الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

الإلهية في نفوس السحرة لحد لم يتمالكوا أنفسهم عن سجدة كأنها اتوماتيكية ، وتراهم كيف ألقوا سجدا بعد ما ألقى موسى عصاه ، حيث ألغوا ما ألقوا؟

لأنهم رأوها (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٧ : ١١٧) واللقف هو تناول بحذق ، وقد تناول ثعبان العصا وتلقف كلّ ما افكوا.

فعصى صغيرة تتحول ثعبانا عظيما فتلقف كل عصيّهم وحبالهم من ناحية ، ولها ما للثعبان من أعضاء خلاف حبالهم وعصيتهم التي كان يخيل اليه من سحرهم ـ فقط ـ انها تسعى دون أعضاء ، من اخرى ، وعدم رجعها ما لقفته من ثالثة ، وعودها عصى صغيرة كما كانت من رابعة ، ـ وواحدة منها يستحيل ان تتم بأيّة حيلة ساحرة ـ كل ذلك جعل السحرة قاطعين كوضح النهار أنها آية الهية قاهرة وليست حيلة ساحرة!.

وإنها اللمسة المفاجأة القوية تصادف العصب الحساس فينتفض كيان الإنسان كله ، كما تصادف الذرة فتفجرها وتشرق النور عن ظلامها ، وقد تحولت السحرة كلهم من ظلام الشرك الى نور التوحيد بكلمة واحدة ساجدين (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)!

ولماذا (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) دون «ربنا» او «رب العالمين»؟ حتى يميزوه تعالى عن أرباب اخرى. ف «ربنا» و «رب العالمين» قد يخيل منه انه الطاغية لمكان دعواه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ولكن موسى وهارون الناكرين لكل ربوبية الا الله ، كان التصريح بهما في ذلك الموقف صراحا لتلك الربوبية الصادقة الماحقة لسائر الربوبيات ، مهما بدلوا الصيغة في حوارهم مع الطاغية : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (٢٦ : ٥٠). اعتمادا على تلك السابقة السابغة الصارحة الصارفة (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) وقد يتقدم هارون هنا على موسى لكي تحسم مادة ربوبية الطاغية لموسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) فانه موسى دون هارون ،

١٤١

فليقدّم عليه هارون حسما لذلك التخيل واستأصالا له عن بكرته.

هنا «السحرة» ـ جمعا محلى باللّام الدال على الاستغراق ـ ، ألقوا سجدا مؤمنين بالله وهم اليه منقلبون ، وفي يونس (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)(٨٣) والسحرة جم غفير وهم لم يكونوا من قوم موسى فكيف التوفيق؟.

علّ هذه القلة المؤمنة من قومه كانت قبل ان يلقي عصاه ـ وقد القوا حبالهم وعصيهم ـ وبعد عظته لهم : (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ... فَما آمَنَ لِمُوسى ..).

ولكنما السحرة آمنوا به بعد ما القى عصاه صامدين غير متخوفين كما هو صراح حوارهم مع الطاغية حين أخذ يهددهم! :

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ٧١.

ذلك! وأنّى للطغاة أن يدركوا الإسلام ويميزوه عن الاستسلام ، أنّى لهم ان يدركوا كيف تتقلب القلوب بأمر من مقلب القلوب ، وحتى قلب الطاغية حيث أحب عدوه موسى ورباه في حجره عمرا دون ان يعرفه بعدائه.

وهكذا يخيّل هنا الى الطاغية ان الايمان بالله هو ـ من ضمن سائر الاستسلامات لأمره ـ لا بد وان يكون باذنه ، وكأن القلوب من ممتلكاته كما القوالب ضمن ما سيطر عليه بالسيف والنار ، خلطا بين القوالب والقلوب وهي لا تقلب بإكراه ولا يغلب عليها بإكراه ف (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)!

١٤٢

ثم وركيزة الايمان في القلوب درجات ، فقد تضعف ام تنمحي بما يتغلب عليها تسويلا ، ام تبقى ولكن صاحبها يتظاهر بخلافها حفاظا على حياته (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وقد تركز لحد تحلّق على كل كيان المؤمن ، وللحفاظ على سيادة الايمان أمام الطاغية ، وهدي المستضعفين المستغلّين الى الايمان ، لا يخافون اي تحديد او تهديد وكما نراه من سحرة فرعون ، فان موقفهم الحاسم كان يتطلب هكذا صمود في ظاهر الايمان كما في باطنه ، فما قيمة ايمان في الباطن بكفر يتّقى به في الظاهر ، حيث يغري المتحرين عن الهدى ويبقي الباغين للردى ، وليس (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) إلا جوّالا يضر بكتلة الايمان ، ولا بالضالين المتقبلين له بحجة ظاهرة باهرة.

ونرى الطاغية هنا وقد خسر السحرة وهم كل من يملكهم من الحجة في تلك المباراة ، نراه يتهمهم كما اتهم موسى ، حسما للموقف المتزعزع بين الحاضرين : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فهنا لك تواطؤ بينكم ومؤامرة كانت خفية ، وقد ظهرت في ذلك المسرح الصريح.

وقد صبغ الموقف بصبغة سياسية اضافة الى الروحية ، ان السحرة احتفوا حول كبير لهم هو موسى وكما في الأعراف (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (لَأُقَطِّعَنَ .. قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)(١٢٥).

وهذه هي دعاية متعودة بين فراعنة التاريخ امام الرسل والمؤمنين ، صدا لزعزعات المستضعفين ، تزيينا لهم سلطاتهم الروحية والزمنية ، وتهديدا بان في تقبّل الدعوة الرسالية زوالها وهي حياة الرعية ، فالقائد يعارض تلك الدعوات حفاظا على صالح الرعية روحيا وزمنيا.

وان في ذلك تعمية منهم في بعدين بعيدين ، أولاهما هي فاسد السلطة

١٤٣

الروحية الحاضرة ، وأخراها هي صالح الاخرى الزمنية المحتضرة ، إظهارا للحق بمظهر الباطل والباطل بمظهر الحق «فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

ولما يرى الطاغية ان هذه الدعاية والفرية الماكرة لا تؤثر في صميم ايمانهم ، ولا يزعزع من مكين إيقانهم ، انتقل منها الى تهديد بنوع آخر : «فلأقطعن» استعلاء بالقوة الغاشمة الوحشية التي تستعمل مع الوحوش ، دون تمييز بين انسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالنائبة.

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) عذابا معمولا متداولا بحق أفسد المفسدين ، ثم (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) عذابا فوق العذاب لقمة الإفساد ، ولكي ينظر الناظرون فيعتبروا ، وينذر المنذرون فلا يتبعوهم ، ومن ثم (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى)؟ هل هو موسى بما يهددكم بعذاب الأخرى ، ام انا المعذب لكم هكذا في الاولى ، واين غائب من حاضر ، وموعود من واقع؟ ثم «وأبقى» سلطة ، هل ان موسى هو الأبقى وهو في يدي وتحت سلطتي ، ام انا الابقى ، فأين إله موسى حتى يعذبني وملئي حتى لا نبقى؟ واين هو من هذا المسرح حتى يبقى موسى فلا نبقى؟.

فلقد هددهم فرعون بما هدد فما أبقى ، ولكنه ما يصنع التهديد ـ أيا كان ـ بحديد الايمان وشديده بأشدّه ، اللمسة الإيمانية التي وصلت إلى أعماقهم ، واندغمت في ذواتهم ، فلا تزهق مهما أزهقت أرواحهم ، حيث آثروها على الحياة الدنيا بحذافيرها ، فلا يخافون إذا أظافيرها بحذافيرها :

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما

١٤٤

أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ٧٢ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ٧٣.

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٥١) ـ (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٧ : ١٢٦).

هنا نرى قمة الصمود على ضوء الايمان المحلّق على كل جنباتهم الحيوية ، فلا يؤثرون عليه امرا ، ولا يؤثّر فيهم دونه امر مهما كان إمرا.

ثم (إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) قد تلمح بأنهم كانوا من قبل موحدين ، ام انه انقلاب بحكم الفطرة والعقل والآية البينة ، ثم (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) تصريحة انهم ما سحروا هناك مباراتا بل مجاراتا للطاغية اكراها منه عليه ، وعله بعد الانقلاب الاول لعصى موسى ثعبانا مبينا لدى فرعون ، وبعد ما وعظهم (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) ثم اكرههم فرعون على سحرهم وأن (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ..) فلذلك تادّبوا وتليّنوا مع موسى في المباراة.

ولذلك أصبحوا هنا (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) صمودا وزمنا ، ومن صمودهم إحالتهم إيثار الطاغية (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) فطرية وعقلية وحسية وعلمية أما هيه وعلى (الَّذِي فَطَرَنا) ، أم قسما بالذي فطرنا ، وهما معا معنيّان ، وأنت كمثلنا مفطور له ، وقد فطرنا على فطرة التوحيد ، ففطر الخلق من ناحية ، وفطرة التوحيد المندغمة في الخلق من أخرى ، آيتان بينتان بجنب هذه الآية العظمى انه هو الله ربنا لا إله إلا هو (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) علينا كما تهددنا ف (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)

١٤٥

قضاء مقصورا بها ، محصورا فيها ، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع قليل.

ف (مِنَ الْبَيِّناتِ) هنا تعم الأنفسية إضافة إلى الآفاقية ، ونفس قصة العصا بيّنات ، انقلابا ولقفا وعودة إلى سيرتها الأولى دون إعادة لما لقفت!.

وترى كيف (تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) وليست قضاءه الا فيها على من فيها ام لهم؟ علّها لأنها مفعول به ، وقضاء هذه الحياة الدنيا هي إزالتها ، فقصارى قضاءك هنا قضاءها ، حياتنا كما حياتك ، واما الحياة الاخرة وهي العليا فليس لك قضاءها ، فأنت تهددنا بقضاء هذه الحياة وهي الدنيا ، وشرعة الله تهددنا بالآخرة وهي الحياة العليا ، وأنت شر وادنى وأفنى (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

ثم و (ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) قد تعني تعلمه وتعليمه وإعماله من قبل وفي هذه المباراة ، والتماس الغفر عن الخطايا ليس الا في المقصرة العامدة ، ام والمكره عليها فيما يمكن التخلص عنها كهذه التي ارتكبوها وارتبكوا فيها ، والآن هم يستغفرون الله عنها في ذلك الموقف الحاسم ، القاصم ظهر الطاغية ، الجاسم الباسم ظهر موسى والذين معه ، وهذه هي من قمم التوبة العليا ، انقلابا كليا الى الله سنادا الى آياته الباهرة وتبيينا لها بين الجموع المحتشدة الحاضرة ، ملتمسين من الله ان يفرغ عليهم صبرا امام الطاغية ، وان يتوفاهم مسلمين ، تخليصا لايمانهم عن هذه اليد الأثيمة اللئيمة ، مهما قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا في جذوع النخل ، ف (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) ـ (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)!

انه «خير» في ذاته وصفاته وأفعاله «وأبقى» فيها ثوابا وعقابا ، وذلك رد على قولة الطاغية (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ٧٤.

١٤٦

وتراها واللتين بعدها هي تتمة المقال للسحرة؟ وكيف يكون لجديد الايمان والناشئ على الكفر هذه المعرفة السليمة عن مستقبل المجرم والمؤمن! فهي إذا بيان رباني لقضية الموقف ، ام هم درسوا الشرعة الإلهية من ذي قبل كما تلمحناها من ذي قبل فنقلوا ما قالوه عن لسان موسى.

«ومجرما» هنا تعني اجرام ثمرة الحياة قبل إيناعها ، إجراما عقيديا واجراما علميا وأخلاقيا وعمليا ، فرديا وجماعيا ، نكرانا لخالق الحياة ام إشراكا به ، وتكذيبا بالحياة الأخرى ورسالة السماء ، فلا يعني فاعل الصغيرة ولا الكبيرة فانه لا يخلد في النار و (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ .. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٤٣ : ٧٧).

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) ان يموت بحالة الإجرام دون توبة صالحة (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) حيث الحياة الإجرامية حياة جهنمية ، ثم و «يأت ربه» دون «الله» هو إتيان الى يوم الرب بربوبية الجزاء ، كما كان آتيا اليه يوم الدنيا بربوبيته التكليف ، فليس إذا إتيان المجرم الى مكان للرب ، وانما الى مكانة الربوبية المناسبة ليوم الجزاء ـ ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) صادرون منه وراجعون اليه.

ثم (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) مواصفة لأبدية الخلود ، وقد يتمسك بها في لا نهائيتها الحقيقية ، ولكن التعبير الصالح عنها «لا يموت» دون تقيد ب «فيها» ، حيث الموت فيها يعني بقاء جهنم بعد موت من فيها ، والآية تنفيها ، واما الموت معها إذ لا نار ولا اهل نار ، فالآية لا تنفيها ، ثم تثبتها ادلة اخرى كما فصلناها في مواضعها الأحرى (١) ، ومن أهل النار

__________________

(١) كما في سورة الأسرى والنباء واضرابهما حيث فصلنا البحث عن استحالة الابدية ـ

١٤٧

من يخرج منها ويدخل الجنة ، فلا يموت ابدا لا في النار ولا في الجنة فالآية ـ إذا ـ تشملهم.

وقد تخص (لا يَمُوتُ فِيها) المؤبدين فيها ، واما الخارجون عنها فقد يموتون فيها ثم يحيون للجنة (١) ولكنه احتمال لا نصير له قاطعا ، والموت في الخبر مؤول الى موت الاجزاء البدنية الجهنمية.

اجل (لا يَمُوتُ فِيها) تخلصا عن عذابها وهي باقية ، (وَلا يَحْيى) في «لا يموت» حياة لها حظوتها ، بل هي موتات متواترة دون فصال ، حيث عوامل الموت حاصلة ، والحياة معها ماثلة ، وذلك أشد العذاب ان يوازي عمر المعذب فلا هو ميت فيستريح ولا هو حي فيتمتع ، انما هو العذاب الواصب ما هو حي وما دام العذاب ، ثم لا نار ولا اهل نار.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) ٧٥.

فهنا لك أشد العذاب للآبدين في النار ، وهنا الدرجات العلى للمؤمن الذي عمل الصالحات ، وهذه تخص السابقين والمقربين وقسما من اصحاب

__________________

ـ الحقيقية للعذاب. وموت اهل النار في محتملات اربع : موتهم فيها قيل فناءها ، ام موتهم بعد فناءها ، ام بقاءهم فيها دون زوال إطلاقا ، ام موتهم معها فناء لهما ، والآية انما تنفي الاولى ، والثانية تنفيها ابدية الخلود ، والثالثة منفية بادلتها ، فالرابعة هي الصالحة بادلتها.

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٣ اخرج مسلم واحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خطب فأتى على هذه الآية (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ..) فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : اما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون واما الذين ليسوا بأهلها فان النار تميتهم اماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة او الحيوان فينبتون كما ينبت القثاء في حميل السيل».

١٤٨

اليمين ، فان لهم خالص الرحمة في الأخرى (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى).

وبين الفريقين طائفة اخرى من اصحاب اليمين لهم درجات عالية ام متوسطة ام دانية حسب درجات الايمان والصالحات ، وهم لا يدخلون النار.

وطوائف من اصحاب الشمال يدخلون النار ثم يخرجون عنها قبل فناء النار ، طال مكوثهم فيها ام قصر.

وتلك الدرجات العلى ، الشاملة حظوة الروح والجسم معا حيث (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ). هي :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) ٧٦.

والعدن هي الاستقرار ، والحياة المطلقة دون ممات ام خروج هي قضية فضل الله ، كما الفناء مع فناء النار للآبدين في النار هو قضية عدل الله ، «وذلك» البعيد المدى والعظيم المثوى (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) قلبا وقالبا ، ايمانا وعملا صالحا.

وهذه من المشاهد القليلة النظير في تاريخ الرسالات حيث تعلن في إذاعة قرآنية مدى حرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض وسلطانها ، وانتصار الحق والايمان في واقع الحياة المشهود ، بعد انتصارهما في عالم الفكرة العقيدة.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)

١٤٩

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها

١٥٠

فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ

١٥١

الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)(٩٨)

هنا يطوي السياق طيا عن كل ما حصل بعد هذه المواجهة من فرعون وملئه مع موسى وملئه ، قفزة الى مسرح الانتصار الأخير بعد الاول وليعتبر اولوا الألباب ، وقد نتلمّح كصراح من آيات اخرى للقصة ان لم يكن وحي الإسراء دون فصل عن ذلك المسرح ، وان هناك ردحا من الزمن بينه وبين غرق فرعون وملئه (١) عاشه موسى والمؤمنون به في الجو الفرعوني ، حتى قضى موسى ما حمّل (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ..) (٢٧ : ١٣) وفرعون يحتال حيلا لتشويه السمعة الرسالية الموسوية : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٨ : ٣٨).

وموسى يؤمر ان يتبوأ لقومه بيوتا : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٨٧).

__________________

(١) البحار ١٣ : ١٢٨ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : املى الله عز وجل لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم اخذه الله نكال الآخرة والاولى وكان بين ان قال الله عز وجل لموسى وهارون : قد أجيبت دعوتكما وبين ان عرفه الله الاجابة أربعين سنة.

١٥٢

وذلك هو قضية الحال من تلك الآية الالهية في ذلك الحشد العظيم ، وما ركزت في قلوب من آثار ، فلا يسطع فرعون ان يقتل موسى ومن معه لتثاقل الجوّ وتعاضله إذ كانوا يمنعونه رغم همّه : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٤٠ : ٣٦).

مهما كان هناك مرتزقة من ملئه يشجعونه على قتله : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٧ : ١٢٧).

فلما قضى موسى ما عليه من آيات بينات ، وتصبّر ما كان له مجال على أية حال ، ووصل امره الى ملاحقة فرعونية شاملة حاسمة للدعوة والداعية ، أتى امر الله :

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) ٧٧.

ووحي الإسراء هكذا يوحي بمدى الملاحقة الفرعونية بعد ذلك المسرح الصراح للحق في صراع الباطل ، و «بعبادي» مما يلمح بإيمان من آمن من السحرة كما لمسناه ، أمّن سواهم كما هو قضية الموقف ، فلا تعني «عبادي» فقط بني إسرائيل مع ما لهم من تخلفات عن توحيد الله وعن شرعة الله ، فهؤلاء السحرة هم أحق منهم وأحرى بهذه الصيغة السائغة للصالحين ، وكأضرابهم في بني إسرائيل مهما كانوا قلة ، ومنهم من هم أحرى من السحرة في «عبادي» ثم الثلة الباقية منهم تشملهم «عبادي» قضية كونهم موحدين مهما ضعفوا ، وانهم كانوا يستضعفون ، والله يضيفهم الى نفسه تحنّنا عليهم وترحما.

وعلّ القدر المعلوم هنا من «عبادي» هم بنو إسرائيل حيث النص

١٥٣

لا يذكر السحرة من هذا المسرح الى آخر المطاف ، فلعلهم قتلوا كما أوعدهم الطاغية ، ام ولأقل تقدير سجنوا ام حوصروا كيلا يلحقوا بموسى ، فضلا عمن سواهم من القبط الذين آمنوا هناك.

(أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) وهو سري الليل وسيره : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٤٤ : ٢٣) فسرى الليل سرّ يخفى على الطاغية.

فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٢٦ : ٦٣).

واليبس ما كانت فيه رطوبة ثم زالت او ماء فذهب ، فقد انفلق البحر وأصبح طريقا يبسا ف (لا تَخافُ دَرَكاً) من الطاغية (وَلا تَخْشى) غرقا في البحر.

وهنا (طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) بصيغة الإفراد قد تطارد الرواية القائلة انه ضرب في البحر اثني عشر طريقا حسب اقتراح الأسباط الإثني عشر ، ام تعني «طريقا» جنسه المناسب لعديده ، ولا دليل عليه ولا هو الأظهر منه او الظاهر بل (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٢٦ : ٦٤) تلمح باهرة لوحدة الطريق.

ذلك! إضافة الى ان في اتباع الحق أهوائهم ، ولا سيما هذه المفرقة بينهم وهم بحاجة الى توحيد الكلمة على كلمة التوحيد ، ان في ذلك فسادا لهم وكسادا للحق المرتجى منهم على ضوء هذه الرسالة القدسية الماحقة لمختلف الأهواء ، الساحقة لمختلف الآلهة!.

ومن ثم فانقسامهم الى اقسامهم الاثني عشر ليختص كل بكلّ ، هذا يتطلب فرصة ، وقضية الفرار ولا سيما بعد ما ترائى الجمعان ، هي التسرع دون اي لبث لأيّة مهمة او قرار ، فحتى ان كانوا متطلبين ذلك التفرق

١٥٤

إشباعا لتفاصل الأسباط ، لم يكونوا يتطلبوه وهم في خطر الإدراك وكما قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)!

فهنا نقطع ان «طريقا» هي واحدة ، والرواية هي من المختلقات الاسرائيلية.

وهذه خارقة إلهية اخرى تظهر من عصا موسى ، فيها نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون بجنوده :

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) ٧٨.

التبعية هي اللحوق والمتابعة ، والإتباع هو الملاحقة ، فقد لاحقهم فرعون بجنوده ليأخذهم ، ولكنه متى؟ (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٦٧).

(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ) غرقا شاملا (ما غَشِيَهُمْ) منه ، وما أجمله اجمالا عن غرقهم بصورة مهينة وكأنهم غثاء (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ ...) (٢٨ : ٤٠).

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) ٧٩.

ومن إضلاله قوله لهم (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٤٠ : ٢٩) حيث صوّر لهم ضلالة هدى ، وهدى موسى ضلالا ، أضلهم على طول الخط في سلطته الجبارة والى غرقهم ، وعلّ منه ما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان قال : من قوله لعنه الله لجنوده :.

١٥٥

«ترون البحر قد يبس من فرقي فصدقوه لما رأوا ذلك» (١).

وبطبيعة الحال لم يكن غرقهم أجمعين الا بعد اقتحامهم في البحر أجمعين ، نزولا الى الطريق اليبس ، إذ لو رجع البحر حين نزلوا الى ما كان لم يلحق اخرهم أولهم ، وانما مكروا ببقاء الطريق اليبس حتى آخر نفر منهم ثم أطبق عليهم دون إبقاء ، بعد ما نجى موسى ومن معه : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ـ ف «ثم» هنا تؤخر غرقهم عن نجاة موسى ومن معه.

ويا لها من معركة صاخبة بين كتلتي الايمان والكفر ، فالأولون يملكون كافة الطاقات الروحية ، والآخرون لهم طاقات مادية ، فلم تكن الطاقتان متكافئتين في الواقع المادي ، فلا سبيل الى خوض المعركة ماديا حيث تكلّ الطاقة الروحية أمام من لا أرواح لهم إنسانية.

فهنالك تتولى يد القدرة الإلهية إدارة المعركة ، بعد ان اكتملت حقيقة الايمان والتصبر عليه في نفوس نفيسة لا تملك قوة سواها ، فترفع راية الحق مرفرفة عالية ، وتنكّس راية الباطل مخففة خاوية ، وليعلم الذين آمنوا ان الله هو ناصرهم في حاضرهم كما في مستقبلهم : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ناسب الجو هنا التذكير بهامة النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وما واجهوها بها من تخلّف ونكران وكفران لأنعم الله ، ما يوطئ الرؤس لاصقة بالأرض تخجلا لو كانت لهم رؤس انسانية! :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٥ في كتاب سعد السعود عن ابن عباس ان جبرئيل قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ ونقل حديثا طويلا في حال فرعون وقومه وفيه «وانما قال لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) حين انتهى فرآه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه : ترون البحر ..

١٥٦

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ٨٠ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ٨١ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ٨٢.

عرض لبعض النعم التي أنعم الله عليهم ، سلبيا : «قد انجناكم من عدوكم» من سلطته الزمنية والروحية الطاغية حتى صلح الظرف لا يجاب السلطة الشرعية فإيجابا : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) اضافة الى منن مادية : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ومتى؟ حين كنتم تتيحون في الأرض أربعين سنة في صحراء قاحلة جرداء ، وعلهما من الغذاء وسلوى الأمن كما فصلناهما في البقرة.

قائلين لكم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) : فيما رزقناكم طغيانا في نعم الله ، ابتغاء له من حرام ، ام صرفا في حرام من سرف أو أيا كان ، ام نكرانا فكفران كذلك (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) الله ، في ألوهيته ان تشركوا به ام تنكروه ، (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) في هوّات رغم ماله من قوات ، ولقد هوى فرعون أمامكم ، هويّا عن عرشه إلى فرشه ثم هوى إلى الماء ومنه إلى جهنم وبئس المهاد .. والهوي يقابل الطغيان وهو من خلفياته طال أم قصر ، قل أو كثر.

وترى ماذا يعني غضب الله وهو تغير الحال والله لا يتغير من حال الى حال بل ليست له حال على أية حال ف «لا يتغير بانغيار المخلوقين»؟

انه من الله العقاب ، حيث الصفات والأفعال المتشابهة المنسوبة الى الله تجرّد عما لا يناسب ساحة الالوهية ، إذا فغضب الله عذابه كما رضوانه ثوابه و «من زعم ان الله عز وجل زال من شيء الى شيء فقد وصفه صفة

١٥٧

مخلوق ، ان الله عز وجل لا يستفزه شيء ولا يغيره» (١).

وإذا ابتليتم بذنب من اشراك بالله ام أيّة كبيرة عقائدية او عملية (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ...).

هنا (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وفي البقرة : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢) وفي الأعراف : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١٤٢).

أترى هذه الثلاث تحمل مواعدة واحدة جامعة مرة كما هنا ، ومفردة اخرى كما في هاتين؟.

كأنها هي! حيث الأربعون هي الثلاثون المتمّمة بعشر ، أم الأربعون تجمع المواعدتين ، الثلاثين الحاضرة الظاهرة ، والعشر المتمّمة لها بعدها ابتلاء لبني إسرائيل ، إلا انها لم تكن ظاهرة من ذي بدء.

وهذه المواعدة وان كانت تعم بني إسرائيل ، ولكنما موسى (عليه السلام) هو المحور الأصيل فيها ، فعلّه لذلك «وعدنا موسى ثلاثين ـ او ـ أربعين ليلة» ثم هنا (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وهو الجانب

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٦ في كتاب التوحيد باسناده الى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) ما ذلك الغضب؟ فقال ابو جعفر (عليه السلام) هو العقاب يا عمرو انه من زعم ... وفيه عن الاحتجاج عنه (عليه السلام) مثله وفيه : من ظن ان الله يغيره شيء فقد كفر.

١٥٨

الأيمن حيث فيه يمين الوحي ويمنه. «واعدناكم» لنزول ألواح التوراة الحامل لهذه الشرعة الإلهية.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) علاج حاسم ذو قواعد اربع بالنسبة لكل عصيان او طغيان ، ومنه الإشراك بالله وكما تطلبوه حين جاوزوا البحر : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا (١) مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٧ : ١٣٨) ، ومن ثم توغّلوه في غياب موسى ، مهما كان قتل أنفسهم شريطة التوبة : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢ : ٥٤).

والتوبة في هذه الأربع هي الخطوة الاولى الى المغفرة ، وليست هي لفظة تقال ، انما هي عزيمة في القلب توبة الى الله في ترك الحوبة ، ومن المعصية الى الطاعة ، ومن طاعة الشيطان الى طاعة الرحمن.

ثم الخطوة التالية لها «وآمن» حيث العصيان يضر بالايمان او يمحيه ، فليرجع بالتوبة الى ما كان من الايمان ، فلا يكفي الإصلاح عمليا ما لم ينبع من ايمان.

ثم الثالثة (وَعَمِلَ صالِحاً) حيث الايمان دون العمل الصالح لا يفيد تلك الفائدة المترقبة ، فكما ان العاصي عصى في قلبه وبقالبه ، فليؤمن بقلبه وقالبه ، و «صالحا» منكّرا هو الذي يصلح ما أفسده ويزيله الى صالح لحظيرة الايمان وحضرة الرحمان.

ثم الرابعة والاخيرة في هذا المسرح (ثُمَّ اهْتَدى) أتراه لم يهتد بعد بهذه الثلاثة ، وكلّ من بنود الاهتداء؟ اجل ، ولكنما المعني من (ثُمَّ اهْتَدى) بعدها ، هدى بعد هدى ، فلا تكفي للمغفرة الشاملة الكاملة ان

١٥٩

يهتدي عن خصوص ما ضل ، وله ضلالات اخرى غيرها ، قبل التوبة وبعدها ، فلا تضمن هذه التوبة الثلاثية إلّا خصوص ما تاب عنها ، واما إذا ما «اهتدى» هدى عن كل ضلال «فاني لغفار» غفرانا مؤكدا بالغا ذروته مبالغا ، يشمل كل ما يتطلب الغفران ، غفرا عما كان إمحاء له ، ام عما يريد ليحصل صدا عنه ، فهي إذا مغفرة رافعة ودافعة ، تجعل المغفور له في هدى صالحة غير كالحة.

وقد تعني «ثم اهدى» مع ما عنت ، الاهتداء الى الله بالسبل الى الله ، فما قيمة توبة وايمان وعمل صالح دون وسيط الوحي ، وهو الرسول أولا ومن ثم الأئمة من آل الرسول الذين يحملون كل ما حمله عن الله (١).

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ٨٣ قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ٨٤.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٧ في امالي الصدوق باسناده الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل وفيه يقول لعلي (عليه السلام) ولقد ضل من ضل عنك ولن يهتدي الى الله من لم يهتد إليك والى ولايتك وهو قول ربي عز وجل (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

وفيه عن اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : ان الله تبارك وتعالى لا يقبل الا العمل الصالح ولا يقبل الله الا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفي لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده حال ما عنده واستكمل وعده ان الله تبارك وتعالى اخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون فقال : واني لغفار ... وقال : انما يتقبل الله من المتقين ـ فمن اتقى الله فيما امره لقى الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وفيه عن تفسير القمي عن الحارث بن عمر عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : الا ترى كيف اشترط ولم ينفعه التوبة والايمان والعمل الصالح حتى اهتدى ، والله لو جهد ان يعمل ما قبل منه حتى يهتدي ، قال قلت الى من جعلني الله فداك؟ قال إلينا.

١٦٠