السماء الدنيا ، فكيف تسبق أرضنا السابق عليها وعلى تسبيع السماء؟!.

فإليكم تفسيرا لآية الفتق جديرا بها حسب المستطاع دونما تحميل عليها ما ليس منها ولا إليها ، ودون ان نحاول حمل النص او الظاهر القرآني على افتراضات خاوية او غير مستيقنة تقبل اليوم وترفض غدا ، فانه إمام العلم وأمامه ، خالدا عبر كافة التقدمات العلمية وكشوفها المتعالية ، فليطلق سراحه أينما انطلق دون أسر له بنظريات أسيرة محصورة محسورة!.

هنا (السَّماواتِ) هي السبع الطباق ، أولاها هي السماء الدنيا حيث هي الأقرب إلينا ، والشمس بمنظومتها جزء ضئيل من أوليات هذه الاولى.

و «الأرض» علها فقط هذه الأرض ، فالأرضون الست الاخرى معنية في نطاق السماوات ان كانت مقسّمة بينها ام هي في الاولى ، ام هي جنس الأرض الشامل للأرضين السبع.

وعلى أية حال ف (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هنا وفي غيره هما عبارة اخرى عن الكون كله.

(كانَتا رَتْقاً) والرتق لغويا هو الضمّ والالتحام خلقيا ام خالقيا ، والمعني هنا هو الثاني ، وانما أفردت «رتقا» مصدرا وهو يثنى ويجمع كما الفاعل والمفعول؟ علّه للعناية الى حالة الوحدة حيث لم تكونا حين الرتق الاول لا سماء ولا أرضا فضلا عن سماوات وارضين ، وانما كانتا المادة الفردة الاولى المعبر عنها بالماء : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي

٢٨٥

سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) وطبعا قبل خلق الأرض والسماء.

فقد كانتا حينذاك رتقا في المادة الأمّ ، ففتقت الأم في تفجرة هائلة فانقسمت الى دخان السماء وزبد الأرض ، كما تفصله آياته في فصلت ، بعد إجماله في هود : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

ف «رتقا» هنا دلالة أولى على هذه الوحدة السابقة ، فلو كان المعني منه التصاقهما ، ام فقط فتق كلّ عن رتقة ، لكانت الصيغة السائغة له «رتقين» ولكن «رتقا» تعم الرتقات الثلاث ابتداء من هذه الرتقة البدائية وانتهاء الى فتق السماء بالماء وفتق الأرض بالنبات.

ففي آية هود (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) يتبين باجمال انهما كانا في الأصل ماء وهو عبارة اخرى ـ وأحرى من غيرها ـ عن المادة الأم.

وفي فصلت يفصّل ذلك ورتق ثان : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٣).

فدخان السماء هو اصل ثان لعالم السماء ، وقد فتق عن الماء ، ثم فتق الى سبعها بمصابيحها ، وكما زبد الأرض للأرضين السبع : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (٦٥ : ١٢)(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٧ ـ اخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ في العظمة عن مجاهد في الآية قال : فتق من الأرض ست ارضين معها فتلك سبع ارضين بعضهن تحت بعض ومن السماء سبع سماوات منها معها فتلك سبع سماوات بعضهن فوق بعض ولم تكن الأرض والسماء مما ستين ومثله عن أبي صالح.

٢٨٦

ومن ثم فتقت الأرض بالإنبات بما فتقت السماء بانزال الماء ، فتقا ثالثا بعد رتق ثالث كما هنا (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ـ (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) (٨٠ : ٢٧) (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (٨٦ : ١٣).

وفي رواياتنا تصريحات وإشارات الى هذه الفتقات بعد الرتقات كما وتستنكر الفتق المختلق من اصحاب فرضية الانفصال : «فلعلك تزعم انهما كانتا رتقا متلازمتين متلاصقتين ففتقت إحداهما عن الاخرى ..»؟ (١).

ثم تثبت سائر الفتقات ولا سيما المستفادة من ذيل الآية (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وهي الفتقة الثالثة.

ومن جماع الدلالة على كلها ام جلها مقتطفات من خطب الامام امير

__________________

(١) المصدر في روضة الكافي في سؤال الشامي أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن هذه الآية قال (عليه السلام): فلعلك ... فقال نعم فقال ابو جعفر (عليه السلام) استغفر ربك فان قول الله عز وجل (كانَتا رَتْقاً) يقول : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت الحب فلما خلق الله تبارك وتعالى الخلق وبث فيها من كل دابة فتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحب ...».

أقول : هذا تفسير بأظهر مصاديق الفتق بعد الرتق كما يبينه ذيل الآية ، دون حصر فيه ، وقد قدم الامام (عليه السلام) خلق السماء والأرض من الماء وفي نفس الحديث بقوله : وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء الى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف اليه وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء ان يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية .. ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء ان يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ... وذلك قوله : والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها واخرج ضحاها ... قال له الشامي يا أبا جعفر قول الله عز وجل : أولم ير الذين كفروا ...؟ قال : فلعلّك ..

٢٨٧

المؤمنين علي (عليه السلام): «وناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى اشراجها وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها» ـ «وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعه ان جعل من البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا ثم فطر منه اطباقا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها»

كما «وكانتا مرتوقتين ليس بينهما أبواب ولم يكن للأرض أبواب وهو النبت ولم تمطر السماء عليها فتنبت ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات» (١).

وليس الحصر في بعضها بالفتقة الاخيرة إلا نسبيا لاستنكار الفتقة المختلقة ، بإثبات ما يصدقها ذيل الآية (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

إذا ف (كانَتا رَتْقاً) تحلّق على كل فتق بعد رتق السماء والسماوات

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٢٥ في تفسير القمي في سؤال الأبرش أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية «فما كان رتقهما وما كان فتقهما؟ فقال (عليه السلام) يا ابرش هو كما وصف نفسه كان عرشه على الماء .. فلما أراد الله ان يخلق الأرض امر الرياح فضربت الماء حتى صار موجا ثم ازبد فصار زبدا واحدا ... فلما أراد ان يخلق السماء امر الرياح فضربت البحور حتى أزبدتها فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار فخلق منه السماء وجعل فيها البروج والنجوم ومنازل الشمس والقمر وأجراها في الفلك وكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر وكانت الأرض غبراء على لون الماء العذب وكانتا مرتوقتين ليس بينهما أبواب ولم يكن للأرض أبواب وهو النبت ولم تمطر السماء عليها فتنبت ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات وذلك قوله (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) فقال الأبرش : والله ما حدثني بمثل هذا الحديث احد قط أعده علي فأعاد عليه وكان الأبرش ملحدا فقال : وانا اشهد انك ابن نبي ثلاث مرات.

٢٨٨

والأرض والأرضين ، اجماعا دلاليا بين الآيات والروايات ولا ينبئك مثل خبير.

وما تدبير الخلق تكوينيا وتشريعيا إلّا فتق الرتق ، وهو مزيج مع كل خلق ، إذا فالخالق هو المدبر والمدبر هو الخالق دون اي فرق ولا فراق بين خلق وتدبير سبحان العلي القدير!.

(فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ).

فمن ذلك الفتق فتق الماء عن رتق ، إذ فتق عن أصله في السماء ، ثم فتق السماء عنه إلى الأرض ، ثم فتقت الأرض به بإخراج نابتاتها (١) نباتية وحيوانية وإنسانية أمّا هيه من حيّ ، كما فتقت سائر الكرات الحية بذلك الماء حيث لا يختص ـ ولم يكن يختص ـ بهذه الأرض.

ف (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) تعم كل حي في السماوات والأرض ، فكما ان كل شيء حي او ميت فتق من المادة الاولية الأم (٢) : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) كذلك جعل من أفضل ولائدها : الماء ـ كل شيء حي ، حياة ثانية بعد الاولى التي هي اصل الكون ، ف (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) يخرج عن هذا المسرح الثاني كل شيء ميت

__________________

(١) ومن الدليل على شمول «حي» للنبات : انزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ـ واضرابها.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣١٧ ـ اخرج احمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فانبئني عن كل شيء ، قال : كل شيء خلق من الماء.

أقول : الماء هنا غير الماء المشروب ، بل هو المادة الام كما في آية هود (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

٢٨٩

وهو كل جماد ، فالماء الثاني ـ إذا ـ هو مادة كل حياة في (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) دون إبقاء ، سواء كانت حياة انسانية ام ملائكية ام جنية (١) اما هيه ، وما دونها من حياة نباتية وحيوانية.

«وقد يعم «الماء» اضافة الى أصله السائر في كل حي كضابطة كونية لأية حياة ، قد يعم كل ماء متولد من ذلك الماء بخليط ام دون خليط ، كما النطفة الجرثومية المخلوق منها كل دابة : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٤ : ٤٥)

فحين يخرج غير الدواب من الأحياء عن (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) فليس يخرج عن (جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) مثل الملائكة والطير وحيوان البحر ، بما يوجد في الأخيرين من ماء النطفة أحيانا ، فمهما كانت الملائكة مخلوقة من ماء ولكنه ليس ماء النطفة إذ لا تزاوج بينهم (٢).

ثم «الماء» النطفة يعم المني الدافق وسواه كما في الإنسان وسواه.

__________________

(١) ولا ينافي خلق الجن من نار جعله من ماء ف «وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» هو أصلهم الأولى كما خلق آدم من تراب ، فنسل الجان من ماء النطفة ومن اصل الماء ، كما ان أصله النار فيه الماء.

(٢) ولا ينافيه خلق الملائكة من النور كما في بعض الأحاديث ، حيث النور كما النار من اصل الماء ، ام خليطه ، ام ان الجعل هو جعل بقاء الحياة الملائكية والجنية بالماء وان لم تكن أصولهم من هذا الماء ، فلذلك لم يقل «خلقنا» والجعل يعم الخلق بداية ، وبقاءه واستمراره ، فطائفة من الاحياء مثل الإنسان مجعولة من الماء خلقا وبقاء ، وثانية بقاء كالملائكة ـ والله اعلم بما قال.

٢٩٠

ولان الماء هو اصل الحياة ف «طعم الماء طعم الحياة» (١) وقد يكون بنفس السند شفاء من بعض الأدواء (٢).

ولماذا هنا «جعلنا» دون خلقنا؟ علّه حيث المقصود أعم من الخلق بداية ، ومن استمرارية المخلوق منه حيوية ، فكما خلق كل حي من ماء كذلك تستمر حياته بماء ، دون إبقاء.

فهنالك فتق أول للخلق عن رتق الماء الأوّل وهو المادة الاولية ، وفتق ثان هو خلق هذا الماء المشروب مما خلق منه ، وفتق ثالث هو خلق النطف الجرثومية عن الماء الثاني ، إذا فدور الماء في اصل الخلق وفرعه دور فعال

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٢٧ عن المجمع وروى العياشي باسناده الى الحسين بن علوان قال : سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن طعم الماء ، فقال : سل تفقها ولا تسأل تعنتا ، طعم الماء طعم الحياة قال الله سبحانه (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ورواه في قرب الاسناد مثله.

(٢) المصدر في كتاب طب الأئمة عبد الله بن بسطام قال حدثنا ابن إسحاق ابن ابراهيم عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) قال : حضرته يوما وقد شكى اليه بعض إخواننا فقال : يا ابن رسول الله ان اهلي كثيرا يصيبهم هذا الوجع الملعون ، قال وما هو؟ قال : وجع الرأس ، قال : خذ قدحا من ماء واقرء عليه هذه الآية ثم اشربه فانه لا يضره ان شاء الله تعالى.

وباسناده الى حماد بن عيسى يرفعه الى امير المؤمنين (عليه السلام) قال : إذا شكى أحدكم وجع الفخذين فليجلس في تور كبير وطست في الماء المسخن وليضع يده عليه وليقرأ هذه الآية وفيه عن سيف بن عمير عن شيخ من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كنا عنده فسأله شيخ فقال : بي وجع وانا اشرب له النبيذ ووصفه له الشيخ فقال له : ما يمنعك من الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي؟ قال : لا يوافقني ، قال : فما يمنعك من العسل قال الله فيه شفاء للناس ، قال : لا أجده ، قال : فما يمنعك من اللبن الذي نبت لحمك واشتد عظمك؟ قال : لا يوافقني قال (عليه السلام) له : أتريد ان آمرك بشرب الخمر؟ لا والله لا آمرك!

٢٩١

منقطع النظير ـ :

(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بذلك الخالق المدبر ، المدبر الخالق ، الذي بيده كل رتق وفتق ، وبالنسبة للآلهة المختلقة ومختلقيها ، حيث فتقها الله بعد رتق.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) ٣٢.

هنا عرض لفتق بعد رتق في الأرض ، وآخر في السماء ، هما من طيات الفتقات الثلاث للسماوات والأرض ، والرواسي المجعولة في الأرض ـ لا المخلوقة ـ هي الجبال الراسية الموتّدة في أعماقها ، الشاهقة رءوسها ، وعل المفعول الاول ل «لجعلنا» هي الجبال قبل رسوّها وقد خلقت من الأمواج السطح الأرضية ، كما سئل الامام علي (عليه السلام) مم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج.

ولماذا جعلت الرواسي؟ (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) حفاظا عن الميدان وهو سرعة الدوران ، و «عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ... فسكنت من الميدان برسوب الجبال في قطع أديمها» «فسكنت على حركتها من ان تميد باهلها او ان تسيخ بحملها» : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٦ : ١٥)(١) فللرواسي علاقة عريقة بتوازن الكرة الارضية في سبحها الدائب بيمّ الفضاء ، فلا تميد بهم وتضطرب بل هي مهد ومهاد!.

هذه رواسي الأرض ان تميد بهم في رجفاتها ، وتلك فجاجها السبل

__________________

(١) راجع تفسير آية النحل في النحل ففيها تفصيل اكثر مما هنا ، وكذلك ... وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».

٢٩٢

بينها لعلكم تهتدون ، وبأحرى منها الرواسي القيادية الروحية ، الراسية في اعماق ارض الحياة الإنسانية ، عن ان تميد بكم من ضربات ورجفات ، وهم الرعيل الأعلى الرساليين ، ثم الفجاج السبل هم العلماء الربانيون ، الوسطاء بينهم وبين الناس.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن التساقط من علياها الى دنياها ، إذ (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢٢ : ٦٥) ومحفوظا عن تسمّع الجن الى الملإ الأعلى : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٣٧ : ١٠) (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨).

(وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) : ـ (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠ : ١٠١) فهم يعرضون عن آياتها كونية وشرعية.

ومن السماء السقف المحفوظ بآياتها ، سماء الوحي بآياته ، إذ لا تدخّل فيها من الشياطين وسواهم من المتسمّعين.

فالسقف ما يظل الإنسان من عل والسماء هي أعلى السقوف ، ولكنها خلاف سائر السقوف فانها دون عمد مرئية ، وكذلك سماء الرسالات غير مرئية العمد ، وهي أعمدة الوحي ورباطاته الإلهية محفوظة عن كل انفراج وانهدام وتشعث واسترمام ، كما هي محفوظة من مسارق السمع ، محصنة بمقاذف الشهب.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ٣٣.

٢٩٣

هنا تعرفنا الى سباحة الشمس والقمر ، كل في فلكه الخاص به ، فما هي سباحة الليل والنهار وهما من مظاهر سباحة الأرض والشمس دونما استقلال عنها؟.

ان لها ثانية في يس تعني في «يسبحون» الأرض والشمس والقمر : (... لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠) حيث تسبقها الأرض ، فهي ـ إذا ـ معنية في هذه السباحة العاقلة مع النيرين.

فكذلك الأمر في هذه حيث تسبقها الأرض كما هناك ، وهنا زيادة «آياتها» ومنها نجومها بمجراتها ف «كل» من هذه الثلاثة آياتها (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) دون حاجة الى حمل التوجيه ل (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وهما ظاهرتان من سبح الأرض بواجهتها الخاصة للشمس!.

وقد نتلمح من هنا ان لا ثوابت في آيات السماء ، فكلها سيارات ، فردية في أفلاكها ، وجماعية في مجرّاتها وجزائرها في خضمّ الفضاء!.

هذا وقد تعني «يسبحون» فيما عنت (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) والمعني من سباحتهما في فلكهما مدار كلّ تبعا لدوران الأرض حول نفسها وشمسها ، ولكن الليل والنهار مسبح لسابح الأرض وهما لا يسبحان ، وهنا نتأكد ان «يسبحون» تشمل «آياتها» كلها ، وهي الكواكب كلها.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ٣٤.

«الخلد» هنا هو البقاء في الحياة الدنيا ، وهي زائلة بمن فيها وما فيها ، فلا خلد لها فضلا عن مواليدها! (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) حيث قضوا نحبهم ومنهم من ينتظر كالمسيح والخضر وسائر الأحياء.

وقد تلمح الآية انه (صلّى الله عليه وآله وسلم) تمنى بقاء ، ام اكثر

٢٩٤

مما كان كما يروى «لما نعى جبريل للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) نفسه قال : يا رب فمن لأمتي؟ فنزلت (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ...)(١).

وبذلك تستأصل منية الخلود حتى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) مهما هرف فيه هارف وخرف خارف رغم نص القرآن (٢).

ولمحة ثانية تستأصل أمنيات المشركين (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥١ : ٣٠) إذ كانوا يتربصون به الموت فيتخلصوا منه وكأنهم بعده باقون (٣)(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ كلا إلا متعة الحياة عاجلا او آجلا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٨ ـ اخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال لما نعى ...

(٢ ، ٣) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان ابو بكر في ناحية المدينة فجاء فدخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو مسجى فوضع فاه على جبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وجعل يقبله ويبكي ويقول بابي وامي طبت حيا وميتا فلما خرج مر بعمر بن الخطاب وهو يقول : ما مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين وحتى يخزي الله المنافقين ، قال وكانوا قدر استبشروا بموت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فرفعوا رؤسهم فقال ايها الرجل اربع على نفسك فان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد مات الم تسمع الله يقول : انك ميت وانهم ميتون ، وقال : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ، قال : ثم أتى المنبر فصعده فحمد الله واثنى عليه ثم قال : ايها الناس ان كان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلهكم الذي تعبدون فان محمدا قد مات ، وان كان إلهكم الذي في السماء لم يمت ثم تلا : وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقبكم ... ثم نزل واستبشر المسلمون بذلك واشتد فرحهم وأخذت المنافقين الكآبة قال عبد الله بن عمر : فو الذي نفسي بيده لكأنما كانت على وجوهنا اغطية فكشفت ...

أقول وابشر بأدب الخليفة عمر كيف يقول متغيظا «ان كان محمد إلهكم» ثم ابشر بمعرفته بالله كيف يمكّنه في السماء!.

أقول وابشر بأدب الخليفة عمر كيف يقول متغيظا «ان كان محمد إلهكم» ثم ابشر بمعرفته بالله كيف يمكّنه في السماء!.

٢٩٥

في بلوى الخير والشر ، كما الرسول لهم بلوى.

وقد تلمح «لبشر» ان الخلد جائز لغير البشر كما الملائكة هم خالدون مدى الحياة الدنيا فلا يموتون ، ولا يعني الخلود الأبدية اللانهائية ، إذ لا يزعمها اي عاقل ولا مجنون ، وانما هو البقاء مدة طويلة ومنها طول الحياة الدنيا ، فذلك الخلود منفي عن كل بشر ، مهما ثبت لغير بشر.

فالموت شامل كل بشر (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٩ : ٣٠) مهما كان انتقالا من حياة إلى اخرى ، ومن نشأة إلى اخرى دون موت الفناء ، اللهم إلّا في صعقة إلا ماتة حيث لا يستثنى منها إلا من شاء الله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨).

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ٣٥.

أترى (كُلُّ نَفْسٍ) هنا تشمل كل نفس حية وسواها ، إلهية وسواها حيث اطلق على ذاته تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٣ : ٢٨) (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٥ : ١١٦) (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٢٠ : ٤١)؟ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٦ : ٥٤)؟

كلّا! حيث النفس فيها وفي اضرابها لا تعني إلا نفس الكائن وذاته فلا تأتي إلا مضافة الى نفس الكائن ، حيا وسواه ، إلهيا وسواه ، فكما (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كذلك : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) (١٢ : ٥٤) ورأيت الدار نفسها ، ووقع الجدار نفسه ، فبين النفس الذائقة الموت وهذه النفس الذات عموم من وجه تفترقان في الجماد ، إذ لا حياة له حتى يذوق

٢٩٦

الموت ، وفي الله فانه الحي الذي لا يموت ، وتجتمعان في الأنفس الحية التي تذوق الموت.

فالنفس الذات لا بد لها من اضافتها الى الذات فلا تشملها غير المضافة ك (كُلُّ نَفْسٍ) مهما شملت المضافة غير الذات : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١٢ : ٥٤) (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٢٠ : ٩٦).

فالذات المقدسة الإلهية خارجة عن (كُلُّ نَفْسٍ) كما الأنفس غير الحية ، حيث ان ذوق الموت ليس الا عن حياة ، والاضافة فيها تعني النفس الذات.

والنفس غير المضافة ، أو المضافة إلى غير ذاتها كاملة ، هي الجزء الحي من الكائن المركب من نفس وسواها ، سواء الروح ككل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٧) او الروح بخاصة من أوصافه ، كالنفس الامارة (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١٢ : ٥٤) واللوامة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٧٥ : ٢) والمطمئنة (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٨٩ : ٢٦) ولان (كُلُّ نَفْسٍ) غير مقيدة بواحدة من هذه الثلاث ، وان ذوق الموت هو لأصل النفس مصحوبة بهذه الثلاث ، فهو إذا كل نفس حية ، وهي هنا المكلفة المبتلاة بالشر والخير ، الراجعة الى ربها ، فخاصة بالمكلفين من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، مهما خصّت الملائكة بالبقاء مدى الحياة الدنيا ، ولكنها قد تعرضها الصعقة إلا من شاء الله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨) والصعقة بين موت وذوق الموت.

ثم «ونبلوكم» لا تنافي عصمة الملائكة وكما ابتلوا في قصة آدم ، ام انها خصوص بعد عموم ، ف «نبلوكم» تخص غير الملائكة المعنيين بعموم

٢٩٧

(كُلُّ نَفْسٍ) والاول اولى ولا سيما لشموله من هم اعصم من الملائكة وأعظم.

فلا تختص (كُلُّ نَفْسٍ) بالنفس الإنسانية بشاهد اطلاق النفس عليها دون سواها ، فانها تشمل كل نفس مكلفة مبتلاة راجعة إلى الله ، وذوق الموت أعم من الموت نفسه ، فقد تذوقه ولا تموت موت الفوت ككل من يموت عن هذه الأدنى ، حيث الأرواح لا تموت فوتا ، وانما تذوق موت أبدانها ، وفراقها عنها ، وقد تموت ردحا ثم تحيى كما في صعقة القيامة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

اجل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ ..) ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢٩ : ٥٧) (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٣ : ١٨٥).

ثم الموت قد يعني ذوقه نفسه ، كما في كل موتة عن الحياة الدنيا ، ام هو الفوت ردحا قبل قيامة الإحياء ، أم يعنيهما ولا خارج عن هذه الثلاث اللهم إلا موت الآبدين في النار مع النار ، حيث لا نار ولا اهل نار فانه موت الفوت ، دون الجنة فانها دار القرار.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)؟

ذلك الخير حيث الخير كله بيديه ، فما هو ـ إذا ـ الشر ، والشر ليس اليه؟.

فتنة الشر قد تكون جزاء وفاقا لشر قبلها كما فتن بنو إسرائيل : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (٢٠ : ٨٥) فهذه شر بشر وهو خير في ميزان العدل مهما سمي شرا في ميزان الخلق لمكان ابتلاءهم فيها (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣).

٢٩٨

وأخرى هي فتنة ملتوية صعبة ، لا تلائم النفوس في البداية ، ولكنها تبوء الى خير في النهاية كما يفتن المؤمنون بفقد الأحبة امّا هيه مما هم متعلقون به ، مفتاقون اليه والعون فيه كما (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) (٢ : ٢٤٩) ولقد مرض امير المؤمنين (عليه السلام) فعاده إخوانه فقالوا : كيف نجدك يا امير المؤمنين (عليه السلام) قال : بشرّ ، قالوا : ما هذا كلام مثلك؟ قال : ان الله تعالى يقول : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ...) فالخير الصحة والغنى والشر المرض والفقر» (١).

ومن البلاء الحسن نصر من الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٨ : ١٧).

ثم وفي واجهة عامة شاملة ، الدنيا بحذافيرها فتنة وبلوى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١٨ : ٧) (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٥ : ٤٨) (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٦ : ١٦٥) (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٦٧ : ٢) (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨).

فلا كرامة في بلوى الخير ولا مهانة في بلوى الشر ، اللهم إلا بلوى العقوبات : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ، كَلَّا ...) (٨٩ : ١٥ ـ ١٦) وبلوى المثوبات (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً).

__________________

(١) نور الثقلين ٣٠ : ٤٢٩ في مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ان امير المؤمنين (عليه السلام) مرض ...

٢٩٩

وترى الابتلاء بالشر ابلى او الابتلاء بالخير ، حقا ان الابتلاء بالخير أشد وطأة وإن خيّل للبسطاء عكسه ، فهنا لك كثيرون من المؤمنين يصمدون في فتنة الشر ، واما فتنة الخير فقلة قليلة تصمد لها ، فمن هذا الذي يصمد على قضية الإيمان في جماح القدرة الهائجة والسلطة المائجة إلا السابقون والمقربون ومن ثم اصحاب اليمين؟ حيث الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب ، ولكنما الرخاء ترخي الأعصاب وتفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة.

لذلك ترى هؤلاء الذين يجتازون الكثير من عقبات الشر والضر ، هم أنفسهم ليسوا ليجتازوا عقبات فتن الخير ، فيسقطون في هوّات الرعونات ، ويتساقطون في مجالي الثروات والفرعنات ، وكما نراهم طوال التاريخ ، أعاذنا الله من تلك الفتن العضال.

وكما نرى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يعجب من هؤلاء المؤمنين القلة قائلا : «عجبا لأمر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، ان اصابته سراء شكر فكان خيرا له وان اصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (١).

(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) كما منا تبدءون ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فقد كنا قبل عالم الاختيار في خيرة الله ، إذ كنا أجنّة في بطون أمهاتنا ، ثم حللنا عالم الاختيار ثم التكليف الاختبار ، ومن ثم نرجع الى ما كناد دون خيرة فيه منا اللهم الا ما قدمناه لأنفسنا (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى).

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ٣٦.

__________________

(١) رواه مسلم بسنده في كتاب الزهد والرقائق.

٣٠٠