الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وهنا (قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) تعم ثالوث قتلهم دون اختصاص ببعض دون بعض لمكان «أولادهم» دون «بناتهم» ولا تقييد ل «أولادهم» في حقل القتل بجانب دون آخر.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(١٤١) :

هذه من غرر الآيات المعمّمة للزكوة على كافة الثمرات ، وقد سبقت نظيرتها بفارق عدم التصريح بحقه يوم حصاده حيث استبدل عنه ب (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦ : ٩٩) حيث الأمر بالنظر يعم النظر المعرفي والمصرفي إيتاء لحقه يوم حصاده دون إسراف سلبيا أو إيجابيا.

فقد يتقدم النظر المعرفي إلى ثمره إذا أثمر وينعه على النظر المصرفي إذنا في الأكلّ منه : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) وأمرا بإيتاء حقه يوم حصاده : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فهما متشابهتان تفسر بعضهما بعضا و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

«وهو» لا سواه (الَّذِي أَنْشَأَ) تكوينا بديعا «جنات» البساتين تجن شجراتها حيث تلتف من فوق الأرض في فضائها «معروشات» عرشها إنسانها كالأعناب ، أم ربها كالنابتات الملتفّة بالأشجار ، المجتنّة مع بعضها البعض من فوقها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كسائر الأعناب غير المعروشة وسائر الأشجار دون عروش لها إنسانية ولا ربانية.

٣٠١

ومن غير المعروشات وهي المستقلة في قيامها (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) كلّ في أثمارها ، في طعومها واشكالها وألوانها وسائر أقدارها ، وغير متشابه في هذه بعضها أو كلها.

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) : من ثمر المنشإ بأمر الله ، أو من ثمر ما ذكر دون اختصاص بالأخير وهو الرمان ، إذ لا اختصاص له بسماح الأكلّ وإيتاء الحق ، وحتى لو اختص بالأخير لكفى تدليلا على واجب الزكوة في الرمان نقضا لاختصاصها بالغلات الأربع.

والأمر بأكله إذا أثمر سماح له حيث الموقف موقف الحظر ، لأن المنشئ لها هو الله : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) فهو المالك لها فلا يجوز الأكلّ منها إلّا بإذنه ، ثم (وَآتُوا حَقَّهُ) دليل أن الفقراء هم شركاءهم فيه ، فهذا محظور ثان للأكلّ منه قبل إيتاء حقه.

ولكنه تعالى رحمة منه ، وتقديما لصاحبه على غيره في الأكلّ منه ، يأمرنا سماحا (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) تلحيقا له بإيتاء حقه : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وهو الزكاة المفروضة (وَلا تُسْرِفُوا) في الأكلّ من ثمره تجاوزا عن حق الأكلّ : العدل المعتدل ، إسرافا في قدره فوق الحاجة ، أم إسرافا في صرفه وإن قليلا في المعصية ، أم إسرافا في إشراك الأصنام في الحرث والأنعام ، ثم تقتيرا في التصدق منه (١).

كما (وَلا تُسْرِفُوا) في الإيتاء منه أن تؤتوا كلّه أو كثيرا منه بلا إبقاء

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٧١ عن القمي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) حديث طويل يقول فيه (ع): وفي غير آية من كتاب الله يقول : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير لكن امر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له.

٣٠٢

لقدر الحاجة (١) ، أم في ترك الأكلّ منه كالعادة (٢) أم في إيتاءه لغير مستحقيه ، أم في تقسيمه بلا تسوية بين المحاويج قدر الحاجة ، فكلوا منه عدلا وآتوا حقه يوم حصاده عدلا وفضلا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أيّا كانوا وفي أيّ كان وأيان.

هنا (آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) : حقّ ما ذكر وحقّ الله ـ فحق الله حق فيما ذكر لأهل الله ـ برهان ساطع لا مرد له على حق مقدّر معلوم يؤمر صاحب الجنات والمزارع بإيتائه يوم حصاده ، كما و (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (٧٠ : ٢٥) وإن كان أيضا (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (٥١ : ١٩) ولكنه أيضا معلوم ب (حَقٌّ مَعْلُومٌ).

إذا ف (حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) هو الحق الواجب إيتاءه دون إقتار ولا إسراف ، وذلك من بدائيات الحق المعلوم ، ومن ثم الأنصبة المسرودة في السنة مرحلة ثانية لحقه يوم حصاده.

والقول «إنه حق غير واجب الزكوة ، إذ ليس في بعض ما ذكر في

__________________

(١) روى الطبري وغيره عن ابن جريح قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال : لا يأتيني اليوم احد إلّا أطعمته فأطعم حتى امسى وليست له ثمرة فأنزل الله (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أقول : ذلك من باب الجري حيث الآية مكية وقصة بن قيس مدنية ، فقد ينطبق كلّ إسراف على الآية كما هي القاعدة في كلّ الآيات المبينة لمثلها من القواعد ، أو الخطابات الخاصة بالغاء الخصوصية لشمولية الأحكام القرآنية.

(٢) المصدر علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال : سأل رجل أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري ـ سماه ـ وكان له حرث وكان إذ أخذ يتصدق به ويبقى عياله بغير شيء فجعل الله عزّ وجلّ ذلك سرفا.

٣٠٣

الآية زكوة ، على أن الآية مكية وحكم الزكوة مدني» (١) ، إنه غريب في نوعه ، إذ إن «ليس في بعض ما ذكر في الآية زكاة» هي في نفسها مصادرة ودعوى دون برهان إلّا ضده كتابا وسنة ، ومن الكتاب الآية نفسها الفارضة الزكوة على غير الغلات الأربع وإن لم تأت فيها صيغة الزكوة ، إذ نحن مع واجب الإيتاء ، نتابع دليله أيّا كانت صيغته ، إيتاء وإعطاء وإنفاقا وصدقة وخمسا وزكاة ، فلا تهمنا صيغة خاصة في واجب الأداء مهما اختلفت تقديراته كضرائب مستقيمة وغير مستقيمة.

فالإيتاءات الشرعية كلّها إعطاءات وصدقات وإنفاقات وزكوات ، بل والكلّ كذلك زكوات حيث الزكاة هي المعطاة المزكية لنفس المزكي ونفيسه ، والمزكية لدنس الفقر فرديا وجماعيا ، حاليا وماليا ، الجاعلة المجموعة المتفاوتة المتهافتة متعارفة متآلفة كأسنان المشط حيث تعيش بذلا دون أية منة أو جور ، وسماحا متعاليا قد يجعل الفقير في حرمة أكثر من الغني.

ثم حكم الزكوة ليس حكما مدنيا حتى يستغرب ذكره في هذه المكية ، فإن عشرات من آيات الزكاة تحلّق على العهدين ، من مكيات تسع تفرضها (٢) ومدنيات أربع تتحدث عن فرضها في الشرائع السالفة (٣) فإنها تنجر إلى شرعة الإسلام ما لم تنسخ ، ثم مكيات ثلاث منها هذه (وَآتُوا

__________________

(١) كما في الميزان للمغفور له العلامة الطباطبائي قدس الله روحه ٧ : ٣١٣ وغيره من المفسرين ومؤلفي آيات الأحكام وسائر الفقهاء ، فقد تناقله العلامة الطباطبائي دون مراجعة إلى الآيات المكية للزكاة اعتمادا على النقل.

(٢) وهي ٧ : ١٥٦ و٢٣ : ٤ و٢٧ : ٣ و٣٠ : ٣٩ و٣١ : ٤ و٤١ : ٧ و٨٧ : ١٤ و٧٣ : ٢٠ و٩٢ : ١٨.

(٣) وهي ٢ : ٤٣ و١٩ : ٣١ و٥٥ و٢١ : ٧٣.

٣٠٤

حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وآية المعارج (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(٢٥) والذاريات (١٩) باستثناء «معلوم» الذي هو معلوم من آية المعارج ، والجمع : (١٦) آية مكية في فرض الزكاة مكيا ، ثم المدنية الخاصة بها (١٤) آية تعني الزكاة بوجه عام ، فأين اختصاص فرض الزكاة بالعهد المدني ، اللهم إلّا الأنصبة الخاصة المدنية قضية المرحلية في بيان الأحكام.

ذلك ، بل هي من أوّليات الفرائض المكية ، نراها مع الصلاة قرينتين في كثير من آياتها (١) ونحن لا نعرف سوى الخمس ـ إن كان غير الزكاة ـ ضريبة إسلامية مفروضة بصورة عامة سوى الزكاة ، وكما يروى عن النبي (ص) «ليس في المال حق سوى الزكاة»(٢).

صحيح أن هنالك آيات تأمر بالإنفاق والإيتاء والتصدق والإعطاء والتخميس خالية عن لفظ الزكاة ، ولكنها تعم الضريبة المستقيمة الشاملة وهي الزكاة المعبر عنها ب «حقه» و (حَقٌّ مَعْلُومٌ) والضريبة غير المستقيمة الخاصة بموارد الحاجة كما (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) وهو الزائد عن الحاجة المتعودة دون إسراف ولا تبذير أو تقتير.

__________________

(١) وكما في وسائل الشيعة ٦ : ٥ صحيحة الفضلاء الأربع محمد بن مسلم وأبي بصير وبريد وفضيل كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا : فرض الله الزكاة مع الصلاة ، وعن نهج البلاغة عن علي (ع) : تعاهدوا امر الصلاة وحافظوا عليها .. ثم ان الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الإسلام فمن أعطاها طيب النفس بها فانها تجعل له كفارة ومن النار حجابا ووقاية فلا يتبعها أحد نفسه ولا يكثرن عليها لهفه وان من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسنة مغبون الأجر ضال العمل طويل الندم «وفيه عنه (ع) سوسوا ايمانكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء».

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٣ : ٢١٤.

٣٠٥

وعلى أية حال لا مشاحة في لفظة الزكاة وسواها فإنها تعم كلّ إيتاء يزكّي المال والحال والمجتمع عن مختلف الأدران الفردية والجماعية ونكباتها.

فهذه الآية هي من الآيات التي تثبت حقا ثابتا في كلّ الثمرات ، دون اختصاص بالغلات الأربع المخصّصة في الفتاوى في حقل الزكاة ، فعليك إيتاء حقه ثم سمّه ما شئت زكاة أو غير زكاة.

أجل قد تختلف حالة الزكاة في العهد المكي عن العهد المدني كما اختلفت في نفس العهد المدني ، اختلافا في أنصبة الزكاة ومواردها ، سياسة تدريجية في أخذ الزكاة ، مرحلية في أبعادها ، أداء وأخذا وقدرا كما تأتي في آيتي الصدقات : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ...) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...).

ومختلف الحديث حول (آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) معروض على القرآن فيصدّق ما وافقه (١) ويؤوّل أو يطرح ما خالفه (١)

__________________

(١) من الموافق للآية ما في الدر المنثور ٣ : ٥٠ ـ اخرج عبد بن حميد عن قتادة (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : الصدقة التي فيه ذكر لنا ان نبي الله (ص) سن فيما سقت السماء أو العين السائحة أو سقى النيل أو كان بعلا العشر كاملا وفيما سقى بالرشا نصف العشر وهذا فيما كان يكال من الثمر ...».

وفيه اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله ، وفيه عن طاوس مثله وعن الحسن في الآية قال هو الصدقة من الحب والثمار ، وذهب إليه سعيد بن المسيب والضحاك.

ومن طريق أصحابنا في نور الثقلين ١ : ٧٧٠ عن الكافي عن القمي عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر عليهما السلام في قول الله عزّ وجلّ : وآتوا حقه يوم حصاده «فقالوا جميعا قال ابو ـ

٣٠٦

__________________

ـ جعفر عليهما السلام هذا من الصدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة ومن الجذاذ الحفنة بعد الحفنة حتى يفرغ ويعطى الحارث أجرا معلوما فيترك من النخل معافارة وام جعرور ويترك للحارسين يكون في الحائط العذق والعذقان والثلاثة لحفظه إياه.

وفيه عن تفسير العياشي عن سماعة عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه عن النبي (ص) انه كان يكره ان يصرم النخل بالليل وان يحصد الزرع بالليل لأن الله يقول : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قيل يا نبي الله وما حقه؟ قال : ناول منه المسكين والسائل ، وفيه عنه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) في الآية : فسماه الله حقا ، قال قلت : وما حقه يوم حصاده؟ قال : الضغث وتناوله من حضرك من اهل الخاصة ، ورواه مثله أبو الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام ، وفي الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير في الآية هذا من الصدقة يعطى المسكين القبضة بعد القبضة ومن الجذاذ الحفنة بعد الحفنة حتى يفرغ.

(١) في الدر المنثور ٣ : ٤٩ عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) في الآية قال : ما سقط من السنبل ، وفيه أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن انس ان رجلا من بني تميم قال يا رسول الله (ص) أنا رجل ذو مال كثير واهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف اصنع؟ قال : تخرج زكاة مالك فانها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين.

ومن طريق أصحابنا في الوسائل (٦ : ١٣٤) عن أبي مريم عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : تعطي المسكين يوم حصادك الضغث ثم إذا وقع في البيدر ثم إذا وقع في الصاع العشر ونصف العشر ، وفي نور الثقلين ١ : ٧٧٠ عن الكافي عن معاوية بن شريح قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : في الزرع حقان حق يؤخذ به وحق تعطيه ، قلت : وما الذي أؤخذ به وما الذي أعطيه؟ قال : اما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر واما الذي تعطيه فقول الله عزّ وجلّ : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) يعني من حصدك الشيء بعد الشيء ولا اعلمه إلّا قال الضغث ثم الضغث حتى يفرغ». أقول : من الملاحظ في أحاديث الحقين انهما يتعلقان بما ذكر في الآية ككلّ ، فقد دلت ـ على أية حال ـ على تحليق واجب الزكاة على كلّ الثمار.

ثم قد يعني الحقان ان الأوّل هو الفرض المكي والثاني هو الفرض المدني ، وحتى ان كانا في المدنية فالحق المكي هو الأوّل.

٣٠٧

ذلك ، وآيات الزكاة كلها طليقة أو عامة في كلّ الأموال ولا تقبل التخصيص بالتسع المشهورة فإنه تخصص للأكثرية الساحقة من الأموال ، مع أن روايات التسع معارضة ـ على قتلها وعلتها ـ بزهاء مائة حديث تدل على عمومية الزكاة ، وتلك زهاء عشرة متضاربة ومعارضة للقرآن والسنة ، اللهم إلّا أن تفسر بمرحلية الزكاة في «عفى رسول الله (ص) عما سوى ذلك» حيث يدل على أن فرض الله في الزكاة يحلّق على كلّ الأموال ، فعفى رسول الله (ص) عما سوى التسع كسياسة المرحلية في تطبيق فرضها ، إذ لا يحق للرسول (ص) أن يعفو عما فرض الله إلّا تدريجا في تحقيق ما فرض الله.

ذلك ، ولأن الزكاة حسب المستفاد من الآيات والروايات تكفي مؤنة فقراء المسلمين وسائر الحاجيات الفردية والجماعية الإسلامية المذكورة في مصارف ثمانية ، وحين تختص بالتسعة الشهيرة على قلتها القليلة وعلتها العليلة ليست لتكفي مؤنة الفقراء من هؤلاء الثمان فقط ، بل ولا مؤنة يوم واحد من السنة ، فكيف يعقل اختصاصها بهذه التسعة ، وكما قد يأتي القول الفصل في موارد الزكاة في آيتي (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) و (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ...) ونكتفي هنا بما تقتضيه آيتنا.

وقد يقال إن الزكاة ليست حق يوم الحصاد بل هو حق يوم الجمع ، فحق يوم حصاده حق سوى الزكاة؟ ولكن (حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) كما تعني (آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) كما في البعض من الثمار ، كذلك تعني (حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وهو الحق المتعلق بالثمار يوم الحصاد ، ثم «آتوا» طليقة ـ فكما ـ تناسب إيتاءه يوم حصاده ، كذلك تناسب أصل إيتاءه في وقته المقرر له كيوم جمعه لجمع من الثمار.

ولا أشمل من (آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) حيث تجمع الإثنين ، يوم حصاده

٣٠٨

لما يجمع في نفس الوقت من الخضر ، ويوم جمعه لما لا يجمع يوم حصاده.

والقول إن الحصاد لا يشمل الفواكه من الزيتون والرمان ، مردود بأن الحصاد هو القطع ولا يختص بشيء خاص وكما (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (٢١ : ١٥) وقول النبي (ص) يوم فتح مكة : «ترون أوباش قريش احصدوهم حصدا» فيوم حصاده هو يوم قطعه فاكهة وحبا وما أشبه مما يقطع ويقطف من الثمار.

وأما المروي عنه (ص): ليس في الخضروات صدقة (١) فساقط لمخالفته آيات الصدقات والزكوات المتعلقة بكلّ الأموال ، وهنا «الزرع» طليقة تشمل كلّ الزروع دون استثناء ، وترى (يَوْمَ حَصادِهِ) تعني يوم حصاد كلّ الثمر ، فما حصده قبل ليس فيه حق؟ الظاهر من (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أن ليس فيما يأكله قبل حصاد الكلّ حق ، اللهم إلّا فيما يحصده تدريجيا لأجل بيعه فإنه داخل في (يَوْمَ حَصادِهِ) حيث القصد هو الحصاد من أجل البيع أو الإبقاء لأكلّ الأيام التالية حتى آخر السنة ، إذا فالمستثنى من إيتاء حقه هو ما يؤكلّ تدريجيا قبل حصاد الكلّ أو الحصاد للبيع.

فقد يقتسم كلّ ذلك إلى ما يؤكلّ منه كالعادة المستمرة ، وما يباع ، وحقه يوم حصاده يختص بالثاني.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٤٢) :

كما من الأنعام أكلّ كذلك (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) يتعود فرشها

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ٣ : ١٤ بسند عن موسى بن طلحة عن أبيه ان رسول الله (ص) قال :

٣٠٩

والحمل عليها ، فالحمولة هي المعتدّة للحمل (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) (١٦ : ٧) كما وتحملكم ، «وفرشا» من أصوافها وأوبارها حيث تصنعون بها فرشكم ، وفرشا تفترش لصغرها ، أم عدم تحملها للحمل كالضبي وما أشبه ، ومنها ما تجمع كونها حمولة لكم ولأثقالكم وفرشا من أوبارها كالإبل.

وهنا «من الأنعام» عطف على (أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) و (أَنْشَأَ لَكُمُ)(مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أم و«كلوا ...» وكلاهما صالحان والجمع أجمل.

وقد تلمح (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أن «فرشا» لا تعني فرش الأصواف والأوبار حيث لا تناسب الأكلّ ، إضافة إلى أن «حمولة» تلمح إلى أن «فرشا» هي نفس الأنعام دون أجزاءها الصوفية والوبرية.

فمن الأنعام ما هي حمولة للأثقال وفرش للرّكب ، ومنها ما هي فرش للركب لا تستعمل لحمل الأثقال كأفراس الركوب ، أم لا تصلح لأي حمل كالضأن والمعز فهي فرش في أصوافها ، وفرش تفرش للذبح أم هي كالفرش لصغرها فهي أمثال الفرش المفروش عليها.

وهل يجوز الأكلّ منها على كونها حمولة وفرشا؟ (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) تعم جلّ الأكلّ كأصل اللهم إن لطوارئ وملابسات ، مثل الفرس الذي يسوى آلافا وما قيمة لحمه إلّا عشرات ، فإن أكلّ لحمه سرف وهناك عنه بديل كالأنعام الأكلّ بثمن قليل وطعم ألذ ، فالتحليل ـ إذا ـ ليس إلّا بالنسبة لأصول الحمولة والفرش مع غض النظر عن الحالات الطارئة.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) محلّلة إلّا ما حظر عليه الله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) تحريما لما أحله الله أو تحليلا لما حرمه الله ، تشريعيا أو عمليا ، فإن للشيطان خطوات فيما رزقكم الله من قصيرة يسيرة إلى وسيعة عسيرة وإلى أوسع وأعسر حتى يوردكم موارد الهلكة إجلاسا لكم

٣١٠

على كرسي التشريع افتراء على الله أو محادة ومشاقة لله (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يبين عداءه فيما يخطو بكم من خطواته المظللة المزللة.

هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا ولم يرزق ، فما لكم تتبعونه في رزق الله وخلقه وهو لكم عدو مبين!.

ومن غريب الوفق عدديا توافق الشيطان والملك في القرآن بمختلف صيغهما ، في (٦٨) مرة ، كفاحا بينهما كما هو قضية العدل ولكن النجاح للملائكة حيث هم مؤيدون من عند الله العزيز الحكيم.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٤٣) :

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) هنا بدل البعض عن الكلّ حيث الأنعام الحمولة والفرش أكثر من هذه الثمانية الأزواج التي هي أربعة : ضأن ومعز وإبل وبقر ، ذكرا وأنثى ، حيث الأفراس والحمير وأشباههما من الإنعام ـ ولا سيما صيدها ـ خارجة عن هذه الأربعة ، ف «الأنعام» تعم كافة ذوات القوائم الأربع المحلّلة أكلا وحمولة وفرشا دون اختصاص بهذه الأربع.

فهو الذي أنشأ هذه الأنعام ، وأهمها هذه الأزواج الثمانية وأنتم تحرّمون منها وتحللون وذلك شأن من أنشأها دونكم أنتم المنشئين كما هي ، ثم : «قل» لهؤلاء المجاهيل (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) من الشأن والمعز (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) وحين تدّعون تحريما بين هذه الثلاثة ، إذا ف (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) على ذلك وهو الوحي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.

ذلك ، ولأن التحريم كما التحليل لرزق الله ومنشآته لا يحمله إلّا علم الله ، وهو وحيه إلى أصحاب الوحي ، فهل أنتم منهم فتدعون ما

٣١١

تدعون ، أم أوحي إليّ ما لا أعلمه وأنتم تعلمون؟.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ)(١٤٤) فما هو «علم» يثبت ما تدعون؟ أهو شهادة الله ووحيه؟ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) ادعاء لوحي يختص بكم أنتم المشركين وأنا الرسول من الله عنه محروم؟ وذلك افتراء على الله أن يوحي إلى أمثالكم ، أو يختصكم أنتم بما يحرم عنه رسله! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : وجدانيّ ، لا سبيل له إلى حكم الله ، أو وحي يختص بأصحابه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون شرعة الله وأهل الله.

وهنا (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) تعني الأربعة المزدوجة من الذكورة والأنوثة ، حيث الذكر زوج الأنثى كما الأنثى زوج الذكر ، واختصاص هذه الأربعة بالذكر هنا وفي الزمر : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) لأهميتها البالغة بين الأنعام ، وأن فيها حمولة وفرشا وأكلا ، وكلّ زوج من هذه الثمانية يعم الوحشية الجبلية منها إلى أهليتها ، فلا يعني «الأنثيين» الوحشي والجبلي لمكان (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) وإلّا أصبحت ستة عشرة زوجا (١). لا ، إنما هما الذكر والأنثى كما (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٥٣ : ٤٥).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٧٤ عن تفسير القمي قال (ص): قوله : من الضأن اثنين ، عنى الأهلي والجبلي» ومن المعز اثنين «عنى الأهلي والوحشي الجبلي» ومن البقر اثنين «يعني الأهلي والوحشي الجبلي» ومن الإبل اثنين «يعني البخاتي والعراب فهذه أحلها الله» وفيه عن روضة الكافي عن أبي عبد الله (ع) مثله قال : حمل نوح (ص) في السفينة الأزواج الثمانية قال الله عزّ وجلّ : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ...) وفيه عن الكافي عن داود الرقي قال : سألني بعض الخوارج عن هذه الآية (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ...) ما الذي أحل الله من ذلك وما الذي حرم؟ فلم يكن عندي فيه شيء فدخلت على أبي عبد الله (ع) وأنا حاج فأخبرته بما كان فقال : ان الله تعالى أحل في الأضحية ـ

٣١٢

ذلك ، وهذه مواجهة دقيقة رقيقة يتتبع بها مكامن أوهام الجاهلية الجهلاء ، استعراضا لكلّ واحد من المواضيع والمواضع التي تجاهلوا عن حقها إلى أباطيلها ، ليكشف فيها عن السّخف الذي لا يقبل دفاعا ولا تعليلا إلّا عليلا ضئيلا لحدّ يخجل منه صاحبه حين ينكشف له النور ويرى ألّا سند له من علم أو اثارة من علم إلّا تقاليد عمياء.

لذلك هنا يقرر لهم ما حرمه الله لكيلا يتجاوزه إلى سخف التشريع منهم افتراء جاهلا على الله :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٤٥) :

هنا (مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) ـ تنكرا فيهما ـ تلمح لكون الآية هي أولى ما نزلت بشأن محرمات الأنعام ، وقد نزلت بعدها مكية ثانية تشير إليها : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦ : ١١٥) ثم في مدنية

__________________

ـ بمنى الضأن والمعز الأهلية وحرم ان يضحى بالجبلية وأما قوله : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) فان الله تعالى أحل في الأضحية الإبل العراب وحرم فيها البخاتي وأحل البقر الأهلية ان يضحى بها وحرم الجبلية فانصرفت الى الرجل فأخبرته بهذا الجواب فقال : هذا شيء حملته الإبل من الحجاز.

أقول : حرمة الجبلية في الأضحية لأنها من الصيد المحرم في الحرم والإحرام ، واما الحديثان الأولان فقد لا يناسبان ظاهر الآية حيث تعني كلّ ذكر وأنثى لأكل اهلي ووحشي ، اللهم إلّا أن يعني «اثنين» كلا الاثنين ، ذكرا وأنثى وأهليا ووحشيا ، ولكن الفصيح ـ إذا ـ ان يقال ستة عشر ازواج ، ثم الأهلي والوحشي من كلّ يعتبر واحدا.

٣١٣

أولى : (إِنَّما حَرَّمَ ... وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ ... فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢ : ١٧٣) ومن ثم في مدنية أخرى هي الأخيرة من السور (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥ : ٣).

فالمحرمة من بهيمة الأنعام ـ وهي فقط حقل التحريم في هذه الآيات ـ ليست إلّا ما ذكر في الأنعام هنا وفي الثلاث الأخرى ، وفي اخيرتها مزيد قضية ختام الوحي بها ، ولكنه مزيد إيضاح ، حيث (الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) إذا ماتت بهذه الأسباب فهي من مصاديق «الميتة» وإن لم تمت ف (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) تحلّلها ، ثم (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي من مصاديق (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وأما (أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) فليست محرمة في خصوص حقل الأنعام بل هي من الميسر المحرم في آيتي البقرة والمائدة ، إذا فلا محرم في حقل الأنعام أصليا من حيث المجموعة ، دون أجزاء من كلّ منها ، إلّا «الميتة وما أهل لغير الله به» تذكيرا بشرط أصيل للحلّ وهو الذبح الشرعي ، وآخر كشعيرة توحيدية مضادة لشعيرة الشرك وهو ذكر اسم الله عليه ، فلأن الإهلال حسب المتعود لم يكن يخرج من كونه لله أو لغير الله ، فتحريم ما أهل لغير الله به إيجاب للإهلال لله كما فصلنا كلّ ذلك في المائدة ، ذلك وفي احتمال «لا أجد» الحالة الحاضرة تصبح آية المائدة مفصلة لهذه المحرمات أو مزيدة عليها ما لا يدخل فيها ظاهرا بينا ، ولكن الأول أظهر.

وهنا (دَماً مَسْفُوحاً) كنص أولي لتحريم الدم ، تحول حوله النصوص الثلاثة الأخرى النازلة بعدها «الدم» فاللّام فيها هي لعهد الذكر ، فتعني (دَماً مَسْفُوحاً) ذكر من ذي قبل ، فلا يحرم من الدم إلّا المسفوح منه مهما

٣١٤

اطلق في التوراة حرمة الدم دون تقيد بمسفوح وسواه (١) والتفصيل محول إلى آية المائدة فراجعها.

وقد تعني «لا أجد» مضارعة ـ تشمل الحال والاستقبال ـ عدم وجدان محرم أصيل في حقل بهيمة الأنعام إلّا هذه المذكورات منذ نزول هذه الآية حتى الوحي الأخير على ذلك البشير النذير ، فما ورد في تحريم لحوم الحمر الأهلية أو سواها مرفوضة (٢) ، فإنما يحرم المفترس من الحيوان لا سواه وكما ثبت عن النبي (ص) انه «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير» (٣) فكلّ ما ليس من الأنعام من حيوان

__________________

(١) في التورات سفر اللاويين ١٧ : ١٢ «لذلك قلت لبني إسرائيل لا تأكل نفس منكم دما ولا يأكل الغريب النازل في وسطكم دما» ومثله في التكوين ٩ : ٤.

(٢) مثل ما في آيات الأحكام للجصاص ٣ : ٢٠ من حديث الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما انه سمع علي بن أبي طالب (ع) يقول لابن عباس نهى رسول الله (ص) عن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن متعة النساء» ورواه عنه (ص) ابن عمر وجابر والبراء بن عازب وابن أبي اوفى وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة وأبو ثعلبة ، والمقداد بن معدي كرب وابو ثعلبة الخشني وانس بن مالك وسعيد بن جبير ، رووه عنه (ص) مثله ، ويعارضه ـ بعد الآية ـ ما روي عن عبد الرحمن بن مغفل عن رجال من مزية فقال بعضهم غالب بن الأبجر وقال بعضهم الحر بن غالب انه قال : يا رسول الله (ص) انه لم يبق من مالي شيء أستطيع ان اطعم فيه اهلي غير حمرات لي قال : فاطعم أهلك من سمين مالك فانها كرهت لكم جوال القرية ، أقول : بذلك يتبين المعنى من حرمة الحمر الأهلية انه من باب الإسراف دون الحرمة الذاتية ، وهكذا الأمر في الافراس وأشباهها من الرّكوب التي هي أصلح للرّكوب من الأكلّ ، وكما في نور الثقلين ١ : ٧٧٤ عن التهذيب عن أبي جعفر عليهما السلام في حديث ونهى رسول الله (ص) عن أكل لحم الحمير والخيل وانما نهاهم لأجل ظهورهم ان يفنوه وليست الحمر بحرام ثم قرأ هذه الآية.

(٣) المصدر ٢٢ عن ابن عباس قال : نهى رسول الله (ص) .. ورواه علي بن أبي طالب ـ

٣١٥

البر محرم لكونها من السباع ف (الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١٦ : ٥).

و«لا أجد» لصاحب الوحي الأخير بوحي من الله بهكذا تعبير هي صيغة أخرى عن عدم وجود وحي يحمل تحريما في حقل بهيمة الأنعام أكثر مما ذكرت في آية الأنعام.

إذ من المستحيل أن يوحي الله تعالى إليه محرما في هذا الحقل سوى ما ذكر ثم هو لا يجده ، اللهمّ إلّا ألا يوحي إليه الله ما حرّمه وذلك ضنّة في الوحي ونقض لكمال الرسالة ، مع أنه أوحي إليه (قُلْ لا أَجِدُ ..) أي لا يوجد وحي بهذا الصدد إلّا ما أوحي ، فقد كفى النص (قُلْ لا أَجِدُ) دلالة على حلّية الدم غير المسفوح.

لذلك فالدم غير المسفوح من المحلّل في شرعة القرآن أيا كان ،

__________________

ـ والمقداد بن معدي كرب وأبو هريرة وغيرهما.

ومن طريق أصحابنا المرسل في محكي المقنع عن النبي (ص) كلّ ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والحمير الإنسية حرام».

أقول : حرمة الحمير الإنسية تبيت انها لظهرها الذي هو انفع وكما ورد في الخيل ، عن أبي عبد الله (ع) عن لحوم الخيل؟ فقال : لا تأكلّ إلّا أن تصيبك ضرورة» (الكافي ٦ : ٢٤٦ والتهذيب ٣ : ٣٤٨) وصحيح ابن مسكان عن أبي عبد الله (ع) سألته عن أكل الخيل والبغال فقال : نهى رسول الله (ص) عنها فلا تأكلها إلّا ان تضطر إليها» (الكافي ٦ : ٢٤٦ والتهذيب ٢ : ٣٤٨) وصحيح سعد بن سعد عن الرضا (ع) سألته عن لحوم البرازين والخيل والبغال فقال : لا تأكلها.

وفي موثق سماعة سألت أبا عبد الله (ع) عن المأكول من الطير والوحش فقال : حرم رسول الله (ص) كلّ ذي مخلب من الطير وكلّ ذي ناب من الوحش فقلت ان الناس يقولون من السبع فقال لي يا سماعة السبع كله حرام وان كان سبعا لا ناب له وانما قال رسول الله (ص) هذا تفصيلا» (الكافي ٦ : ٢٤٧).

٣١٦

اللهم الّا من غير الحيوان المحلل ، وأمّا الطير المحلل وما أشبه من غير بهيمة الأنعام فما له دمان فالمسفوح منه محرم ، وما له دم لا يسفح أو غير المسفوح منه فمحلّل ، فإن (دَماً مَسْفُوحاً) طليقة مهما كانت بهيمة الأنعام هي الأصل فيه ، فلو لم يكن للسفح دخل في حرمة الدم لكان لاغيا في موضوع التحريم ، ولسنا نستدل ـ فقط ـ على حل غير المسفوح من الدم بمفهوم الوصف ، فانما نقتصر على تحريم المسفوح بالنص ثم لا دليل على تحريم غيره ، وإن كان الاستدلال به صحيحا ، حيث الدم غير خارج عن مسفوح وغير مسفوح ، والمحور هو الذي له مسفوح وسواه ، فالحيوان الذي ليس له دم مسفوح ، أو الدم غير المسفوح من الذي له مسفوح وغير مسفوح ، دمه حلال ، ثم الدم من غير الحيوان أحرى بالحل ، فإنما الحيوان المحرم يحرم دمه بدليل حرمته كله.

وهنا (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) قد يختص ب (لَحْمَ خِنزِيرٍ) ولكنه يصلح شمولا ل (مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) إلى (لَحْمَ خِنزِيرٍ) ولو كان القصد إلى خصوص (لَحْمَ خِنزِيرٍ) لكان صالح التعبير تقديم (لَحْمَ خِنزِيرٍ) ثم (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) حتى يختص به ، وما تأخير (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) إلّا لأنه يحمل مصداقين اثنين ثانيهما «ما ذكيتم» حيث فيه بقية الحياة ، فليس ـ إذا ـ رجسا بصورة طليقة مهما كان فسقا مات بذلك الإهلال أم لم يمت.

ذلك حكم العامد غير المضطر (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وهنا «أضطر» في بناء المجهول تقيّد الحل بما كان الاضطرار دون إختيار ، فقد يضطر الإنسان بما يقدمه هو باختيار فلا غفران ولا رحمة عليه في أكله اضطراريا مهما وجب عليه حفاظا على الأهم ، ولكن الذي يضطر دونما إختيار منه ، وإنما أوقع في حالة الاضطرار دون أية محاولة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٣١٧

ثم المضطر لا عن إختيار قد يكون باغيا يبتغي أكلّ الحرام ، أم عاديا عاصيا ففاجأه الاضطرار ، أم عاديا في أكله أكثر من قدر الاضطرار ، فهؤلاء هم كما المضطر باختيار لا تشملهم (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مهما كان على المضطر المقصر أن يأكلّ قدر الضرورة حفاظا على الأهم من نفسه وصحته.

وترى (فَمَنِ اضْطُرَّ ..) فهو غير آثم ، كيف تناسبه (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؟ علّه لأن لذلك الإثم واقعين اثنين ، واقع العقوبة الأخروية وهو خاص بباغ أو عاد أو من اضطر باختيار ، وواقع الضرر أتوماتيكيا بتلك الأكلة المحظورة وهو مورد الغفر والرحمة الربانية بسند الاضطرار غير المقصر.

تلحيقة :

بهيمة الأنعام وهي غير السباع كلها محللة بنص القرآن ، والمحرم هو كلّ مفترس من الحيوان ذي مخلب أو ناب كما ثبت في متواتر السنة ، وكذلك من حيوان البحر غير السماك والروبيان ، والتفصيل إلى فقه السنة.

ذلك ، ولأن حرمة البعض من بعض الأنعام في شرعة التوراة قد تصبح ذريعة للتحريم الجاهلي ، لذلك يبين الله أنها كانت ابتلائية لردح من الزمن ثم أحلت.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ

٣١٨

بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ

٣١٩

ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ

٣٢٠