الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٢

والمعيشة فعيلة من العيش وهو بالنسبة للمعرضين عن ذكر الله عيش الحياة الحيوانية التي يظن انهم منها في رياحة دائبة ، واما الروحية فهي خاوية عنهم وهم خاوون عنها ، ولان الروح يتطلب ـ فطريا ـ اللامحدود من الكمال ، وهم اثّاقلوا الى الحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فلا يجدون بغيتهم فيها ، وهم في نفس الوقت في تزعزع وتلكع دائب إذ لا ينالون منها غاية ما يحبون فيها.

فالمعيشة الضنك المخلّفة من الاعراض عن ذكر الله هي الضلال المبين والشقاء الأشقى (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) هي ابرز مصاديق المعيشة الضنك ، ثم البرزخ ثم الدنيا» (١).

والقلب الهاوي المضطرب المرتكن الى الدنيا ولذاتها لا يعيش صاحبه الا معيشة ضنكا مهما كان في سعة ومتاع ، حيث المقطوع الصلة عن الله والاطمئنان الى حماه هو في ضيق وضنك الحيرة ، حرصا على حاضره ، وحزنا على غابره ، وطمعا في مستقبله بكل محاظره ، فهو دائبا يعيش ضنك الجري وراء بوارق المطامع والحسرات على ما لا يناله ، وقد يروى عن رسول الهدى قوله «عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة والعسر في الشدة وأن لا يتوصل الى قوته الا بمعصية الله تعالى» (٢).

وهذه هي الدنيا التي لا جزاء فيها ، فكيف بالآخرة؟ (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١١ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : عذاب القبر.

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٢ : ١٣١ روي عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ....

٢٢١

الْقِيامَةِ أَعْمى) كما كان يوم الدنيا أعمى واين عمى من عمى؟.

وتراها عمى عن البصر فلا يبصرون هناك شيئا؟ فكيف يقال لهم (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤) (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) (٣٢ : ١٢).

ام عمى عن البصيرة؟ ولم تكن لهم بصيرة في الاولى حتى يعموا عنها في الاخرى!.

الأصل في العمى هي التي عن البصيرة : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (١٧ : ٧٢) فهي ـ إذا ـ عمى الضلال عن السبيل ، مهما كان بصيرا بالبصر الحيواني وأرقى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) و (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٤٧ : ٢٣) (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٢ : ١٨).

ام انها تجمع لهم عمى البصر الى عمى البصيرة حين يحشرون ، ثم يرجعون الى ابصارهم ليروا بها ما يوحشهم عذابا فوق العذاب ، ومن ذلك مسرح الأعمال التي يرونها ، ومختلف ألوان العذاب ومظاهر التجديف والتخويف التي يرونها ، دون ان يروا او ينتظروا خيرا ينالونها (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) تحد البصر الى ما يزعجك ، ولكنه أعمى من النظر الى ما يبهجك (١).

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) ١٢٥.

__________________

(١) في الكافي باسناده عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز وجل : ونحشره يوم القيامة أعمى ـ قال : قلت سبحان الله أعمى؟ قال : نعم أعماه الله عن طريق الحق».

٢٢٢

كنت بصيرا بصر البصر ، وبصيرا بصر البصيرة الحذق والسياسة الحيوية ، وعلّ (كُنْتُ بَصِيراً) هي باعتبار الاكثرية المطلقة ، ام ان الأعمى لا يعرض عن ذكر الله ، او انه حكاية حال البصير منهم حيث الأعمى لا يسأل هكذا ، والأعمى المؤمن البصير يحشر بصيرا لبصارته الإيمانية ، والمعرض عن ذكر الله البصير يحشر أعمى فسنادا الى الضابطة العادلة :

«كما تعيشون تبعثون» يقول (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ..)؟ والجواب. الحاسم :

(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) ١٢٦.

«كذلك» الذي عشت قد حشرت ، إذ كنت أعمى عن إبصار الحق وسماعه والتفكر فيه على التماعه حيث (أَتَتْكَ آياتُنا) مبصرة ومسموعة ومعقولة «فسنيتها» انها آياتي ، وأعرضت عنها وقد كانت ذكرى ، وهكذا تحشر أعمى كما كنت أعمى (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) حرمانا عن البصيرة مدى حياتك في الاخرى ، وعن البصر حيث ضيعته فيما لا يعنى ، ابطالا له عما يعنى!.

وذلك ظهور الحالات الدنيوية في الملكوت ، ان تظهر عمى البصيرة على البصر ، فالهول الشامل حين الحشر من ناحية ، والعمى الحائلة عن إبصار المسرح المفجع من اخرى ، انه عذاب فوق العذاب ، مهما يرجع بصيرا بعد ردح ام في فترات لكي يرى العذاب ، عذابا من نوع آخر فوق العذاب ، فعماه حشرا عذاب ، وإبصاره بعده عذاب جزاء بما كانوا يعملون ولا يظلمون نقيرا.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) ١٢٧.

«وكذلك» البعيد المدى الشديد الصدى (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) وتولى

٢٢٣

(وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) نجزي معيشة ضنكا في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) لو كانوا يعلمون ، وهنا تنتهي الجولة بطرفيها الصالح والطالح ، وبالتالي جولة للطالحين هي اقرب من الاخرى ، فانها واقع تشهده العيون ان كانت الاخرى غيبا عن العيون :

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ١٢٨.

«هدى له» هي الهدى الصالحة لمن يهتدي بها حجة بالغة عليه (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أولاء المعرضين عن ذكري (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) الخالية البالية بما أسرفوا ولم يؤمنوا ، وهم أولاء (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ويرون بأمّ أعينهم آثارهم الخاوية (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك في قرون مضت «لآيات» بينات (لِأُولِي النُّهى) جمع نهية وهي العقل الناهي عن هوى النفس ، واما المعقول بعقال النفس فهو معرض عن آيات ربه وذكره.

فحين تجول القلوب والعين في مصارع القرون ، وتطالع العين ويطلع الضمير على آثارهم ومساكنهم عن كثب ، ويتصور الإنسان النسيان شخصوهم الذائبة وأشباحهم الهاربة ، حين يتأمل ذلك الحشد من الأشباح والصور ثم لا يرى منهم أثرا إلا بيوتا خاوية ومساكن خالية ، عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر كما ابتلعت الغابر و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى).

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) ١٢٩.

والكلمة السابقة هي قوله في الأعراف (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢٤) ونظائرها الدالة على ان اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ، وما إهلاك قرون خلت او تأتي إلا نموذجا منبها من العذاب ، ولولا هذه الكلمة «لكان» إهلاك المعرضين عن ذكر الله

٢٢٤

«لزاما» لهم دون إبقاء : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (٤٢ : ١٤).

وترى ما هو موقف (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مرفوعا في آيتنا؟ أجمل المحتملات اللائقة بكلام الله كون «اجل» اسما ل «كان» التامة ، وقد كانت ناقصة للمعطوف عليه ، فالمعنى «لكان لزاما وكان اجل مسمى» خلاف ما أجلّه الله متاعا الى حين.

والأجل ـ في كلمة سبقت ـ هو اجل الموت المقدّر لكل احد معلقا ام مسمّى ، ولولا كلمة سبقت لكان إهلاكهم لزاما ولكان اجل مسمى خلاف الباقين الذين لهم أجلا معلق ومسمى.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) ١٣٠.

«فاصبر» ـ (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (١٦ : ١٣٧) ولله (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ويتقولون عليك وعلى رسالتك العظمى (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ولكي ينشرح صدرك عما أضاقوه فاتّجه الى ربك كما أنت وزيادة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الذي رباك وليريبك اكثر مما أنت ، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) في هدأة الصباح وهو يتنفس متفتحا بالحياة ، و (قَبْلَ غُرُوبِها) في هدأة ثانية عن زحمة النهار وسبحه الطويل ، والكون يغمض اجفانه ، والشمس تلبس أكفانها ، كذلك (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) قبل منتصفه فرضا وبعده ـ (نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ـ كذلك (وَأَطْرافَ النَّهارِ) بكرة وظهيرة وعشية (لَعَلَّكَ تَرْضى) بهذه المواصلة في التسبيح بالحمد ، ازاحة عما يضيق بك ، وإراحة لخاطرك الخطير ، وهذه الرضا ثمرة حاضرة للتسبيح تطمئن القلب في حمى الرحمن.

هذه ، وفي مكية ثانية (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ

٢٢٥

طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٥٠ : ٤٠).

وفي ثالثة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٤).

أترى ما هي الملائمة بين هذه الثلاث وفي الاولى (أَطْرافَ النَّهارِ) وأقلها ثلاثة ، والثالثة (طَرَفَيِ النَّهارِ) فأين هنا الظهيرة وهي من الصلاة الوسطى ، وهناك تذكر الفجر والعصر مرتين ثانيتهما في (أَطْرافَ النَّهارِ) والظهيرة هي الطرف الأوسط تذكر فيها اشارة ، ثم الثانية كما الثالثة تلغي الظهيرة؟

الأخيرتان تتجاوبان في الفجر والعصر وفي فريضة الليل كلا او بعضا ، وكأن ذلك كان قبل فرض الظهيرة ، والاولى تلمح لها انها من الفرائض اليومية ثم فرضت صراحا في العهد المدني بتمام فريضة الليل وكأنها العشاء ، فأطراف النهار أقلها ثلاثة أوسطها الظهيرة (١) ، أم انها تجمع بين الفرائض والنوافل اليومية ، ام تعني الأعم من الصلاة كما الثانية ، (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قد تلمح ان التسبيح بالحمد فيها غير الصلاة.

وخصوص الخطاب فيها للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد يرجح الأخير ، لا سيما وان الصلاة لا يعبر عنها في الفصحى بغير صيغتها إلا ان يعنى أعم منها ، فالأوسط هو الأوسط بين الاحتمالات الثلاث واصدق مصاديق التسبيح بالحمد هو الصلاة.

ثم قد يتأكد أن طرفي النهار وقبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، هما

__________________

(١) راجع تفسير الثانية في ج ٢٩ : ٢٩٧ ـ ٣٠٠ للحصول على بيان يشابه ما هنا باختلاف يسير.

٢٢٦

الفجر والعصر وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) (١) ومن أطراف النهار التطوع بالنهار (٢).

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٣١).

«عينيك» الظاهرتين ، او الظاهرة والباطنة استعظاما ل (ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) من اموال وبنين وسائر الحيويات الحيوانية الدانية في هذه الدنيا ، و «أزواجا» هي القرناء فروعا وأصلاء ، مهما شملت ازواج الزواج ، فانها لا تختصها حيث المتع لا تحصر فيهم مهما كانت متعة الجنس من أعلاها ، ولكنها تعم عامة الذكران والإناث.

و (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) هي الطالعة فيها كما تطلع زهرات النباتات ، ولكنها سريعة الذبول والأفول ، وكذلك زهرات الدنيا بأسرها الا ما يتذرع بها الى الاخرى.

وهذه الزهر والمتع ليست لهؤلاء الأنكاد إلا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فيما متعناهم

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٢ ـ اخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر وفيه عن عمارة بن رومية سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : لن يلج النار احد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٠٧ في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له : وأطراف النهار لعلك ترضى قال : يعني تطوع بالنهار وفيه في تهذيب الأحكام عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه بعد ان ذكر (عليه السلام) ما جرت به السنة في الصلاة فقال ابو الخطاب : أفرأيت ان قوي فزاد؟ قال : فجلس وكان متكئا فقال : ان قويت فصلها كما كانت تصلى وكما ليست في ساعة من النهار فليست في ساعة من الليل ان الله عز وجل يقول (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ).

٢٢٧

به فليست لها بقاء ، وحتى إذا بقيت طيلة الحياة ف (رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) إذ تخطى الاولى الى البرزخ والاخرى ثم لا فناء.

وليس ذلك تحريما لزينة الله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ..)؟ بل هو دعوة الى التمسك والاعتزار بالقيم الاصلية الباقية ، فلا تتهاوى النفوس امام المتعة والزهرة والثراء ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) : قوله : «ان أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : بركات الأرض» (١) وقد تعزّيه الآية عن فقره وغناهم (٢).

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) ١٣٢.

ومهما كان الأمر بالصلاة يعم كافة المسلمين وعامة المكلفين ولكن «أهلك» هم أحرى بذلك (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) : الصلاة ان تقيمها وتأمر أهلك بها ، وان تقرّب بها وتقرّب الى الله زلفى ، فهناك اصطبار على إقام الصلاة لتكون كلها صلاة ومعراجا الى الأفق الأعلى ، واصطبارا آخر على الأمر بها مهما كان فيه إمر.

وما أحرى عليا وفاطمة أهلا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ،

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٣ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: ....

(٢) المصدر اخرج جماعة عن أبي رافع قال أضاف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ضيفا ولم يكن عنده ما يصلحه فأرسلني الى رجل من اليهود ان بعنا او أسلفنا دقيقا الى هلال رجب فقال لا الا برهن فأتيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأخبرته فقال : اما والله اني لأمين في السماء وأمين في الأرض ولو اسلفني أو باعني لأديته إليه اذهب بدرعي الحديد فلم اخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية ...

٢٢٨

لذلك تراه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت كان يجيء الى باب علي صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١) فقد «امر الله نبيه ان يخص اهل بيته واهله دون الناس ليعلم الناس ان لأهله عند الله منزلة ليست لغيرهم من عامة الناس ثم أمرهم خاصة» (٢).

ولا تحسبن انا نسألك في الصلاة ـ امرا وتطبيقا ـ رزقا وحظوة روحية لنا ، كلا (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) بل (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) بصلاتك وسواها من أرزاق روحية أما هيه ، والحياة «العاقبة» التي تعقب هذه الدنيا «للتقوى» وهي حياة الرجعة والبرزخ والقيامة فانها من ايام الله ، وهذه السفرة المثلثة لا زاد

__________________

(١) المصدر اخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت ....

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٠٨ في عوالي اللئالي وروي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها قال : ... وفيه في عيون الاخبار في باب ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والامة قالت العلماء هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب فقال الرضا (عليه السلام) فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا .. واما الثاني عشر فقوله عز وجل «وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها فخصنا الله تعالى بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع الأمة باقامة الصلاة ثم خصنا من دون الأمة فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيء إلى باب علي وفاطمة (عليهما السلام) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات فيقول الصلاة رحمكم الله ، وما أكرم الله أحدا من ذراري الأنبياء (عليهم السلام) بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصنا من دون جميع اهل بيته فقال المأمون والعلماء : جزاكم الله اهل بيت نبيكم عن الأمة خيرا فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا الا عندكم» أقول : تجد مجموعة هائلة من المسانيد حول القضية في تفسير آية التطهير فراجع.

٢٢٩

لها أفضل من التقوى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ١٣٣.

فلانهم تعوّدوا في ماضي الرسالات بالآيات البصرية ، وآية هذه الرسالة الاخيرة بصيرة هي القرآن ، لذلك ما كانوا يعتبرونه آية رسالية (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) والقرآن أفضل آية من ربه ، ألم تأتهم هذه المفضلة الخالدة الناصعة (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) آيات بصرية تصدقها ، وهم كانوا ناكريها؟ فهم لا يؤمنون بآيات الرسالات ، سواء أكانت بينة ما في الصحف الاولى ، ام بينة الصحيفة الاخرى.

ومن (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) البشارات التي تضمنتها بحق هذه الصحيفة الاخرى ورسولها (١) : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٨٧ : ١٩) ومنها ما في كتاب اشعياء «كي بلعجي شافاه وبلا شون احرت يدبر إل ها عام هذه» (٢٨ : ١١) لأنه بلهجة لكناء بشفاه اعجمية وبلسان غير لسانهم يكلم هذا الشعب» فان كل لغة تعتبر غيرها اعجمية ومنها العبرانية ، فالعربية بجنبها اعجمية لكناء ، غير مفهومة للإنسان العبراني.

ومنها القرآن نفسه فانه آية بينة غير مدخولة من الصحف الأولى وكما يروى عن الامام علي (ع): «فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام» (٢).

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا

__________________

(١) وقد أفردنا لسردها كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماواة».

(٢) نور الثقلين : ٥ : ٥٥٨ ح ٢٢٨ مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ...

٢٣٠

رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) ١٣٤.

«قبله» تعني قبل الرسول قضية الذكورة ، وقبل القرآن البينة لمحة من «آياتك» ولان محمدا هو القرآن البينة والقرآن بينة محمد فالمعنيان معنيّان ، فلو كان المرجع فقط البينة فلتكن «من قبلها» ام فقط هو الرسول فكيف نتبع آياتك من دون القرآن؟.

وهذه الآية من براهين عدم الإهلاك واستحالته في عدل الله قبل إتمام الحجة بشرعة الهية ، ولكنها لا تنفي عذابا في الاخرى بتخلف عن حجة العقل والفطرة ، إلا أن تنفيه ايضا (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥) والتفصيل في تحصيل بالغ راجع الى تفسير هذه الآية.

إذا فبعد تمام الحجة وبالغ المحجّة والتخلف فالعذاب لا محالة واقع بعد الموت ، وقد يحل قبله إذا فاحش الظلم والطغيان ذكرى للظالمين ، وحفاظا على العالمين ، فسحا لهم بما يعملون لما يأملون ، وكسحا للظلم المدمّر لمسرح التكليف : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤ : ١٦٥).

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

«كل» منا «متربص» عاقبة امره حيث الإنسان أيا كان يعيش الأمل نتيجة العمل «فتربصوا» أنتم المعرضون عن ذكر الله عاقبة أمركم وأمرنا «فستعلمون» غدا (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ) وهم الدعاة الى الله (١)(وَمَنِ اهْتَدى) بهم الى الله ، أهم أنتم المعرضون ام نحن المؤمنون؟!.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤١١ تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : والله نحن السبيل الذي أمركم الله باتباعه ونحن والله الصراط المستقيم ونحن والله الذين امر الله بطاعتهم فمن شاء فليأخذ هنا ومن شاء فليأخذ هناك لا تجدون والله عنا محيصا.

٢٣١
٢٣٢

سورة الأنبياء مكيّة

وآياتها اثنتا عشرة ومائدة

٢٣٣
٢٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)

٢٣٥

وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا

٢٣٦

تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ

٢٣٧

دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

سورة الأنبياء تحمل صورة وضاءة عن ثورة الأنبياء وسيرتهم طول التاريخ الرسالي وما لا قوه في سبيل الدعوة من اذيات وعرقلات وحرمانات ، سردا لاكثر من النصف المذكورين في الذكر الحكيم بأسمائهم ورسولنا العظيم بسماته وبصماته ، فهم ـ إذا ـ ثمانية عشر كادريس ونوح وابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومن بينهم كلوط وهارون وداود وسليمان وأيوب وذي الكفل وذي النون وزكريا ويحيى ، وفي ذلك المسرح الفصيح الفسيح تلميحات وتصريحات ان لخاتم المرسلين ما لهم أجمعين وزيادة حتى في صعوبات الدعوة ، ولم يبق من المذكورة اسمائهم في القرآن في السورة إلا ثمانية منهم (١) فحقّ لمن قرءها حبّا لها بشروطها ان يرافقهم في جنات النعيم (٢) ويسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن (٣).

فقد حملت هذه السورة ذكريات عن اولي العزم الذين دارت عليهم الرحى ، وعمّن ساندوهم في دعواتهم الرسالية ، فحق لها وأحرى ان تسمى سورة الأنبياء.

وميادين البحث فيها هي الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والمعاد

__________________

(١) كآدم وشعيب وهود وصالح ويوسف والياس.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤١٢ ثواب الأعمال باسناده الى أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من قرء سورة الأنبياء حبا لها كان كمن رافق النبيين أجمعين في جنات النعيم وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا.

(٣) وفي المجمع أبي بن كعب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : من قرء سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن.

٢٣٨

بمختلف صنوف البراهين كما هي دأب القرآن في دعوته العالمية المحلّقة على كافة المكلفين بدرجاتهم المعرفية.

ومن أهم ما جاء فيها في التوحيد (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) كأعمق برهان فلسفي عريق ، وما جاء في الوسط الرسالي من وحدة الرسالة والأمم طول التاريخ الرسالي : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢) وبالمآل وحدة الدولة الاسلامية (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) واشارة الى الرجعة زمن قائد هذه الدولة : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦) ومن بين ذلك استعراض لفتق الكون بعد رتقه ، الى جانب فتق الشرعة الإلهية بعد رتقها!.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ١.

مطلع قوية الضربات حيث تهز القلوب هزا ، وتعض أصحابها عضا ، إلفاتا لهم الى قريب الخطر ، موقف جاد من الحساب ينتظرهم (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

«اقترب» حيث الناس منذ نزول القرآن هم اقرب الى يوم الحساب منهم الى بدء الخلق ، فقد مضى اكبر شطري الزمان ، ولان كل آت قريب ، و «ان الدنيا قد ولت حذاء ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء».

فمن الناس من هم في اوّل الزمان ، ومنهم من هم في وسطه ، ولكن الناس منذ الرسالة الاخيرة هم في آخر الزمان ، ولذلك فنبينا نبي آخر الزمان ، واقتراب الحساب مما ينبه الإنسان عن غفلته ، ويوقظه عن غفوته (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

٢٣٩

وعلى الوجهين الأخيرين لاقتراب الحساب فالناس هم كل الناس منذ خلقوا الى يوم الحساب وكذلك على الوجه الأول في وجه (١).

و «حسابهم» قد يعم البرزخ الى جانب القيامة فانه بداية الحساب وهي نهايته ، فلان الدنيا مولية حذاء وكل آت قريب ، فالحساب ـ إذا ـ يعم البداية والنهاية (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ، فالناس ـ إذا ـ بين اقترابين لحسابهم ، اقتراب دائب هو لكل الناس ، واقتراب جاد هو لمن يعيش آخر الزمان وهو منذ ابتعاث نبي آخر الزمان ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ككل إلا من يستثنى.

وترى الغفلة وهي عدم الانتباه ، كيف تجامع الإعراض ولزامه الانتباه؟ علها لأنها غفلة عامدة مقصرة لا قاصرة ، والغفلة المقصرة تنهي صاحبها الى الاعراض بل هي بنفسها إعراض.

فقد يغفل الإنسان ولا يعرض لأنها غفلة وقتية يسيرة قصيرة قد ينتبه عنها ، ولكنه إذا عاش الغفلة وتورط فيها وغرق ـ كما تلمح له الظرف (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) غارقون فيها ـ فهم ـ إذا ـ «معرضون» إذ لا منفذ لهم الى الانتباه حيث هم غارقون ، ومن اعراضهم عن الله وعن يوم الله وعما يتوجب عليهم امام الله فإعراضا عن حسابهم :

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ٢.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٢٦ : ٥).

__________________

(١) إذا أخذ مبدء الزمان زمن الإنسان الاول قبل هذا النسل وسائر الانسال الانسانية ، فقد يصبح هذا النسل عن بكرته في آخر الزمان على احتمال مضي الشطر الأكبر من الزمان قبله.

٢٤٠