الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

وملاحقون ، فضلا عن ان يحملوا أوزارا من زينتهم! اللهم ان تحمّلهم أمواج البحر بعد غرقهم ولا برهان له ، و «من حليهم» برهان عليه ، وهي على أية حال لم تكن اثر الرسول ، مهما كانت لأولاء ام هؤلاء ، وحتى لو كانت من ملكة موسى فالصيغة الصالحة لها «اثر موسى» دون اثر الرسول ، حيث الحلي والزينة هي من آثار الحياة الدنيا وليست «اثر الرسول» فانما اثره الرسالة بآثارها.

ثم القبضة المتفرعة على (بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) هي بطبيعة الحال عنهم خفيّة ، وهم عارفون انه ألقى مما ألقوا : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)! ومهما يكن من امر فالصيغة الصالحة له «فقبضت قبضة من زينة القوم» ولكنه على هذا الحال ايضا لم يقبض من زينة القوم وانما (حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)! ومن ثم فكيف يقال لموسى ـ وهو حاضر ـ قيلة الغائب والصحيح «من أثرك ـ او ـ من حليك»!

ام انه هو هارون وهو غائب عن مسرح التخاطب مهما كان حاضرا بينهما ، والأثر إما كالأول او كالثاني؟ ولكن الصيغة الصالحة عن هارون هي لفظه دون «الرسول» وإمامه موسى وهو اصل في هذه الرسالة ، ثم عليه ما على الأولين الا المحظور الأخير.

علّ الرسول هنا هو موسى لأنه المحور في هذه الرسالة ، الظاهر بنفسه وبرسالته وآثارها ، فالتعبير بالرسول كغائب دون «اثرك» علّه للتدليل على ان ما قبضه كان آثار الرسالة ، بما فيه من تعريض على هذه الرسالة كما في نظائرها : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١٥ : ٦) ولان السامري كان ناكرا للرسالة وقبلها للربوبية : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ...) فقد يعني من قوله : (بَصُرْتُ بِما

١٨١

لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أنني عرفت من بطلان هذه الرسالة ما لم يعرفه هؤلاء ، ولكي أبيّن لهم ضلالهم جئتهم من حيث يعرفون (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) وهو شطر من سنته ثم «نبذتها» إلغاء لها لأزلزل من اركان ايمانهم المزعزعة في نفسها ، ام «نبذتها» خلطا لها بباطل من عندي ثم أظهرت حقها بمظهر الباطل والباطل بمظهر الحق.

ونفس النبذ هنا ـ دون القذف ـ خلاف ما هناك ـ وأنه رفض بعد القبض ـ مما يدل على انه تضليل بعد تدليل : «قبضت فنبذت» فالقبض هو الأخذ قبولا وتصديقا ، والنبذ هو الرفض تكذيبا ، وهذه هي أضل طرق الإضلال ان يقبض من اثر الرسول كمصدق له ، ثم ينبذ ويرفض نفس المقبوض تكذيبا وكما كان يفعله الدجالون : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣ : ٧٢).

ولو كان المنبوذ هنا هو المقذوف هنا لك ام الملقى هناك لكان قذفتها ام ألقيتها (١) والنبذ صريح في الرفض دون الإلقاء والقذف ، فقد قذفوا حليّهم بإلقائه (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) ومن قبل قبض قبضة من اثر الرسول فنبذها تهوينا لايمانهم ، فلو ظلوا على ايمانهم ما ضلوا

__________________

(١) لم يأت النبذ في القرآن الا بمعنى الرفض ك (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) (٢ : ١٠١) (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) (٢٨ : ٤٠) (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (٢ : ١٠٠) (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (٣ : ١٨٧) (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (١٠٤ : ٤).

وفيما جاء النبذ في غير المرفوض فهو نائب مناب المرفوض مثل يونس (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (٣٧ : ١٤٥) و (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٦٨ : ٤٩) وكما مريم (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) (١٩ : ١٦) تباعدا عنهم لما وجدت من نفسها نبذا ورفضا لما حملت.

١٨٢

بالقائه قذفا لحليهم ، وما قالوا (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) فانما زعزعهم عن بقية الايمان بما قبض ونبذ ، ثم القى بينهم قذف حليهم ليصنع لهم ما يعبدون كما كانوا يأملون!.

وعلّ من اثره مواعدة الثلاثين ، التي انقلبت الى الأربعين ، فقد قبضها في قبضته ، ثم نبذها في نبذته ، قبضا كوعد الله ، ونبذا كخلف لوعد الله ، وعوذا بالله!.

ومن اثره (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) فقد قبضه كتصديق ثم نبذه بتلك المواعدة ، ان لو كان إلهه معه فكيف واعده الى جانبه الطور الأيمن؟!.

هذا وقد يؤيده ان خطب السامري المسؤول عنه لم يكن صنعة العجل الجسد لأنها كانت ظاهرة لا تدفع لسؤال ، بل هو الأمر الخطير الذي أهمه فدفعه لصنعه والدعوة الى عبادته ، كما ويؤيده أخيرا (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).

وطبيعة الحال قاضية في ذلك المسرح ان ليست صنعة العجل الجسد الذي له خوار بمجردها هي السبب لضلال من ضل ، إلا بتقديم ما يصفي الجو لتقبل ذلك الضلال المبين وقد فعل وافتعل فأضل كما ضل.

ثم الخوار للعجل الجسد فتنة إلهية وليست آية تمكّن صاحبها من دعوى الألوهية او الرسالة ، كيف وقد انقلبت عصى موسى حية تسعى وثعبانا مبينا ، وهذا العجل الذهبي ظل جسدا الا ان له خوارا ، وهذا الاحتمال على اية حال اسلم من كل ما قيل او يقال ، صيانة لكلام الله عن عضال لا يزول الا بمزيد اشكال ، ومشكلة الخوار قد تدفع بدافع غير ما ذكر انه كان بسبب صناعي ووضع خاص هندسي أمام الريح فهو كصوت العجل وليس صوته.

١٨٣

فلقد حدّث السامري بقولته ما حدث ، وتقلّص فيه وما تخلّص ، واعترف في ذلك الموقف الحاسم القاصم ان ذلك من تسويل النفس ، ونرى موسى كيف يطرده من الجماعة طول حياته ويحرق الهة أمام من ضل به وينسفه في اليم نسفا ، إحراقا لهذه الضلالة عن بكرتها ونسفا لها.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ٩٧

(قالَ فَاذْهَبْ) من هذا الجمع المستضعف ، فليس لك هنا مكان ولا مكانة ، تغرّب عنهم طريدا شريدا مدحورا فريدا (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) ما هو أصعب واتعب من الممات (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ليس انك لا تمس أحدا ولا يمسك احد في غربتك ، بل وتتعذب بأي مساس كان رحمة لك عيشة بين الجماهير ، تتعذب لحد ليس لك في الحياة إلا ان تقول «لا مساس»! فقد أصبح قصاصه «لا مساس» وهو شر قصاص! فالغربة المطلقة في الحياة عذاب ، وعذاب القربة فيها عذاب فوق العذاب ، حيث بدلت له الرحمة زحمة وكما بدّل نعمة الله كفرا وأحل قومه دار البوار جهنم يصلاها وبئس القرار.

ولان «مساس» مصدر من المفاعلة كما الضراب من المضاربة ، فهو مس من الجانبين أيا كان المسّ ، سمعيا او بصريا او بدنيا ، ام اية معاطاة أخذا وعطاء روحيا او ماديا ، فقد أصبح المساس الذي به الحياة الزاهرة بين الجماهير ، شرا من الممات وكأنه من دوافعه ، إبعادا له عن حظوظه ، وابتعادا لهم عن شذوذه ، فأصبح ـ بالفعل ـ لا هو ميت ولا هو حي ، مجموعا له شر الحياة وشر الممات اضافة الى العذاب الذي هو آت.

ويا بؤساه لمن إذا سألته عن حاله يقول «لا مساس» وإذا قلت له ام

١٨٤

سمعت قاله يقول «لا مساس» وإذا تدنّت اليه أهله ام ولده يقول «لا مساس» وإذا دنّيت اليه ما له ام حاجة من حاجياته يقول «لا مساس» (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) فما ذا إذا بعد الممات؟ :

(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) بعد الممات ، العقوبات التي وعدها المضلّلون المكذّبون بآيات الله.

ثم (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) وظلوا أولاء بما أضللتهم «لنحرقنه» حرقا لنفسك التي سوّلت لك ، وحرقا لقلوب من ظلوا عليه عاكفين (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) طرحا له ، فيه طرح النسافة وهي ما تثور من غبار الأرض ، حيث يبدله الحرق غبارا لا يبقي له صورة ولا سيرة ، اعداما له عن بكرته ، ازالة حاسمة لأثر الضلال.

كل ذلك بمسمع ومرأى الذين عبدوا العجل وسواهم ، وعلى مشهد الإله المزخرف المزيف المحرق المنسف يعلن الداعية حقيقة العقيدة الصالحة :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) ٩٨.

دون هذا الإله المعدم ، وهو في وجوده له شركاء أفضل منه وأعلى ، ولا علم له بنفسه حتى يدافع عنها ، بل هو الذي لا إله الا هو وسع كل شيء علما و «لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء». ومهما ختم السياق هنا الى ما هنا ، فليس ليختم في واقع الحال إذ أمر الذين عبدوا العجل ان يقتلوا أنفسهم كما في البقرة.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ

١٨٥

عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)

١٨٦

وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً

١٨٧

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)(١٢٣)

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) ٩٩.

النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة ، و «من» هنا تبعّضها ، وطبعا بالبعض الأهم منها و «نقصّ» تبعيض ثان حيث القص هو تتبع الأثر وهي القصص الأخبار المتتبّعة ، وطبعا هي أهمها حيث لا يقص بمقصّ الوحي الأخير إلّا أهمها ، فقصص القرآن هي سلالة السلالات من انباء تاريخ الرسالات ، ما تتبناها ام ما تهدّمها ، وبهذه السلبية والايجابية يبنى صرح الإسلام الخالد اعتبارا بأنباء ما قد سلف ، وزيادة هي (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) ليعتبر معتبر ويتبصر متبصر.

«كذلك» العظيم العظيم من قصص موسى (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الهدى (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من محاربي الرسالات ومحادّيها ، وليس فحسب ان القرآن يقص قصص الماضين كتاريخ من التواريخ بل (وَقَدْ آتَيْناكَ) في جمعية الصفات والرحمات (مِنْ لَدُنَّا) أهم مما مضى وأعظم منها «ذكرا» هو ام الذكر وإمام الذكر مهما شمل سائر الذكر فانه مهيمن على كل ذكر.

هذا ذكر لدني مهما كان كل ذكر يحمله كتابات الوحي من لدنه ، ولكنه درجات أعلاها ما يختص من بينها ب (قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) فجمعية الصفات من ناحية و (مِنْ لَدُنَّا) من اخرى و «ذكرا» تنكيرا لبالغ عظم التعريف من ثالثة ، تجعل ذكر القرآن رأس الزاوية في الذكريات اللدنية.

١٨٨

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً).

ولا فحسب (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بل و (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٣٢).

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) في اي عرض منه ، قراءة واستماعا وتدبّرا وتفهما وتصديقا وتخلقا وتطبيقا ونشرا ، فهذه أبواب ثمان لجنة الذكر القرآن ، ومعرض القرآن مسرح يحلّق على كل المحالق ، وذكر عن كل نسيان أيا كان وأيان.

فالإقبال الى القرآن أزر ، والاعراض عه وزر يحمله من حمّل أزره فاعرض عنه الى وزره ، ومهما كان لذلك الوزر مراحل ثلاث في معيشة ضنك ، ولكنما الهامة الخالدة منه والأوفى هي في الأخرى وكأنها المخصوصة بحملها :

(خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)(١٠١).

خلودا في وزر الإعراض عن الذكر قدره ولا يظلمون نقيرا ، وحمل المسافر زاد له في غربته وتخفيف له عن كربته ، وحمل الوزر للمعرضين عن الذكر في ذلك السفر الشاق الطويل الطويل حمل وبيل (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً).

ولان الوزر هنا هو الذنب المخلّف عن الإعراض عن الذكر ، والأعمال هي الجزاء بملكوتها الظاهرة يوم القيامة ، فالخلود في الوزر هو خلود في نفس الوزر دون جزاءه ، فانه هو جزاءه دون فصال ، و «خالدين» كما في آيات اخرى ، لا تدل بصيغتها على البقاء لغير النهاية ، فانها أعم من الأبد ودونه ، والأبد أعم من اللانهائية الحقيقية كما في ابد الجنة ، وسواها كما في سواها ، فما الآبدون في النار إلا وهم دائبون فيها ما داموا ودامت

١٨٩

النار ، ثم لا نار ولا اهل نار قضية العدل ، وان العقوبة ليست الا قدر الخطيئة ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وهنا الخلود في الوزر ليس إلا قدر الوزر ، حيث الإعراض عن الذكر دركات ، فالخلود في الوزر ايضا دركات (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) ١٠٢.

و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) هو (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وهي هنا النفخة الثانية بدليل «ونحشر» : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) و «المجرمين» هنا تعم (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) وسواه ممن أجرم مهما اختلفت دركات الإجرام ، والزّرق جمع الأزرق من الزرقة وهي اللون المعروف بين البياض والسواد.

ولان «زرقا» وصف للمجرمين دون عيونهم فحسب ، فلا تعني ـ فقط ـ زرقة عيونهم ، بل هم يومئذ زرق ككلّ خوفة من هول الموقف المطّلع ، ومن زرقة عيونهم عماها : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤) (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١٧ : ٩٧) وقد تكون «زرقا» كمقدمة محضرّة ل «عميا» ان تشخص ابصارهم لا يرتد إليهم طرفهم وافئدتهم هواء ، ثم تتحول ألوانها وتظهر بياضها ويذهب سوادها ثم تعمى.

ولا ينافي حشرهم ـ زرقا وعميا وبكما وصما ـ شخوص أبصارهم ورؤية اعمالهم وسماع ما يسمعون من تأنيب وسواه ، وما يتكلمون في التماس لتخفيف عذاب وسواه ، حيث المواقف هناك عدّة قد تقتضي العذاب عماهم كما عند حشرهم ، واخرى ابصارهم واسماعهم كما عند

١٩٠

حسابهم وعذابهم.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ١٠٣ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً)(١).

التخافت هنا هو تخافض في الصوت وتسارّه لهول المطلّع كما يحشرون له زرقا فعميا ، وكلامهم المتخافت فيه بينهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) عشر ساعات ام ليال ام سنين وقد يقرّب «الا يوما» الأولين.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) ويتقولون من باطل تقديرهم للبثهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) وبين «عشرا ـ و ـ يوما» ساعة وبعض يوم او عشية او ضحاها (٢) وكل هذه استقلالا للبثهم في ارض التكليف والبرزخ بجنب حياة الخلود يوم القيامة.

وحق القول في لبثهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢ : ١١٤) ولكنها ليست هذه القلة المحدّدة ، بل هي النسبية بجنب الآخرة : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦) فذلك اللبث المبحوث عنه يعم البرزخ دون خصوص الدنيا وهناك «عشرا» هي من قولة الاكثرية المجرمة ، وكما هي «ساعة» بين مفرط ومفرّط ، ثم عوان لسواهم : «يوما او بعض يوم ـ عشية او ضحاها» واين ساعة من عشر؟ واين هذه كلها ولبثهم في كتاب الله الى يوم الحشر؟.

__________________

(١) راجع ج ٣٠ : ١٠٣ ـ ١٠٦ من الفرقان تجد تفصيلا للبحث عن ذلك اللبث.

(٢) «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» (٣٠ : ٥٥) «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ» (٢٣ : ١١٦). كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (٧٩ : ٤٦).

١٩١

هذه أقاويل اربعة عن مدة مكثهم في الأرض من ساعة الى بعض يوم عشية او ضحاها ، الى يوم والى عشر ، تقديرات هارفة خارفة دون اية حجة وبرهنة ، تجمعها القلة لمكثهم أمام الكثرة الأخيرة.

وانها الحماقة الكبرى ان يضحوا بالآخرة الطويلة الطويلة لهذه القلة القليلة ، الزهيدة التافهة الهزيلة.

وتراهم نسوا وغفلوا مدة مكثهم؟ وليست بمغفول عنها ولا منسية! ام ذهلوا لشدة الوقعة في الواقعة فما ذكروا إلا قليلا مقدرا لهم بمختلف تقديراتهم حسب مختلف أحوالهم واهوالهم ، والإنسان قد يذهل عن اظهر الأمور عند شديد الهول؟ وهذه واجهة!.

ام قابلوا طويل الآخرة بقليل الدنيا ببرزخها فقللوها بهذه وتلك؟ وهذه اخرى! ولماذا الأحرى بينها ـ على زيفها ـ (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) علها حيث اليوم ليل ونهار وقد كانت الحياة في البرزخ والاولى بين مظلمة ومشرقة «يوم لك ويوم عليك» اضافة الى قلتها نسبة الى الاخرى.

هذا إلا ان بين ساعة وعشر ليال بون ٢٤٠ / ١ فأين الواحدة من مئات؟ الا ان ذلك ليس من البعيد لهؤلاء البعاد عن الحق ، ام ان «عشرا» هي عشر ساعات ، فظنونهم كلها لا تعدو يوما او بعض يوم! فهم يحدسون عما قضوا على الأرض وقد تضاءلت الحياة الدنيا ببرزخها في حسبانهم ، وقصرت أيامها في مشاعرهم ، وهكذا تنزوي تلك الأعمار التي عاشوها وتنطوي ، وتتضاءل متاع الحياة وهمومها وتنمحي ، فيبدو كل هذه على طولها وطولها فترة وجيزة يحسبونها ساعة او يوما او بعض يوم!.

وقد تجمع هذه القيلات حول اللبثين في البرزخ والاولى ، على اختلافات في تقديرات ، ان الزمن في البرزخ اسرع منه عن الاولى ، حيث الزمان يتبع السرعة ، والبرزخ بما فيه الأبدان البرزخية أجرد من

١٩٢

الدنيا بكثير ، فسرعة الحركة فيه اكثر منها بكثير.

وان حالة اليقظة في البرزخ لأكثر تقدير ٢٤ / ٢ حالة النوم حيث رزقهم فيها غدوا وعشيا ، او النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ، يكفيهما ساعتان من الليل والنهار.

وان الحياتين بالنسبة للآخرة قليلة ، ثم هم في ذلك التقليل بالنسبة للبث الاولى كعاذرين أنفسهم ان حياة التكليف ما كانت كافية للانتباه.

والله يصدقهم في اصل القلة هنا وهناك نسبيا بالآخرة ، ويكذبهم في تحديداتهم الخارفة الهارفة (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يوم الدنيا ، فلما ذا تغافلتم في هذه القلة عن الاستعداد لتلك الكثرة ، ولا يعذرهم في قلة مدّعاة لمجال التكليف اجابة عن تطلبهم «ربنا أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل» حيث الجواب (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٥٢).

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ١٠٥ فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ١٠٦ لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ١٠٧.

فالقارعة التي تقرع الجبال وتنسفها ، فما تراها فاعلة بالإنسان المجرم النسيان العصيان؟! (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) ما هو مصيرها في قيامتها؟.

وهنا في الاجابة عن ذلك السؤال يتجلى المشهد الرهيب العجيب ، فإذا الجبال (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) حيث يذرها ويثيرها فلا تبقى منها باقية إلا داثرة فانية ، لا كالمتعود من نسفها بشريا لإيجاد المسيرات ، وانما «نسفا» ماحقا (فَيَذَرُها قاعاً) أرضا مستوية بعد ارتفاع «صفصفا» ملساء دون كلاء ، خلوا من كل نتوء واعوجاج وارتتاء ، فتصبح أرضا مستوية جرداء

١٩٣

ملساء (لا تَرى فِيها عِوَجاً) بانخفاض كالأودية (وَلا أَمْتاً) بارتفاع كالروابي والتلال.

ونسف الجبال له عوامل عدة ، منها الرجفة المدمرة : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٧٣ : ١٤) والتسيير : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٧٨ : ٢٠) (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) (١٨ : ٤٧) وبهذه وتلك (تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (١٠١ : ٥) وعلى حد تعبير الامام علي (عليه السلام) «وتذل الشم الشوامخ والصم الرواسخ فيصير صلدها سرابا رقراقا ومعهدها قاعا سملقا».

ثم العوج قد يكون في سطح دون عمق من مرتفعات ام منخفضات ، وقد نفتها (قاعاً صَفْصَفاً) ام هو في حجم مضلّع فكذلك الأمر ، فليكن عوجا لا يرى كما في حجم مدور ، فتصبح الآية من ادلة كروية الأرض ، فانها عوج لا يرى لا في حياتها الدنيا ولا في أخراها ، وقد انمحت اعوجاجاتها التي كانت ترى حيث «يذرها (قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً).

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)١٠٨.

«يومئذ» بعد قيامة التدمير وفي قيامة الإحياء والتعمير التي هم فيها يحشرون (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) فمن هو الداعي المتّبع هناك؟.

«الداعي» هنا هو الله في الأصل ، او من يدعو بأمر الله ، ولكن قرنه في آية القمر برسول الله وهو أفضل داع وأحراه من بعد الله ، قد يحصره هنا في الله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ

١٩٤

هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٥٤ : ٨) ولكنه لا ينافي النفخ في الصور حيث يدعو بأمر الله لعود الحياة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ١٥١) (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (٧٨ : ١٨).

(يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) مسيّرين (لا عِوَجَ لَهُ) لا الداعي إليها ولا الصور ولا اتّباعهم له ، مهما كانوا معوّجين عن اتّباعه يوم الدنيا ، ومن اتباعهم له (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) في نفي واثبات ، ثم الأصوات : (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) خفيفا ، استغراقا في المذلة ، إما همسا في كلام ، ام في الأقدام ، نقلة من أجداثهم الى محشر الحساب ، ثم الثواب او العقاب (١).

فهناك اتباع اوّل للداعي نفخا في الصور ، واتباع ثان في موقف الحساب والى اتباعات أخرى (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢ : ١٦٥) (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦).

هكذا يخيّم على المحشورين الصمت الرهيب والسكون الغامر العجيب ، فالسؤال تخافت ، والكلام والإقدام همس ، والخشوع ضاف ، والوجوه عانية ، وجلال الرحمن يغمر النفوس!.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ١٠٩ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ١١٠.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٨ عن ابن عباس والضحاك وعكرمة وسعيد والشعبي (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أصوات اقدامهم ، وعن سعيد بن جبير قال : سر الحديث وصوت الاقدام.

١٩٥

(لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) مما يدل على ان هناك شفاعة ، ولكن نفعها محصور في (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) ففاقد الشرطين لا يشفّع إذا شفّع ، بل ولا يشفع إذ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣١ : ٣٨).

وترى (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ..) هو الشافع؟ ويكفيه اذن ورضى قوله! ام هو المشفّع له؟ والشافع هو المحور الأصيل في اذن الرحمن ورضى قوله!.

قد تعنيهما الآية ، فليكن الشافع مأذونا في شفاعته ، ومرضي القول فيها عند الرحمن ، وعلى هامشه المشفوع له مأذونا في ان يشفع له ، ومرضيا في قول له ، وقد جمعهما فيه (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢١ : ٣٨) اي من ارتضى الله دينه وهو من ساءته سيئته وحسنته حسنته.

فقول الشافع المرضي هو ما وقع موقعه الصالح ، وقول المشفوع له المرضي هو كلمة التوحيد فانه اصل القول ، ثم قوله الذي يعذره عن فعله المحتاج الى شفاعة.

إذا فليست الشفاعة يومئذ فوضى جزاف لا في الشافع ولا المشفوع له ولا المشفوع لأجله ، حيث الكل منوطة بإذن الله ورضاه.

ومن رضى القول وفقه للواقع الصالح وصالح الواقع دون خطإ قاصر او مقصر ، حيث «يعلم» الله (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ..) شافعين ومشفوعا لهم (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) كذلك الأمر.

ثم (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) هو حاضرهم وما يستقبلون ، (وَما خَلْفَهُمْ) هو غابرهم وما يستدبرون ، و «ما خلفهم» هو الذي يتبنى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو العالم كل ذلك ، فلو ان شافعا قال قولا لا يصدقه الواقع علما منه او جهلا ، لم يكن قوله مرضيا ، إذ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا

١٩٦

يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

«لا يحيطون» بذاته وصفاته وأفعاله وبما يعلم «علما» أيا كان ، حيث الحيطة العلمية لزامها مسامات العالم ، والمعلوم ، له ماله وفيه ما فيه حتى يساويه فيساميه فيحيط به علما ، فلا رؤية لاي راء ببصر ام بصيرة (١) اما هيه ، إلا معرفة محدودة ممكنة بحق الممكن وكما قال أفضل العارفين وخاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «ما عرفناك حق معرفتك» ف «قد يئست عن استنباط الاحاطة به طوامح العقول وتحيرت الأوهام عن ذكر أزليته» (٢) فضلا عن الحيطة به «إذ هو تبارك وتعالى جعل على ابصار القلوب الغطاء فلا فهم يناله بالكيف ، ولا قلب يثبته بالحدود فلا تصفه إلّا كما وصف نفسه : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٩٤ في اصول الكافي بسند عن صفوان بن يحيى قال : سألني ابو قرة المحدث ان ادخله الى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فاذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله الى التوحيد فقال ابو قرة : انا روينا ان الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية؟ فقال ابو الحسن (عليه السلام) فمن المبلغ عن الله الى الثقلين من الجن والانس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أليس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : بلى ـ قال : كيف يجيء رجل الى الخلق جميعا فيخبرهم انه جاء من عند الله وانه يدعوهم الى الله بأمر الله فيقول : لا تدركه الأبصار ... ثم يقول : انا رأيته بعينين وأحطت به علما وهو على صورة البشر اما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا ان يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ـ الى قوله : وقد قال الله (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة ، فال ابو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال ابو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها وما اجمع المسلمون عليه انه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء».

(٢). المصدر في كتاب التوحيد خطبة عن علي (عليه السلام) وفيها : قد يئست ...

١٩٧

ـ الاول والآخر والظاهر والباطن ـ الخالق البارئ المصور ـ خلق الأشياء فليس من الأشياء شيء مثله تبارك وتعالى» (١).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ١١١ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) ١١٢.

عنت له تعنو خضعت مستأسرة بعناء ، ومنه يقال للأسير العاني كما عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان» وعناه يعنيه قصده.

والوجوه كل الوجوه بكل الوجوه عنت للحي القيوم الذي أحياها بعد موتها ، سواء الوجوه التي عنته وعنت له يوم الدنيا ، او التي لم تعنه ولا عنت له ، وانما عنت وتعنّت ، فهنالك الكل (عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) شاءت ام أبت (وَقَدْ خابَ) يومئذ (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) بنفسه والآخرين وبالحق.

واما الوجوه العانية له تعالى وإياه ايمانا وعملا صالحا (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) وان لم تستوعبها كلها ، وانما الصالحات الرئيسية عقائدية وعملية (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله (فَلا يَخافُ ظُلْماً) منه إذ لم يظلم ، ولا من ربه إذ لا يظلم ـ «ولا ظلم اليوم» ـ (وَلا هَضْماً) لحق من حقوقه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

و «الوجوه» هنا ليست هي الظاهرة فحسب حيث المحشورون هم بكل كيانهم يعنون الحي القيوم ، يواجهونه بظواهرهم وبواطنهم كما يواجههم الله تعالى بعلمه وقدرته فثوابه او عذابه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ.

__________________

(١) المصدر في التوحيد حديث طويل عن علي (عليه السلام) يقول فيه وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات واما قوله ... ولا يحيطون به علما ـ لا يحيط الخلائق بالله عز وجل علما إذ هو تبارك وتعالى ...

١٩٨

إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٥).

وليس (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) كل من ظلم ، فمنهم من يتوب عما ظلم ، ومنهم من يكفّر عنه صغير ظلمه إذ هو من سيئاته إذا كان تاركا للكبائر ، ومنهم من يشفّع له حيث اذن له الرحمن ورضى له قولا ، فليس أولئك ممن حمل ظلما مهما ظلم ، وانما الخائب هو الحامل ظلمه معه يوم القيامة ، يخيّب قدر ظلمه ولا يظلمون نقيرا ، ومن أصدق المصاديق هنا ل (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) المجرمون المرودة لهم آيات التحذير التنديد.

وهنا «فلا يخاف» جزاء للشرط بديلا عن «لا يخف» جزما ، علّه لتقدير «هو» «فهو لا يخاف» دون سواه ، وما أحسنه تقديرا لا معا لامحا لذلك الحصر!. ك (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ـ (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

ثم (وَلا هَضْماً) بعد «ظلما» هضم وانتقاص عن الثواب ، كما الظلم هنا انتقاض للثواب ، فالمؤمن الصالح لا يخاف ظلمه ولا هضمه ، فقد لا يظلم ولكنه يهضم ، ومهما كان الهضم من الظلم ولكنهما كالظرف والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ (١) ذِكْراً) ١١٣.

«وكذلك» اللائح الواضح وضح النهار لأبعد اغواره في البيان والتبيان «أنزلناه» القرآن ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا) في لفظه ومعناه ، في مرماه ومغزاه بمبتدئه ومنتهاه ، فلا تجد فيه تعقيدا ، ولا لفظا او معنى بعيدا (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) لمثلث النشآت ، ما يحلّ حالا وما هو آت ، دون إبقاء لاي لاي ألوان الوعيد ، من قريب وبعيد ، فالتصريف تحويل من حال الى حال

١٩٩

حتى تتحول الأحوال بهذه الأهوال (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المحاظير ، ولا يعتذرون ، بمعاذير يتقون عقائديا وعمليا ، ام ولا قل تقدير يتقون التكذيب بآيات الله والصد عن سبيل الله.

(أَوْ يُحْدِثُ) الوعيد (لَهُمْ ذِكْراً) إذا لا يتقون ، ذكرا هو حجة عليهم حتى لا يقولوا (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤) ومن إحداث الذكر واقع الوعيد المزمجر المدمّر هنا ولمّا يتّقوا أو يتذكروا ، وهنا يذّكّرون و (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) (٤٤ : ١٣) (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٦ : ٢٠٩) (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٩١).

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ١١٤.

(فَتَعالَى اللهُ) عما يصفونه وبه يشركون لأنه «الملك» لا سواه «الحق» الثابت الحقيق بألوهيته الوحيدة لا سواه.

«تعالى» في ذاته وصفاته وأفعاله إذ «ليس كمثله شيء ـ ولا يحيطون به علما»! فكلّ من سواه متدان بجنبه عان ، والله تعالى هو المتعالي الملك الحق.

انه ملك ومالك لكل شيء بالحق من تكوين وتشريع ومنه قضاء وحي القرآن ، فلا تملك منه شيئا إذ لا يملّك وحيه لغيره مهما كان رسول القرآن.

٢٠٠