الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

وبالفعل رجعوا إلى المعبد ، وبدل ان يرجعوا إلى أنفسهم ان الآلهة لا تغلب ، إذا فما هي بآلهة ، حيث الخرافة قد عطلت أنفسهم عن انسانية التفكير ، وبدل ان يرجعوا إلى كبيرهم ثم إلى ابراهيم فالى الله ، فإذا هم يتساءلون فيما بينهم حائرين.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ٥٩.

حكما على من فعل هذا أيا كان (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بلا اي عذر ولا عاذر ، حيث التغلب هكذا على الآلهة ، وكسرها عن آخرها إلا .. ان ذلك هو الظلم العظيم والضيم الحطيم فلنفتش عن الظالم أيا كان اهو كبيرهم ام هو ابراهيم؟

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ٦٠.

وهنا «سمعنا» دون : رأيناه او سمعناه و «فتى» دون رجلا ، ثم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) دون ابراهيم ، هي توهينات ثلاث لكاسر الأصنام ، تجهيلا لأمره وتصغيرا لشأنه وتعريضا به انه «فتى» شاب وهذه الجرأة الظالمة هي من فعل الشباب ، مجهولا لا يعرف (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) كأنه أسمعه المستعار ، او ان معرفة اسمه عار ، ام انه في الأصل مجهول الاسم والرسم ليس له اي مقدار حتى يعرف بيننا باسم او رسم ، فانه مجهول حيثما دار.

وهي هي دأبة دائبة عائبة لمن يراد توهينه وتهوينه مهما كان فعله عظيما ، اشعارا بانه في نفسه صغير صغير ، مهما ارتكب الكبير الكبير.

(فَتًى يَذْكُرُهُمْ) بسوء ، وانه سوف يكيدهم فقد كادهم بالفعل ، و «ابراهيم» رفعا فاعل «يقال» (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) ٦١.

فلقد تقاطرت الوفود ، وتكاثرت الجموع إلى أجساد الآلهة وأجداثها ،

٣٢١

كلّ يرغب في القصاص من ابراهيم ، فجاءوا به وسط الجمع الزاخر بالقمع القاهر ، وأخذوا يحاكمونه استجوابا عن الطامّة الواقعة ، أمام الجماعة المتغيّظة التي تحرق الإرم حنقا وغيظا.

(فَأْتُوا بِهِ) إتيانا جاهرا (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) حيث يعاينونه في نفس المشهد وقبل ان تتفرقوا (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) يشهدونه من هو هذا الجريء ، ويشهدون عليه انه الفتى الذي كان يذكرهم ، ف «يشهدون» إقراره على فعلته ، ثم «يشهدون» نكاله بفعاله ، كيلا يطمع طامع بعد في فعلته ، اجتثاثا لجذور هذه الضغينة الشكيمة بالآلهة ، ولكي يرتاح عابدوها بما يشهدون من نقمته.

شهادات اربع علّها معنية كلها حيث يتحملها اللفظ والمعنى ، فإن «يشهدون» الأجرد عن متعلقات ، تعم كافة المتعلقات من شهادة نفسه وإقراره وعذابه والشهادة عليه انه هو لا سواه.

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) ٦٢.

استفهام استنكار للأخذ بالإقرار حتى يشهدوا إقراره ، ليكون في عزمهم على تحريقه إعذارهم ، و «آلهتنا» دون «الآلهة» كاعتراف منهم انه كان ينكرهم.

وابراهيم الذي اصطنع ذلك الجو الحاشد ، والمسرح السائد ، تراه ماذا عليه في الاجابة عن ذلك السئوال العضال ، حتى يحقق مأموله؟.

فهل يصارح بالواقع كما وقع : «أنا فعلت» وفي ذلك تهديم لصرح الحجاج ، وتعجيل منهم لكل عقوبة ولجاج ، فيصبح ما صنعه باطلا يرجع الى بوار ، فلا حجة تحصل ، ولا الرسول يبقى بل ينكل ، حتى ان بقي فما فائدة بقية في حياة الرسول دون تحقيق لحجته ، بل والناكرون للتوحيد يزدادون لجاجا حين يرون آلهتهم جذاذا دونما حجة ، تجعلها جذاذا بها بعد

٣٢٢

جذاذها في أجسادها!.

أم يقول كذبا (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) باتا في قوله ، والكذب فشل وخلل في الرسالة ، وسوء سابقة للرسول ، فلا يعتمد على أقواله وان كان الكذب مصلحيا ، ولماذا يكذب والحق يملك كل حجج الصدق دونما حاجة الى أي كذب! والرواية القائلة انه كذب مطروحة او مؤلّة ، لمخالفتها الآية ومسها من ساحة الرسالة الصادقة (١).

عليه في ذلك المسرح المصرع ان يأخذ امرا بين أمرين تكون فيه نبهتم بحجة قارعة قاصعة في عاجله ، قبل ان يعزموا عليه نقمة لآجله ، وقد فعل فنسب الفعل في ظاهر الحال الى كبيرهم لكيلا يهجموا عليه دون امهال ولا مجال ، ثم جعل هذه النسبة في شرطية مشتملة على حجتين :

(قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ٦٣.

ليّ في الصدق ما أحراه بساحة الرسالة الصادقة ، حجة تجعلهم في لجة ، (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا .. إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ـ (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فقد «والله ما فعله كبيرهم وما كذب ابراهيم ، انما قال فعله

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٢١ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكذب ابراهيم في شيء قط الا في ثلاث كلهن في الله : قوله اني سقيم ولم يكن سقيما ، وقوله لسارة أختي وقوله بل فعله كبيرهم هذا وفيه عن أبي سعيد ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يأتي الناس ابراهيم فيقولون له اشفع لنا الى ربك ، فيقول : اني كذبت ثلاث كذبات فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما منها كذبة الا حل بها عن دين الله ، قوله : اني سقيم بل فعله كبيرهم هذا وقوله لسارة انها أختي.

أقول : لقد صدق في : اني سقيم كما بيناه في آيته ، حيث سقم روحه في ضلالهم ، ثم في الحديث الثاني تضاد ، فان لم يصلح ابراهيم للشفاعة لأنه كذب ، فهو كذب غير معذور ، وان كان معذورا في كذبه فتركه للشفاعة غير مشكور!.

٣٢٣

كبيرهم هذا ان نطق وان لم ينطق فلم يفعل كبيرهم هذا شيئا» (١).

وهذه طبيعة الحال في الآلهة الناطقة الحية ان كبيرهم يصرع شركاءه ليتوحد هو بالألوهية : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣٣ : ٩٤).

ثم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فهم أحرى ان يسألوا من فعل بهم هذا ، إذا (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ولا تسألوني أنا ، شرطية صادقة باهرة تحمل حججا قاهرة : فأسئلوهم هل قتلهم كبيرهم ام سواه ، ولا بد لهم من اجابة (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فإذ لا ينطقون فما هم بآلهة ، ولو نطقوا فليس إلّا كبيرهم فعله قضية التغالب في آلهة عدة ، دون عبيد كأمثال ابراهيم.

فعدم نطقهم ، وجعلهم جذاذا بفعل ابراهيم ، هما برهانان اثنان انهم أضعف من احد من العباد فكيف يعبدهم العباد.

فلقد فسحت هذه الشرطية المجملة الجميلة تلك المجالات الفاسحة لاحتجاج ابراهيم على من حضر من عبدة الأصنام ، ولا شك ان اجتماع القوم في صعيد واحد كان أمنية ابراهيم التي طالما جاشت نفسه بها وتوخاها ليقيم عليهم الحجة جميعا.

ويا لها من تهكم ساخر يهزءهم هزء ويهزّهم هزّا ، حيث يحمل برهانا صارحا صارخا في الحشد انها ليست بآلهة إذ لا تنطق ولا تحافظ على أنفسها ، فضلا عن أن تنطق بصالح عبادها ، والحفاظ على مصالحهم.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٣١ عن تفسير القمي في الآية : فقال الصادق (عليه السلام) والله ....

فقيل كيف ذلك؟ فقال : انما قال ... أقول : ان كانوا راجع الى كلتا الجملتين : فعله فاسألوهم ..

٣٢٤

وهنا نرى تلك الأنفس الفالتة عن عقولها ، المتخبطة في كل حقولها ، ترجع الى أنفسها عند الجواب الحاسم القاصم :

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ٦٤.

بادرة خير في أنفسهم الخاوية ان يحكموا بظلمهم أنفسهم دون ابراهيم ، حيث «أنتم» تحصر «الظالمون» فيهم ، تبرئة لساحة ابراهيم عن الظلم فيما فعل ، بل هو العادل فيما فعل حيث رجّعنا إلى أنفسنا واشعرنا بظلمنا أنفسنا.

فاتحة فيها بارقة الأمل كما تفأّل : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) تفتحا لبصائرهم لأوّل مرة في حياتهم المشركة ، وتدبرا في ذلك السخف الذي كانوا عنه صادرون ، والظلم الذي كانوا هم فيه سادرون ، وقد قالوا من قبل (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فما مضى إلّا آونات حتى حكموا على أنفسهم : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) وما أحلاه كلمة حق على لسان المبطل بحجة رسالية وامضة كهذه ، تجعل حجتهم داحضة وتراهم «فقالوا» كل للآخر؟ والكل غرقى في لجة الحجة! ولم يكونوا ليصارحوا بهذه النكسة أمام ابراهيم! ام كل لنفسه في نفسه؟ وهذه قضية الموقف ، و «أنفسهم» دون «بعضهم الى بعض» كما «اقبل (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٦٨ : ٣١) دون (عَلى أَنْفُسِهِمْ).

وقد تعني «أنفسهم» هنا ما عنته (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) رجوعا لكلّ الى نفسه ، ثم الى الآخرين دون مصارحة تعرف ، في لمحات وإشارات فيما بينهم ، ولكن ابراهيم وهو شيخ العارفين عرف رجوعهم الى ذات أنفسهم فضلا عن اشاراتهم لمن سواهم ، ومن ثم أدركتهم الحيرة وعقد الحصر ألسنتهم فأطرقوا برؤسهم منكرين واستجمعوا شارد عقولهم :

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ٦٥.

٣٢٥

ويا لها من نكسة على الرئوس بعد رجعة الى النفوس ، ثم قالة صارخة بتأكيد الخطاب (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ارتكاسة مثلثة الزوايا بحجة واحدة في المسرح كان فيها مصرعهم لو ظلوا منتبهين ، وهذا وصف ما لحقهم من الخضوع والاستكانة والإطراق عند لزوم الحجة وقد شبّهوا بالمتردي على رأسه ، تدويخا بنصوع البيان ، وإبلاسا عند وضوح البرهان.

وهنا ينتهض الداعية الواعية بكلمتين كالمتين كحجة اخيرة فيها كل تأنيب على ضلالتهم :

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ٦٦ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ٦٧.

(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٣٧ : ٩٦) فعبادة الإله ، اما هي لاستجراء نفع وليست هي نافعة لأنفسها فضلا عن عابديها ، ام لاستدفاع ضر ، وليس هي ضارة ، بل متضررة كما جعلت جذاذا ، ام لكمال ذاتي وان لم تنفع او تضر ، وهي ميتة لا تشعر ، أم وحتى لو كانت تشعر فكيف تعبد وهي لا تنفع ولا تضر ، «أف لكم» تضجرا وتبرّما لصنيعكم ، (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فقد ضعف الطالب والمطلوب ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟

وانها قالة في حالة تقتضيها قضاء حاسما ، استعجابا من السخف الذي يتجاوز كل مألوف ويتجاهل كل معروف ، فضربة صارمة قاضية علّهم يفيقون ، ام يفعلون كما يشتهون.

هنا لك احترقوا بما فعل ، فاخذتهم العزة بالإثم ، تجاهلا عما قالوه ، وتغافلا عما فعلوه ف :

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ٦٨.

٣٢٦

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (٣٧ : ٧٩) تحريقا عريقا كما احرق أكبادهم حيث جعل آلهتهم جذاذا كونا وكيانا ، وجعلهم جذاذا فيما كانوا يعتقدون ، فلم يجدوا بدا إلا ان يؤمنوا وهم لا يؤمنون ، او يعكسوا امر الحرق عليه وقد فعلوا زعم انهم قاهرون.

ويا لها من آلهة كالحة ينصرها عبادها بعد جذاذها! وذلك التحريق هو في الحق تحريق لأجداث الآلهة بعد جذاذها ، ان لا حول لها ولا قوة ، حيث هي بحاجة الى نصرة عبّادها ، وليسوا لينصروها ولو احرقوا ابراهيم!.

«قالوا» وافتعلوا ما بمكانتهم من بنيان الجحيم ، فلما القوه في الجحيم أصبحت جنة بقالة تكوينية :

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ٦٩.

وهنا يطوي السياق الحال بين القالين ، مما يلمح ان لم يكن لإبراهيم مقال آخر معهم ، ولا مقال مع آخر ، وإنما هي الحال والله يرى الحال على أية حال.

في هذه الحالة المحرجة يروى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل (عليه السلام) قال : لما أخذ نمرود ابراهيم ليلقيه في النار قلت يا رب عبدك وخليلك ليس في أرضك احد يعبدك غيره ، قال الله تعالى : هو عبدي آخذه إذا شئت ، ولما ألقي ابراهيم (ع) في النار تلقاه جبرئيل (عليه السلام) في الهواء وهو يهوي الى النار فقال : يا ابراهيم لك حاجة؟ فقال : اما إليك فلا ، وقال : يا الله يا احد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد نجني من النار برحمتك ، فأوحى الله تعالى الى النار : كوني بردا وسلاما على ابراهيم (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٢ : ٣٩ بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ـ

٣٢٧

اجل «اما إليك فلا واما الى رب العالمين فنعم» (١).

«قلنا» هنا وفي اضرابها من الأمور التكوينية هي الارادة القاطعة الإلهية ، فالذي قال للنار كوني حرقا وايلاما ، هو القائل هنا (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) والنار هي النار ، وقد تلمح له (عَلى إِبْراهِيمَ) إذا فلم تبرد النار حتى تتحول عن ماهية النار ، بل بقيت نارا حارة إلّا على ابراهيم ، ولو لم يقل «سلاما» بعد «بردا» لأثلجت ابراهيم ببردها ، ولكنها البرد السلام فأصبح ابراهيم كأنه في روضة خضراء معتدلة الهواء ، اصطيافية الفضاء (٢).

__________________

ـ اختبرني أبي عن جدي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل قال : ... وفيه (٣٥) عن الرضا (عليه السلام) قال : ان ابراهيم لما وضع في كفة المنجنيق غضب جبرئيل (عليه السلام) فأوحى الله عز وجل : ما يغضبك يا جبرئيل! قال : يا ربّ خليلك ليس من يعبدك على وجه الأرض غيره سلطت عليه عدوّك وعدوه فأوحى الله عز وجل اليه : اسكت انما يعجل العبد الذي يخاف الفوت مثلك ، فاما انا فانه عبدي آخذه إذا شئت قال : فطابت نفس جبرئيل فالتفت الى ابراهيم (عليه السلام) فقال : هل لك حاجة ، فقال : اما إليك فلا ، فاهبط الله عز وجل عندها خاتما فيه ستة أحرف «لا اله الا الله ـ محمد رسول الله ـ لا حول ولا قوة الا بالله ـ فوضت امري الى الله ـ أسندت ظهري الى الله ـ حسبي الله» فأوحى الله جل جلاله اليه ان تختم بهذا الخاتم فاني اجعل النار عليك بردا وسلاما.

أقول وليس هذا الا خاتما بيد خاتم حيث ابراهيم (عليه السلام) أصبح تجسيدا لهذه الكلمات.

(١) وفيه عن تفسير القمي مثله الا فيما نقلناه وقبله : هو عبدي آخذه إذا شئت فان دعاني أجبته فدعى ابراهيم بسورة الإخلاص : يا الله يا واحد يا احد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد نجني من النار برحمتك.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٣٦ عن كمال الدين وتمام النعمة عن مفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سمعته يقول أتدري ما كان قميص يوسف (عليه السلام) قال قلت : لا قال ان ابراهيم (عليه السلام) لما أوقدت له النار نزل اليه جبرئيل ـ

٣٢٨

فما يروى انه «ما انتفع أحد بها ثلاثة ايام وما سخنت ماءهم» (١) كأنه هباء وهراء ، حيث النار الابراهيمية كانت تحرق غيره فضلا عن كل نار سواها ، ولو بردت النيران كلها لتواترات فوق كل ما حدث في تاريخ الإنسان! ثم لم يكن إذا في برد النار على ابراهيم آية معجزة لو ان النيران بردت كلها ، بما في ذلك البرد الشامل من ضر على سكنة الأرض دونما فائدة لهذه الآية الخارقة إلّا بائدة تقضي على كونها آية قضية الشركة بينها وبين سائر النار.

هذه آية إلهية ابراهيمية دون شك ، لا تتحمل أي تأويل يجعلها خارجة عن خارقة ، مثل أن تخلّي ابراهيم عن كل ما سوى الله حتى عن نفسه جعله لا يشعر بحرق النار ، حيث أحرقته ولم يشعر أو لم تحرقه قضية الانقطاع عن

__________________

ـ بالقميص والبسه إياه فلم يضر معه حر ولا برد وفيه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان نمرود الجبار لما القى ابراهيم في النار نزل اليه جبرئيل بقميص من الجنة وطنفسه من الجنة فألبسه القميص وأقعده في الطنفسة وقعد معه يحدثه.

(١) في الدّر المنثور عن عائشة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان ابراهيم حين القي في النار لم تكن في الأرض دابة لا تطفئ عنه النار غير الوزغ فانه كان ينفخ على ابراهيم فامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بقتله!.

وفي بحار الأنوار ١٢ : ٣٨ بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما قال الله عز وجل : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ما انتفع احد بها ثلاثة ايام وما سخنت ماءهم ورواه مثله عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وفيه : لم يعمل يومئذ نار على وجه الأرض ولا انتفع بها احد ثلاثة ايام ...

أقول : ويقابلها المروي فيه عن الرضا (عليه السلام) قال : لما رمي ابراهيم في النار دعا الله بحقنا فجعل الله النار عليه بردا وسلاما» والمروي عن الباقر (عليه السلام) في حديث (٤٠) فنزل جبرئيل يحدثه وسط النار قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل آله ابراهيم فقال عظيم من عظمائهم إني عزمت على النيران ألّا تحرقه قال : فخرجت عنق من النار فأحرقته ...

٣٢٩

حياة البدن؟.

ولكنها حالة ابراهيمية تقتضي البرد والسلام ، لا القالة الربانية ، وهي على أية حال لا تقتضي البرد مهما اقتضت زوال الحرّ ، فان قصارى هذه الحالة ألّا يتأثر بحر النار ، لا ان تبدّل بردا وسلاما!.

وكالقول ان في ذلك تضادا في النار لحالة واحدة ، انها محرقة كل محترق سوى ابراهيم ، وكما أحرقت وثاقه الملقى به في النار ولم تحرق نفسه (١).

وليس في نسبية الإحراق تضاد التناقض حتى يكون من المحال ، وما سواه ممكن بجنب القدرة الإلهية على أية حال ، كما الزمهرير في النار والنار معه لا يتناحران.

أو انه ألبس قميصا من صنيع الله هو ضد الحرارة (٢) ولا بأس به حيث الخارقة الإلهية لا تخرق ضوابط العلية والمعلولية ، وانما تقفزها قفزة لا يستطيعها إلا الله ، ولكن القميص ضد الحرارة لا يمنع المواضع الخارجة عنه ، فعلى أية حال كوّنت النار على ابراهيم بردا وسلاما بما أراد الله بقميص وغير قميص!.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ٧٠.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٢٢ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال : ما أحرقت النار من ابراهيم إلا وثاقه وفي نور الثقلين ٣ : ٤٣٩ ـ القمي عن الصادق (عليه السلام) في حديث النار فإذا هم بإبراهيم مطلقا من وثاقه ...

(٢) بحار الأنوار ١٢ : ٤٠ تفسير الإمام ١١٥ قال الإمام قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في احتجاجه على اليهود بمحمد وآله الطيبين نجىّ الله تعالى نوحا من الكرب العظيم ، وبرد الله النار على ابراهيم وجعلها عليه بردا وسلاما ومكنه في جوف النار على سرير وفراش وثير لم ير ذلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض وأنبت من حواليه من الأشجار الخضرة النضرة النزهة وغمر ما حوله من انواع النور بما لا يوجد الا في فصول اربعة من السنة.

٣٣٠

(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٣٧ : ٩٨).

هم (أَرادُوا بِهِ كَيْداً) ليحرقوه إحراقا لدعوته ، واجثاثا لدعايته (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) إحراقا لأكبادهم في ذلك المسرح الصارح الصارخ حيث يسمعه كل العالمين.

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) ٧١.

لقد ضرب السياق عن مصير ابراهيم بعد البرد السلام صفحا ، وقضية الحال ان الطاغية لم يسطع ان ينكل به بعد حيث أرغم في أشد نكاله به ، «ونجيناه» هنا إجمال عن نجاته من يد الطاغية «نجيناه» من بابل نمرود «ولوطا» من سدوم وهي (الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ)(٧٤) نجينا هما (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وهي القدس الشريف او الفلسطين ككل وهي الشام في إطلاقها العام ، الشاملة للأردن ولسوريا ولبنان.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) ٧٢.

هذه الوهبة المباركة بجمعية الصفات ، اللامحة لمجموعة من الرحمات ، هي «نافلة» : زائدة على سائر هباته الموهوبة ، هبة منفصلة بعد متصلة ، هي استمرارية للكيان الابراهيمي على طول خط الرسالة العظيمة الاسرائيلية التي تضم الوفا مؤلفة من النبيين والمرسلين.

وقد تعني «نافلة» ـ فيما عنت ـ نسبة إلى «إسماعيل» فانه اوّل وهبة زمنيا ورتبيا : «فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين. وقال اني ذاهب الى ربي سيهدين. رب هي لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي ... وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين» (٣٧ : ٩٨ ـ ١١٧).

إذا (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) تحقيق لسئوله في سؤاله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن في ذريتهم من رسل

٣٣١

وأئمة ونبيين ، فهذه الهبة تحلّق على كافة الرسالات والقيادات المعصومة منذ إسماعيل وإسحاق ويعقوب إلى كافة المرسلين الاسماعيليين والاسرائيليين ، وهاتان الرسالتان هما كل خطوط الرسالات الإلهية منذ ابراهيم الى يوم الدين.

ويا لها من هبة عظيمة قائمة الأصول ، منتشرة الفروع ، حيث تشمل كافة الرسالات والإمامات ، اصالة في الاسماعيلية المحمدية مهما كانت خاتمتها ، وفرعا في الإسحاقية الاسرائيلية ، مهما كانت من بدايتها ، هكذا :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣).

و «هم» في ذلك الجعل العظيم : ابراهيم وإسماعيل ومحمد والمعصومون من عترته ، كذلك وإسحاق ويعقوب والمرسلون من عترته ، مهما اختلفت درجات الإمامة والهداية بأمر الله بينهم ، فمنهم أئمة اربعة من اولى العزم من الرسل محمد وابراهيم وموسى وعيسى ، ثم الاثنى عشر المحمديون ، وهم في درجته العليا إلّا الوحي ، ومن ثم إسماعيل وإسحاق والرسل الاسرائيليون.

فحين يفسّر «هم» بأئمتنا المعصومين (١) فهو تفسير باصدق المصاديق

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٤١ في كتاب المناقب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل في فضل علي وفاطمة (عليهما السلام) وفيه قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك الى طاعتك ويأمران بما يرضيك وفيه في اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الأئمة في كتاب الله عز وجل امامان قال الله تبارك وتعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) لا بأمر الناس ، يقدمون ما امر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم قال : وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ـ يقدمون أمرهم قبل امر الله ـ

٣٣٢

وأعلاها بعد الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبعدهم هم كافة

__________________

ـ وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله ، وفيه وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) في حديث الامامة قال : ثم أكرمه الله عز وجل يعني ابراهيم بان جعلها يعني الامامة في ذريته واهل الصفوة والطهارة فقال عز وجل : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال الله جل جلاله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) فكانت خاصة ...

وفي تفسير البرهان ٣ : ٦٥ ابن بابويه بسند متصل عن زيد بن علي قال كنت عند أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا دخل عليه جابر بن عبد الله الانصاري فبينما هو يحدثه إذ خرج اخي محمد من بعض الحجر فاشخص جابر ببصره نحوه ثم قال يا غلام اقبل فاقبل ثم قال أدبر فأدبر فقال شمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما اسمك يا غلام؟ قال : محمد قال : ابن من؟ قال ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) قال : اذن أنت الباقر (عليه السلام) فاتكى عليه وقبل رأسه ويديه ثم قال يا محمد ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقرئك السلام ، قال : وعلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أفضل السلام وعليك يا جابر بما فعلت ، ثم عاد الى مصلاه فاقبل يحدث أبي ويقول ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال لي يوما يا جابر إذا أدركت ولدي محمدا فاقرأه مني السلام اما انه سميي وأشبه الناس بي علمه علمي وحكمه حكمي سبعة من ولده أمناء معصومون أئمة ابرار السابع منهم مهديهم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ثم تلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين.

وفيه محمد بن العباس .. عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال (عليه السلام) يعني الأئمة من ولد فاطمة (عليها السلام) يوحى إليهم بالروح في صدورهم ثم ذكر ما أكرمهم الله به فقال : فعل الخيرات.

٣٣٣

الرسل الإبراهيميين.

«وجعلناهم» هؤلاء المصطفين ـ ككل ـ من ذكروا هنا ومن يذكروا (أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فكما (جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) كذلك هم (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فان «بأمرنا» متعلق بكليهما ، فالإمامة المجعولة بأمر الله ، هي الهادية بأمر الله ، هدى معصومة من امامة معصومة لا قصور فيها ولا تقصير :

فليست الإمامة الهادية بأمر الأمة شورى وسواها ، ولا بأمر الإمام معصوما وسواه ، وانما الإمامة بجعل الله ، وهدايتها بأمر الله لا سواه وحتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، إذ لا يسمح له ان يجعل إماما معه أم يخلّفه بعده.

و «يهدون» يعم التكوينية وهي الإيصال الى الهدى ، الى جانب التشريعية وهي الهدى نفسها ، فهم يهدون الناس بشرعة الله بأمر الله ، ويهدونهم توفيقا للهدى بأمر الله ، فلا هم أنفسهم يهدون تشريعيا ولا تكوينيا ، وانما هم اداة رسالية بيانا لشرعة الله ، وإيصالا الى هدى الله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢٨ : ٥٦) ف (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٣ : ١٢٨)

وكما ان كلتا الهدايتين للأئمة رسلا وسواهم ، هما بوحي الله وامره ، كذلك (فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) حيث (أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ..) لا ـ فقط ـ كيف يفعلون؟ فانه وحي الشرعة ، بل نفس ما يفعلون ، فانها بوحي الله ، عصمة وتسديدا من الله ، وليس ذلك الوحي فوضى جزاف دونما صلاحية لهم مسبقة ، بل (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) قبل مثلث الوحي ، حتى استحقوه فاصطفاهم الله له رساليا أم سواه.

هذه هي الامامة المعصومة لا تجعل إلا بأمر الله ، كما هدايتهم للناس بأمر الله بنص خاص ، ولتكن كذلك الإمامة غير المعصومة في أية درجة من

٣٣٤

درجاتها بأمر الله ، ان تنطبق على النصوص الواردة في شروطات الامامة ، حيث القيادة الروحية هي من اختصاصات الربوبية ، فلا تصلح لمن سواه إلّا بامره.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) ٧٤.

علّ «حكما» هو حكم القيادة الروحية «وعلما» علمها بماذا يقود وكيف يقود وهذه هي الإمامة و «القرية» هي سدوم و (تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) مؤنثا قضية ادب اللفظ ، حيث حلّقت خبائث أهلها جوّها تماما لحدّ كأنها كانت تعمل الخبائث ، ثم و «انهم» مذكرا قضية المعنى وهم عاملوا الخبائث (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) ... «نجيناه الى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» فكان مع ابراهيم وفي حضن رسالته وإمامته ، مع انه ايضا كان اماما لأمته.

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ٧٥.

وهكذا يكون دور كل صالح في ميزان الله انه يدخله في حرمته قدر صلاحه وصلوحه ، رحمة في النشآت الثلاث ، والرحمة الأخيرة هي حق الخلاص.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ٧٦.

«ونوحا» ومن بعده عدة من هؤلاء الأئمة ، منصوبين إعرابا لأنهم منصوبون كسائر الأئمة في (جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً).

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٣٧ : ٧٥) «نادانا» بقوله «رب اني (مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ

٣٣٥

كانَ كُفِرَ) (٥٤ : ١٤) و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو الغم الشديد والهم المديد من تماديهم في الطغيان ، وهو الطوفان الشامل ، كما «واهله» آهل كقرينة على ثاني الكربين ، ومنهم من آمن معه في غير اهله (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ... (١١ : ٤٠).

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ٧٧.

ولأن نوح من اولي العزم من الرسل ، فشرعته عالمية تحلّق على كافة المكلفين ، إذا (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) يستغرق كافة المكذبين به في الكرة الأرضية كلها.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ

٣٣٦

يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي

٣٣٧

أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ)(٩١)

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) ٧٩.

الحكم هنا هو القضاء فصلا لخصومة في قضية واقعة ، لا الحكم الشرعي العام من الشرعة الإلهية ، فان تفهمه من لزامات الرسالة ، وذلك الحكم المختلف فيه بين داود وسليمان كان مسرحا للامتحان دون امتهان لداود ، واحترام لسليمان (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) على سواء ، بل (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ ..).

إنّما ذلك لكي يثبت داود ويعلم معه العالمون انه خاطئ في حكم خاص لولا تفهيم من الله ، فضلا عن حكم الإمامة الرسالية وهو عامة الشرعة الإلهية.

ويبدو ان داود (ع) ـ لأنه كان الملك النبي والحاكم المطلق في بني إسرائيل ، وقد جعله الله خليفة في الأرض : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (٣٨ : ٢٦) ـ يبدو أنه لذلك كان هو المسؤول في تلك المنازعة. (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فأبدى ما فهّمه ربه وطبعا بإذن من داود ، إظهارا للقصور الذاتي للمرسلين لولا الوحي ، ولأهلية سليمان للخلافة بعده (١).

__________________

(١) البحار ١٤ : ١٣٢ عن الكافي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان ـ

٣٣٨

(وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)!

وهل ان داود حكم قبل ان يفهّمه الله؟ وذلك خلاف حكم الله والحكمة الرسالية ولا سيما عند الاختلاف بين حاكمين رساليين!.

كلّا! ولا اشارة هنا انه حكم ، بل «إذ يحكمان» دون «إذ حكما» دليل انهما كانا يتشاوران ويتناظران (١) في حكم القضية ، ثم الحاكمان المتفقان فضلا عن المختلفين ليسا ليحكما في قضية واحدة ، ولا سيما إذا كان أحدهما الحاكم

__________________

ـ الامامة عهد من الله عز وجل معهود لرجال مسمين ليس للإمام ان يزويها عن الذي يكون من بعده ، ان الله تبارك وتعالى اوحى الى داود (عليه السلام) ان اتخذ وصيا من أهلك ، فانه قد سبق في علمي ان لا ابعث نبيا إلا وله وصيّ من اهله وكان لداود (عليه السلام) أولاد عدة وفيهم غلام كانت امه عند داود (عليه السلام) وكان لها محبا فدخل داود عليها حين أتاه الوحي فقال لها : ان الله عز وجل اوحى الي يأمرني ان اتخذ وصيا من اهلي فقالت له امرأته : فلتكن ابني ، قال : ذاك أريد ، وكان السابق في علم الله المحتوم عنده انه سليمان ، فأوحى الله تبارك وتعالى الى داود ان اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك فجمع داود ولده فلما ان اقتصى الخصمان قال سليمان : يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال : دخلته ليلا ، قال : قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا ثم قال له داود فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوم ذلك علماء بني إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان : ان الكرم لم يجتث من أصله وانما أكل حمله وهو عائد في قابل فأوحى الله عز وجل الى داود ان القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به ، يا داود أردت امرا وأردنا امرا غيره فدخل داود على امرأته قال : أردنا امرا وأراد الله غيره ولم يكن الا ما أراد الله عز وجل فقد رضينا بأمر الله عز وجل وسلمنا ، وكذلك الأوصياء ليس لهم ان يتعدوا بهذا الأمر فيجاوزون صاحبه الى غيره.

(١) المصدر عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : لم يحكما ، انما كانا يتناظران (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، وفي الفقيه بسنده الصحيح عن جميل عن زرارة مثله.

٣٣٩

الأصل والثاني هو الفرع ، اللهم إلّا تشاورا في «كيف الحكم»؟ فكل يرتإي رأيا في نقاش بينهما ، حتى تنتج الشورى حكما واحدا.

ثم (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) دليل انه كأبيه داود كان محتارا في الحكم خاطئا لولا تفهيمه.

ثم (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) قد تعني احكام المرسلين ككلّ ، ولذلك (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وإلّا فحق الصيغة «كنا لحكمهما شاهدين» (١) ام ـ وباحرى ـ لحكمه ، والشهادة هي الحضور علميا وتعليميا (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) قبل ان يحكم أحدهما.

ام و «لحكمهم» الواحد ، حاكمين ومحكوم عليهم ، ولكنه ـ أن عني وحده كان خلاف الفصيح والصحيح ، والجمع اجمع وأجمل.

فلم يحكم داود ـ إذا ـ بغير الحق خلافا لأمر الله (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) إذ لم يكن الحكم بالحق في السنة الداودية إلا بالواقع المطلق ، وليس ـ إذا ـ إلّا بتفهيم الله وقد فهمه سليمان دونه للمصلحة.

والروايات الواردة ان داود حكم بخلاف الحق الذي فهمّه سليمان ،

__________________

(١) البحار ١٤ : ١٤١ ـ عن تفسير القمي في الآية حدثني أبي عن عبد الله بن يحيى عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان في بني إسرائيل رجل كان له كرم ونفشت فيه غنم لرجل آخر بالليل وقضمته وأفسدته فجاء صاحب الكرم الى داود (عليه السلام) فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود (عليه السلام) اذهبا الى سليمان ليحكم بينكما فذهبا اليه فقال سليمان : ان كانت الغنم أكلت الأصل والفرع فعلى صاحب الغنم ان يدفع الى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها ، وان كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فانه يدفع ولدها الى صاحب الكرم وكان هذا حكم داود وانما أراد ان يعرف بني إسرائيل ان سليمان (عليه السلام) وصيه بعده ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف حكمهما لقال : وكنا لحكمهما شاهدين.

٣٤٠