الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

وترى ما هو استعجال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن حتى نهي عنه من قبل ان يقضى اليه وحيه؟.

فهل استعجل بنزول آية ولما ينزل لمواعدة بينه وبين بعض الكفار ان يجيبهم عن مسائل وقد ضربوا له أجلا فانقضى ولما ينزل الوحي بالجواب (١)؟ والعجلة بآية ليست عجلة بالقرآن ككل! ثم كيف يعجل الرسول بما الله يؤجّله ، حيث عجّله الكفار بما قرروا له أجل الجواب! ويكأنه يعلّق قضاء وحي الله على الآجال المضروبة من قبل الكفار!.

ام «كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا انزل عليه جبريل بالقرآن اتعب نفسه في حفظه حتى يشق على نفسه ، يتخوف ان يصعد جبريل ولم يحفظه فينسى ما علمه فقال الله : ولا تعجل بالقرآن؟ ... (٢).

وقد ضمن الله له من قبل ألا ينساه : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)! وليس حفظ القرآن عجلة به بعد نزوله! وليس من حفظه للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) قضاء وحيه!ولا ينافي حفظه مزيد علمه ، بل هو تثبيت لما اوحي اليه!.

إنه استعجال بتحريك لسانه به قبل قضاء وحيه تماما او بعضا حيث كان أليفا بمحكم القرآن قبل تفصيله ، أنيسا بمعانيه قبل ألفاظه ، فكان أحيانا يسبق جبريل في قراءة الوحي ولمّا يقرءه ، او لمّا يتم ، شغفا بالغا الى

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٢ : ١٢٣ قال الضحاك ان اهل مكة واسقف نجران قالوا يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة ايام فابطأ الوحي عليه وفشت المقالة بان اليهود قد غلبوا محمدا فانزل الله هذه الآية.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٠٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... وقال : لا تحرك به لسانك لتعجل به ، أقول راجع تفسير الآية في الجزء ٢٩ من الفرقان تجد تفصيلا لائقا بالبحث هناك.

٢٠١

منشور ولايته وسناد رسالته.

والآية متأيدة في هذا التفسير الأخير بآية القيامة : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) كما وتؤيّد بتعقيبها في نفسها :

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فلا يكفيك العلم بمحكم القرآن النازل ليلة القدر ، إذ لا يحمل التفصيل وليس إلا بالوحي ، ولا يحمل تلك العبارات الفائقة التصور في أعلى قمم الاعجاز ، وليس إلا بالوحي.

إذا فقضاء وحي القرآن هو إتمامه بعد شيء منه ، ف «قضاه» بمعنى أتمه ، والقرآن المفصل بلفظه ومعناه ، هو إتمام للقرآن المحكم : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

هذا إتمام لمحكمه بمفصله ، وإتمام ثان هو في مفصله وكما يروى «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل نزول الآية والمعنى فانزل الله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي يفرغ من قرائته (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(١).

ولا يؤنّب الحبيب إذا عجل بكلام حبيبه شغفا بالغا فيه ، اللهم إلّا ان ينهى استكمالا له وكما أمره : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

وذلك التعقيب التلحيق العميق ينبهنا ان ليس الرسول محيطا بكل شيء علما ، لا! وحتى العلم الرسالي بالفعل ، فانما يتدرج في علمه أيا كان ، شخصيا كالمعرفة ام رساليا كاحكامها ، ولقد كان يقول : «اللهم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٩٦ في تفسير القمي في الآية قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ....

٢٠٢

انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال» (١).

والمحور الأصيل في العلم المطلوب هنا هو علم القرآن ومن ثم السنة وعلى ضوءهما ـ والعمل الصالح ـ علم المعرفة الإلهية وكلما يناسب ساحة الرسالة القدسية.

وفي المروي مستفيضا عن اهل بيت الرسالة عليهم السلام «لولا أنا نزداد لأنفدنا(٢).

وما أحلاه ما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) ان العلم هو الإنصات له ...» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٩ ـ اخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٩٧ عن الكافي عن زرارة قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : لولا انا نزداد لأنفدنا قال قلت : تزدادون شيئا لا يعلمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : اما انه إذا كان ذلك عرض على رسول الله (صلّى لله عليه وآله وسلم) ثم على الائمة ثم انتهى الأمر إلينا ، وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتى يبدأ برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ثم بأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم بواحد بعد واحد لكيلا يكون آخرنا اعلم من أولنا.

وعن المجمع روت عائشة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال : إذا أتى علي يوم لا ازداد فيه علما يقربني الى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

(٣) المصدر ٣٩٩ عن الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال له يا رسول الله ما العلم؟ قال : الإنصات له قال ثم ما؟ قال : الاستماع له ، قال : ثم ما؟ قال : الحفظ له ، قال : ثم ما؟ قال : العمل ، قال : ثم ما؟ قال : نشره.

٢٠٣

وحين يقال لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) انا نسألك أحيانا فتسرع بالجواب ، وأحيانا فتطرق ثم تجيبنا؟ قال : نعم انه ينكت في آذاننا وقلوبنا فإذا نكت نطقنا وإذا امسك عنا أمسكنا (١).

وحين يسأل امير المؤمنين (عليه السلام) من أعلم الناس؟ يقول : من جمع علم الناس الى علمه» (٢).

ان «معرفة الله حق معرفته هو رأس العلم» (٣) وسائر العلم وسائلها ، ولا نهاية لحق المعرفة واليقين وكما يؤمر رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ١١٥

علّها اضافة الى بيان واقع سابق من ضعف العزم الإنساني المتمثل في الإنسان الأولى ، هي إلى جانب ذلك تكريم لساحة الرسالة القدسية الأخيرة ، التي يحملها أعظم اولي العزم من الرسل.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٩٨ في بصائر الدرجات عمران بن موسى عن موسى بن جعفر عن عمرو بن سعيد المدايني عن عيسى بن حمزة الثقفي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) انا نسألك ...

(٢) المصدر في الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سئل امير المؤمنين ..

(٣) المصدر في كتاب التوحيد باسناده الى ابن عباس قال جاء اعرابي الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) علمني من غرائب العلم ، قال : ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟ قال الرجل : ما رأس العلم؟ يا رسول الله؟ قال : معرفة الله حق معرفته ، قال الاعرابي وما معرفة الله حق معرفته؟ قال : تعرفه بلا مثل ولا شبه ولا ند وانه واحد احد ظاهر باطن أول آخر لا كفو له ولا نظير له فذلك حق معرفته.

٢٠٤

فأنت يا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) محافظ لعهد الله تماما ، وعازم عليه تماما ، ولذلك قد تسبق رسول الوحي في قراءته ، واين أنت من آدم حيث عهدنا اليه من قبل فنسي العهد ولم نجد له عزما وثباتا على العهد!.

ولا نعهد عهدا الى آدم في الذكر الحكيم إلّا ألّا يطيع الشيطان ولا يقرب الشجرة المنهية كما في آيات عدة مثل ما هنا : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٨).

ونسيان عهد الله لو كان عن قصور لا يسمى عصيانا ، وان كان عن تقصير كان عصيانا ، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ـ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) هما في جملة عساكر الادلة القاطعة على نسيانه المقصر العصيان ، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) تعني أن لم يكن له عزم على تطبيق العهد رغم تقبّله وتصديقه ، ف «لم أجد» في غير الله أعم من الوجود وعدمه حيث العلم غير مطلق ولا مطبق ، ولكنه في الله صيغة أخرى عن عدم الوجود ، ولماذا «لم نجد» بديلا عن «لم يكن أو لم يوجد له عزم» حيث الثاني يستأصل عزمه كأن الله لم يخلق له عزما ، إذا فهو قاصر لا يتمكن من عزم ، ولكن «لم نجد» تنفي وجود عزمه بما قصّر ، لامحة انه خلق له عزما مختارا في تطبيق عهده ، ولكنه نسي عهده وترك عزمه لعهده ، فأصبح عهدا دون عزم تقصيرا منه دون قصور ، ولذلك يعلن في هذه الإذاعة القرآنية العالمية (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

اجل ، وكلما كانت النفس أعزم على تطبيق عهد الله فهي أعظم عند الله ، وابعد عن محارم الله ، حتى يتصل الى قمة العزم وهي النفوس القدسية لأولي العزم من الرسل ومن نحى منحاهم كالائمة من آل الرسول الأقدس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).

٢٠٥

ونسيان آدم ، المقصّر ، كان تناسيا على ذكر ، وإلا فكيف هنا اصل النسيان وقد ذكره الله من قبل بموقفه مع الشيطان : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ..) ام «كيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٧ : ٣٠)؟ (١).

وكضابطة عامة لا عصيان إلا بنسيان الرب وعهده تساهلا وتناسيا وتجاهلا عاندا ام عامدا ام عن جهالة ، ونسيان الله وعهده على أية حال عصيان مهما اختلفت دركاته.

ولقد نبه الله آدم حين خلقه وأسجد له ملائكته وتمنّع إبليس عن السجدة ، نبّهه بذلك العهد وذكّره :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) ١١٦.

ولقد فصلنا القصة وحققناها حسب المستطاع في البقرة وقلنا هناك وفي مواضع اخرى ان المسجود له هنا عبودية او احتراما هو الله ، وآدم هو المسجود له شكرا لله ، كما تقول سجدت لولدي بيانا لدافع سجودك شكرا لله.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) ١١٧.

عداء سابق على السجدة لماذا أمر بها ، وعداء لاحق على مرّ الزمن لماذا لعن بتركها : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ

__________________

(١) البحار ١١ : ١٨٧ ح ٤٣ عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما قال سألته : كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال : انه لم ينس وكيف ينسى ...

٢٠٦

الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٦٢) (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١٥ : ٣٩).

والشقاء هنا ، المتفرعة على الخروج عن الجنة الى الحياة الأرضية ، هي التعب والعناء في هذه الحياة ، فالشقاء بالكدّ والعمل والشرود والضلال والحيرة واللهفة والانتظار والألم والفقدان ، ام أيا كان ، كل هذه تنتظرك خارج الجنة في حياة الشقوة الارضية ، وأنت في حمى منها كلها في رحاب الجنة.

ومن اصول الشقاء هناك خارج الجنة الجوع والعرى والظمأ والضحى :

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ١١٨ وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ١١٩.

لا جوع فيها حيث الأكل حاضر فيها كما تشهي دون كدّ للحصول عليه ، ولا عرى حيث ملابس الجنة تلابسك دون سعى قد يخيب ، ولا ظمأ العطش حيث الماء فيها كما تشاء وحيث تشاء ، ولا ضحى الشمس حيث الجنة تجن عن الشمس الضاحية ، ثم وبرودة الهواء ونعامتها من ناحية ، وعدم الحاجة الى مظلّات من أخرى ، لا تحوجك تكلّف التستر عنها.

وهنا الجوع والعرى يتقابلان مع الظمإ والضحوة ، وهي في مجموعها تمثّل رؤوس متاعب الإنسان وشقاءه في الحصول على حاجيات الحياة ودفع مضراتها.

هذا ـ ولكنما الإنسان النسيان ، الغفلان عن تجاربه مع الشيطان ، والرغبان في البقاء والسلطان ، من هذه الثغرات ينفذ اليه الشيطان ، ابتلاء

٢٠٧

بالعصيان وخروجا عن جوار رحمة الرحمن :

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)١٢٠.

(ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ ...) (١٧ : ٢١).

الشيطان يحبّذ الى آدم الأكل من الشجرة المنهية ، واصفا لها بشجرة الخلد وملك لا يبلى ، بعد أنّ الرحمن يحدره عنها ، واصفا لها بشجرة الشقاء والخروج عن جنة الراحة والبقاء ، ويا للإنسان من غفلة ونسيان لعهد الله وذكراه ، كيف يميل الى الوسواس الخناس ، ويترك عظة اله الناس؟.

أتراه كذّب الله في وعده مصدقا للشيطان ، وهو من اكفر الكفر! ام ان شغفه البالغ لخلد الحياة في الجنة وملك فيها لا يبلى أنساه ذكراه ، فنسي عداء الشيطان والشقاء الناتج عن اتّباعه (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) فلقد لمس اللعين في نفس آدم الموضع الحساس ، وهو تطلّب البقاء ، فأنساه العهد والعناء المتوعدة على الخروج من الجنة ، فأقدم على المحظور :

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ١٢١.

وهذه السوآت هي العورات ، فقد كانت عنهما مستورة ، وكان بدوّها من اهداف الشيطان : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) (٧ : ٢٠) (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) (٧ : ٢٧).

فقد كانت عوراتهما ملبوسة بلباس الجنة ولمّا تبدو لهما منذ خلقا ، فلما

٢٠٨

اكلا من الشجرة نزع عنهما لباسهما فبدت لهما عوراتهما ، عورة ظاهرة كانت خفية ، نتيجة عورة باطنة في الروح هي النسيان العصيان ، وليعلم الإنسان انه في قرارة نفسه عورة ظاهرة وباطنة ، فعند الامتحان يكرم المرء او يهان ، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.

وبالفعل (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) وهي مواضع الجنس والعفة بما أكلا ، ومواضع الخفة في الروح لماذا أكلا ، فأصبحا عارفين من عورات الروح والجسم ما أريا (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) سترا لعورات الجسم ، ولكنهما كيف يستران عورات الروح؟:

(أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) (٧ : ٢٦) وقد بقي عليهما ان يسترا عورات الروح حيث (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)! «وهي أول قدم مشت الى الخطيئة» (١) وطبعا بين قبيل الإنسان ، فان الشيطان سبقه فيها.

وقد تلمح (طَفِقا يَخْصِفانِ) انهما ما قدرا على ان يخصفا ، وإلّا لكان حق التعبير «فخصفا» فانما حاولا ، واما واقع الخصف فلا خبر عنه ، ثم (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ..) كانت مشروطة بعدم الأكل من الشجرة وقد اكلا فليعريا هنا وفي الحياة الأرضية.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)!

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٠٣ في علل الشرايع باسناده الى الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لما ان وسوس الشيطان الى آدم دنا من الشجرة ونظر إليها ذهب ماء وجهه ثم قام ومشى إليها وهي اوّل ثم مشت الى الخطيئة ثم تناول بيده مما عليها فأكل فطار الحلي والحلل عن جسده.

٢٠٩

وهنا أول انسان يبتلى بأول عصيان ، مهما حاول ناس وهم الأكثرية المطلقة من مفسرين ومحدثين ان يحوّلوا عصيانه الى ترك الاولى ، ولكنه محاولة غافلة فاشلة حيث تخالف نصوص الكتاب والسنة وكما فصلناها على ضوء آية البقرة.

ومنهم من يردّد القول ان ذلك كان قبل تشريع الشّرعة ، وانه كان نهيا إرشاديا ، وتراه ماذا يقصد من الشرعة الإلهية ، أهي المشرّعة منذ الرسالة الأرضية؟ ولا ينافيها حكم واحد تكليفي او يزيد قبل هذه الشرعة! ام تعم اي حكم الهي؟ فقد حكم الله قبل الشرعة الارضية احكاما عدة ، منها ما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس ، وقد لعن إبليس حين ابى ، فهلا هو عاص إذ لم تكن هنا لك شرعة؟ وهو شر عصيان! ام لم يكن الملائكة ـ إذا ـ طائعين؟ وهي خير طاعة! فكذلك في عصيان آدم وقد لحق عصيان الشيطان.

فحتى لو كان النهي إرشاديا ـ ولم يكن ـ فهو ايضا من الشرعة ، وعصيان النهي الارشادي بهذه الصورة العجيبة ، هو ايضا في الحق عصيان ، ثم طبيعة الحال في الأوامر والنواهي الإلهية انها مولوية ككلّ الا بقرينة قاطعة ، ام هي كلها ارشادية حيث ترشد الى مصالح تحملها فردية ام جماعية ، فمجرد ان تسمي نهيا إرشاديا ـ ودون اي برهان ـ لا يخرج تخلفه عن العصيان ، وكما الله صرح في هذه الاذاعة القرآنية (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

فلو كان تركا للأولى فكان الاولى بل المحتوم في القرآن البيان «وترك الاولى» دون «وعصى» لا سيما مع تصريحات أخرى تؤيد انه حقا «عصى» : فالنهي المؤكّد عن الاكل منها ، ثم فتكونا من الظالمين ، وانه زل ، وشقي ، وعصى ، وأهبط من الجنة ، وتاب فيها وبعدها ، هذه عساكر

٢١٠

سبعة تدلنا على انه حتما «عصى فغوى».

و «عصى» بنفسها تكفي دلالة على اقتراف الحرام ولم تستعمل في القرآن كله إلا في نفس المعنى ، كما الظلم والزلة والشقاء والغواية ، ثم هذه التوبة العريضة ليست الا عن ارتكاب محرم.

وترك الاولى تخلفا عن نهي ارشادي كما يقولون ، لا يستحق هذه التعابير القاسية القاضية على العدالة فضلا عن العصمة ، ولا يستوجب تلك التوبة الطويلة العريضة!

والعصمة الضرورية لساحة الرسالة هي منذ الرسالة حتى يقضي الرسول نحبه ، دون ما قبلها الا لمن دلت لهم الدلالات القاطعة كالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) ومن نحى منحاهم من اولي العزم ام سواهم.

وليت شعري ماذا يدفع هؤلاء الأعاظم الى تأويل نصوص الكتاب والسنة في عصيان آدم (عليه السلام)؟

أاستعظاما لشأن آدم (عليه السلام) والقرآن أعظم شأنا أن يؤوّل الى خلاف نصوصه ، وما تشهيره فيه بذنبه إلا «ان مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة» (١) وليعلم ذريته انهم سيبتلون بالشيطان كما ابتلي أبوهم آدم فيتخذوه عدوا.

__________________

(١) تفسير روح المعاني للالوسي ١٦ : ٢٧٥ ـ اخرج البيهقي في شعب الايمان عن أبي عبد الله المغربي قال : تفكر ابراهيم (عليه السلام) في شأن آدم (عليه السلام) فقال يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته؟ فأوحى الله اليه يا ابراهيم اما علمت ان مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة!؟

٢١١

ولعمر الهي الحق ان ذلك التأويل العليل غريب في نوعه دون اي تعويل إلا على أن الأنبياء معصومون! ولم يكن هذا العصيان إلا قبل نبوته (١) لمكان (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) والقرآن مصرح بذلك العصيان ، ولا يوجد في عشرات من الأحاديث الناظرة اليه المفسرة له إلا نفس الذنب والخطيئة والعصيان ، دون ترك الاولى ولا مرة يتيمة.

وغريب من صاحب بحار الأنوار انه يعنون بابا من أبوابه ب «ارتكاب ترك الاولى» سردا لآيات عصيان آدم ورواياته ، ولا ينبئك مثل خبير بغربة القرآن الغريبة حيث تؤول آياته البينات دون اي برهان ، حتى وإذا صدقت بمتظافر الأحاديث التي هم يؤصّلونها ، ويفرعون القرآن عليها (٢)!

__________________

(١) البحار ١١ : ١٦٤ ن عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى قال فما معنى قول الله عز وجل : وعصى آدم ربه فغوى؟ فقال : ان الله تبارك وتعالى قال لآدم (عليه السلام) (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار ، «انما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال الله عز وجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وقال الله عز وجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

(٢) البحار ج ١١ وهذا الباب يشمل (٤٨) صفحة من ١٥٥ ـ ٢٠٣ ـ وفيها عشرات من الأحاديث الدالة على انه حقا كان عصيانا وفيما يلي عشرة منها تقدم واحد تحت الرقم (١) : ص ١٦٣ ح ٦ «فس أبي عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم عليهما السلام) فجمع فقال له موسى : يا أبه! الم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته ـ

٢١٢

اجل انه عصى فغوى ، ولكنها معصية صغيرة حيث نسي واغتر بما

__________________

ـ وأمرك الا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة ، قال : بثلاثين سنة ، قال : فهو ذلك ، قال الصادق (عليه السلام) فحج آدم موسى».

أقول : وجد ان خطيئة في علم الله لا يبررها حيث العلم ليس علة للعصيان ، وهل كان آدم يعلم ان الله يعلم بخطيئته في المستقبل؟ ام سيّره على خطيئته إذا فهو خطيئة من الله وسبحان الله ، إذا فكيف حج آدم موسى ، وعلى فرض الغض عن ذلك فهما معترفان انه كان خطيئة لا تركا للأولى ، والا لكان آدم يحجه بذلك دون العلم السابق.

ح ٧ «فس روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما اخرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال يا آدم أليس الله خلقك بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وزوجك حواء أمته وأسكنك الجنة وأباحها لك ونهاك مشافهة ان لا تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم يا جبرئيل ان إبليس حلف لي بالله انه لي ناصح فما ظننت ان أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا.

ح ١٠ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : لولا ان آدم أذنب ما أذنب مؤمن ابدا ولو لا ان الله تاب على آدم ما تاب على مذنب ابدا.

ح ١٥ ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله تبارك وتعالى لما أراد ان يتوب على آدم أرسل اليه جبرئيل فقال له : السلام عليك يا آدم الصابر على بليته التائب من خطيئته ...».

ح ١٨ ـ عن زر بن حبيش قال سألت ابن مسعود عن ايام البيض ما سببها؟ وكيف سمعت؟ قال : سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : ان آدم لما عصى ربه عز وجل ناداه مناد من لدن العرش يا آدم اخرج من جواري فانه لا يجاورني احد عصاني فبكى وبكت الملائكة فبعث الله عز وجل اليه جبرئيل فاهبطه الى الأرض مسودّا فلما رأته الملائكة ضجت وبكت وانتحبت وقالت يا رب خلقا خلقته ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك بذنب واحد حولت بياضه سوادا ... ثم واصل في بيان ما كلفه آدم ايام البيض الثلاثة حتى صار كله بياضا.

٢١٣

__________________

ح ٢٥ ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان آدم بقي على الصفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة وعلى خروجه من جوار الله عز وجل فنزل عليه جبرئيل فقال يا آدم ، ما لك تبكي؟ قال : يا جبرئيل مالي لا ابكي وقد اخرجني الله من جواره واهبطني الى الدنيا؟ قال : يا آدم تب اليه ....

ح ٢٩ ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان آدم لما طاف بالبيت فانتهى الى الملتزم فقال جبرئيل أقر لربك بذنوبك في هذا المكان ، فوقف آدم فقال : يا رب ان لكل عامل اجرا وقد عملت فما اجري فأوحى الله تعالى اليه يا آدم من جاء من ذريتك الى هذا المكان فأقر فيه بذنوبه غفرت له.

ح ٣٥ من أبي جعفر (عليه السلام) قال : الكلمات التي تلقى بهن آدم ربه فتاب عليه قال : اللهم لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك اني عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت التواب الرحيم لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت خير الغافرين».

ح ٣٦ ـ من عطاء عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال انما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى خرج منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى اكلا من الشجرة فاهبطهما الى الأرض من يومها ذلك قال : فحاج آدم ربه فقال يا رب أرأيتك قبل ان تخلقني كنت قدرت علي هذا الذنب وكل ما صرت وانا صائر اليه او هذا شيء فعلته انا من قبل لم ـ ان ـ تقدره علي غلبت علي شقوتي فكان ذلك مني وفعلي لا منك ولا من فعلك؟ قال له يا آدم انا خلقتك وعلمتك اني أسكنك وزوجتك الجنة وبنعمتي وما جعلت فيك من قوتي قويت بجوارحك على معصيتي ولم تغب عن عيني ولم يخل علمي من فعلك ولا مما أنت فاعله وقال آدم يا رب الحجة لك علي ... قال الله يا آدم انا الله الكريم خلقت الخير قبل الشر وخلقت رحمتي قبل غضبي وقدمت بكرامتي قبل هواني وقدمت باحتجاجي قبل عذابي ، يا آدم الم أنهك عن الشجرة وأخبرك ان الشيطان عدو لك ولزوجتك وأحذركما قبل ان تصيرا الى الجنة وأعلمكما انكما ان أكلتما من الشجرة كنتما ظالمين لأنفسكما عاصيين لي ، يا آدم لا يجاورني في جنتي ظالم عاص لي ، قال فقال : يا رب الحجة لك علينا. ظلمنا أنفسنا وعصينا وإلا تغفر لنا وترحمنا نكن الخاسرين.

٢١٤

قاسمه إبليس (١) وكان ذلك قبل رسالته (٢) فانه :

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ١٢٢.

الاجتباء من الجباية : الجمع ، والافتعال جمع متكلّف فيه ، وإذ لا تكلف في افعال الله تعالى ، فليكن اصطفاء له بعد صفاءه بتوبته وهداه ، فللعصمة مرحلتان ، إخلاص خلقي ، ثم إخلاص من الله ، فلما يجبي الإنسان نفسه لربه كما يستطيع ، فقد يجتبيه ربه لنفسه رسولا منه الى خلقه ، و «ربه» هنا دون «الله» ام (رَبِّ الْعالَمِينَ) تلمح لهذه الربوبية الخاصة في ذلك الاجتباء.

__________________

(١) مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): والصادق حقا هو الذي يصدق كل كاذب بحقيقة صدق ما لديه وهو المعنى الذي لا يسع معه سواه او ضده مثل آدم (عليه السلام) صدق إبليس في كذبه حين اقسم له كاذبا لعدم ما به الكذب في آدم (عليه السلام) قال الله عز وجل : ولم نجد له عزما ، ولان إبليس كان أول من ابتدأ بالكذب وهو غير معهود وأظهره وهو غير مشروع ولا يعرف عند اهل السماوات والأرض ظاهرا وباطنا فحشر هو بكذبه على معنى لم ينتفع به من صدق آدم (عليه السلام) على بقاء الأبد وأفاد آدم بتصديق كذبه شهادة الله عز وجل بنفي عزمه عما يضاد عهده في الحقيقة على معنى لم ينتقض من أصفيائه بكذبه شيئا».

(٢) نور الثقلين في عيون الاخبار باسناده الى أبي الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) اهل المقالات من اهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وساير المقالات فلم يقم احد الا وقد الزمه حجته كأنه القم حجرا قام اليه علي بن جهم فقال له يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أتقول بعصمة الأنبياء فقال نعم قال فما تعمل في قول الله عز وجل : وعصى آدم ربه فغوى؟ فقال : ان الله عز وجل خلق آدم حجته في ارضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير الله عز وجل فلما اهبط الى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل : ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين.

٢١٥

و «ثم» هنا تجعل اجتباءه الرسالي متأخرا عن توبته تعالى عليه وهداه ، وهذه طبيعة الحال في الاجتباء ، كما ان (فَتابَ عَلَيْهِ) تدل على توبته الى الله فتاب الله عليه ، وهذه التوبة محفوفة بتوبتين من الله الى التائب ، من قبل حتى يتوب الى الله ، ومن بعد توبة من الله عليه تقبلا منه ، حتى يتوب عليه : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٩ : ١١٩).

كما أنّ «وهدى» هي هدى بعد توبة الله عليه ثانية ، وليس الاجتباء إلا بعد هذه الهدى ، فهو المرحلة الخامسة بعد تخطيّه هذه الأربع ، توبات ثلاث وهدى ، والاجتباء هدى رسالية بعد الهدى الخاصة المبيّنة صلاحية الرسول كشخص ، وهي المعنية بالهدى التالية:

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) ١٢٣!

هنا (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) وفي سواها (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (٢ : ٣٨) (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٢ : ٣٦) وو ٧ : ٢٤) فهل المخاطب مثنى فكيف الجمع في ذلك الجمع؟ ام هو جمع فلما ذا المثنى في هذه اليتيمة؟.

«اهبطوا» في هذه الثلاث الاخيرة تجمع آدم وزوجه والشيطان ، و «اهبطا» هنا بقرينة الجمع في «يأتينكم» والعداء في (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تعني نفس الجمع ، والتثنية اعتبارا بالفريقين المتناحرين على طول خط الحياة ، فالعداء الأصيل هو بين الشيطان والإنسان ككلّ ، ويتفرع عليه عداء ثان بين قبيل الإنسان (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (١٧ : ٥٣)

وهنا احتمال ثان ان التثنية تعني قبيلي الرجال والنساء المنتسلين من الأولين ، ومباعضة العداء تعم عداء كل للآخر ، وعداء كلّ مع قبيله ،

٢١٦

ثم الشيطان رأس الزاوية في كل عداء.

وذلك العداء بين قبيل الإنسان ، واثره عليه من قبيل الشيطان ، هما لا يزولان ام يخفان إلا بهدى الله الملك المنان :

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ونون التأكيد تنسف التردد في إتيان هدى الى التأكد منها ، و «هدى» هذه ، الآتية بعد الهبوط ، ليست هي الفطرية والعقلية والحسية وقد أوتيها كل مكلف منذ خلقه ، بل هي الهدى الرسالية بالوحي ، غير المستطاعة لهم ، سواء أكانت هدى العقل صدا عن اخطاءه اما زاد ، وعليها هي مادة الرسالة الاولى التي حملها آدم (عليه السلام) حيث الشرعة الإلهية بفروعها الأحكامية الشاملة انما ابتدئت من نوح : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ..) (٤٢ : ٤٣) فقد (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ..) (٢ : ٢١٣) والنبيون هنا هم حملة الشرائع منذ نوح الى محمد (عليهم السلام) ، وآدم كان رسولا مهديا بهدي الدلالات العقلية الناضجة ولم يكن نبيا ، حيث النبوة هي منزلة رفيعة في الرسالة ، وآدم لم يحظو إلا مرتبة دانية بدائية من الرسالة.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) في أية شرعة الهية (فَلا يَضِلُّ) اتباعا للشيطان ، وعداء بعضهم لبعض ، وقصورا للعقل عن كامل المصلحة الحيوية ، وبالنتيجة (وَلا يَشْقى) بالرغم من ان الحياة الدنيا هي حياة الشقاء ، وباحرى (لا يَشْقى) في البرزخ والأخرى ، فالشقاء في الحياة لمتبع الهدى منفية ، في عيشة راضية مرضية ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) في تفسير آية الهدى «من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ..» (١) وهذا تفسير

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١١ ـ اخرج ابن أبي شيبة والطبراني ـ وابو نعيم في الحلية وابن ـ

٢١٧

تطبيقي للهدى بأفضل مصاديقها.

وترى كيف يهدّد آدم إذا عصى بأنه يشقى ، وإذا أطاع فلا يشقى ، وهنا يعده مرة اخرى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) في هذه الحياة الارضية الشقاء؟.

علّه لان الشقاء المهدد بها تعم النشآت الثلاث روحية وبدنية ، وهي تجبر باتباع الهدى ، إلا بدنية في الاولى ، لا تحسب بشيء بجنب الرياحة الروحية برضوان من الله.

صحيح ان آدم اهبط من الجنة بما عصى ، ولكنه زوّد في الحياة الارضية بزاد التقوى التي تجعل له منها جنة المأوى ، اضافة الى حياته الحسنة في الدنيا ، والجنة التي يخلفها الإنسان بما سعى ، خير من جنة دخلها دون ان يسعى.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ

__________________

ـ مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... وذلك ان الله يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).

٢١٨

يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ

٢١٩

وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ١٢٤.

«ذكري» هنا هو «هداي» هناك ، وكما الذكر درجات كذلك الاعراض عن الذكر دركات تجمعها (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) و «ذكري» بين آفاقي وأنفسي ، ومن أفضل الأول القرآن ورسول القرآن ويتلوه من يتلوه (١) والثاني فطري وعقلي ، وكل ذلك من مصاديق «ذكري» على اختلاف درجاتها.

وكيف (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) وجاه (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) والصيغة الصالحة «من لم يتبع هداي»؟ عله لان هناك من لا يتبع هداه ولا يعرض عنها ، كالمستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، في قصور مطلق ام طرف من التقصير لا يؤخذ بعين الاعتبار.

وكذلك العصاة الذين هم مصيرهم الى الجنة ، إذ لم يعصوا الله اعراضا عن ذكره وهداه ، وانما غلبت عليهم شهوتهم وشقوتهم وأركسوا فيها دون اعراض ، فالصيغة الصالحة ـ إذا ـ كما هيه : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ..) والآيتان تتحدّثان عن كتلة الايمان الصائب والكفر الثاقب ، واما العوان بينهما فلا ذكر عنهم في آية الذكر والهدى.

__________________

(١) كفاية الخصام ٤٩٦ ـ ابو صالح عن ابن عباس في الآية قال تعني الذي ترك ولاية علي (عليه السلام) أعماه الله وأصمه ، أقول. وفيه روايات مستفيضة من طرق أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام).

٢٢٠