الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

التنظيم ، ف (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) لم تفسدا الا على فرض الاختلاف بينهم في التنظيم!.

ولا يرده ان الحكمة هي الموافقة للقوانين العقلية المأخوذة من واقع الكون ، التابعة له ، لكن الرب المدّبر فعله هو نفس نظام الواقع ، المتبوع للقوانين العقلية والعلمية ، فكيف يكون فعله تابعا لتلك القوانين؟.

حيث يرده ، ان صالح الحكمة الالهية هو الذي يصلح واقع الكون ، وصالح الكون آية لتلك الحكمة ، وليس من المفروض ان تكون هذه الحكمة الصالحة من اله واحد ، فقد تكون من آلهة متوافقة في صالح الحكمة ، وكما ان المدبّر الواحد فعله نفس النظام ، كذلك غير الواحد!.

فاحتمال تعدد الآلهة لا يجتثه واقع النظام في الكون عقليا وعلميا ، إذ يحتمل ان يكون من منظّمين كثير ، متوافقين في حكمة التنظيم ، كما يحتمل انه من منظم واحد.

والجواب الصالح عن هذه المشكلة الشائكة أن «لفسدتا» لا تعني فقط فساد السماوات والأرض بفساد التدبير نتيجة الاختلاف والتناحر ، بل وكذلك «لفسدتا» الآلهة إلا الله ، وهي فساد الألوهية فيهم كلهم ، ام فساد تعددهم!.

فلا يخلو تعدد الألوهية عن فساد في زاوية الكون ، او المكوّن ، ام تعدد المكون والمدبر ، إذا فهو ثالوث الفساد تحليقا على كافة فروض التعدد ، في اصل الذات ام في ربوبيات ، ام في الخلق والأمر ، ام ضغث من هذا وضغث من ذلك ، فان وحدة النظام بهذه البراعة واليراعة تشي بوحدة المنظم ذاتيا وصفاتيا وافعاليا.

فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات فتعددت النواميس وتناحرت و «فسدتا»!.

٢٦١

ولو اتحدت الإرادات رغم تعدد الذوات ، فلا تخلو هذه الذوات من كونها مشتركة في كافة الذاتيات والصفات؟ فقضيتها إذا وحدة الإرادات! فأين التعدد إذا إذ لا مايز بين هذه الذوات ، فإذا «لفسدتا» عن تعددها ، فلا الوهية في هذا البين صالحة لأصل التكوين فضلا عن نظامه!.

ولو اتحدت فيما قضيته وحدة الإرادات ، واختلفت فيما لا رباط له بها ، اختلافا ذاتيا ام صفاتيا ، فلنتساءل ، هل ان هذه الذاتية او الصفاتية المائزة بينها هي كمال مطلق ، ام محدد ، ام هي نقص؟ فليكن كل فاقدا لبعض ما يجده الآخر أيا كان ، وهذا تخلّف عن اللّامحدودية في الكمال التي هي لزام الألوهية ، فالكل ـ إذا ـ محدود مركب مما به الاشتراك وما به الامتياز ، والكل يفقد ما يجده الآخر من كمال ، او يجد ما ليس في الآخر من نقص ، إذا فكلّ منهم محدود ناقص ف «لفسدتا» فسادا في ذات الالوهية وصفاتها! ففسادا في الكون وكسادا عن بكرته حيث الناقص في ألوهيته مألوه وليس خالقا ، إذا فلا خلق ، وواقع الخلق المنتظم دليل ان لا اله الا الله ، ففرض آلهة الا الله يفرض فساد الكون في أصله او نظامه ، وفساد كل الآلهة او فساد التعدد ، فينقلب فرض التعدد الى حتمية الوحدة ام الفساد في الكون في بعدية وفي الآلهة.

وتأنيث ضمير التثنية إنما هو باعتبار شموله للسماوات والأرض كما يشمل الالهة إلا الله.

ذلك وكما نجد على ضوء هذه الآية روايات محكمة حكيمة فيها سرد شامل لمحتملات تعدد الآلهة والقضاء الصارم الحاسم عليها :

فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في حوار مع الزنديق قوله : لا يخلو قولك انهما اثنان من ان يكونا قديمين قويين او يكونا ضعيفين ،

٢٦٢

أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا ، فان كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير؟ ـ

وان زعمت ان أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت انه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني ، وان قلت إنهما اثنان لم يخلو من ان يكونا متفقين من كل جهة او مفترقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على ان المدبر واحد ـ

ثم يلزمك ان ادعيت اثنين فلا بد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فليزمك ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهما فرجتان فيكون خمسة ثم يتناهى في العدد الى ما لا نهاية في الكثرة ... (١).

وفي رواية اخرى «وإذا بطل هذا ولم يكن بينهما اختلاف بطل الاثنان وكان واحدا ..» (٢).

فلان فساد الألوهيّة يقتضي نفي الإله ، وصالح الكون المنسق المنتظم بتنسيق واحد دليل صالح الألوهية ، إذا فليس فيهما آلهة الا الله الواحد القهار.

(فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) فالله الذي هو صاحب عرش الخلق والتدبير واحد لا شريك له ، كما تدل عليه وحدة النظام من ناحية ،

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ١٩٤ ـ ١٩٥ عن التوحيد باسناده الى هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام) وكان من قوله (عليه السلام) : ....

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤١٨ عن تفسير القمي واما الرد على الثنوية ...

٢٦٣

وفساد التعدد من ناحية الذات والصفات من اخرى.

ومما يصفون «ربّ العرش» بجنب ان له شركاء ، انه جالس على عرشه كسائر الجلوس على العروش ، ولكن الألوهية نفسها ثم الربوبية للعرش ، هما يزيفان هذه القولة الزائفة ، فهو الذي يربي العرش ويحمله دون ان يحمله العرش!.

ومن ذلك سؤاله عما يفعل كأنه يخطل او يجهل او يغفل ولكنه :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ٢٣.

طالما اصحاب العروش من الخلق يسألون عما يفعلون لنقص في التقدير والتدبير بقصور او تقصير ، حيث تملكهم العروش ويملكهم سوء التدبير ، ولكن رب العرش وهو رب كل شيء ، انه عليم حكيم قدير ، لا يفعل ما يفعله إلا عن حكمة وتدبير ، رحمة ناصعة بارعة على كل صغير وكبير ، فلما ذا يسأل إذا؟ سبحان العلي الكبير! اجل ، ان رب العرش (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) ـ

«لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا وهو المتكبر الجبار والواحد القهار فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١٩ في كتاب التوحيد باسناده الى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد الجعفي قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) يا بن رسول الله انا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا ومنهم من يسقط غير تام ومنهم من يولد أعمى واخرس وأصم ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط الى الأرض ومنهم من يبقى الى الاحتلام ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك وما وجهه؟ فقال (عليه السلام) : ان الله تبارك وتعالى اولى بما يدبره من امر خلقه منهم وهو الخالق والمالك لهم فمن منعه التعمير فانما منعه ما ليس له ومن عمره فانما أعطاه ما ليس له فهو ـ

٢٦٤

ففيما يسأل لأي علة صارت الإمامة في ولد الحسين دون الحسن (عليهم السلام) فالجواب : لأن الله تعالى جعلها في ولد الحسين ولم يجعلها في ولد الحسن والله لا يسأل عما يفعل (١) وكما «جعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك فإن الإمامة خلافة الله عز وجل ليس لأحد أن يقول : لم يجعلها في صلب الحسين دون صلب الحسن ، لأن الله هو الحكيم في أفعاله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(٢).

فمن الهراء هذه وتلك ، وفي العراء قيلة من قال : قطع الله النبوة عن صلب يوسف لأنه لم يحترم أبويه ولم ينزل من العرش حتى خروا له سجدا ، تقديما لإخوته الحساد الفساق عليه وهو نبيّ مرسل من المخلصين!.

وعلى أية حال فسؤال المسؤولية التجهيل والتخجيل منفي عن ساحته ، طالما سؤال التعلّم والتبجيل مرضي عند سماحته وقد أمر أول العابدين (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ويؤمر كل عبد من عباد الله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...).

ليس هناك ضابطة عادلة حاكمة على الله تنضبط بها افعال الله تعالى ،

__________________

ـ المتفضل بما أعطى وعادل فيما منع ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون قال جابر فقلت له يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال : لأنه ...

(١) المصدر في عيون الاخبار باسناده الى محمد بن أبي يعقوب البلخي قال سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) فقلت : لأي علة ...

(٢) المصدر في كتاب الخصال عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) حديث طويل وفيه فقلت يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كيف صارت الامامة في ولد الحسين دون ولد الحسن وهما جميعا ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسبطاه وسيدا شباب اهل الجنة؟ فقال (عليه السلام) ان موسى وهارون كانا نبيين مرسلين أخوين فجعل الله النبوة في صلب هارون ....

٢٦٥

فيخضع لها في أفعاله حتى يسأل ، فانه الضابط لكل ضابطة عادلة وفاضلة ، وكل أفعاله صادرة عن حكمة وفضيلة متعالية.

فطالما النبيون وهم معصومون يسألون هل طبقوا واجباتهم الرسالية وماذا أجيبوا : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٥ : ١٠٩) (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٧ : ٦) فليس الله ليسأل عما يفعل وهم يسألون سؤال عدل ، ف «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم»(١).

وترى «هم يسألون» هم الذين يعبدون من دون الله؟ ومنهم الأصنام والأوثان ، لا حول لها ولا حيلة فيما يفعل بها! طالما المسؤولية الكبرى على طواغيتهم.

بل هم المكلفون أجمعون ، المرسل إليهم والمرسلون ، طالما السؤال يختلف حسب اختلافهم عصمة او قصورا او تقصيرا ، وهذا هو الصحيح ، فان (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) هي من اختصاصات الربوبية ، فكل من يؤهل للسؤال سواه يسأل دون إبقاء ، هل كان فعله موافقا للحكمة والمصلحة الواقعية؟.

ولكن الله ـ وهو خالق الحكمة والمصلحة ـ هو فعله حكمة ومصلحة ، نبراسا ومقياسا لكل فعل من كل فاعل ، فلا يسأل ـ إذا ـ هل إن فعله يوافق الحكمة والمصلحة ، فانه هو الفاعل فيها والحاكم بها وليس

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٢٠ في ارشاد المفيد قال رحمه الله وقد ذكر أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) ومما حفظ عنه (عليه السلام) من موجز القول في العدل قوله لزرارة بن أعين : يا زرارة أعطيك جملة في القضاء والقدر ، قال له زرارة نعم جعلت فداك قال : إذا كان يوم القيامة ....

٢٦٦

محكوما بها كأنها من فعل غيره إلها أو مألوها.

فالحق الصالح في فعله ليس لموافقته الواقع ، حيث الواقع الصالح هو من فعله ، بل الحق في اي واقع انما يقاس بفعله او قوله ، دون ان يقاسا بواقع هو من فعله!.

فمن هذا الذي يسأله عما يفعل ، أإله معه ام فوقه؟ وهو الله الواحد القهار! ام مألوه مسئول عن فعله؟ ولماذا يسأل ، اللهم الا تعلما وتفهما ، لا تعنتا وتجهيلا!.

وفي «لا يسأل» إنشاء حاسما بصيغة الإخبار استئصال لكل سؤال عن جناب قدسه على اية حال ، فهم بين ساكت مستسلم ، وسائل فاشل قاحل.

كما «وهم يسألون» تحلّق المسؤولية على كل من يصح عنه سؤال مهما كان من اقرب المقربين واسبق السابقين.

ثم السؤال «عما يفعل» قد يكون سؤالا عن سببه؟ وهو خالق الأسباب ومسببها ، ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

او سؤالا عن غايته؟ وهو مغيّي الغايات! ولا غاية له من فعله ترجع الى صالحه ذاتيا ام صفاتيا! بل ان فعله غاية لكل صالح من افعال العباد! وغايته هي الرحمة على العباد!.

او سؤالا عن حكمته ومصلحته؟ وهو خالقهما ومقرر هما بفعله وقوله!.

او سؤالا عن «كيف فعل» اكتناها لواقع فعله وارادته؟ وهو سؤال ساقط لاي سائل إذ لا يحيطون به علما وهو بكل شيء محيط!.

وعلى أية حال فكل سؤال «عما يفعل» غير مسموح «فويل لمن قال

٢٦٧

كيف وكيف» (١) ، اللهم الا سؤال التفهم فيما يصح ، وسؤال الحاجة كما

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٦ ـ اخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان في بعض ما انزل الله في الكتب : اني انا الله لا اله الا انا قدرت الخير والشر فطوبى لمن قدرت على يده الخير ويسرته له وويل لمن قدرت على يده الشر ويسرته له اني انا الله لا اله الا انا لا أسأل عما افعل وهم يسألون فويل لمن قال كيف وكيف».

أقول التقدير لا يعني التسيير ، بل هو تقدير لكل حسب ما يناسب عقيدته وطويته وفعلته بمشيئة. وفيه ـ اخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ميمون بن مهران قال لما بعث الله موسى وكلمه وانزل عليه التوراة قال : اللهم انك رب عظيم لو شئت ان تطاع لأطعت ولو شئت ان لا تعصى ما عصيت وأنت تحب ان تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله اليه اني لا اسأل عما افعل وهم يسألون.

وفيه اخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن نوف البكالي قال قال عزير فيما يناجي ربه يا رب تخلق خلقا تضل من تشاء وتهدي من تشاء فقال له يا عزير اعرض هذا فأعاد فقيل له لتعرضنّ عن هذا والا محوتك من النبوة اني لا اسأل عما افعل وهم يسألون وفي لفظ آخر : ان عزيرا سأل ربه عن القدر فقال سألتني عن علمي عقوبتك ان لا أسميك في الأنبياء

أقول وكما نراه غير مذكور في القرآن الا (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ...)!

وفي آخر يذكر القصة عن موسى وفي آخرها «فانتهى فلما بعث الله عزيرا وانزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها عن بني إسرائيل حتى قال من قال انه ابن الله قال : اللهم انك رب عظيم ... فأوحى الله اليه اني لا اسأل عما افعل وهم يسألون فأبت نفسه حتى سأل ايضا فأوحى الله اليه : اني لا اسأل ... فأبت نفسه حتى سأل ايضا فقال : أتستطيع ان تصرصره من الشمس قال لا قال أفتستطيع ان تجيء بمكيال من ريح ، قال لا قال أفتستطيع ان تجيء بمثقال من نور قال لا قال أفتستطيع ان تجيء بقيراط من نور قال لا قال فهكذا ان لا تقدر على الذي سألت اني لا اسأل عما افعل ، وهم يسألون اما اني لا اجعل عقوبتك الا ان أمحو اسمك من الأنبياء فلا تذكر فيهم فمحى اسمه من الأنبياء فليس يذكر فيهم وهو نبي فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته من ربه وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .. قال اللهم انك رب عظيم ... فأوحى الله اليه ـ

٢٦٨

يصح فانه ممنوح ، وهذا الأخير سؤال ان يفعل لا عما يفعل ، والاول سؤال عما يفعل لصالح التفهم الذي يصح.

و «عما يفعل» يعم كل أقواله وأفعاله تكوينية وتشريعية ، فلو انه لم يبعث رسلا واهلكهم بظلمهم لكانت لهم عليه سؤال وحجة : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤ : ١٦٥) (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤) (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥).

فقد قطع بعدله وحكمته وفضله كل سؤال عنه عن كل سائل ، فليس (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) استبدادا واستكبارا أعمى ، هو في العين قذى وفي الحلق شجى.

وما أسؤلة الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) والنبيين كنوح (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) إلا استفهاما دونما استفحام وإلا لكان فسوقا منهم او كفرا ، اجلّهم الله من ذلك إجلالا كريما.

اجل! وان ارادة الله طليقة لا يحدها تحدّد أم تهدّد إرادة اخرى ، لأنها منطلقة من قدرة قاهرة حكيمة ، فهو الذي يضع الحدود بتلك الارادة الطليقة فكيف تحدّ إذا او تحدّد ، اللهم إلا تحديدا من عنده كما يناسب ساحة الربوبية.

__________________

ـ اني لا اسأل عما افعل وهم يسألون وأنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتك الى مريم وروح مني خلقتك من تراب ثم قلت لك كن فكنت لئن لم تنته لا فعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك اني لا اسأل .. فجمع عيسى من تبعه وقال : القدر سرّ الله فلا تكلّفوه!

٢٦٩

لا نقول ما يتقوله شذر من الناس النسناس ، انه طليق الارادة حتى في الظلم ، فينكرون وجوب العدل عليه بما كتبه على نفسه ، ام واقعه في فعله.

انما نقول انها طليقة عن دوافع ونوازع خارجية فانها كلها من فعله ، ولكنه لا يفعل إلا الصالح لساحة الربوبية باختيار ، دون منعة عليه باضطرار ، سبحان العلي الحكيم الجبار!.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ٢٤.

فواقع الكون ببرهانه الساطع على وحدة الإله ، خلو عن آلهة إلا الله (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) اتخاذا جارفا ، اختلاقا لما لا يكون ولن يكون.

فالبرهان على اصل وجود الإله وعلى وحدته قاطع قاصع ، ولا ينازعه اي برهان ينقضه او ينقصه ، ف «قل» للذين يتخذون من دونه آلهة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ).

وقد قيل للإمام الرضا (عليه السلام) أتقول ان الله واحد؟ قال : قولك انه اثنان دليل على انه واحد ، لأنك لا تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد ، والواحد متفق عليه والثاني مختلف فيه» (١).

وما أحلاه برهانا على من ليس له على الثاني برهان ، اضافة الى سائر البرهان عقليا وكونيا وفطريا على التوحيد ، كما و «هذا» الحق الحقيق بالاتباع (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) من المؤمنين بالله الموحدين (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) رسلا

__________________

(١). التوحيد للصدوق عن الامام الرضا (عليه السلام) انه سئل : أتقول : ...

٢٧٠

ومؤمنين ، فلم يأت رسول ثابت الرسالة يقول غير ما نقول ، اجماعا نقليا رساليا هو من اعمق الادلة العقلية على التوحيد ، فان كان في الكون إله آخر ام الهة اخرى فمن هو رسولهم ، وما هي آثارهم الربوبية بجنب هذه الربوبية الشامخة الشاملة المحلقة على الكون كله!

و «ذكر» في «من معي ـ و ـ من قبلي» يعم كتاب الذكر ، ونفسه في أنفسهم الناتج عن ادلة انفسية وآفاقية ، والذكر الاول من الثانية ، وبصيغة اخرى تعمهما «يعني بذكر من معي ما هو كائن وبذكر من قبلي ما قد كان» (١).

وقد يعني «هذا» : القرآن ، فانه يحمل ذكرا ل «من معي» وهم المسلمون اجمع «من قبلي» حيث يذكر ذكري سائر كتب السماء دون إبقاء وكلّ محتمل والجمع أكمل وأجمل.

إذا ف (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) طلب لبرهان على ما يدّعون بعد البرهان على توحيد الله ، ولأنهم ليس لهم برهان ينقضه أصبح توحيد الله مزوّدا بعدم برهان على التعدد بعد البرهان على التوحيد ونفي العدد!.

وهو الأصل في حوار الامام الرضا (عليه السلام): «قولك انه اثنان دليل على انه واحد لأنك لا تدعو الثاني إلا بعد إثباتك الواحد والواحد متفق عليه والثاني مختلف فيه»!

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) : دليلا ومدلولا ، فلا يميزون برهانا عن ادعاء ولا ادعاء عن برهان ، وهو جهل الجهالة المقصرة ، لا قاصرة غير مسئولة ، وهناك قلة مضللة يعلمون الحق وهم منكرون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وهم حملة مشاعل الضلالة والمتاهة.

__________________

(١). المجمع في الآية قال ابو عبد الله (عليه السلام) : ....

٢٧١

فالأكثرية من المشركين (لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) جهلا فاتكا ، والأقلية المسيّرة لهم (يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، واين اعراض من اعراض؟!.

وليس عدم العلم بالحق يدفع جاهله الى الاعراض عنه إلا إذا تعرّق فأصبح كأنه علم ببطلان الحق ، حيث «يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنا لك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى» (١) ثم ومن ذكر من قبلي :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ٢٥.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٣ : ٤٥) فالرسالة الإلهية الموحدة تحلّق على تاريخ الرسالات كلها دونما استثناء ، أفلا يكفي ذلك الوحي المتواتر المتواصل من عند الرحمن أنه لا إله إلا هو تصديقا لوحيه ، ام لا يكفي عدم إرسال رسول من قبل من يتخذونهم آلهة من دون الله ان ليسوا هم بآلهة إلا في خضمّ الخيال والادعاءات الجوفاء الخواء؟.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ٢٦.

وهذه القولة الجاهلة نجدها بين فريق من اهل الكتاب هودا ونصارى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ

__________________

(١) خطبة لعلي (عليه السلام) بدايته : «انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع واحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو ان الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو ان الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ... (اصول الكافي ـ وفي النهج باختلاف لفظي يسير).

٢٧٢

بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٩ : ٣٠).

كما ونجدها بين أقوام من المشركين ، بل وقد انتقلت هذه المزعمة منهم الى جماعة من الكتابيّن كما إشارات له «يضاهئون» ، والجواب هنا كلمة واحدة إضرابا عما يقولون (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) وهي تحصر مزعمة اتخاذ الولد بالعباد المكرمين ، دون سواهم مثل الجنّة وسواهم : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧ : ١٥٨) وكذلك مثل سائر أبناء الله عند المشركين في ثالوثهم المرتسم عندهم برسومات عدة.

ف (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) وهم المخلصون المخلصون من عباد الله الصالحين ، ملائكة أو نبيين أو أئمة معصومين» (١).

__________________

(١). نور الثقلين ٣ : ٤٢١ في تفسير القمي في الآية قال : هو ما قالت النصارى ان المسيح ابن الله وما قالت اليهود عزير ابن الله وقالوا في الأئمة ما قالوا فقال الله عز وجل : سبحانه ـ انفة له ـ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» يعني هؤلاء الذين زعموا انهم ولد الله ....

وفيه في الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : والزمهم الحجّة بان خاطبهم خطابا يدل على انفراده وتوحيده وبأن لهم اولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله فهم العباد المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون ، قال السائل من هؤلاء الحجج؟ قال : هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حل محله أصفياء الله الذين قالوا : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منا لنفسه.

وفيه في الخرائج والجرائح في أعلام امير المؤمنين في روايات الخاصة : اختصم رجل وامرأة اليه فعلا صوت الرجل على المرأة فقال له علي (عليه السلام) اخسأ ـ وكان خارجيا ـ فإذا رأسه رأسه الكلب فقال له رجل يا امير المؤمنين صحت بهذا الخارجي ـ

٢٧٣

«الدعاة الى الله والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون» (١).

وقد يروى عن أكرم عباد الله المكرمين بعد اوّل العابدين «ان الله اختص لنفسه بعد نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) من بريته خاصة علاهم بتعليته ، وسما بهم الى رتبته ، وجعلهم الدعاة بالحق اليه ، والأدلاء بالرشاد عليه ، لقرن قرن وزمن زمن ، انشأهم في القدم قبل كل مذروّ ومبروّ أنوارا أنطقها بتمجيده بتحميده ، وألهمها شكره وتمجيده ، وجعلها الحجج على كل معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية ، واستنطق بها الخرسات بأنواع اللغات بخوعا له بانه فاطر الأرضين والسماوات ، واشهدهم خلقه ، وولّاهم ما شاء من أمره ، جعلهم تراجمة مشيته ، وألسن إرادته ، عبيدا : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(٢).

__________________

ـ فصار رأسه رأس الكلب فما يمنعك من معاوية؟ فقال ويحك لو أشاء ان آتي بمعاوية الى هاهنا على سريره لدعوت الله حتى فعل ، ولكن لله خزان لا على ذهب ولا فضة ولا انكار على اسرار هذا تدبير الله اما تقرء (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وفيه روى الأصبغ بن نباتة قال كنا نمشي خلف علي (عليه السلام) ومعنا رجل من قريش فقال يا امير المؤمنين قد قتلت الرجال وأيتمت الأطفال وفعلت وفعلت فالتفت (عليه السلام) اليه وقال : اخسأ فإذا هو كلب اسود فجعل يلوذ به ويبصبص فرآه (عليه السلام) فرحمه فحرك شفتيه فإذا هو رجل كما كان فقال رجل من القوم يا امير المؤمنين أنت تقدر على مثل هذا ويناويك معاوية؟ فقال : نحن عباد مكرمون لا نسبقه بالقول ونحن بامره عاملون.

(١). من زيارة الجامعة الكبيرة.

(٢). نور الثقلين ٣ : ٤٢٢ في مصباح شيخ الطائفة في خطبة مروية عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال : ...

٢٧٤

اجل «سبحانه» ان يتخذ هؤلاء ولدا «بل» هم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) بما أكرمهم الله بالعبودية بعد ما أكرموا أنفسهم بها ، فلا كرامة للعبد مهما بلغ الذروة ، إلا كرامة العبودية ، فلا يزال العبد يكرم ربه بعبوديته ، كرامة لنفسه ان يعبده قدر مقدرته ، ثم المعبود يكرمه بكرامة على كرامته ان يخلصه لنفسه ، بعد ما أخلص هو نفسه لربه ، واين إخلاص من إخلاص ، إخلاص من العبد وإخلاص من المعبود.

فليس من إكرام الله لهم ان يتخذهم له ولدا سبحانه ، فان الولادة التشريفية مستحيلة كما الحقيقية ، حيث التشريف مجاز وهو لا يجوز في الأمور المستحيلة ، وانما هو جواز عن الحقيقة الكائنة او الممكنة.

فقد يصح لعالم رباني ان يتخذ تلميذا له صالحا ولده تشريفا له وذلك مسموح ، دون معنى البنوّة الحقيقية او التبني ، ولكنه لا يصح او يمكن بحق الله ، قضية الإمكانية في حقيقته هناك واستحالته هنا.

وحتى لو أمكن ذلك الاتخاذ لم يكن فيه تشريف ، إذ لا شرف للعبد اشرف من شرف العبودية ولا يساميها ايّ شرف ، وكما التشريف بالربوبية له مستحيل كذلك البنوّة.

ومن مواصفات هؤلاء العباد المكرمين التسليم السليم لرب العالمين :

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ٢٧.

ليس هنا لك اي سبق لهم على ربهم فيما امره اليه ، ارادة ام قولة ام فعلة (لا يَعْصُونَ اللهَ (١) ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦٦ : ٦).

وعلّ «القول» هنا يعم الأوليين كما تدل عليه (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ثم الثالثة تخصها (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وهذه عصمة كاملة شاملة كل كيانهم دون إبقاء.

٢٧٥

وفي تقديم «بامره» على «يعملون» حصر وتحتيم لاختصاص اعمالهم بأمر الله ، فلا يعملون عن امر أنفسهم ولا سواهم ، إلا الله.

وليس ذلك الأمر تكوينيا يسيّرهم دون اختيار منهم ، حيث «لا يسبقونه ـ و ـ يعملون» ينسبان السلب والإيجاب إليهم ، والعمل المسيرّ لا طاعة ولا معصية!

ثم امره يعم الفعل والترك ، ف «يفعلون» تعم فعل الفعل وفعل الترك ، تدليلا على ان ترك الحرام ممدوح فيما لك فيه الاختيار كفعل الواجب ، فكما الفعل الممدوح هو المختار كذلك تركه.

فهم بكل إراداتهم وأقوالهم وأفعالهم يحملون امر الله ومشيئته ، حيث هم اداة مشيئته وولاة امره دونما حاجة منه إليهم.

وتراهم ـ إذا ـ كيف سبقوه سبحانه في القول (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وقد جمعوا فيه الى سبق القول وسؤال الفعل و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)؟

علّه يستثنى من ذلك الإطلاق تفلتا عما هم عليه ، ام انما قالوا ما قالوه وسألوا ما سألوه بأمره تعالى لكي يكونوا على ضوء جوابه (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) عارفين مدى جهلهم فيزدادوا منه تعلما ولديه تسليما! :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(٢٨).

فمن (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) مستقبلهم وحاضرهم ، ومن (ما خَلْفَهُمْ) غابرهم ، ام كل مستقبل وحاضر وغابر مما يعلمون وما لا يعلمون ، فهو يحيط بهم وبمن سواهم علما (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)!.

ثم (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله من المشفّع لهم ، وقد كان

٢٧٦

فريق من المشركين يعبدونهم قائلين : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

فتزييفا لهذه المزعمة الخاطئة يحصر شفاعتهم لمن ارتضى الله دينه ، دون المشركين بالله ، المتخذين عباد الله المكرمين أبناءه سبحانه ، فغير الموحد لا تناله شفاعتهم لو شفعوا لهم ولن يشفعوا ف (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) و (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

فالموحّد مرضي عند الله كأصل وضابطة في قبول الشفاعة على شروطها المسرودة في الذكر الحكيم ، دون الملحد والمشرك والمنافق والمكذب بآيات ربه ف (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤ : ٤٨).

والشفاعة هي آخر المطاف لمرتكبي الخطيئة ، ومرتكبي الضلالة إن ظلوا على توحيد الله ، دون ان يضلوا عنه ، فليست إذا الا لمرتكبي الكبيرة التي بقيت حتى القيامة غير مكفّرة بتوبة في الاولى ، ام بعذاب في البرزخ ام في جحيم القيامة ، فمنهم من هم يخرجون من النار قبل توفية العذاب ، بالشفاعة ، وقد تلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقال : إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٧ ـ اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تلا قول الله : ولا يشفعون ... فقال : .... وفي نور الثقلين ٣ : ٤٢٣ في عيون الاخبار باسناده الى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن امير المؤمنين (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا انا له الله شفاعتي ثم قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) انما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل قال الحسين بن خالد ـ

٢٧٧

وترى الموحّد مشفّع له مهما تعمد في المعصية ولم يحنّ قلبه الى التوبة ولم تحسّنه حسنته ولا ساءته سيئته؟ وذلك نكران ليوم القيامة ، وللشرعة الإلهية!.

كلا فهكذا موحد غير مرضي دينه وعليه سخط الله ، أترى من غضب الله عليه لنكرانه يوم القيامة ، او تشكّكه فيها ، سوف يرضى الله عنه فتشمله الشفاعة؟!.

فالشافعون ـ إذا ـ لا يشفعون إلّا لمن ارتضى «الله دينه ، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيآت ، فمن ارتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة» (١) ، وان لم يقم بشروطات

__________________

ـ فقلت للرضا (عليه السلام) يا ابن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)؟ قال : لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه.

وفيه عن الخصال عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال : واصحاب الحدود فساق لا مؤمنون ولا كافرون لا يخلدون في النار ويخرجون منها يوما والشفاعة جائزة لهم وللمستضعفين إذا ارتضى الله دينهم.

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٢٣ في كتاب التوحيد بإسناد متصل عن محمد بن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) حديث طويل وفيه قلت له : يا ابن رسول الله! فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ، فقال : حدثني أبي عن آباءه عن علي (عليهم السلام) قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : انما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي فاما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ، قال ابن أبي عمير فقلت له يا ابن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ومن يرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (عليه السلام) : يا أبا محمد ، ما من مؤمن يرتكب ذنبا الا ساءه ذلك وندم عليه وقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كفى بالندم توبة وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) من سرته حسنته وساءته سيئة فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فقلت له : يا ابن ـ

٢٧٨

التوبة ، ام سوّفها حتى قضى نحبه.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ٢٩.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) على فرض المحال حيث المعني من «هم» العباد المكرمون ، ام كواقع إذا عني من «هم» كلّ من اتخذ لله ولدا او اتخذ نفسه ولده ، ام ادعى الألوهية ، كما الشيطان وكل فراعنة التاريخ.

«إني آله من دونه» رفضا لألوهية الله ، ام إشراكا لنفسه بالله «فذلك» البعيد البعيد (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) وكضابطة عامة (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بحق الربوبية.

وأما من لم يقل منهم «اني آله من دونه» مهما اتّخذ إلها من دونه وهو رافضه ، فذلك يبقى على كرامته : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...) (٥ : ١١٧) (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها

__________________

ـ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال : يا أبا محمد ما من احد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم انه سيعاقب عليها إلا ندم على ما ارتكب ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، واما قول الله عز وجل (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فإنهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه ....

٢٧٩

خالِدُونَ .. إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢١ : ١٠١).

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ

٢٨٠