الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

و (ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) هو كل ما يذكرهم ربهم من رجالات السماء وكتاباتها ، و «محدث» تحلق على الكل دون إبقاء ، فكلام الله وهو من فعل الله ، محدث أيا كان وأيان ، سواء أكان ذكر القرآن ورسول القرآن ام اي ذكر في اي زمان ومكان ، وما خرافة قدم كلام الله لفظيا ام نفسيا الا هرطقة هراء وسقاطة بالعراء والله منها براء ، اللهم إلا علم الله فانه عين ذاته كقدرته وحياته ، ولكنه ليس ذكرا لسواه ، وانما يحدث ذكرا لسواه لعلهم يذكرون.

ف «التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكل كتاب انزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا وهدى وهي كلها محدثة وهي غير الله حيث يقول (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وقال (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) والله أحدث الكتب كلها ...» (١).

ثم (مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ) كما تعني ذكريات آي الذكر الحكيم ، النازلة المحدثة تلو بعض ولصق بعض نجوما متقاطرة متتالية ، والناس هنا هم ناس الدور القرآني ، كذلك تعني ذكريات كافة كتابات السماء ، والناس هم ـ إذا ـ ناس الأدوار الرسالية كلها دون إبقاء.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١٢ في كتاب الاحتجاج للطبرسي وروى عن صفوان بن يحيى قال قال ابو الحسن الرضا (عليه السلام) لأبي قرة صاحب شبرمة : التوراة ... فقال ابو قرة : فهل يفنى؟ فقال ابو الحسن (عليه السلام) اجمع المسلمون على ان ما سوى الله فعل الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله الم تسمع الناس يقولون : رب القرآن ، وان القرآن يقول يوم القيامة : يا رب هذا فلان وهو اعرف به منه قد اظمأت نهاره أسهرت ليله فشفعني فيه ، وكذلك التوراة والإنجيل والزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء هدى لقوم يعقلون ، فمن زعم انهن لم يزلن فقد اظهر ان الله ليس باوّل قديم ولا واحد وان الكلام لم يزل معه وليس له بدو وليس بإله.

٢٤١

و «ذكر من بهم» هو الذكر الذي يربّيهم ، كما (ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) هو الذي يذكرهم الرحمن ، وليس المحدث وصفا لذكر خاص ، حتى يفهم منه ان هناك ذكر غير محدث هو القرآن ، وقد استمعوه وهم يلعبون اكثر من كل ذكر سبق ، و (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) تختص كل ذكر بالمحدث دونما استثناء.

(إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) نبيا وكتابا (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يتخذونه لعبة كما يلعبون بسائر اللعب فهم عنه معرضون ، فما استماعهم لذكر ربهم إلا اعراضا ولعبا دون تفهّم ، وانما هو خوض وتقحّم : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٣ : ٨٣) إذ ف (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٦ : ٩١).

وإنها صورة بئيسة تعيسة لنفوس فارغة عن الهدى ، مليئة بالهوى ، لا تعرف جدا في حق الحياة فتلهو في اخطر المواقف استهتارا بالقدسيات ، فتغدوا حياتهم عاطلة باطلة ، هينة رخيصة قالحة! :

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ٣.

استمعوه (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) وهم يلعبون (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) فليس استماع الوحي ينفع والقلب لاه ، حيث البصر والسمع هما من وسائل بصيرة القلب وسماعه.

«و» هؤلاء المناكيد (أَسَرُّوا النَّجْوَى) ف (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل وصفي عنهم ، والنجوى هي الإسرار في القول بحيث لا يتفهمه غير المتناجين فكيف اسروها؟ إنها في إسرارها سر في سر ، سر في مادة النجوى ، وسر في أصلها كيلا يعلمها المتناجى عليهم ، ولكن الله فضحهم فيها بما أذاعها في هذه الاذاعة القرآنية.

٢٤٢

وانما اسروها تخوفا من نقصها او نقضها فيفشلوا ، فقد كانت شورى بينهم في ترداد القيلات ، لتصبح طبخة ناضجة ناتجة عنها فيبرزوها وقد برزت قبل إبرازها :

«هل هذا» الذي نراه ونعيشه ردحا من العمر «إلا بشر» دون ميزة عن سائر البشر بل هو «مثلكم» في البشرية فلما ذا يتفضل عليكم ، أتفضلونه على أنفسكم دون مرجح (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) سحره؟ دعاية خاوية وحجة داحضة ، فلو كانوا يبصرون لكانوا مؤمنين ، حيث الآيات الالهية مبصرة بصرا وبصيرة : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧ : ١٤).

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ٤.

«قال» الرسول جوابا عن نجواهم سرا «ربي» الذي رباني هكذا فلا أساوى او أسامى بمن سواي على أية حال (يَعْلَمُ الْقَوْلَ) أيا كان وكيفما كان (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧) «وهو» لا سواه «السميع» كل قول «العليم» كل حال. فالأقوال كلها والأحوال كلها حاضرة لديه ، وهو يعلم ألّا قول كقوله في القرآن دليلا حاضرا ـ في كل عصر ومصر ما طلعت الشمس وغربت ـ على انه قول الله لا سواه ، فهل بالإمكان لبشر ساحر ، ام وملك ماهر باهر ان يأتي بفعل الله دون اذن ورسالة من الله ، إذا فهو إله من دون الله فكيف ينسب فعله الى الله؟!.

إذا ف (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ ..) في هذا الوجه كقوله في الفرقان : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢٥ : ٦) توجيها لهم الى الأسرار التي يحملها الذكر الحكيم ولا يعلمها الا الله ، إذا فهو دون ريب

٢٤٣

كتاب الله!

وقد كفت هذه الملحمة الغيبية الكاشفة عن اسرار نجواهم ، حجة عليهم ، دون حاجة الى اجابة عن شبهتهم هذه ، فهل ان علم الغيب هكذا سحر؟ فأين الآية المعجزة!.

فلقد احتاروا بشأن هذا القرآن متلكئين متلبكين لا يدرون من اي الى اين ، دون ثبات على رأي ولا على صفة له خاصة ، فهم يتمحلون في محاولة دائبة ان يعلوا اثره المزلزل لنفوسهم ، المزمجر لكيانهم ، في تنقلات وتطفلات :

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)٥.

لا فحسب انه ساحر «بل» وادنى منه إذ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليط من رؤيّ غير منتظمة ، فلا واقع له إلا أحلام وتخيلات ، ولا نظم له الا أضغاث مختلطات من هنا وهناك دون اي رباط بينها ، فهو ـ اذن ـ باطل في بعدية ، بعيد عن الحق ببعديه.

لا فحسب (بَلِ افْتَراهُ) على الله عامدا دون التباس عليه كأضغاث أحلام ، مترويا في فريته ، محاولا لتحويله محول كلام الله.

ولا فحسب (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) حيث استفاد من موسيقا التعبير منفذا الى قلوب البسطاء الهائمين الى الشعر ، فالى هنا هو لا يليق بمنصب الرسالة لقاعدة المماثلة في البشرية أولا ، ثم الاعمدة الاربعة : السحر ـ أضغاث أحلام ـ افتراء ـ شعر ، وإذا لم يكن كما نقول بل هو رسول كسائر الرسل :

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) فالآية الإلهية من لزامات الرسالة وقد زوّد بها الرسل الأولون ، وليست عنده إلا الكلام ، فان كان آية وليس ، فهو

٢٤٤

ـ إذا ـ بدع من الرسل ، وان لم يكن آية كما ليس فليس إذا من الرسل.

فهؤلاء لم يتطلبوا منه اية ، وانما «آية (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) حيث تعودوا عبر الرسالات الاولى آيات بصرية (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ..) (٦ : ١٢٤) (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ...) (٢٩ : ٥١) آية عقلية علمية عبر القرون ، بديلة عن آيات بصرية عابرة غابرة دفينة مع أصحابها؟!.

ومن الإجابات الناقضة لهذه المتطلبات الزور والغرور ، تدليلا على مدى حمقهم في عمقهم :

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ٦.

فحتى لو اتبع الحق أهوائهم وأرسلت بآية كما أرسل الأولون ما كانوا ليؤمنوا بك ، إذ (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بتكذيبها آيات الله وصدها عن سبيل الله وبمرآهم آيات الله تترى (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) وهم عارفون تلك الآيات العابرة الغابرة.

فلقد تحولت تلكم الآيات في تلك الرسالات الى آية أقوى وأبقى قضية خلودها ، ولأنها تأخذ بأزمة العقول والقلوب في كل الحقول فهي ـ إذا ـ أحرى بالتصديق والايمان وهم لا يؤمنون ، فهل إذا أوتوا بآية كما أرسل الأولون (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)؟.

ولان سنة الله جارية على إهلاك من يكذّبون بعد ما طبّقت اقتراحاتهم ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...) إذا فهو السبب الأخير في عدم استجابتهم.

واما قاعدة الشبهة المكرورة على السنة الناكرين (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ)؟

٢٤٥

فهي منسوفة بكرور هذه الرسالات كلها في بشر وبشر :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٧.

لقد سبقت نظيرتها في النحل وفصلنا فيها ما استطعنا فلا نعيد ، وهذه تحسم حسما ساحقا ركيزة المشكلة الشائكة لهم ، بأنه ليس بدعا من الرسل لا في كونه : بشرا (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ولا في كيانه الرسالي آية رسالية ، إلا انها أقوى وأبقى ، فكما ان الرسالات واحدة في جذورها ، كذلك آيات الرسالات التي تثبتها ، ولكنها درجات كما هم درجات و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) بهذه السنة الرسالية ، وهم الذين عاشوا الرسل وآيات الرسالات ، فاسألوهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) انهم كلهم بشر أمثالكم (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٤ : ١١).

ف (رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) حجتان تستأصلان جذور الشبهة ، ثانيتهما ان الوحي ليس لزام البشرية من حيث هيه ، بل هو فضل من الله ورحمة خاصة لخصوص عباده ليهدوهم السبيل.

وهذه كرامة الهية ان يرسل الله الى البشر بشرا ، فكيف تتخذ البشرية ذريعة لتكذيبها ، بدل أن يتذرع بها الى تهذيبها؟.

اجل (رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهم كسائر البشر في كل حاجيات البشرية ، إلا أنه «يوحى إليهم» فهم بعيدون بسناد الوحي عن أخطاء البشرية :

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) ٨.

ذلك! رغم قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)

٢٤٦

(٢٥ : ٧) وليس هذا الرسول بدعا في بشريته ولزاماتها المادية ، (وَما جَعَلْناهُمْ) هؤلاء الرجال الرسل «جسدا» لا روح له ف (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ثم (وَما كانُوا خالِدِينَ) لا يموتون ، او لا تموت رسالاتهم وتنسخ شرائعهم (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) (٣٥) فهم بشر كسائر البشر يأكلون مما يأكلون ويموتون كما هم يموتون ، وانما يمتازون عنهم ويفضّلون عليهم بما يوحى إليهم.

فلقد كانت الرسل الى البشر بشرا قضية الحكمة البالغة الإلهية لتكون حياتهم الواقعية الملموسة نبراسا لسائر البشر ، تحقيقا لشرعتهم في أنفسهم لتتحقق في انفس الآخرين ، فالكلمة الحية الواقعية هي المؤثرة في قلوب الناس ، حيث تترجمها حياة صاحبها ، وشيجة دائبة بينهم وبين المرسل إليهم.

فأي داعية لا يحس مشاعر المدعوين ولا يحسون مشاعره ، انه يبقى دون تجاوب في دعوته ، مهما تسمّعوا الى أقواله ، حيث الأفعال ادعى لهم واولى بالاتباع من الأقوال وكما يقال «مروا الناس بالمعروف وانهوهم عن المنكر بغير ألسنتكم».

فالقولة التي لا تصدقها فعلة ، قاصرة ام مقصرة ، إنها تبقى على أبواب الآذان ومشارف القلوب دون مزاج معها الا شذرا وسطرا في قلة قليلة ، وهذه تناحر الدعوة العالمية.

وهكذا يجب ان يكون كل قائد ، ان يتكون من نفس الوسط الذي يقوده ، عائشا معايشهم ، ذائقا مذائقهم ، وضائقا بمضايقهم ، وليقودهم عارفا متطلباتهم وحالاتهم.

لذلك كله ، وتكريما لقبيل الإنسان يبعث الله رسلهم من أنفسهم

٢٤٧

فيجري عليهم كل ما يجري على أنفسهم من ولادة وحياة وموت ، ومن عواطف ونزعات وانفعالات ، ومن آلام وآمال ومن كل ما هو آت من الطبيعة البشرية ، اللهم إلا أخطاء هي لزام عدم العصمة حيث يعصمها علمية وأخلاقية وعملية ودعائية لتتم حجة الله على الناس ، ولا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

هكذا أرسلنا رسلا تترى ، حاملين الحجج البالغة الالهية ، واعديهم إنجاحا في الدنيا والآخرة :

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ٩.

صدق الوعد هو وفقه للواقع حاليا واستقباليا ، فمن الحال : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ...) (٣ : ١٥٢) ومن الاستقبال : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ...) (٣٩ : ٧٤).

وقد يجمعها ككل (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١).

وقد تعني هنا «ثم» المراخية لصدق الوعد ـ فيما عنت ـ الصدق اللائح في عواقب الرسالات هنا ، ومن ثم في البرزخ والأخرى.

وهنا (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) بيان لصدق الوعد في خاتمة الاولى ، ثم الاخرى هي أحق بالصدق وأحرى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠ : ١٠٣).

وهنا العوان بين المؤمنين الناجين والمسرفين الهالكين ، هم غير مذكورين ، وقد تعنيهم «من نشاء» مع المؤمنين ، متعة الحياة الدنيا ، ثم لا نجاة لهم كالمؤمنين في الاخرى.

٢٤٨

ام ان «من نشاء» هم المؤمنون ، و «المسرفين» يعم غير المؤمنين ككل ، المختلفين في دركات الهلالك كاختلاف إسرافهم ، ومن أسفلها العذاب المستأصل لهم يوم الدنيا ، ومن سواهم من المسرفين هالكون في دركات اخرى هنا ، غبّ ما تصلهم دركات الاخرى بالاوفى.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ١٠.

«إليكم» في وجه خاص تعني العرب فإنهم المحطة الاولى لنزول القرآن ، ف «ذكركم» كما تعني هنا تذكّرهم عن غفلتهم ، كذلك تعني ذكرهم بين الأمم حيث نزل القرآن منذ البدء فيهم وبلغتهم ، فالقرآن أينما حلّق يذكرهم لمن به تعلّق وتحلّق ، فلم يكن قبله لهم ذكر وشرف به يذكرون ، إلّا عارات وغارات وسرقات وقتلات ودعارات وافتخارات بنكبات!.

فما تملك العرب طول تاريخهم من زاد يقدمونه للبشرية والعالمين أجمعين سوى ذلك الزاد العظيم المكين ، فلو تقدموا بعروبتهم فحسب ، لا تتقدم عند احد بل وتتهدم ، فما قيمة العروبة دون القرآن ، فلا كلمة لها ولا مدلول في تاريخ الإنسان إلا بما يحملون القرآن ، الذي يتبناه حضارة الإنسان كإنسان!.

فالعروبة فيما سوى القرآن لا تحسب بشيء في تاريخ الحضارات بل هي في دار البوار ، وغير العروبة قد تحسب بشيء فيما سوى القرآن في حضارات زمنية ، مهما كانت خلوا من الروحية ، ثم ومن يحمل القرآن عربيا كان ام أعجميا يملك الحضارتين ، دون تقدم لقبيل على آخر إلا قدر ما يتقدم في حمل القرآن ، وقد سبق العرب طول التاريخ الاسلامي سباقون كثير من غير العرب ومنذ بزوغ الوحي حتى الآن ، ولا شرف هنا وهناك الا على ضوء شرف القرآن تفهما وتعلما وتخلقا وتطبيقا ونشرا.

٢٤٩

ومن ثم «إليكم» في وجه عام وكما هو طبيعة الحال في الدعوة القرآنية العالمية ، فيه «تعني ذكركم» التذكر بالقرآن على طول خط الزمان والمكان (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤٣ : ٤٤) وقوم الرسول كرسول هم العالمون أجمعون : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩).

ثم القرآن هو ذكر الشرف والمنزلة لمن به تذكر ، وببصائره تبصّر واعتبر وتشرّف.

فلو نزلت عليهم آية كما أرسل الأولون بديل هذا القرآن ، لم يكن فيها ذكر شرفا وذكرى ، بل كان لهم في تكذيبها الهلاك كما أهلك الأولون :

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) ١١.

القصم هو كسر الشيء الصلب ، والمترفون الجبارون في هذه القرى كانوا أصلب شيء عيدانا وأمنعه أركانا!.

وهكذا يتهدد المسرفين الظالمين قصما وهي أشد حركات القطع ، و «من قرية» هي بعض القرى الظالم أهلها المترفون : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٧ : ١٦).

ثم «قرية» هي الديار والدّيار ، وهم الأصل في الدمار والقصم يشملهما ، كما الإنشاء هي انشاءهما ابتداء بالديّار ثم الدّيار ، وبالتالي نشهد مشهد حراكهم في القرى المقصومة ببأس الله وهم كالفئران في المصائد :

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) ١٢.

«يركضون» وأنى لهم ركضة بغير ركزة؟ «يركضون» (سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى

٢٥٠

نُصُبٍ يُوفِضُونَ) وقد تبين لهم باس الله بما أحسّوه ، ولكن ركضة الياس اركض واركز من ركضتهم فاني يركضون؟.

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ١٣.

وهذه مهزئة لهم ومهزلة في تهكم مرير ، سلبا لركضهم حيث لا ينفعهم ، وإيجابا لرجعهم الى ما أترفوا فيه حيث يسألون تساءل التبكيت من قبل الله ، ام سؤال الحاجة من قبل المستضعفين حيث كانوا يتهاجمون عليكم بالسؤال فتستكبرون عليهم وتختالون ، ام ليتساءلوكم عما جنيتم عليهم ، ومثلث السؤال تأنيب لهم وتعذيب ، وتعجيز لهم بموقفهم الكئيب.

ولكن اين المجال لجواب وسؤال حين لا مهرب من بأس الله ولات حين مناص؟ فيلجئون ـ إذا ـ إلى الاعتراف بما ظلموا :

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ١٤ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) ١٥.

«قالوا» ولكن الأوان فائت ، والبأس ماقت ، والأمان منه ساقط ، حيث الرب عليهم ساخط (فَما زالَتْ تِلْكَ) المظلمة التي بها يعترفون «دعواهم» في تلك الزمجرة المدمرة ما لهم حراك ونفس (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) حصادا فيه كل كساد «خامدين» عن نيرانهم التي أجّجوها مضطرمة على المستضعفين.

ويا له من حصيد انساني ليس له رصيد إلا محق وخمود لهم دون إبقاء إلّا خامد الحصيد ومن وراءهم عذاب شديد! «وايم الله ان هذه عظة

٢٥١

لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم» (١).

وما الطفه تشبيها ان شبّه همود أجسامهم بعد حراكها بخمود النار بعد اشتعالها ، او النبات الحصيد المحرق بالنار ، الخامد بعد الاشتعال ، وهو ابلغ في وصفهم بالهلاك والبوار وانمحاء المعالم والآثار لاجتماع وصفي الحصد والإحراق ، و «خامدين» وصف لهم دون الحصيد ، فهم ـ إذا ـ حصيد وهم خامدون!.

فكما تختلى الزروع بالمنجل ، ثم تحرق بعد اليبوسة ، (جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ).

وصحيح ان «كم قصمنا» ـ (فَلَمَّا أَحَسُّوا) تعطفان الى ما مضى ، إلا ان لهما مصاديق مستقبلة من أصدقها زمن الدولة الاسلامية العالمية بقيادة الإمام القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١٤ في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه : ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من اهل القرى قبلكم حيث قال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) وانما عنى بالقرية أهلها حيث يقول : وانشأنا من بعدها قوما آخرين فقال عز وجل : فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون يعني يهربون ـ قال : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ـ فلما أتاهم العذاب (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) وايم الله ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤١٤ الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن فضال عن ثعلبة بن ميمون عن بدر بن الخليل الأسدي قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله عز وجل : فلما أحسوا بأسنا ـ الى ـ «تسألون» قال : إذا قام القائم وبعث الى بني امية بالشام هربوا الى الروم فتقول لهم الروم لا ندخلكم حتى تتنصروا فيعلقون في أعناقهم الصلبان فيدخلونهم فإذا نزل بحضرتهم اصحاب القائم طلبوا الامان والصلح فيقول اصحاب القائم : لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا فيدفعونهم إليهم فذلك ـ

٢٥٢

وذلك من قبيل الجري والتطبيق على المشابه وبأحرى الأشبه.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ١٦.

ان اللعب هو من الباطل للحكيم العليم ، اللهم للجاهل الغافل كالطفولة وسائر المجاهيل ، فانه ما لا حكمة ولا غاية صالحة فيه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٨).

فلو انه لم يبعث رسلا مبشرين ومنذرين لكان الخلق لعبا وباطلا ، ولو انه لم يستأصل الظالمين المستأصلين صالح الحياة الدنيوية لكان الشرع باطلا ، حيث هم يظلمون الجو بما يظلمون ، فلا يفسحون مجالا للذين يهتدون او يهدون ، نقضا مستأصلا لدعوة الداعية ، وإبطالا لفاعلية حجج الله البالغة.

فتطبيق توحيد الله بشرعة الله في واقع الرسالة الفعالة ، والجزاء العدل يوم الاخرى ـ وشذر منها هنا ـ يبقيّ مجال الدعوة في الأولى ، كل ذلك من مخلّفات (ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

فالجدّ الجادّ أصيل في خلق الكون وفي تدبير الكون وفي سنّ القوانين كونية وشرعية ، وفي الحساب الدقيق الذي يؤخذون به هنا أحيانا وبعد الموت تماما ، دون اية مسامحة ولا لعب باطل.

__________________

ـ قوله : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) قال : يسألهم الكنوز وهو اعلم بها ، قال فيقولون : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) بالسيف وهو سعيد بن عبد الملك الاموي صاحب نهر سعيد بالرحبة.

٢٥٣

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ١٧.

فالقصد من اللعب ـ وهو امر منتظم لفائدة خيالية لا واقع لها ـ القصد منه هو اللهو وهو الالتهاء عما يحق وله واقع صالح ، وهو الاستيناس عما يزعج ، وذلك حرام في الشرعة الإلهية ككل (١).

ف «لو» على فرض المحال (أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) لعبا وباطلا ، لم نحتج ان نتخذه في الخلق ، حيث الخلق محتاجون إلينا ، ولسنا بحاجة الى الخلق في لهو وسواه ، ف (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) في نفس الذات ، لا من لدن خلقنا ، اكتفاء بالأقل باطلا (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) لهوا وباطلا.

فالقائد اللاهي ان امكنه اتخاذه من لدنه ، لا يتخذه من شعبه مخافة العار والدمار ، بل يتخذه من لدنه ، فضلا عن الله الحكيم الغني العليم ، غير المحتاج ان يلعب او يتخذ لهوا من لدنه فضلا عن خلقه ، (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) فإنهم بنكرانهم يوم الجزاء يبطلون الشرعة الإلهية ابطالا لخلق الكون اجمع ، وان الله اتخذ لهوا من خلقه.

فلسنا نعمل باطلا من لعب ولهوايا كان وأيان :

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ١٨.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٣٤ : ٤٨) قذفا مطلقا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١٥ في الكافي بسند عن عبد الأعلى قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغنا وقلت : انهم يزعمون ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رخص في ان يقال : جئناكم جئناكم جيئونا جيئونا فقال : كذبوا ان الله عز وجل يقول : وما خلقنا السماء والأرض ...

٢٥٤

ومنه (عَلَى الْباطِلِ) فالمحور للقذف الرباني قذف بالحق تكوينا وتشريعا وجزاء بالعدل وفاقا ، فإذا عارضه باطل قذف به على الباطل ، دمغا له (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ودمجا لمنظومة الحق «ولكم» الناكرين ليوم الدين «الويل» كل الويل «مما تصفون» الله خلاف وصفه ، ام شرعة الله خلاف وصفها.

ولان حقيقة القذف هي للأشياء الثقيلة التي يرجم بها على الخفيفة ، والحق ثقيل في ميزان الله والواقع ، فقذفه على الباطل يرضّ ما صكّه ويدمغ ما مسّه ، إصابة دماغ الباطل فإهلاكا عن بكرته ، حيث الدماغ هو أهلك مقتل.

فالحق ـ إذا ـ قذيفة في يد القدرة الإلهية ـ على طول الخط ـ يقذف بها على الباطل فيشق دماغه ، وهكذا مجيء الحق وزهوق الباطل ، هنا حجة بالغة في صراع ، وفي الأخرى تماما دون إبقاء ف «ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل» (١) و «ما من أحد الا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله ام تركه» (٢) ، فان لله الحجة البالغة.

ذلك! طالما يبدو الباطل أحيانا منتفشا فاشيا فاحشا كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزويا خاويا كأنه مغلوب ، ولكنها ما هي إلا أياما قلائل إملاء لأهله. واملالا ، ليزداد وإثما ولهم العذاب اليم.

فإذا وصل الباطل حينا الى قمة الزهو والإضلال فهنالك دمغ بالحق

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١٦ في محاسن البرقي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) : .... وذلك قول الله : بل نقذف ...

(٢) المصدر عنه (عليه السلام) يا أيوب ما من احد .... وذلك ان الله يقول في كتابه : «بل نقذف ...».

٢٥٥

دون إمهال ف (كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ..) والى ان تؤسس الدولة الاسلامية الكبرى بقيام القائم بالعدل المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخسر هنا لك المبطلون : «إنا للنصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد» (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢١ : ١٠٥).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ١٩.

وإذا كان له من فيهما فباحرى له ما فيهما ، و «له» تعني انحصار الملك والملك الحقين الدائبين فيه ، وانحسارهما عمن سواه.

(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم المقربون إليه معرفيا وعباديا دون قرب زماني ولا مكاني (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يستحصرون فيها (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) عيّا وكلالا.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) وهذه العندية لا تختص بالملائكة ، فأحرى منهم فيها الرسل الكرام ولا سيما اولوا العزم منهم ، وامامهم العظيم اقرب المقربين عند الله وأسبق السابقين واوّل العابدين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم المحمديون من عترته الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.

وتلك السلطة المطلقة المستغرقة لكل كائن ، تحيل اي تفلت عن ارادته ، واي تلفت عن مشيئتة في أية نشأة من النشآت ، (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٥٣ : ٢٥).

ولماذا المقربون هنا يختصون بالذكر؟ لأنهم نبراس العبودية والخنوع لمن سواهم ، حيث ينيرون الدرب عليهم ، فهم الأدلاء الى الله ، المكرمون عند الله.

٢٥٦

ثم وطبيعة الحال فيمن عند سائر الملوك ان يسمح له في بعض التخلفات خوفة منهم او إكراما لهم حيث التقرب فيهم تقارب وتجارة بين الملوك وإياهم.

ولكن «من عنده» يزدادون له طوعا كلما تقربوا ، وتزداد مسئولياتهم عنده ، دون تسامح عنهم في صغيرة او كبيرة ، حيث الحاجة هنا هي من ناحية واحدة ، وليست مزدوجة تجارية.

فكل عبد من العبيد يستحسر لوقت ما عن الخدمة ، منقطعا بالإعياء ، وعباد الله الذين هم عنده انما يستحسرون عن ترك العبادة ، ولا يستحسرون على أية حال عن عبوديته تعالى ، حيث الشغف البالغ والهيمان الحالق حصراهم طول الحياة في العبودية دون تكلف فيها ولا تخلف عنها :

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ٢٠.

فهم مستيقظون لتسبيحه وان كانوا نوّما فضلا عن يقظتهم ، ف «لا يفترون» فتورا وإن لفترة قصيرة ما داموا هم احياء ، ثم في البرزخ والاخرى تقوى تسبيحاتهم وتزداد حيث الموانع زائلة والدوافع كاملة فهم «مسبحون لا يسأمون ولا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة السيد الشريف الرضي عن الإمام علي (عليه السلام) وفي نور الثقلين ٣ : ٤١٧ عن كتاب إكمال الدين وتمام النعمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه سئل عن الملائكة أينامون؟ فقال : ما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده والملائكة ينامون فقلت : يقول الله عز وجل : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)؟ قال : أنفاسهم تسبيح.

٢٥٧

وترى كيف «لا يفترون» عن تسبيحهم ولهم اقوال واعمال دون ذلك ، فإنهم رسل (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) برسالات تكوينية وتشريعية عدة؟.

علّه لان لهم مقام جمع الجمع كما لسائر الرسل بما جمع الله لهم الشتات ، وان رسالاتهم كلها تسبيحات لله قالا وحالا وافعالا ، فليس «يسبحون» تختص بالقول فقط ، بل هو ادنى درجاته ، حاكيا عن حالهم وفعالهم ، فالمسبّح بهما دون قال مسبح لله ، والمسبح بالقال دونهما غير مسبح لله ، والجمع بين الثلاث أجمل وأكمل ، أن يحلّق تسبيح الله كل كيان الكائن فيصبح بكله تسبيحا لله.

وليس فقط «يسبحون» الله تنزيها في لفظة قول وحال وعمل ، بل ويسبحونه عن ان تليق تسبيحاتهم لساحة قدسه معرفة وعبودية وكما يروى عن أفضلهم وأعلاهم الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك» معترفين بالتقصير القاصر عن بلوغ تسبيحه!.

اتخذوا آلهة هم يخلقون ويدبرون أمورهم فيعبدون؟ :

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) ٢١.

الإنشاء هو الإحياء بعد الموت ، كما هو إحياء بدائي لا عن موت ، و «من الأرض» كما تتعلق ب «ينشرون» احياء منها كما خلقوا منها ، كذلك تتعلق بمقدّر ككائن : آلهة كائنة من الأرض ، هم أنفسهم منها ومنها ينشرون الأموات ، وتعلق ثالث ب «اتخذوا» و «آلهة» في هذا التعلق هي الأصنام والأوثان ، فمن ذا الذي ينشرهم أنفسهم ، وحين لا يقدرون على نشر أنفسهم فكيف ينشرون سواهم.

٢٥٨

فكما الله إله الإنشاء ، كذلك إله للإنشار وبأحرى ، فلتقطع آمال المشركين الذين يحسبون لهم آلهة من الأرض هم ينشرون ، فيسامحونهم فيما يعلمون ، ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

ولئن سئلنا : كيف ينكر عليهم إنشارا هم ناكروه قائلين (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) مستبعدين ان يحيها الله وهو الخالق لها ، فكيف يعتقدونه في أصنام ما هي الا جمادات بلا أرواح؟.

والجواب : علها حجة إلزامية عليهم بما التزموا من عبادتهم لهذه الأوثان ، ولزامها الثواب عليها فعلا والعقاب تركا ، وليس شيء منهما في هذه الحياة الدنيا ، فلتكن حياة اخرى فيها الجزاء ، فهل ان آلهة من الأرض هم ينشرونهم فيجزون بما ينشرون؟.

وكيف «هم ينشرون» وهم يعجزون عن إنشار أنفسهم فأنّى تؤفكون؟.

ام كيف «هم ينشرون» والله خلقهم ومن يعبدون ، أليس الذي بدء الخلق باحرى ان يعيده : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)؟!

ومن الدليل ـ القاطع القاصع القامع ، المستمد من جوهرة الكون وواقعه ـ على وحدة الالوهية في كافة الحقول إنشاء وإنشارا :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ٢٢.

آية منقطعة النظير في برهنتها الكاملة الشاملة ، الماحقة كل فروضات تعدد الآلهة ، نقدّم تفسيرا لمفردات لها ، ثم نخوض في البحث عن مدلولها.

ف «لو» تحيل مدخولها وبأحرى في المسائل العقلية ، إحالة جوهرية

٢٥٩

لا تقبل تحولا الى غير المحال على أية حال.

و «كان» تامة تعني اصل الكينونة ، ضاربة الى اعماق الماضي ، أزلية لا أولية ، فإذا لم تكن فيهما آلهة إلا الله منذ الأزل ، فباحرى بعده حتى الأبد ، إذا فهي حجة لسرمدية الإله الواحد دون شريك ، ثم «إلا» هنا تعني الغير لا الاستثناء ، حيث يعني ـ إذا ـ «لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا» والنتيجة «لو كان معهم الله لم تفسدا»!.

فانما هي بمعنى «الغير» فتعني «لو كان فيها آلهة غير الله ..».

ومن ثم «فيهما» هنا لا تعني مكانا من السماوات والأرض لله والآلهة إلا الله ، فان الله هو الذي مكّن المكان فليس له مكان ، وكان إذ لا كان ، فلا تعني «فيهما» إلّا ما عنته (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) ان يكون الكون ظرفا لفاعلية الالوهية دون ذاتها.

وهنا حوار حول هذه الحجة الباهرة نطرحها بكل دقة وإمعان ، لكي نحصل على حق المعني منها دون تزعزع وتلكع :

١ ـ المشركون لم يكونوا يدعون ان هناك آلهة غير الله كما الله ، يخلقون كما يخلق ويميتون كما يميت ، فما هي المغزى من ذلك التنديد الشديد وعرض الاستحالة في فرض مرفوض عند المشركين؟.

هذه الآية تحلّق ـ حجة بارعة ـ على غير الموحدين أيا كانوا ، من مشركين وثنوية وثالوثية يعدّدون ذات الإله بكل شؤون الألوهية.

٢ ـ فرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) انما يفرض «لفسدتا» من فساد السماوات والأرض ، إذا كانا مختلفي العلم والحكمة ، واما الالهة المتوافقة في الحكمة والتدبير فلا اختلاف في ربوبياتهم ، فوحدة النظام في واقع الكون لا تدل إلا على وحدة التنظيم ، وهي أعم من وحدة الناظم ، ام تعدده بوحدة

٢٦٠