الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

دون أصل النسيان ككلّ ، الذي هو طبيعة الحال في الإنسان ، مهما شملته (إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) فإن إنساءه محظور القعود معهم ليس إلّا بتساهل المكلف عن مسئوليته وإلّا فكيف ينساها! وللذكر بعد النسيان أيّا كان سبب رباني هو الرجوع إلى الله (١) ثم ترى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) هل تختص بالقيام عنهم خروجا عن جمعهم ـ فقط ـ وكما تدل عليه (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى)؟.

ولكن «أعرض» يعم القيام عنهم إلى سائر معارض الإعراض ، فالقعود المحظور معهم هو المتحلل عن الإعراض ، فإن قمت عنهم دون إعراض فقد تركته إلى القعود معهم في مسايرتهم مهما قمت عنهم.

وهنا «الظالمين» توسعة لحكم التحريم ببيان حكمته ، أن القعود معهم محظور مهما كانوا خائضين في آيات الله مكذبين ومستهزئين كأنحس الظلم ، أم كانوا فاسقين ، فالقعود في مجلس الظالمين محظور في كلّ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٨ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى داود بن القاسم الجعفري عن محمد بن علي الثاني عليهما السلام قال اقبل امير المؤمنين (ع) ذات يوم ومعه الحسن بن علي عليهما السلام وسلمان الفارسي وامير المؤمنين (ع) متك على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذا أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على امير المؤمنين (ع) فرد عليه فجلس ثم قال يا أمير المؤمنين اسألك عن ثلاث مسائل ان اخبرتني بهن علمت أن القوم ارتكبوا من أمرك ما قضى عليهم انهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم وان تكن الأخرى علمت انك وهم شرع سواء فقال له امير المؤمنين (ع) سلني عما بدا لك قال : اخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه الأعمام والأخوال؟ قال : فالتفت امير المؤمنين (ع) الى أبي محمد الحسن ولده (ع) فقال يا أبا محمد أجبه فقال (ع) أما ما ذكرت من أمر النسيان فان قلب الرجل في حق وعلى الحق طبق فان صلى الرجل عند ذلك على محمد وآل محمد صلاة تامة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق فأضاء القلب فذكر الرجل ما نسيه وإن هو لم يصل على محمد وآل محمد أو نقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق فأظلم القلب ونسي الرجل ما كان ذكر ...

٨١

دركات الظلم (١) إلّا نهيا عن المنكر فمحبور (٢) ، فإنما المحظور هو قعود النفاق وما أشبه من سائر الوفاق معهم كالرفاق ، سواء تأثر بخوضهم وظلمهم فأنحسه ، أم لا يتأثر كما لا يؤثر فدونه نفاقا ، فلا يبرّر القعود في

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٥ في اصول الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) قال : ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم ، مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه ومجلسا ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رث ومجلسا فيه من يصد عنا وأنت تعلم ، ثم تلا (ع) ثلاث آيات من كتاب الله كأنما كن في فيه ـ أو قال ـ كفه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ـ (وَإِذا رَأَيْتَ ...) ـ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

أقول : هذه مصاديق ثلاث من مجالس الظلم ، وهي تؤيد طليق الظلم في الآية.

وفي نور الثقلين ١ : ٧٢٦ عن العلل عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : ليس لك ان تقعد مع من شئت ..» ثم استند الى هذه الآية (وَإِذا رَأَيْتَ ..) وفيه عن تفسير القمي بسند متصل عن عبد الأعلى بن أعين قال : قال رسول الله (ص): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه امام او يغتاب فيه مسلم إن الله يقول في كتابه : (وَإِذا رَأَيْتَ ..) وفيه عن الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين الّا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين فان تكلموا تكلم الشياطين بنحو كلامهم وإذا ضحكوا ضحكوا معهم وإذا نالوا من اولياء الله نالوا معهم فمن ابتلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه فإن غضب الله عزّ وجلّ لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء ثم قال (ع): «فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة».

وفيه في الفقيه قال امير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه محمد بن الحنفية : ففرض على السمع ان لا تصغى به إلى المعاصي فقال عزّ وجلّ : (وَإِذا رَأَيْتَ ..) ثم استثنى موضع النسيان فقال : «وأما ينسيك ..».

(٢) المصدر عن الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : لا ينبغي للمؤمن ان يجلس مجلسا يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره.

٨٢

مجلس الظلم إلّا واجب النهي عن المنكر أو محظور الاضطرار فيما يتقدم على محظور القعود معهم.

ثم وليس فحسب ، بل ومجالسة العصاة وإن فيما لا يعصون الله فيه محظور مهما كان أقل حظرا من مجلس الظلم (١) فإن في ترك مجالستهم مرحلة حاسمة من النهي عن المنكر ، ومن ثم ف «مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار» و«إياك ومصاحبة الفساق فإن الشر بالشر ملحق» (٢) ف «مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان» (٣).

وترى (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) تسمح للقعود معهم إذا تركوا الخوض بالفعل مهما ظلوا ظالمين؟ الظاهر نعم ، ولكن بالنسبة لشديد

__________________

(١) المصدر عن الكافي عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن بكر بن محمد عن الجعفري قال سمعت أبا الحسن (ع) يقول : مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال : إنه خالي ، فقال : إنه يقول في الله قولا عظيما يصف الله بما لا يوصف فإما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته فقلت هو يقول ما شاء اي شيء عليّ منه إذا لم اقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن (ع) أما تخاف ان تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا»؟.

وفيه عن الفقيه روى محمد بن مسلم قال : مر بي ابو جعفر وأنا جالس عند القاضي بالمدينة فدخلت عليه من الغد فقال لي : ما مجلس رأيتك فيه أمس؟ قال قلت : جعلت فداك ان هذا القاضي لي مكرم فربما جلست إليه فقال لي : وما يؤمنك ان تنزل اللعنة فتعمك معه.

(٢) المصدر ينقل الحديث الأول عن عيون الأخبار باسناده إلى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام يا ابن رسول الله (ص) حدثني عن آباءك عليهم السلام قال : قال أمير المؤمنين (ع) : مجالسة ..» والثاني عن نهج البلاغة عنه (ع).

(٣). نهج البلاغة الخطبة ٨٤ / ١٥٢.

٨٣

الحظر المهدد بكونه نفاقا عارما ، وأما حظر مجالسة الظالمين نهيا عن المنكر فهو عنوان آخر له حكمه دون تناحر بينهما.

ذلك ، وهل على الذين يتقون الخوض والقعود مع الخائضين من حسابهم من شيء وكما قد يخيل إليهم ، كلّا ، فإنما عليهم الذكرى لعلهم يتقون :

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٦٩) :

ليس من حساب هؤلاء الخائضين شيء على الذين يتقون كلّ المحاظير ، (وَلكِنْ ذِكْرى) أن يذكّروهم عظة وحكمة نهيا عن المنكر (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فإذا تأكدوا من إصرارهم فلا ذكرى أيضا فلا قعود معهم لذكراهم فإنهم لا يتقون.

فمن لا يجد من نفسه احتمال التأثير ، أم ويجد محتمل التأثر لنفسه من مجلس الظلم ، فقعوده محظور ، ومن يجد من نفسه محتمل التأثير ، وان بمزيد البلاغ وبيان الحجة لهم فقعوده معهم محبور ، فالقعود مع الظالمين تأثرا أو تأثيرا بين محظور ومحبور ، فحتى إذا لم يتأثروا ولم يؤثروا فهو أيضا محظور لأنه مسايرة معهم فيما هم يعملون.

ذلك وكضابطة ـ إلّا ما يستثنى ـ القعود مع الظالمين وان في غير ظلمهم محظور ، فإنه مجاراة معهم ، ثم التأثر بظلمهم هو طبيعة الحال من عشرتهم ، ولا أقل من أن يصبح الظلم هينا في نظره ومنظره ، وان يكسب الظالم شرفا ومددا من عشرته ، وأن يتهم عند المتقين منها ، وأنها ترك لمرحلة أخيرة من النهي عن المنكر.

وكلّ من هذه الزوايا الخمس من مخمس عشرتهم ، تكفي بنفسها لحظرها ، اللهم إلّا أن تجبر بالنهي عن المنكر وإلقاء الحجة وإنارة

٨٤

المحجة ، القاضية على هذه الزوايا ، الماضية في الدعوة إلى الله.

ذلك ، وكما (ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فعلى الذين لا يتقون ، قعودا معهم وتركا لنهيهم «من حسابهم شيء» وكما في آية النساء (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) وشيء حسابهم الذي هو عليهم ليس نفس حسابهم ، فإنما هو مثله قدر ما اكتسبوا من الإثم معهم حيث (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ..).

وهنا احتمال ثان أن ضمير الجمع في (مِنْ حِسابِهِمْ) راجع إلى (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أنهم لا يحاسبون على أعمالهم أبدا إكراما لتقواهم ، وكما : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ولكنه معنى هامشي على أصله المذكور.

فالذين حياتهم حياة التقوى كأصل لا يحاسبون على شيء من أعمالهم مهما تفلتت منهم سيئات ، وهم في صورتهم الوضاءة الخاصة أحرى من عامة مجتنبي الكبائر.

ومن حسابهم الذي ما عليهم منه من شيء هو القعود مع الظالمين إذا اتقوا ظلمهم وملابسات القعود معهم ، ولا سيما إذا تركوه بعد ما نسوه : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وبالأخص إذا كان القعود معهم لأداء فريضة أو سنة إسلامية دون تقصد لمجالستهم ، كالدخول في المسجد الحرام للطواف والسعي ، والذهاب إلى سائر المشاعر لأداء سائر المناسك ف (ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حين يكون جلوسهم معهم بطابع التقوى «ولكن» يبرز ذلك القعود «ذكرى» لهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

ولأن الآية تحتمل المعنيين ـ إذا ـ فهما معا معنّيان ، إلّا أن «يتقون» في الأول أوسع من الثاني حيث شملت التقوى عن القعود مع الظالمين ،

٨٥

ولكنه ـ شرط أن يتقوا عن ظلمهم بملابساته ـ خارج عن الكبائر فداخل في الصغائر المكفرة بترك الكبائر ، كما وهم يتقون بنفس الدخول معهم لتحقيق فرائضهم.

ذلك ، وترى الرسول حين يؤمر ألا يقعد مع الخائضين ، كذلك يؤمر بترك تذكيرهم ، المأمور به (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فمهما كان (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولكنه ليس سواء عليه ، فعليه الاستمرار في الإنذار مهما كان عليهم سواء ولكنه لا يقعد معهم فيه فيذرهم من هذه الناحية ولا يذرهم في حقل الإنذار ، وهو لأقل تقدير لا يقدر أن يترك المسجد الحرام لأنهم فيه كما المسلمون (١).

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠) :

البسل في الأصل هو المنع والحبس ، ومنه يقول العرب للحرام بسل ، كما البسالة : الشجاعة هي المناعة ، ف (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) تعني أن تحرم نفس وتحبس عما تعني وترهن ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٧٤ : ٣٩) ـ إذا ـ ف «ذكر به» تمحور غير أصحاب اليمين ، المرتهنين بما كسبوا حتى يصبحوا منهم فلا يرتهنوا.

والإبسال بالكسب هو أن يحرم نفسه من الصلاح والفلاح بمكاسب

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٨ عن المجمع قال ابو جعفر عليهما السلام لما نزل (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال المسلمون كيف نصنع ان كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ـ «امر بتذكيرهم وتبصرهم ما استطاعوا».

٨٦

السوء ، التي ترين القلب : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١).

ف (ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) متحكما عليهم ذلك الثالوث المنحوس التي هي من أشر وأخطر مكاسب السوء.

ذرهم أن تقعد معهم ، ولكن لا تذرهم عن الّذكرى ، بل «وذكر به» : القرآن ، مهما لا يتذكر به إلّا من يخاف وعيد.

(ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) قطعا لها وحرمانا بأشده قضية ما كسبت من سوء فإن للذكرى محاصيلها في كلّ الظروف والملابسات اللهم إلّا! وهي لأقل تقدير حجة متواصلة على هؤلاء الّذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فإنما على المنذرين إلقاء الّذكر متواصلا دون إلغاءه (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٧٧ : ٦).

إذا فعليه (ص) بالنسبة لهؤلاء الأغباش الأوباش جامع الإعراض عنهم عشرة وملاطفة وقعودا معهم ، تركا لمسايرتهم وتحفظا على كرامة الإيمان ونهيا عمليا عن منكراتهم ، ثم وذكراهم رغم إعراضهم عنها كمسؤولية رسولية ، وأما الرسالية فهي أخف وطأة منها.

وترى (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ ..) يختص بالمشركين بدينهم الإشراك؟ والنص يعمهم إلى سواهم ، فالذين يدينون دين الحق في ظاهر الحال ولكنهم يتذرعون بها إلى أهواءهم الساقطة الماقتة ، يلعبون بدينهم ويلتهون عنه إلى أهواءهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عن الحياة العليا (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ولكن لا تترك ذكراهم (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ..).

«أن تبسل» إقفالا على نفسه وإغفالا عما يعنى لها «بما كسبت» من

٨٧

أسباب الإغفال الإقفال ، وهي حال إبساله (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ) من دون الله فالله هو الولي (وَلا شَفِيعٌ) عند الله إذ لا يشفعون إلّا باذنه و (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وفداء عما أبسلت بما كسبت (لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي عدل وفداء ، فإن «أولئك» هم (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) لا بما فعل الله ، ف (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بالله ، أو «يكفرون» بنعمة الله ، كفرا أو كفرانا قد تعنيهما «يكفرون».

صحيح أن مصب هذه الآيات ـ الأصيل ـ هم المشركون الوثنيون ، ولكن ساير المشركين كتابيين كانوا أو مسلمين أليسوا هم مبسلين بما كسبوا من تطرفات إلى الإشراك؟!.

سواء أكان إشراكا بتقديم شعائر تعبدية لأحد مع الله كأن يسجدوا أو يركعوا لغير الله احتراما فإنه اخترام لساحة الله ، أو بتقبل الحاكمية والشرعة من أحد مع الله؟.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٧١) :

«قل» لهؤلاء الداعين من دون الله (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) من أو (ما لا يَنْفَعُنا) حتى ندعوه تحببا (وَلا يَضُرُّنا) حتى ندعوه تجنّبا (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) من جاهلية الإشراك بالله.

(بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) الّذي ينفعنا ويضرنا ، فمثلنا إذا في السقوط في هوّات الضلالة والمتاهة الحائرة المائرة (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) من الجن والإنس «في الأرض» أرض المسؤولية والتكليف حالكونه «حيران»

٨٨

من ذلك الاستهواء الاستغواء ، وحال أن (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) بمختلف الدعوات الصالحة قائلين «ائتنا» كما كنتم ردحا معنا ، رجوعا إلى ما كنتم من الهدى «قل» لهؤلاء وهؤلاء (إِنَّ هُدَى اللهِ) لا سواه «هو الهدى» لا سواه (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فإنه الهدى.

فالرجوع إلى دعوة غير الله هو الرجعية السوداء مهما كان من الحضاريين ، والانقلاب إلى دعوة الله هو التقدمية البيضاء مهما كان من القدامى الماضين.

وترى (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) تدل على أعقاب الشرك لهم وفيهم الرسول (ص) الّذي ما زال ولم يزل موحدا كأحسنه وأكمله؟.

كلّا! فإن «أعقابنا» قد تعني الانقلاب إلى واقع الشرك الماضي ، وأخرى إلى حالة الشرك مهما لم تسبق له سابقة حيث يقال لكلّ معرض عن الحق أنه رجعي راجع إلى الوراء ، فإن الوراء لا تعني ـ فقط ـ كونه في زمنه ، بل وكيانه ، وهو الانتقاص بعد الكمال والانتقاض بعد الاستحكام في النوال.

ذلك ، وكما تعني «قل» القول الرسالي عن المجموعة المؤمنة ، دون القول الرسولي عن نفسه المقدسة التي كونت على التوحيد الوطيد ، وذلك قضية اصطفاءه على العالمين ، فكيف يصطفى من له سابقة إشراك على من لم تسبق له من الناشئين على التوحيد الحق وحق التوحيد.

فهنا (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) تعم هدى الفطرة والعقلية والوحي ، المجتمعة في رسول الهدى (ص) منذ ولاده ، والمتفرقة فيمن سواه ممن آمن ثم كفر ، أو كان كافرا ثم آمن ، أو من يمكن في حقه الانقلاب من إيمان إلى كفر أو من كفر إلى إيمان ، وليس منهم رسول الهدى (ص) ومن يحذوا محذاه ويرمي مرماه.

٨٩

والاستهواء هنا من كلا الهويّ والهوى ، فما لم يستهو الشيطان هوى لم يكن ليستهوي هويّا ، فالخطوات الأولى من الشياطين هي تتركز على استهواء الهوى ، طلبا لها لكي تهوى ما تهوى ، ثم تتبع هوى الشياطين ومن ثم تستهوي هويّا في الأرض من كلّ على إلى كلّ سفل : (.. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٢٢ : ٣١).

إذا ف (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) هويا ، هي تطلّب سقوطهم من المكانة العالية الانسانية والايمانية الى هوات ساقطة وهيدة بعيدة في ظلمات الأرض ، فهم ـ إذا ـ سيّقة الشيطان وكرة لأقدامه ، أينما يستهويهم يهوونه ، وذلك هو الضلال البعيد ، والحيرة الحائرة المائرة ، والأرض تعني أرض حياة الأهواء والشهوات.

ذلك ، وأخيرا نسأل أدبيا : كيف «هو الهدى» و«هدى الله» مؤنث لغويا؟ والجواب أنه يجوز أدبيا حين يكون الضمير ضمير فصل و«هو» هنا فصل ، ومن ثم لا سؤال اعتراضا على الله فيما يفعل أو يقول حيث القرآن هو المحور الأصيل لكلّ أدب وأديب أريب ، فإنه الصادر عن خالق الإرب الآداب ، فهو المصدر لكلّ أديب وآداب.

فحتى إن لم يكن «هو» هنا ضمير فصل لكان برهانا أدبيا على سماح رجوع ضمير المذكر إلى مرجع مؤنث مجازي ، وقد قال الله : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ..) مما يسمح لتذكير الفعل للمؤنث الحقيقي فضلا عن المجازي.

ذلك ، ومن ثم (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ) متحولة إلى أمرنا بالإسلام لرب العالمين ، تقديرا ل «أن» الناصبة.

ولأن الإسلام لله درجات فالمسلمون لله ـ كذلك ـ درجات (وَلِكُلٍ

٩٠

دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) إسلام للوجه بكلّ الوجوه : الظاهرة والباطنة (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ذلك ، وكما أمرنا ـ كأبرز مصاديق الإسلام جانحة وجارحة ـ :

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٧٢) :

فإقام الصلاة إقام لكلّ الصلات بالله ، زلفى إليه بالصلاة التي هي أقرب الصلات.

ويا للصلاة من وسط بارع بين «لنسلم» و«واتقوه» فالصلاة تضمّ في جنابتها إسلاما لله وتقوى الله ، فهي خير موضوع حين تقام بكلّ قواماتها في صورتها وسيرتها.

ثم (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) دون من سواه وإن كان رسول الله (ص) فإنه أيضا من المحشرين إلى الله.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(٧٣) :

فلأنه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ف (هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فلو لا الحشر إلى الله لكان خلق السماوات والأرض باطلا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨ : ٢٧) ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (٤٤ : ٣٨).

فذلك الخلق الشاسع الواسع ، بذلك النظام البارع ، وتلكم المظلمات الواقعة غير المنجبرة من أحسن المخلوقين ، إنه ـ لو لا الحشر إلى ربهم ـ لعاطل باطل ، ولعب لاغ بالخلق ما حل!.

٩١

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ) بعد قيامة التدمير للكون ، يقول قولا تكوينيا لما دمّر «كن» كونا لصالح الحشر والحساب «فيكون» كما قال ، كما (فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) الّذي قاله وعدا قبل الحشر زمن التكليف ، والّذي يقوله في قيامة التعمير ، حقا في واقعه كما كان حقا في نبإه.

(وَلَهُ الْمُلْكُ) هنا وهناك ، ولكنه لا يبرز لأهل الحشر تماما إلّا فيه ، فهو (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مهما كان مالكا يوم الدنيا ، والفارق هو الخفاء يوم الدنيا والبروز يوم الدين : ف (لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) نفخة الإحياء في الناقور : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٧٤ : ٩).

ولا تعني «الصور» هنا الصور وهي جمع الصورة ، لمكان رجوع ضمير الإفراد إليه (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) (٣٩ : ٦٨) وكما الأولى وهي نفخة الإماتة لا تناسب النفخ في صور الأحياء في نفخة الإحياء كما هنا ، ولا صور لمن في الأجداث حتى ينفخ فيها الأرواح ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ٥١)(١) : «وكيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ ..»(٢).

(عالِمُ الْغَيْبِ) كله (وَالشَّهادَةِ) كلها (وَهُوَ الْحَكِيمُ) بما يفعل «الخبير» بما يفعل.

__________________

(١) راجع ح ٣٠ : ٣٤ ـ ٣٦ تجد تفصيل البحث حول النفخ في الصور والنقر في الناقور.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٢ عن أبي سعيد عن النبي (ص) قال : كيف أنعم .. قالوا فما نقول يا رسول الله (ص)؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» وفيه عن عبد الله بن عمر قال : سئل النبي (ص) عن الصور فقال : هو قرن ينفخ فيه.

٩٢

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ

٩٣

قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ

٩٤

وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)(٩٠)

هذه أربعة عشر آية هي بجملتها تتناول موضوعا متصل الفقرات في بناء العقيدة ، تعريفا شاملا عريفا عريقا بالألوهية الحقة الحقيقية وحق العبودية الصالحة وما بينهما من صلات ، تعالجها هذه الآيات في أسلوب قصصي.

وهذا الدرس البالغ لقمته ، فيه عرض لموكب الإيمان الرسالي منذ نوح إلى خاتم المرسلين محمد (ص) طالعا في مطلعه مشهد رائع للحجة الإبراهيمية الراسمة لحكم الفطرة السليمة ، تحرّيا عن رب العالمين ، هو بظاهره تعلم في سيرة التعليم إذ كان موحدا منذ بزوغه ، لم يكفر به ـ ولن ـ طرفة عين :

٩٥

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٧٤) :

هنا «أبيه آزر» ولا ثانية لها في القرآن إلّا «أبيه» دون «آزر» (١) والقصد منه غير والده كما هو المتأكد من آيات عدة ، فقد بدأ قومه ومنهم آزر المسمى ب «أبيه» بالتنديد على عبادة الأصنام (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ورغم الحظر عن الاستغفار للمشركين يعده الاستغفار حين يتلمح من كلامه معه انه في حالة التحري : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١٩ : ٤٨) ولقد أنجز له وعده قبل ان يتبين له انه عدو لله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٦ : ٨٦) إذ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٩ : ١١٤).

ذلك ، فقد تبرء منه حتى آخر عمره وانجاز أمره ، ولكنه نسمعه حين يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل يدعو لوالديه : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (١٤ : ٤١).

إذا فوالده هنا غير أبيه هناك ، فهو عمه دون والده ، ولا جده من أمه لأنه ايضا والده ، وإلّا لكان نقضا لعصمة الجليل والخليل حيث أنبأ : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقضية طليق التبرؤ ألا يستغفر لآزر ، فلما استغفر لوالديه في آخر عمره ونهاية أمره وقد تبين أن آزر عدو لله نتأكد أن

__________________

(١) كما في ٩ : ١١٤ و١٩ : ٤٢ و٢١ : ٥٢ و٢٦ : ٧٠ و٣٧ : ٨٥ و٤٣ : ٢٦ و٦٠ : ٤.

٩٦

والده غير المعني بأبيه (١).

و (... أَتَتَّخِذُ أَصْناماً) منكرة ، هي من صنع المصنوعين ، تتخذها «آلهة» كما الله ، إشراكا لها بالله ، (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) التابعين لك (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يبين ضلاله لأصحاب الفطر والعقول.

هنا «أصناما» منحوتة بأيديهم وما أشبه من المصنوع ، تنكير لنكير الأصنام ، تنكيرا فطريا وعقليا بل وحسيا لاتخاذها آلهة ، فهو استفهام انكاري بأشده ، منقطع النظير بأشدّه ، يستأصل الأصنام وأضرابها عن كافة شؤون الألوهية.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(٧٥) :

«وكذلك» البعيدة المدى ، العميقة الصدى لملكوت الأصنام وما شابهها من السماوات والأرض (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) حيث استطاع أن يتغلب في كلّ حقول الحجاج مع أبيه ومع قومه ومع نمرود الطاغية ليكون .. (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ونتيجة لهذه الإرادة الربانية (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...).

أجل ، وكلما زادت رؤية ملكوت الكون وكيانه تعلقا بالله ، زاد الرائي يقينا أكثر بالله ، فلأن التعلق بالله درجات ، فملكوته أيضا في أنفس معتقديها درجات ، كلّما كان السلب أقوى وأعمق كان الإيجاب ـ على ضوءه ـ أعمق وأقوى ، بل ولا نصيب للخلق في معرفة الله إلّا مجالات

__________________

(١) راجع لتفصيل المبحث الى آية التوبة (١١٤) والممتحنة (٤) ج ٢٨ : ٢٧٥ وابراهيم (٤١) ج ١٣ ومريم (١٦ : ٣٣٣) تجد قولا فصلا حول أن آزر لم يكن والده عليه السلام ، ووجه التعبير بالأب عن غير الوالد في آيات عدة.

٩٧

السلب ، ف «لا إله» تنفي الألوهة عن كلّ الكائنات بحذافيرها ، ثم «إلا الله» تثبت حق الألوهة له تعالى ، ولكن ما هو وما هي صفاته وأفعاله؟ لا نصيب له هنا إلّا السلب ، موجود يعني ليس بمعدوم ، عالم يعني ليس بجاهل وهكذا الأمر .. ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

وهنا تساؤلات عدة حول هذه الآية ، منها ما هي الملكوت ، وأخرى ألم يكن إبراهيم قبل هذه الرؤية من الموقنين بالله ، وإذا فكيف كان يؤنب أباه وقومه بشركهم أنهم في ضلال مبين ، وثالثة بما ذا يعطف العاطف في «وليكون ..» ولا معطوف عليه ظاهرا يعطف عليه؟.

قد يكون المعطوف عليه «ليحتج على المشركين» كأصل في حجاجه (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأولين في تلك الاراءة الملكوتية ، إيقانا فوق إيقان فإيمانا فوق إيمان ، حيث الإيقان فالإيمان درجات حسب درجات رؤية الملكوت ، فما أريه إبراهيم من الملكوت له جانبان اثنان ثانيهما وهو الأعمق (لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) والأوّل وهو الممكن تفهمه لمتحري الحق فقر الكائنات كلها إلى ربها ، (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الرساليين وهم أفضل الرسل والنبيين ، لا كلّ الموقنين بل الموقنين القمة كإبراهيم (ع).

ذلك ، ولرؤية الملكوت خلقيا ـ وهي مفروضة على كلّ السالكين إلى الله ـ درجات ، رؤية الفطرة ، ورؤية العقلية الإنسانية على ضوء الفطرة والرؤية الحسية والعلمية ، ورؤية بالوحي يكملها كلها ، كما ولكلّ درجات ، فليست رؤية الملكوت ـ إذا ـ نسقا واحدا وشكلا فاردا ، ومن ثم رؤية خالقية ربانية علميا وقيوميا خاصة بالله.

والنظرتان الأوليان إلى ملكوت السماوات والأرض هما المفروضتان على كافة المكلفين ، ذوي الفطر والعقول ، والأبصار والبصائر ، وقد يندد بمن لا ينظر بها إلى الملكوت : (أوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ

٩٨

وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ...) (٧ : ١٨٥) وهذه هي الملكوت العامة التي يجب النظر إليها بعين الفطرة والعقلية الإنسانية ، بعين البصر ثم البصيرة.

وهذه الرؤية لا تتجاوز علما مّا بماهية الكون من تعلقه بالله ، فلا إله إلّا الله ، ثم هناك رؤية علمية وقيومية تختص بالله وهي رؤية أخص الخاص : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٦ : ٨٣) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (٢٣ : ٨٩).

هذه وتلك ملكوتان بينهما بون كبير ، ثم بينهما وسيطة تختص بإراءة الوحي ، وهي رؤية الخاص ، كرؤية إبراهيم ملكوت السماوات والأرض (١) فإيقانه أيضا هو المناسب لرؤيته ، إيقان بعصمة ربانية ليس كسائر الإيقان الحاصل بفطرة وعقلية إنسانية مهما بلغت ما بلغت من قممها ، فإنها ليست لتصل إلى عصمة طليقة تحصل بإرادة الله ، المعبّر عنها ببرهان الرب : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (١٢ : ٢٤) اللهم إلّا كنموذج تصديقا لرؤية الملكوت (٢) وبقدر ما يتقي العبد ربه يرزق رؤية

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٣٢ عن هشام عن أبي عبد الله (ع) قال : كشط له عن الأرض ومن عليها وعن السماء ومن فيها والملك الذي يحملها والعرش ومن عليه وفعل ذلك كله برسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وفيه عن كتاب الاحتجاج حديث طويل عن النبي (ص) يقول فيه : يا أبا جهل أما علمت قصة ابراهيم الخليل (ع) لما رفع في الملكوت وذلك قول ربي (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ...) قوى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى ابصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين».

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٣٠ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب جابر بن يزيد قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ...) فرفع أبو جعفر (ع) بيده وقال : ارفع رأسك فرفعته فوجدت السقف متفرقا ورمق ناظري في ـ

٩٩

للملكوت ، ولكنها على أية حال ليست إلّا دون العصمة الرسولية والرسالية في هذه الرؤية ، وكما يروى عن النبي (ص) قوله : طوبى للمساكين بالصبر وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض» (١) وقال (ص): «لو لا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

وعن الصادق (ع): «لو لا أن الشياطين يحمون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض».

وهنا في ارادة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض نتائج عدة رسولية ورسالية ، أهمها المذكور هنا : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فإنه المحور الأساس في بناء الرسالة رسوليا ورساليا.

وهذه الإراءة لإبراهيم ـ هنا ـ الخاصة بمعرفة الله كما تناسب محتده ، تثنى في أخرى هي الإيقان بحقيقة المعاد : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ

__________________

ـ ثلمة حتى رأيت نورا حار عنه بصري فقال : هكذا رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وانظر إلى الأرض ثم ارفع رأسك فلما رفعته رأيت السقف كما كان ثم أخذ بيدي وأخرجني من الدار وألبسني ثوبا وقال : غمض عينيك ساعة ثم قال : أنت في الظلمات التي رأى ذو القرنين ففتحت عيني فلم أر شيئا ثم تخطى خطا فقال : أنت على رأس عين الحياة للخضر ثم خرجنا من ذلك العالم حتى تجاوزنا خمسة فقال : هذا ملكوت الأرض قال غمض عينيك وأخذ بيدي فإذا نحن بالدار التي كنا فيها وخلع عني ما كان ألبسنيه فقلت جعلت فداك كم ذهب من اليوم؟ فقال : ثلاث ساعة.

(١) نور الثقلين ١ : ٧٣٣ عن الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال قال النبي (ص) ...

١٠٠