الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

هي مأوّلة ام خلاف الحق (١) ولا يصدّق من سواها إلّا ما يصدقه القرآن انهما كانا يحكمان تشاورا غير بات (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فرضيا به حكما ، دون ان يكون هناك نسخ فانه خلاف النص ، وان النسخ ليس إلّا في شرعة لولي عزم ولم يكن سليمان صاحب شرعة مستقلة (٢).

وعلى الجملة فالقصد من ذلك التفهيم في ذلك التحكيم للرسول الفرع أمام الرسول الإمام الأصل ليس تحطيم ساحته والمس من كرامته تقديما للمفضول على الفاضل ، وانما هو لبيان القصور الذاتي حتى للمرسلين حتى لا يزعم زاعم انهم على شيء من عند أنفسهم ، او انهم مخوّلون فيما يحكمون ، بل هو فيض قدسي إلهي مستمر مع الرسالات ، وليست هذه الفلتات ـ ان

__________________

(١) المصدر عن الفقيه بسنده الصحيح عن الوشاء عن احمد بن عمر الحلبي قال سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن هذه الآية قال : كان حكم داود (عليه السلام) رقاب الغنم والذي فهم الله عز وجل سليمان ان يحكم لصاحب الحرث باللبن والصوف ذلك العام كله.

أقول : عل «كان حكم داود» غير حكمه البات ، وانما كان يرتإي مشورة ولكن حكم سليمان بالصوف واللبن خلاف حكمه إذ حكم بولدها كما في أحاديث اخرى.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٤١ عن الكافي بسند عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : قول الله عز وجل (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ...) قلت حين حكما في الحرث كان قضية واحدة؟ فقال (عليه السلام): انه كان اوحى الله عز وجل الى النبيين قبل داود الى ان بعث الله داود : اي غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ولا يكون النفش الا بالليل فان على صاحب الزرع ان يحفظ بالنهار وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (عليهم السلام) من قبله واوحى الله عز وجل الى سليمان (عليه السلام) واي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع الا ما خرج من بطونها وكذلك جرت السنة بعد سليمان (عليه السلام) وهو قول الله عز وجل (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل.

٣٤١

صح التعبير ـ قاصدة مع المعصومين ، إلّا بيانا عن ذاتياتهم (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).

اجل وان داود هو النبي المفضل في بني إسرائيل بعد موسى والمسيح فان لهما شأنهما : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٧ : ٥٥) (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٣٤ : ١٠) فليس ـ إذا ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) اختراما لداود واحتراما لسليمان ، بل هي حكمة بالغة إلهية ولطف خفي بأمر جلي مهما كان ظاهره إمرا.

ومن تسخير الجبال معه (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أوبة منها تتبع أوبته كما يسمعها وكذلك الطير ، وليس ذلك بدعا منا لخصوص داود ، بل (وَكُنَّا فاعِلِينَ) في سلسلة الرسالات بمختلف الجلوات.

وقد عرف داود بمزاميره الرنانة الحنانة ، تسابيح لله يرتلها بصوته الحنين الحزين ، فتتجاوب معه الجبال والطير ، وكأنما الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة معه بجلال الله وحمده.

صحيح انه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) إلا أن داود فقّه تسبيحهم بل وكان يسمعهم كيف يسبحون ربهم ، فالجبال هنا مثل الجوامد ، والطير مثل الحيوان وبينهما النباتات ، فعلّه فقّه منطق كل شيء ، ام ما حوله من الجبال والطير دمجا للجماد في الحيوان الى تسبيحه!.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)(٨٠).

٣٤٢

«وعلّمناه» تلمح بأنّ ذلك العلم المعلّم بادئ من داود ، فلم يكن يصنع قبله لبوس ، وهذا يلمح انه الدرع والمغفر ام وسائر ما يلبس لخصوص البأس إحصانا منه ، و «لبوس» مبالغة «لباس» ما يبالغ في لبس الإنسان حالة البأس ، وهو الحرب ، ومما عبّد له علمها وصنعه بسهولة (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) إلانة دون اسباب معوّدة (... وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). ان اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا اني بما تعملون بصير» (٣٤ : ١١) والسابغة هي الدرع التام ، وتقدير السرد هو نضج الحديد فنسج الدرع «لتحصنكم» اللبوس المقدّر المسرود ، ام والمغفر وعلّه أحرى «من بأسكم» حربا (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ذلك الإحصان الإحسان إليكم منذ داود (عليه السلام) بما في هذه الصفة من تطوّرات حيث الحضارة البشرية سائرة في طريقها الى التقدم خطوة خطوة وراء الكشوف المتجددة يوما فيوما دون قفزة ولا طفرة ، ولكن صنعة لبوس لكم بإلانة الحديد وعمل السابغات كانت قفزة وطفرة تخترق العادة المألوفة.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) ٨١.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ..) (٣٤ : ١٢) (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٨ : ٣٦) ، والريح منصوب حيث هو معطوف على مفعول التسخير «وسخرنا لسليمان الريح ..».

ريح عاصفة غدوها شهر ورواحها شهر ، تجري بامره رخاء حيث أصاب ، الى الأرض التي باركنا فيها وسواها حيث أصاب (١) «وكنا» من قبل ومن بعد وفي ذلك الذي علمناه وسخرناه (بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ).

__________________

(١) راجع تفسير الآيتين في سبأ وص تجد فيهما تفصيل جريان الريح حيث أصاب.

٣٤٣

وليس فقط تسخيرا لمن لا يعقل وليس له اختيار ، بل وسخرنا له (مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ ...) :

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) ٨٢.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ) وهم بعضهم الذين استخدمهم لشاقة الأعمال (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحر لاستخراج متاع منه (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) حيث (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ..) (٣٤ : ١٣) ام ودون ذلك مما لا نعلمه والله يعلمه (وَكُنَّا لَهُمْ) الشياطين العاملين له «حافظين» عن شيطناتهم وتخلفاتهم في اعمالهم لسليمان ، حفظا عن الهرب وأي إفساد وجرب ، لصالح الخدمة السليمانية.

وعلّ الشياطين هنا تعم شياطين الجن والانس ، وقد لا ينافيه (... وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ ...) (٣٤ : ١٣) فالشياطين نص في الكفار ظاهر في شياطين الجن والانس ، والجن نص في الجن ظاهر في كفارهم وسواهم ، والنصان متوافقان في شياطين الجن ، فهم القدر المعلوم من عماله ، ثم يخرج مؤمنوا الجن والانس ، ويبقى شياطين الانس في الظاهر الاول ، ولا ينافيه نص الجن لعدم الحصر.

«ولو ان أحدا يجد الى البقاء سلما او لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخر له ملك الجن والانس مع النبوة وعظيم الزلفة فلما استوفى طعمته واستكمل مدته رمته قسي الفناء بنبال الموت وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطلة ، ورثها آخرون» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٣٤٤

ويا لها من نعمة سابغة لسليمان حيث يسخر له الشياطين رغم أنوفهم ، ولكي تظهر رحمة الله وعنايته الخاصة لسليمان النبي الملك ، حيث يحلّق في سلطته على الجبال والطير والشياطين ، لا فقط على الانس المؤمنين ، ولكي نعلم ان العاقبة للمتقين ، وانه يأتي على العالم زمان يسيطر فيه من يصطفيه الله حاكما وقائدا على كل العالمين ، وهو الإمام القائم المنتظر المهدي من آل محمد (عليهم السلام).

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ٨٤.

وقصة أيوب مفصلة في «ص» ومجملة هنا ، وقد فصلناها هناك كما فصلت ، ونجملها هنا كما أجملت ، وهي دعاء واستجابة ومزيد ، وما الطفه وانظفه دعاء لا يتطلب فيه المبتلى كشف بلاءه ، وانما هو عرض بلاءه : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وعرض الرب بعليائه (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فلا يدعو بتغيير حاله ، ولا يقترح شيئا على ربه ، تأدبا معه وتوقيرا وصبرا على بلائه ، فهو من أفضل النماذج للعبد الصابر في بليته ، دون اي تململ!.

ثم نرى الاستجابة (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) سؤله المعلوم عن عرضه وسؤاله (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) والضر ضما يختص بما يمس غير الروح ، وليس للشيطان سبيل الى أرواح النبيين (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٣٨ : ٤١) وهي فتحا يعمهما ، وضما كما هيه يخص غير الروح ، وعلّ العذاب عبارة عنه اخرى.

وعلّ «اهله» يعم زوجه وولده ، أم وكل من كان يعوله من أقربائه وانسباءه ، سواء الذين هلكوا في ضره ، ام تفرقوا عنه ، ف «آتيناه» تعم

٣٤٥

إحياء من هلك ، ورجوع من سلك ، ثم (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قد تعني مماثلة الكم والكيف ، والمعية وهي الملائمة الموافقة ، قد تلمح ان الزوجة الثانية انضمت الى الاولى بكل وئام واحترام ، وكل ذلك (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) لأيوب الصابر في محنته (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) على مر الزمن ليقتفوا اثره في الصبر على الضر لله وفي الله ، دونما شكوى على الله! وهنا اللمحة اللامعة ان العبودية كلما ازدادت وتقدمت ازداد العبد بلاء ، ولكي يرتقي العابد بذلك المرقى ما لا يرتقي بسواه.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ٨٥ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ٨٦.

واذكر «إسماعيل» ابن ابراهيم (وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) في حياتهم الرسالية ف (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) ولا سيما إسماعيل إذ قال له أبوه (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فلذلك الصبر البالغ ذروته (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فالصبر الصالح والصالح الصابر داخل في رحمة الله ، والصبر مفتاح الفرج (١).

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ٨٧ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ٨٨.

«ذا النون» هذا وهو يونس بن متى النبي ، يضرب هنا مثلا مذكّرا

__________________

(١) راجع تفسير قصة إدريس في «مريم» وإسماعيل في «الصافات» وذي الكفل في «ص».

٣٤٦

لقصور الصبر اللائق في تطبيق الرسالة ، بعد التذكير بأنبياء صابرين ، وكما يلمح في «القلم» : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٦٨ : ٥٠) والقصة مذكورة فيها وفي يونس والصافات ، وفي كلّ تفصيل كما تعنيه آيتها ، وهنا كما هيه ، دون اعادة شاملة للثلاثة الباقية.

وتراه هنا (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) ممن؟ أمن ربه؟ وهو كفر به ، واين يذهب مغاضبا من ربه وليس له مكان ، فانه محيط بكل كائن ومكان ، وهو مع كل انس وجان! ثم «مغاضبا» تعني غضب المتناوئين ، فليس غضبانا حتى يعنيه هو على ربه وسبحانه ، وانما «مغاضبا» وطبعا مع من كانوا معه في قريته ، فقد غضب عليه قومه لكرور دعوته وصموده في دعايته ، فأيس منهم وغضب عليهم ف (ذَهَبَ مُغاضِباً) غضبا على قومه في ذات الله إذ غضبوا عليه لدعوته الدائبة الى الله ، فأيس من ايمانهم بالله ، ولكنهم كان لهم استعداد للايمان ما كان يعلمه يونس ولا رجاه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨).

فلان الموقف كان موقف الإياس من ايمانهم ، فلم ير ـ إذا ـ بأسا من الذهاب عنهم مغاضبا ، ولان ذهابه كان ذهاب المغاضب دون فرار عن الدعوة ام تمهّل فيها «فظن» حسن ظنه بربه (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) تضييقا في ذلك الذهاب ، فليس «نقدر» من القدرة ، بل هو القدر الضيق كما (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) في آيات عدة (١) (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ

__________________

(١) وهي ١٣ : ٢٦ و ١٧ : ٣٠ و ٢٨ : ٨٢ و ٢٩ : ٦٢ و ٣٠ : ٣٧ و ٣٤ : ٣٦ و ٣٩ و ٣٩ : ٥٢ و ٤٢ : ١٢ ، ثم لا نجد «لا يقدرون» بمعنى القدرة الا في ـ

٣٤٧

رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٦٥ : ٧).

فقضية الموقف الحاسم ، ان لن نضيق عليه بذهابه عنهم مغاضبا ، فلم يكن يرى في ذلك الذهاب بأسا ، بعد ما استعصى عليه قومه وهو مستقص في دعوتهم ، فغادرهم مغاضبا ولم يصبر على معاناتها بمماداتها وعرقلاتها ، ظانا ان الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة والقرى باقوامها كثيرة ، وانه لن يضيق عليه توبيخا لذهابه عنهم ، إذ رأى نفسه معذورة في ذهابه.

هذا الذي ظنه ذا النون ، ولكن الرسالة الإلهية لها مسئوليتها الخطيرة ، المحلّقة على سائر المسؤوليات ، فليس لصاحب الدعوة الرسالية ان يتركها ، او يترك جو الدعوة بسند الإياس عن تأثيرها ، فانها ليست ـ فقط ـ نذرا ، بل (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فحتى إن أيقن الداعية بعدم تأثير الدعوة فعليه المواصلة فيها حتى النفس الأخير ، ولا يسمح له بالذهاب عنهم إلّا إذا خاف على نفسه عذابهم الناكل ام عذاب الله عليهم ، ام مسا من كرامة الدعوة ، فهنالك المهاجرة حفاظا على الدعوة والداعية ، لا إراحة لنفسه عن الدعوة غير المؤثرة.

إذا فقد كان من ذا النون بعض التقصير في الدعوة الصامدة ، مهما يعذره بعض الإعذار ظنّه ان لن يضيق عليه ربه في ذهابه عنهم مغاضبا ، ولكنه كان ظنا بغير حساب ولا صواب ، حيث الموقف الصالح لذلك الظن او اليقين بعدم التضييق هو تمام الدعوة ، ولا تتم بنفس الإياس الا إذا واجه امرا أهم إمرا من واجب الدعوة العاذرة غير المؤثرة ، كالخطر

__________________

ـ ٢ : ٢٦٤ و ١٤ : ١٨ و ٥٧ : ٢٩ ، مما يجعل الترجيح للمعنى الاول عند التردد ، فضلا عن موضع اليقين كما في ذا النون.

٣٤٨

على الدعوة او الداعية ، وقد هاجر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أرض الدعوة الاصيلة الى اخرى لما هجّروه وأرادوا ليقتلوه ، فانقلب واجبه المقام الى المهاجرة الى المدينة ، حتى أسس فيها دولة الإسلام ورجع في نهاية امره الى مكة فاتحا محبورا مشكورا.

وهاجر موسى ومن معه فرارا من بأس فرعون وملئه ، وابراهيم ولوط حيث نجا هما الله الى الأرض المباركة ، ولوط حيث نجّي باهله عن قومه الهاجم عليهم الخطر الناجم عن تكذيبهم (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)!.

واما ان يذهب الداعية عن جو الدعوة بمجرد انهم بالفعل لم يتأثروا بها ، فلا ، علّهم يتأثرون في المستقبل ، ام تلزمهم الحجة الدائبة عليهم إذا كانوا ممن (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولكن الدعوة المتواصلة ليست سواء عليك وانما عليهم.

فأصحاب الدعوات رسولية ورسالية لا بدل لهم ان يتحملوا تكاليفها ، صبرا على التكذيب بها والإيذاء من أجلها ، ومهما كان تكذيب الصادق الأمين مريرا عليه ولكن الصبر عليه هو بعض تكاليف الرسالة.

لا يجوز للداعية ان ييأس من إصلاح النفوس المتمردة ، فإذا كانت المئات لم تصل الى القلوب فلتكن ألفا وآلافات ، فقد تصل مرة الى القلب مهما كان كرور الدعوة المستمرة مرّة ، وحتى إذا أيقن ـ وكيف له ذلك وأنّى ـ انه سواء عليهم الإنذار وتركه ، فليواصل في دعوته عذرا ، كما كانت قبل نذرا.

اجل ، وان طريق الدعوات ليست هينة ولا استجابة النفوس يسيرة ، فهناك ركام من مختلف الشبهات والشيطنات تجثم على القلوب لا بد من إزالتها بكرور الدعوة ، باية وسيلة ممكنة ، تلمّسا لكافة المراكز الحساسة ، محاولة العثور على العصب الحساس ، وقد تصادف إحدى اللمسات ذلك

٣٤٩

العصب فيتحول تحولا ، وكما قوم يونس آمنوا لما رأوا بأس الله ، ايمانا صالحا لدفع العذاب ، رغم ان الايمان عند رؤية البأس لا يفيد : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨).

ان الدعوة هي الأصل (عُذْراً أَوْ نُذْراً) لا شخص الداعية ام شخصيته ، اللهم الا فيما أصبحت الدعوة في خطر بالقضاء عليها ام على الداعية ، فالى المهاجرة حفاظا على أصلها واستمراريتها في مجالات اخرى.

لقد سجن ذا النون في بطن الحوت النون تأديبا له أديبا لماذا استعجل عن قومه (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر» (١) (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) إقرارا بالتوحيد «سبحانك» تنزيها لله عن كل ما يمس من كرامته وعن ان يظلم عبده في ظلماته ، ثم إقرارا بظلمه : انتقاصا عن واجب الدعوة (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ظلما بنفسي لمكان نقصي كرسول.

وتراه كيف ناله عهد من الله رسالة (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إذا كان ظلما قبل الرسالة ، وهو ظالم حين الرسالة؟ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٧ : ١٤٠)!.

ان «عهدي» الذي لا ينال الظالمين هو عهد الإمامة دون مطلق الرسالة ، والظلم الذي ينافي الرسالة هو المعمّد الخائن في حمل الرسالة او أدائها ، دون الانتقاص عن كمالها ، المجبر بتأديب الله ، ولا سيما إذا كان الله يمتحن الرسول بذلك الانتقاص ، تنبيها له انه ليس على شيء لولا

__________________

(١) البحار ١٤ : ٣٨٣ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في تفسير الظلمات ... وفي ٣٨٧ روى مثله عن الإمام الرضا (عليه السلام).

٣٥٠

رحمة من الله وعصمة وتسديد ، وقد يصدق فيه ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعاءه «اللهم ولا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا» فسألته ام سلمة في ذلك فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) يا ام سلمة وما يؤمنني وانما وكل الله يونس بن متى الى نفسه طرفة عين فكان منه ما كان» (١) وقد يشبهه ظلمه هذا ظلم موسى (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (٢٨ : ١٦) مهما كان ذلك قبل رسالته ، وهما

__________________

(١) البحار ١٤ : ٣٨٤ عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في بيت ام سلمة في ليلتها فقدته من الفراش فدخلها من ذلك ما يدخل النساء فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت اليه وهو في جانب من البيت قائما رافعا يديه يبكي وهو يقول :

اللهم لا تنزع مني صالح ما اعطيتني ابدا ، اللهم ولا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا ، اللهم لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا ابدا ، اللهم لا تردني في سوء استنقذتني منه ابدا ، قال : فانصرفت ام سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لبكائها فقال لها ما يبكيك يا ام سلمة؟ فقالت : بابي أنت وامي يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولم لا ابكي وأنت بالمكان الذي أنت به من الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، تسأله ان لا يشمت بك عدوا ابدا وان لا يردك في سوء استنقذك منه ابدا وان لا ينزع منك صالح ما أعطاك ابدا وان لا يكلك الى نفسك طرفة عين ابدا فقال يا ام سلمة ... (نقلناه بكامله عن الهامش نقلا عن الأصل).

وفيه (٣٨٧) عن الكافي ٢ : ٥٨١ عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ـ وهو رافع يده الى السماء ـ رب لا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا» لا اقل من ذلك ولا اكثر ، قال : فما كان بأسرع من ان تحدرّ الدموع من جوانب لحيته ، ثم اقبل عليّ فقال : يا ابن أبي يعفور ان يونس بن متى وكله الله عز وجل الى نفسه اقل من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب قلت : فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ قال : لا ولكن الموت على تلك الحال هلاك.

٣٥١

على أية حال أدنى من ظلم آدم حين عصى ربه فغوى.

ثم وعلّها لابن متى كما لموسى كانت رسالة تدريبية تجريبية ، حتى إذا اكتمل بعثه لرسالة اصلية ، وقد تشهد له (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) بعد قوله بعدة آيات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ولكي يثبت على حاق رسالته وحقها دون اي تفلّت عنها او تلفّت!.

فلما أناب ذا النون الى ربه بما أناب (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) عما قصّر (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) حين يدعون كذلك الذي دعى ذا النون.

ولقد تكاثرت الروايات وتضاربت حول قصة يونس ، بين ما تكذبها الآيات ام لا تصدقها ، وما تصدقها الآيات ، فلا نصدق منها إلا ما صدقته ، ولا نكذب إلا ما كذبته ، ثم نتردد في عوانها لا مصدّقة ولا مكذّبة.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ٨٩.

ان قصة ولادة يحيى العجيبة مضت في سورة آل عمران ومريم ، وهنا (لا تَذَرْنِي فَرْداً) استدعاء لولد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (١٩ : ٦).

ولما كانت هذه الوراثة المطلوبة توهم أن لولاها لم تكن هناك وراثة والله خير الوارثين ، يلحّق دعاءه بتلك الوراثة الإلهية ، وانه يطلب وارثا من جنسه حتى يرثه في حمل الرسالة الإلهية ، فحتى ان لم ترزقني ولدا ف (أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وان رزقتنيه ايضا ف (أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ).

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ٩٠.

٣٥٢

«وأصلحنا» زوجه عن عقرها إذا كانت عاقرا ، ثم (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) من قبل ، قد تعني فيما عنت إصلاح حاله عن كبره إذ (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ... وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا).

هذه تبين لنا ان المسارعة في الخيرات والدعاء رغبا ورهبا والخشوع لله ، ان في ذلك مادة الاجابة الخارقة للعادة في الادعية الصالحة ، وكما نرى السابقين والمقربين وشطرا من اصحاب اليمن تستجاب لهم دعواتهم العجيبة.

والعبادة «رغبا» هي الرغبة في الله ثوابا ولقاء ورضوانا ، و «رهبا» هي الإشفاق من الله خوفة ورهبة وفرقا منه ، والدرجة العليا من الرغب والرهب تناسب السابقين والمقربين الذين يعبدون الله حبا له ، ثم سائر الناس عبيد «رهبا» ام تجار «رغبا» (١).

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ٩١.

والروح المنفوخ فيها هو المسيح ، وفي الطلاق (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ...) (١٢) بيانا ان الموضع

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٥٧ في كتاب الخصال عن يونس بن ظبيان قال قال الصادق (عليه السلام) ان الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهي الطمع وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة ولكني اعبده حبا له فتلك عبادة الكرام.

أقول : ولان هؤلاء الرسل هم من الكرام فعبادتهم رغبا ورهبا لا تعني ما عنته هذه الرواية.

٣٥٣

المنفوخ فيه الروح منها هو فرجها لا سواه ، وقد فصلناه في محالها الأنسب كالطلاق وسواها.

وترى كيف جعلا هما (آيَةً لِلْعالَمِينَ) لا «آيتين» والمسيح بنفسه آية إلهية بما معه من آيات؟ القصد من «آية» هنا هي الذاتية الكونية ، وهذه الولادة المنقطعة النظير آية واحدة ، قائمة بكلا الولد والوالدة ، لولا أحدهما لم يكن الآخر آية ، إذا فهما آية نظرا الى هذه الولادة القائمة بهما كليهما ، آية واحدة فذة في تاريخ الإنسان على مر الزمان ، ومثل واحد من ذلك النوع يكفي تأملا للإنسانية في اجيالها على طولها وعرضها في سماءها وارضها ، لمسا معرفيا وواقعيا ليد القدرة الطلقية المطلقة الإلهية التي تخلق النواميس ، دون حصر واحتباس داخل النواميس!

و «روحنا» هنا هي روح المسيح اضافة الى جسمه وقد جرت من مجراها في مريم نفخا دون علوق من ذكر ، ولا انتقال من طبق إلى طبق ، وأضيفت الى الله لمزية الاصطفاء بالتكريم والاختصاص بالتعظيم في بعدي خرق العادة لخلقها ، والميزة على سائر الأرواح ، اللهم الا التي ساماها بل فضّلت عليها كروح محمد والمحمديين من عترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)

٣٥٤

وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)

٣٥٥

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١١٢)

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ٩٢ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) ٩٣.

«ان هذه» الأمم بأسرها وعن بكرتها «أمتكم» ايها الرسل بأسركم وعن بكرتكم (أُمَّةً واحِدَةً) في مغزاها ومرماها ، كما الرسالة واحدة مهما حملها مرسلون عدة ، وهما تتلاقيان في (وَأَنَا رَبُّكُمْ) دون سواي ، إذا «فاعبدون» دون سواي : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٢٣ : ٥٤).

آيتان كريمتان في الذكر الحكيم تؤكدان على وحدة الرسالة ووحدة الأمم في عبادة الله الواحد وتقواه والرجوع اليه ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

٣٥٦

ويا له من اله واحد ورب واحد مبدء ومرجعا ، ويا لهم من امة واحدة على ضوء رسالة واحدة تلتقيان على عبادة واحدة وتقوى واحدة (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ..)! خطابا شاملا للرسل باممهم ، هم يحملون «كيف يعبد الله ويتقى» الى كل الأمم ، فمهما اختلفت الطقوس والصور فالأصل والاتجاه واحد هو عبادة الله وتقواه.

ولان الرسالة تعم العالمين ككل من الجنة والناس ومن سواهما أجمعين ، فالكل هم «أمتكم» كما و «كم» تعم رسل الجن الى جانب رسل الانس مهما كانت الرسالة الاولى على هامش الثانية.

فالرسالات كلها هي باتجاه واحد من آله واحد والى آله واحد ، وكل رسول يحمل شرعة خاصة من الخمس ، يجمع العالمين على رسالته ، وكل لاحق هو على خط سابقه ، وعلى كل امة لاحقة اتباع شرعتها اللاحقة ، تركا للسابقة صورة ، وتمسكا بها سيرة ، فلم يكن القصد من شرعة بعد شرعة ـ وهي كلها عن دين واحد ـ ان تختلق امم متصارعة طول تاريخ الرسالات ، حيث الاختلافات على اية حال مرفوضة ، والوحدة في كل حال ملحوظة مفروضة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٨)!:

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨) (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...) (٤٢ : ١٣).

فقد أمروا بالتوحد في دين الله بشرعته ولكنهم (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ..) تقطعا الى امم ، وتقطعا في كل امة الى مذاهب ، وتقطعا في

٣٥٧

كل مذهب ايضا الى مذاهب ... (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) وهو دينهم بشرعتهم ، رغم ان (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) في الاولى تكوينا ودينا ، وفي الاخرى خلقا جديدا وجزاء على دين!

امر واحد لله هو أمرهم ، (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ..) (٤٥ : ١٨) ولكنهم بديل ان يظلوا تحت ظله متوحدين ، جعلوا أمرهم فرقة وإمرا ، تفرقا في الأهواء ، واختلافا في الآراء ، وتقسّما في المذاهب ، وتشعبا في الولائج.

فقد كانوا حسب وحدة التكوين ووحدة الدين امة واحدة ، بينهم وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعد قطع لتلك العلائق ، وشذب لتلك الوسائل ، فصاروا أخيافا مختلفين ، واوزاعا مفترقين ، واوضاعا مختلقين.

وهل من منجى في ذلك البين البائن ، والاختلاف الشائن ، ام كل في شأنهم شائنون؟.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) ٩٤.

انما الأصل المنجي في هذا البين والبينونة هو عمل من الصالحات على ركيزة الايمان ، جناحان لاي مؤمن يعمل من الصالحات ، يجنحان به عن كل مصيدة ومكيدة الى سماء الرحمة والرضوان ، فأيا كان الايمان وعمل من الصالحات ، ومن اي كان وأيان (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) لصالح العمل بصالح الايمان «وانا» بجمعية الصفات رحمانية ورحيمية «له» لسعيه ايمانا وعملا صالحا «كاتبون» في مختلف الكتابات الأربع : أعضاء واجواء وملائكة وأنبياءهم شهداء على الأعمال يوم يقوم الأشهاد ، وهي كتابة الاستنساخ لمثلث الأحوال والأعمال والأقوال في سجلاتها كما هيه.

٣٥٨

اجل ، فالإيمان أينما حلّ بصالح العمل كان مشكورا محبورا مهما اختلفت الدرجات ، كما ان ما سواه أينما حل كان مكفورا منكورا مهما اختلفت الدركات.

وكضابطة شاملة توضّح الآية آية البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) وكذلك الأمر في آية المائدة (٦٩) وآية آل عمران أوضح من جهة : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٣ : ـ ١١٥.

إذا ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

(فَلا كُفْرانَ) إذا لسعي الساعي المؤمن العامل من الصالحات مهما كان يهوديا او نصرانيا ، ولا شكران لغير الساعي بمجرد انه مسلم ولكنه لا يعمل من الصالحات وهو مؤمن ، الا ان الايمان الاسلامي وعمل الصالحات على ضوءه له درجته بين الدرجات ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ٩٥ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ٩٦ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) ٩٧.

آية «لا يرجعون» بما بعدها هي معركة الآراء المتضاربة بين المفسرين ، كل يحوم فيها حول ما يروم تأويلا لها كما يروم ، والتجرد في

٣٥٩

تفسيرها مع التأمل فيها وما يحتفّ بها دون تحميل عليها ، يهدينا الى معناها ومغزاها.

هنا الموضوع (قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) وهي كل قرية هالكة لذنوبها بعذاب الاستئصال ، على مدار الزمن في تاريخ الرسالات (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

ثم (وَحَرامٌ عَلى) هي طابع الحرمان على القرى الهالكة (حَتَّى إِذا ...) و (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) هي مادة الحرمان ، فذلك الحرمان أيا كان هو لزام القرى الهالكة (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) فيزول عنهم حرمانهم هذا ، فلم يكن ـ إذا ـ حرمانهم الى يوم الوعد الحق على طول خط البرزخ ، وانما (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) فهم فيه يرجعون.

ولأن الحرمان عرفيا ليس إلا عما يرام ، فليكن رجوع القرى الهالكة قبل الفتح مما يرومونه ، وكما هو الواقع المذكور في آيات عدة (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (٣٢ : ١٢) ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ..) (٢٣ : ١٠٠).

فالرجوع الى حياة التكليف هو أمل المجرمين ، وآية (لا يَرْجِعُونَ) تخيّب ذلك الأمل رجاء العمل (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) فإذا هم راجعون لا للإصلاح ، وانما لذوق العذاب يوم الرجعة.

وذلك مضاعفة للعذاب الحساب ، في ثالوث منه ، هلاك في الاولى ، ثم في رجوعهم يوم الرجعة إليها ، ومن ثم في (الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

٣٦٠