الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى).

وهذه السنون هي من ضمن فتنة الفتون ، حيث يصنعه ربه على عينه في شغل رعاية الغنم ورعيها ، نحلة عن زواجه ، واستعدادا لرعاية الرسالة العالمية ورعي الامة الاسرائيلية.

و «سنين» هذه بين ثماني حجج وعشر ، وعلّه قدم العشر تقديما لافضل الأمرين الأمرين وأتمهما (١) كما هي شيمة الرسل بجنب الله.

وطالما النص يلوي عن عرض أشغاله في سنّي مدين ، حيث الأهم هو عرض هامة الرسالة ببنودها ، ولكن (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) تقدّر مقادير تحضّره في سنيّه الفاتنة الفائتة.

وذلك القدر هو قدر ولاية عزم الرسالة كما قدّر الله ، الوقت المقدر لما نضج واستعد وخرج عن كل هرج ومرج ، حيث ابتلي وصبر وامتحن فجاز الامتحان ، كما وتهيأت الظروف في مصر لتقبّل الدعوة الموسوية ، إذا فهو قدر التقدير وقتا ، وقدر المقدار حالة نفسية كما (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٥٤ : ٤٩) واين قدر عام من ذلك القدر ، ومن قدره عمره الأربعون.

فموسى قبل جيئته هذه كان «إلى قدر» ولكنه بعد ردح من الزمن ، وذوق الفتن كما الذهب غير الخالصة تفتن لخلاصها فخلوصها (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) واصلا اليه ، محيطا عليه ، لائقا لابقا لحمل أعباء الرسالة الى فرعون وملإه ، وفي هذه الجيئة الثانية :

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ٤١.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٠ في تفسير القمي قيل للصادق (عليه السلام) اي الأجلين قضى؟ قال : أتمها عشر حجج.

١٠١

وهي افتعال من صنعتك ، إذ ليست الصناعة الرسالية الموسوية كسائر الصنعة لسائر الناس ، فان فيها مزيدا عليهم ، يحضّره رسولا إليهم و «لنفسي» بيان لغاية ذلك الاصطناع ، حتى يكون رسولا معصوما أمينا من الله.

فليس موسى لنفسه ولا لسواه إلا لله ، يعيش حياته الرسالية في الله ولله ، دون اتباع لهواه أمّن سواه ، فانه بعين الله ومختار الله وصنيع الله ، فكيف يكون لغير الله!.

ثم المنتفع من غاية اصطناعه ليس إلا هو ومن ثم المرسل إليهم ، فان الله ليس لينتفع من عباده (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) وما لم يكن العبد لله لم يكن لنفسه ولا لعباد الله.

ولانني (اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وجعلت لك وزيرا من أهلك هارون أخاك ف :

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) ٤٢.

«اذهب» بحمل الرسالة العالمية لبلاغها «أنت» كأصل فيها ورأس الزاوية لها «وأخوك» أزرا ووزيرا ، «بآياتي» الدالة على رسالتكما الإلهية (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) من الوني : الفترة والضعف والكلال والإعياء والإهمال والتقصير.

ثم «ذكرى» هي من اضافة المصدر الى الفاعل والى المفعول : ذكري إياكم وذكركم اياي ، قالا وحالا وأفعالا ، في أنفسكم وفي المرسل إليهم ، حيث العقبات أمام ذكر الله كثيرة خطيرة ، فلتكافح الرسالة كافة العراقيل ، لتجتازها الى تحقيق رسالة الله في عباد الله.

ولقد كان الأمر قبل استجابته في سؤله يخصه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ

١٠٢

إِنَّهُ طَغى) وهنا يشفّع به اخوه تحقيقا لسؤاله ، وترى هارون الغائب الآن عن هذا المحضر كيف يؤمر بما يؤمر به موسى؟ انه يؤمر ضمن ما يؤمر موسى ، وبلاغه اليه على عاتق موسى ، وكما اوحي الى هارون نفسه في نفس الوقت مهما كان بعيدا عن ذلك المحضر ، حيث الكون كله محضر لله ، يخاطب من يريد خطابه مهما اختلف الزمان والمكان.

ام انه خوطب بعد ما اجتمع الى هارون ، ودليلا عليه (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ٤٥ والسياق القرآني يطوي الزمان والمكان ويترك فجوات بين مشاهد القصص ، هي معلومة من نفس السياق ، ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر الأعمق في سير القصص وفي وجدان الناس.

وفي جمعية الآيات «بآياتي» ولم يؤت من ذي قبل إلا آيتي العصا واليد البيضاء ، تبشير لهما الى آيات اخرى.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ٤٣.

وهنا تخص دعوة الداعية بعد عمومه فرعون الطاغية لأنه رأس الزاوية في عرقلات الدعوة ، وكل دعوة إلهية تبدء بالسلب وتنتهي الى الإيجاب ، فما دامت الفرعنات قائمة ، لا تجد الدعوة الالهية مجالا لتحققها ، إذا ف «اذهبا» في بداية الدعوة «الى فرعون» ولماذا؟ ل (إِنَّهُ طَغى) استعبادا لبني إسرائيل ، واستبدادا بالحكم عليهم ، فلتبدأ بحسمه وقصمه لكي تجد الدعوة سبيلا الى تطبيقها.

ترى وكيف يصلح ذهاب الداعية الى الطاغية ، إصلاحا له ، ام سدا عن بأسه وصدا عن سلطانه؟

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ٤٤.

١٠٣

ونص القول اللين نجده في النازعات (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)(١٩) وكما نجده هنا «فقولا ...».

ونرى الداعية موسى طول حواره مع فرعون الطاغية لا يقول له إلا قولا لينا لعلّه يتذكر أو يخشى» ولكنه زاد طغوى على طغوى ، وهذه طبيعة حال الدعوة الصالحة ان تكون لينة بالتي هي احسن ، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن ، استنباطا لدفين الحق المستور تحت ستار الهوى ، وفي آخر المطاف (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(١).

ثم القصد من هذا الذهاب الى فرعون بقول لين (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) فتحصل له تقوى بعد طغوى ، ام إذا لم يتذكر هكذا «او يخشى» لأقل تقدير ، فتلك عبادة التجار وهذه عباد العبيد وقبلهما للأحرار ان يعبدوا الله لأنه الله.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠١ ـ اخرج احمد في الزهد عن ابن عباس قال لما بعث الله موسى الى فرعون قال لا يغرنكما لباسه الذي ألبسته فان ناصيته بيدي فلا ينطق ولا يطرف الا باذني ولا يغرنكما ما متع به من زهرة الدنيا وزينة المترفين فلو شئت ان ازينكما من زينة الدنيا بشيء يعرف فرعون ان قدرته تعجز عن ذلك لفعلت وليس ذلك لهوانكما علي ولكني البستكما نصيبكما من الكرامة عن ان لا تنقصكما الدنيا شيئا واني لأذود اوليائي عن الدنيا كما يذود الراعي ابله عن مبارك الغيرة واني لأجنبهم كما يجنب الراعي ابله عن مراتع الهلكة أريد ان أنور بذلك صدورهم واطهر بذلك قلوبهم في سيماهم الذين يعرفون بهم وأمرهم الذي يفتخرون به واعلم انه من أخاف لي وليا فقد بارزني وانا الثائر لاوليائي يوم القيامة.

أقول : مثل ابن عباس لا ينقل حديثا قدسيا عن الله دون ان يسمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا فهو عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم).

١٠٤

ولان موسى قد تربى عند فرعون ، ثم قتل منه نفسا ، ثم يأتيه رسولا ، وهو الطاغية الباغية ، فهذه الأربع تدفع الداعية الى قول لين معه اكثر من الواجب في طبيعة الحال الرسالية حيث القصد ـ لأقل تقدير ـ سدّ أذاه وإخماد لظاه ، وخشن القول مما يزيد لظى في أذى.

وكيف «لعلّه» ولا تردّد في علمه سبحانه انه لا يتذكر ولا يخشى؟ انه ترجّ للداعية نتيجة الدعوة بصورة عامة ، وحتى إذا تأكد انه لا يتذكر ولا يخشى ، فانها (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فالنذر بين تذكر وخشية ، والعذر لبلاغ الحجة ، ولكيلا تكون للناس على الله حجة ، حيث الناس في انقسامات ثلاث ، ناس وأشباه ناس ونسناس ، فالناس بين دعاة يدعون ، ومدعوين يتقبلون الدعوة ، والنسناس هم المصرون على الباطل ، وأشباه الناس عوان بينهما متوقفين بين الأمرين.

وعلى الدعاة ان يكونوا في دعوتهم (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فالعذر أمام النسناس لبلاغ الحجة ، والنذر للذين يتقبلون الدعوة دون امهال فهم المتذكرون ، وللعوان المترددين المتقبلين بامهال فهم الخاشون ، و (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) يخص الأخيرين ويجمعهما «نذرا» ثم «عذرا» على الأولين.

والباعث القوى للدعوة ان يتذكر المدعو او يخشى ، وأما ان يطغى كفرعون فباعث الدعوة فيه ضعيف ، ورجاء التأثير في الدعوة هو الباعث لها بقوة.

ف (عُذْراً أَوْ نُذْراً) هما رسم لخطوط الدعوة وخيوطها بصورة عامة ، واما الدعوة الخاصة كما الى فرعون ، فلا تصلح ان يؤكد فيها انه «عذرا» قطعا بعدم التأثير ، فانه وني للدعوة شاء الداعية ام ابى ، «فانما قال :

١٠٥

(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ليكون احرص لموسى على الذهاب» (١) ام وباحرى انه تذكر وخشي ولكن متى؟ عند رؤية البأس ، حين لا تنفعه الخشية والذكرى (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٠ في علل الشرايع بسند متصل عن محمد بن أبي عمير قال قلت لموسى بن جعفر (عليهما السلام) اخبرني عن قول الله عز وجل لموسى (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فقال : اما قوله فقولا له قولا لينا اي كنّياه وقولا له يا أبا مصعب وكان كنيته فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب ، اما قوله (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فانما قال ليكون احرص لموسى على الذهاب وقد علم الله عز وجل ان فرعون لا يتذكر ولا يخشى الا عند رؤية البأس الا تسمع الله عز وجل يقول : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فلم يقبل الله ايمانه وقال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

وفيه عن تفسير القمي عن عدي بن حاتم وكان مع امير المؤمنين (عليه السلام) في بعض حروبه ان عليا (عليه السلام) قال ليلة الهرير بصفين حين التقى مع معاوية رافعا صوته يسمع أصحابه : لأقتلن معاوية وأصحابه ثم قال في آخر قوله : ان شاء الله ـ يخفض به صوته وكنت منه قريبا فقلت يا امير المؤمنين انك حلفت على ما قلت ثم استثنيت فما أردت بذلك؟ فقال : ان الحرب خدعة وانا عند اصحابي صدوق فأردت ان أطمع اصحابي في قولي كيلا يفشلوا ولا يفروا فافهم فانك تنفع بهذا بعد اليوم ان شاء الله تعالى ، وعن الكافي مثله وفيه بعد ان شاء الله تعالى : واعلم ان الله جل ثناءه قال لموسى (عليه السلام) حين أرسله الى فرعون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) وقد علم أنه يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون ذلك احرص لموسى (عليه السلام) على الذهاب.

(٢) البحار ١٣ : ١٣٥ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث له طويل حول القصة قال له سفيان قلت يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هل يجوز ان يطمع الله عز وجل عباده في ما لا يكون؟ قال : لا فقلت : فكيف قال الله عز وجل لموسى وهارون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) وقد علم ان فرعون لا يتذكر ولا يخشى؟ فقال : ان فرعون قد تذكر وخشي ولكن عند رؤية البأس حيث لم ينفعه الايمان.

١٠٦

وعلى اية حال فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ، ولا يهيج الكبرياء الزائف التي يعيشها الطغاة ، بل ومن شأنه إيقاظ القلب غير المقلوب ، والحجة القاطعة على القلوب.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى)(٤٥).

هنا خوف الداعية في سبيل الدعوة ، يعرضه على الله ، لا اعراضا عن امر الله ، وانما سؤالا لمزيد التأييد كما سأل من ذي قبل فاعطي سؤله.

فلم يكن خوفا للداعية على نفسه (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) إذ طمأنه ربه لما أعطاه سؤله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) (٢٨ : ٣٥).

ف (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) كرسولين ، فرطا على الدعوة تعجيلا بالعقوبة قبل الآية المعجزة ، و (أَوْ أَنْ يَطْغى) هي طغوى عليهما وعلى بني إسرائيل ، بعد ما طغى ، فهي مزيد الطغوى ، إظهارا لدفينها.

فذلك ـ إذا ـ خوف على الدعوة ان يسبقها فرط من فرعون بقتل الداعية ، ام يزيد طغوى على طغوى ، فلا تفيد ـ إذا ـ هذه الدعوة الا بنصرة الهية هي المطلوبة في ذلك العرض.

فها هما ذان الرسولان المأموران الخائفان على بلاغ الرسالة يتوجهان الى ربهما بمخاوفهما ، ويطمئنهما ربهما فيطمئنان على طول الخط الى نهاية المطاف.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ٤٦.

«لا تخافا» على أية حال ل (إِنَّنِي مَعَكُما) معية العلم والقدرة والنصرة «اسمع» المقال «وارى» الحال ، ولست أهمل الرسول والرسالة ، او أمهل الفارط والطاغي على الدعوة ، فان ذلك نقص في الرسالة ، ونقض للهدف من الدعوة!.

١٠٧

وهذه المعية الربانية تعم المرسلين كافة والذين معهم على درجاتهم : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) ولا تعني النصرة الضمان على حياة الرسول والمؤمنين ، وعدم أذاهم ، وانما هي الضامنة لحياة الرسالة والايمان وتقدمهما وثباتهما مهما صعبت الظروف والتوت.

فلا تعني (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) عدم مسهما بأي أذى وقدمتّهما أذى كثيرة ، حتى ولا عدم قتلهما مهما لم يقتلا ، وهذه هي سنة الربوبية في الرسالات كلها (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).

وترى كيف خافا على اي امر كان وهما رسولان و (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧ : ١١)؟

المهم هنا موقف «لدي» وقد حصلت لهما لما طمأنهما ربهما (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) فزال عنهما كافة المخاوف في سبيل الدعوة الى فرعون الطاغية ومن معه!.

ومن (قَوْلاً لَيِّناً) هنا بعد ما في النازعات (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) : بصيغة اخرى تفصيلا للأخرى :

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ٤٧ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ٤٨.

وترا هما كيف أتياه ومن عادة الطغاة عدم السماح لمن يستأذن منهم ، إلّا إذا كان لصالحهم وهم يعرفون بصدق لهم وإخلاص؟.

يروى انه «أتى بابه فاستأذن عليه ولم يؤذن له فضرب بعصاه الباب

١٠٨

فاصطلت الأبواب مفتحة ثم دخل على فرعون فأخبره انه رسول من رب العالمين .. (١) ولكنه خلاف اللين في اللقاء مهما كان مع البواب ، وقد تعامت الآية عن كيف دخل فنسكت عما سكت الله عنه.

ونرى هنا ألين اللين في بزوغ الدعوة ، فلم يقولا «انا رسولا رب العالمين» كيلا ينبري لإدخاله في العالمين ، وهو داخلهم! ولا «إنا رسولا ربنا» فصلا له عن ربهما وهو فصل عن قبول اصل الدعوة ، وهو الطاغية الداعية : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وانما (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) الذي رباك ، فلست أنت ربا لنفسك ، ولا لغيرك ممن هو مثلك من العالمين ، ولا أنت رب

__________________

(١) البحار ١٣ : ١٢٠ عن القمي أبي عن ابن فضال عن ابان بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما بعث الله موسى الى فرعون أتى بابه .. وفيه ١٣ : ١٠٩ الصدوق باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان فرعون بني سبع مدائن فتحصنى فيها من موسى فلما امره الله ان يأتي فرعون جاءه ودخل المدينة فلما رأته الأسود بصبصت بأذنابها ولم يأن مدينة الا انفتح له حتى انتهى الى التي هو فيها فقعد على الباب وعليه مدرعة من صوف ومد عصاه فلما خرج الآذن قال له موسى (عليه السلام) اني رسول رب العالمين إليك فلم يلتفت فضرب بعصاه الباب فلم يبق بينه وبين فرعون باب الا انفتح فدخل عليه وقال انا رسول رب العالمين فقال ائتني بآية فالقى عصاه وكان لها شعبتان فوقعت احدى الشعبتين في الأرض والشعبة الاخرى في أعلى القبة فنظر فرعون الى جوفها وهي تلتهب نارا وأهوت اليه فأحدث فرعون وصاح يا موسى خذها ولم يبق احد من جلساء فرعون الا هرب فلما أخذ موسى العصا ورجعت الى فرعون نفسه هم بتصديقه فقام اليه هامان وقال : بينا أنت اله تعبد إذ أنت تابع لعبد واجتمع الملأ وقالوا : هذا لساحر عليم ، فجمع السحرة لميقات يوم معلوم فلما القوا لهم وعصيهم القى موسى عصاه فالتقمتها كلها وكان في السحرة اثنان وسبعون شيخا خووا سجدا ثم قالوا لفرعون ما هذا سحر لو كان سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ثم خرج موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل يريد ان يقطع بهم البحر .. أقول «ثم هنا تفصل بين بداية امره ونهايته كما هو مستفاد من آيات القصة.

١٠٩

العالمين ، وانما لك رب رباك كما ربانا وربى سائر العالمين ، تهديما لصرح الخرافات الوثنية ان لكل قوم إلها او آلهة كما كانت سائدة بينهم.

ف «ربك» هنا اختصاصا له بربوبيته تعالى يوافق طبيعة حاله ، ويستحثه على سؤاله العجاب ، من هو ذلك الرب ، وطبعا هو ربكما كما هو ربي ، ولذلك أرسلكما الي على زعمكما.

وقد جمع في (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) حجة بارعة قارعة على لينها ، دون ان تؤثر اللينة في قاطعية الحجّة فتنقص عنها ، ولا ان تؤثر الحجة في تحول اللينة الى القساوة ، وهذه هي الجدال بالتي هي احسن ، ان تذاد عنها مساويها ، وتزاد فيها محاسنها ، فتصبح قاطعة على لينونته ، ولينة على قاطعيته!.

ثم في هذه البداية لا يفرعان على (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) تطلّب الايمان به من فورهما ، وانما ادنى ما يتطلّب من مربوب لربه ان يتخلى عن سلطته الظالمة على مستضعفي عبادة :

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) كان ذلك هو فقط مادة الرسالة اليه لا سواها ، ولكي لا تأخذه العزة بالإثم والغيرة ، فيأتي بمعرّة فوق معرّة.

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) كإيجاب واحد في هذه الرسالة (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) كسلب واحد فيها ، و «لا تعذبهم» بدل «لا تظلمهم» ليونة في التعبير ، حيث الظلم يخص القبيح ، والعذاب منه قبيح ومنه صحيح ، ولأنهما يرأسان بني إسرائيل ، فلو انهم يستحقون العذاب فحوّل عذابهم إلينا وأرسلهم معنا ، فلا لكم ولا عليكم اي شأن منهم شائنا ام سواه.

ولئن تطلب برهانا على هذه الرسالة ف (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) آية

١١٠

ذات دلالتين ، أولاهما انه ربك ، وثانيتهما انا رسولا ربك.

ولماذا «آية» وقد اوتي موسى تسع آيات حيث أرسل (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) (٢٧ : ١٢)؟.

لان الموقف هنا في مقام اثبات رسالتهما بآية الهية ، دون كمّها وكيفها ، وان الآيات التسع هي كواحدة في اصل التدليل على صحة الربوبية والرسالة ، فآيات الرسالات كلها تنحو منحى هدف واحد هو اثبات الرسالة الإلهية ، على اختلاف صورها وسيرها.

وهنا بعد ثبوت الرسالة والألوهية ـ وهما الهدى الإلهية ـ بخطط مصير كل من اهل الهدى والردى بمسيرهما :

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) دون من عارضها ، ام لا لها ولا عليها ، فهلا تريد يا فرعون ان تكون من اهل السلام باتباع الهدى وترك الهوى.

ثم العذاب وأنت تعذب بني إسرائيل (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذب الهدى بعد إتيانها ، وتولى عنه الى غيرها ، فهل انهم كذبوا الهدى وتولوا عنها حتى يستحقوا عذابك؟ وهم موحدون مهتدون!.

ام أنت المكذب للهدى ، المتولي عنها ولذلك تطغى ، فاترك الطغوى الى التقوى حتى يسلم السلام على من اتبع الهدى ، وذلك تنديد بكل مكذب بحق متول عنه أيا كان (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٨١ في اصول الكافي باسناده الى عبد الله بن ابراهيم الجعفري قال : كتب ابو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) الى يحيى بن عبد الله بن الحسن : اما بعد فاني أحذرك ونفسي وأعدك اليم عذابه وشديد عقابه وتكامل نقماته ـ

١١١

نرى هنا في ذلك العرض الحكيم لتلك الرسالة السامية كل برهنة ساطعة قوية بكل ليونة ، فلا ينسبان الى الطاغية تكذيبا للهدى وتوليا عنها واستحقاقا للعذاب بصيغة صريحة ، وانما يوضّحان اسباب الهدى والردى بمسيرهما ومصيرهما ، وليعرف فرعون من هو من هذا البين (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)!

فهنا ترغيب واستمالة (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) فلعله منهم ، يتلقى السلام باتباع الهدى ، ثم تحديد وتحذير غير مباشرين كيلا يستثيرا كبرياءه او يحطاه من علواءه : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فلعله ليس ممن كذب وتولى.

ولماذا هنا (رَسُولا رَبِّكَ) وفي سائر القرآن «رسول ـ او ـ رسولا رب العالمين(١)؟.

لأن الذي هو رب فرعون المدعي للألوهية أحرى ان يكون ربا للعالمين أجمعين ، إذا ف (رَسُولا رَبِّكَ) صيغة اخرى عن «رسولا ـ او ـ رسول رب العالمين» ام انه قالهما بصيغة عامة لكافة المرسل إليهم واخرى خاصة بفرعون رعاية لليونة التعبير.

هنا يمتنّ فرعون على موسى انّ رباه وليدا كأنه نعمة تمنعه عن هذه

__________________

ـ وأوصيك ونفسي بتقوى الله فانها زين الكلام وتثبيت النعم ـ الى قوله ـ : أحذرك معصية الخليفة وأحثّك على بره وطاعته وان تطلب لنفسك أمانا قبل ان تأخذك الأظفار ويلزمك الخناق من كل مكان فتروح الى النفس من كل مكان ولا تجده حتى يمن الله عليك بمنه وفضله ورقة الخليفة أبقاه الله فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والسلام على من اتبع الهدى انا قد اوحي إلينا ان العذاب على من كذب وتولى.

(١) ففي الأعراف والزخرف «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) وفي الشعراء» إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣).

١١٢

الرسالة جزاء بها : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ. قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٢٣).

فهنا نرى الطاغية يلوي شدقه متجاهلا ان الله ربه ، سائلا موسى وهارون عن ربهما دون ربه ولما يعترف به.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ

١١٣

آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧)

١١٤

قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

١١٥

الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)(٧٦)

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ٤٩.

هنا يخاطب موسى في (فَمَنْ رَبُّكُما) إذ عرف انه الأصل في هذه الرسالة ، وذلك السؤال تهكم في الحوار ، وتراه دهريا ناكرا لالوهية الله لقوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقوله هنا (فَمَنْ رَبُّكُما) ناكرا لربهما الذي لا يصدقه ربا لنفسه ، وفي القصص (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٨٦) (١)؟ وهذا ظاهر الحال من قاله.

ام انه ناكر لربوبيته وعبوديته دون ألوهيته ، ولا دليل عليه إلا تأويل عليل!.

انه ناكر للربوبية العالمية ككل فضلا عن ربوبية رب العالمين لنفسه فيقول هنا «ومن ربكما يا موسى» ثم في الشعراء (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) استنكارا للربوبية العالمية التي يقولها موسى وهارون لربهما.

وعلى اية حال فهذه النخوة الجاهلية هي من شيم الفراعنة ، وكما واجهه آذنه اوّل مرة بكلمته الهازئة اللاذعة «اما وجد رب العالمين من يرسله غيرك» (٢).

__________________

(١) وكذلك في المؤمن «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ...».

(٢) البحار ١٣ : ١٣٧ يسوق القصة مرفوعة .. حتى انتهى الى قصر فرعون الذي هو فيه فقعد على بابه وعليه مدرعة من صوف ومعه عصاه فلما خرج الآذن قال له ـ

١١٦

اجل وهم كما قال الإمام امير المؤمنين (ع): ان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ولقد دخل موسى بن عمران ومعه اخوه هارون على فرعون عليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصيّ فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال : ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلّا الذي عليهما اساورة من ذهب؟ إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه ، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وان يحشر معهم طير السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحل الأنباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين» (١).

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ٥٠.

تعريف جامع خاصر حاصر برب العالمين ، فان كان فرعون شيئا شملته ربوبية رب العالمين وهدايته ، وان لم يكن شيئا ، فما للّاشيء ان يعارض في الربوبية رب كل شيء؟.

ذلك إجمال من تفصيل الشعراء : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ... رَبُّكُمْ

__________________

ـ موسى استأذن لي على فرعون فلم يلتفت اليه فمكث بذلك ما شاء الله يسأله ان يستأذن له فلما اكثر عليه قال له : اما وجد ... فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه وبين فرعون باب الا انفتح حتى نظر اليه فرعون وهو في مجلسه فقال : أدخلوه فدخل عليه ...

(١) البحار ١٣ : ١٤١ عن نهج البلاغة عن الامام علي أمير المؤمنين (ع).

١١٧

وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ .. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٦ : ٢٨).

و (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) هي الربوبية الشاملة لكل خلق ولكل هدى ، فليس الخالق غير الهادي ـ لو كان ـ ربا ، وليس الهادي غير الخالق ـ لو كان ـ ربّا ، والرب هو الذي يجمع بينهما بصورة شاملة كاملة دون إبقاء.

ف «ربنا» هنا جواب عن (فَمَنْ رَبُّكُما) ثم «الذي ..» يتخطى فيه بربوبيته الى كل شيء ومنه فرعون وملأه ، وهذه بلاغة بارعة في الحوار ان يتبنى ما يبتني عليه الخصم دون زيادة ولا نقيصة ، فلما قالا (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) قدماه في صلته بالرب ، ثم لما قلب الأمر فحول إليهما : (فَمَنْ رَبُّكُما) تحوّلا قائلين «ربنا» ولكنه في مواصفة تعرف به انه رب كلّ شيء ومنه فرعون وملأه.

وترى «خلقه» مصدر؟ وهو فعل الرب ، لا يعطيه لاي شيء حتى أفضل الكائنات! ام هو المخلوق؟ وكيف يعطى مخلوق لمخلوق!.

انه اسم المصدر ، وإعطاء الخلق لكل شيء هو إيجاده عطية منه ربانية ، وحاصل الإيجاد هو الوجود ، وحاصل الخلق هو المخلوق ، فالوجود المخلوق هو المعني من «خلقه».

وترى ما هو الشيء الذي يعطى خلقه ، فان كانت العطية قبل وجوده فليس شيئا حتى يعطى خلقه ، وان كان بعد وجوده فهو تحصيل للحاصل ، إذا فلا حاصل ل (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)؟

الشيء هنا هو الكائن مستقلا ، واطلاق كلمة الشيء عليه باعتبار الأول دون الفعلية ، فمثله كمثل قوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ

١١٨

كُنْ فَيَكُونُ).

ثم الشيء ان كان هو المادة الأولية للكون فإعطاء خلقه هو إيجاده لا من شيء ، وان كانت المواد الاخرى المتحولة عنها ، ثم كل عن الاخرى ، فإعطاء خلقه هو تحويره وتغييره ، فهو خلقه من شيء خلقه فبله ، فهناك شيء أول شيّأ سائر الأشياء منه على اختلاف ذراتها وجزئياتها وعناصرها.

ومن ثم «ثم هدى» تعني تراخي الهدى رتبيا عن الخلق وزمنيا على طول الخط ما دام الكون كائنا ، والهدى لزام الخلق عطاء وإلا فضلال يخالف حكمة الخلق (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٣٦ : ٣٨) (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٧٨ : ٣).

فالهدى لزام الخلق بعده ، ومهما كان معه زمنا فانه بعده رتبيّا ، و «ثم» هنا تدل على التأخر رتبيّا او زمنيا ام فيهما ، فمن الهدى ما لا يصل إليها الخلق إلا بعد شروط تتطلب زمنا بعيدا ، ومنها ما هي له منذ خلق ، هدى اولى هي التي تخطو بالخلق إلى مراتب اخرى ، فكل خلق يعيش هدى تناسب حاله والهدف من خلقه ، وليس الضلال في كون او شرعة ام تطبيقها إلّا تخلّفا من النسناس الذين يعارضون شريعة الناس ويعرقلون السير على السالكين سبيل الهدى ، ثم الهدى هنا بعد الخلق تعم التسوية والتقدير كما في آيتي الأعلى ، وهي ككل تعم الهدى التكوينية في كل شيء ، وهي القوانين المحكّمة على كل شيء ، هندسيا وكيماويا وفيزيائيا اما هيه ، والغريزية في أصحابها ، ثم الفطرية والعقلية في العقلاء ، ومن ثم الهدى التشريعية لهم ، وعلى ضوءها تكوينية اخرى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤٧ : ٢٧).

ثم و «ثم هدى» كما تعني هدى كلّ الى الكمال اللائق به الهادف له ، كذلك هدى كلّ الى الآخر تكميلا له او تكاملا به ف (ما تَرى فِي

١١٩

خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٦٧ : ٣).

فقد هدى الخلق ككل منذ البداية حتى النهاية بما تزاح به العلل ، ويتكامل معه الخلق ، من سلامة الأعضاء واعتدال الاجزاء وترتيب المشاعر والحواس ومواقع الأسماع والأبصار ، لكلّ على حسبه وبمستواه ، وذلك هو الخلق الحكيم سبحان الخلاق العظيم.

ومثالا على تلك الهدى الشاملة هدى الأرض لتسجيل الصور والأصوات : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ثم هدى النحل الى هندسة بيوتها واستجلاب عسلها : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ومن ثم كل وحي الى كل حي وميت من الكائنات تهتدي به الى ما خلقت لأجله تكوينيا وتشريعيا من مختلف طرق التكامل ماديا (١) ومعنويا. وقد تعني «ثم هدى» مثلث الهدى ، ثانيتها هدى كل شيء الى ربه ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) والثالثة هدى العقلاء ـ بإحكام الخلق في كل شيء ـ الى الخالق الحكيم ، إذا ف «هدى» تعني كل شيء الى شيئه ، وبعض الشيء الى مخلوقية سائر الأشياء بدلالة عقلية ، فما من هدى تكوينية او تشريعية او شرعية فعلية ام مستقبلة إلا وهي من الله ، كما خلق كل شيء من الله ، ثم لغير الله الاختلاق والضلال ، كما له الخلق والهدى ف «الخير كله بيديه والشر ليس اليه».

فقد كان ذلك الجواب الحاسم القاصم للطاغية تعريفا عريقا برب العالمين

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨١ في الكافي عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) قال : ليس شيء من خلق الله الا وهو يعرف من شكله الذكر من الاثنى ، قلت : ما يعني ثم هدى قال : هداه للنكاح والسفاح من شكله.

أقول : هذه هدى لبقاء النسل كمصداق من المصاديق المادية للهدى.

١٢٠