الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

٧ ـ ومن قبل (لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (٢١ : ٥٢).

هذه العساكر السبعة مجندة لأن «هذا ربي» منه في حجاجه لم تكن إلّا مجاراة على الإنكار والاستخبار ، دون تصديق وإقرار (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : «حكيم» في حجته لا يتخللها شك وريبة ، ولا تغلب بأية حجة «عليم» بإلقائها في مواتية ظروفها.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦):

هنا يذكر ثمانية عشر من الأنبياء (١) من ذرية إبراهيم إلّا نوح ، من أجداده ، وهو نفسه حجر الأساس في ذلك التعريف العريف ، وترك ثمانية ، منهم من هم من جدوده وهم آدم وإدريس ، أم سواهم كهود وصالح ، ومنهم من هو إمام الأئمة في سلسلة الرسالات وهو محمد (ص).

وترى كيف لم يذكر إسماعيل كأول وهبة لإبراهيم وهو بكر ولديه ، وقد تأخر في الشطر الثالث من هذه الشطرات الثلاث الرسالية ، وهو جد محمد خاتم النبيين (ص)؟.

لقد ذكر إسماعيل اثنى عشر مرة في القرآن ، في ثلاث منها يذكر هو ـ فقط ـ مع إبراهيم دون إسحاق (٢) وفي خمس يتقدم على إسحاق مع

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨ عن قتادة وهم الأنبياء الذين قص الله على نبيه الثمانية عشر الذين قال الله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

(٢) كما في ٣ : ١٢٥ و١٢٧ و١٣٣.

١٢١

إبراهيم (١) وفي أربع يذكر دون إبراهيم وإسحاق (ع) (٢) وهنا مرة يتيمه يتقدم ـ بفصل أنبياء على إسماعيل ـ إذا فليس في تأخير ذكره تأخيره عن متحده الرسولي ، فمن الملاحظ أن ترتيب المقامات الرسالية هنا غير وارد كما تأخر نوح أوّل اولي العزم عن إسحاق ويعقوب ، وتأخر موسى وعيسى عمن تأخرا عنهم وهما أفضل منهم (٣).

فهنا الترتيب غير مراعى لا زمنا ولا رتبة ، فإنما القصد عرض موكب رسالي بمختلف الدرجات والأزمنة ، هم كلهم إلّا نوح من الوهبة الربانية لإبراهيم (ع) ، اللهم إلّا وهبة في سلسلة الجدود فإن «وهبنا» لا تختص بوهبة الذرية.

وقد تقدم إسحاق فيمن تقدم هنا كمرة يتيمة على إسماعيل حيث القصد ذكر الأنبياء الإسرائيليين من ولد إسحاق ، فليتأخر إسماعيل إلى أخريات ذكرى النبيين هنا ، ولأنه ـ فقط ـ جد آخر النبيين ، كما ولم يذكر هنا محمد (ص) لأنه المحور الأساس في هذه الذكريات ، فإنهم له تقدمات ، ثم ويخاطب (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

فذلك الترتيب ـ على غير ترتيب الحد الرسولي وزمنه ـ ترتيب قاصد لا يعني رتبة زمنية أم رسالية ، فمن المقصود هنا ـ فيما قصد ـ عرض موكب الأنبياء الإسرائيليين بمعرض الكتابيين حتى يأنسوا إلى ذكراهم ، وعلّ في تقديم داود وسليمان ويوسف تذكيرهم بسابغ نعمة الملك إلى نعمة الرسالة في الأنبياء الإسرائيليين ، ومن ثم يذكر (مُوسى وَهارُونَ) كأصل الرسالة

__________________

(١) كما في ٢ : ١٣٦ و١٤٠ و٣ : ٨٤ و٤ : ١٦٣ و١٤ : ٣٩.

(٢) في ١٩ : ٥٤ و٢١ : ٨٥ و٣٨ : ٤٨ وهنا إسماعيل واليسع.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٢٨ عن قتادة وهم الأنبياء الذين قص الله على نبيه الثمانية عشر الذين قال الله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

١٢٢

الإسرائيلية ، ومن ثم (زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) حسب الترتيب الرسالي بما كان الأوّلان تقدمة للأخير ، ثم إسماعيل بن إبراهيم يتأخر حتى لا تحصل لهم حزازة وابتعاد ، ويذكر من بعد اليسع ويونس ولوط وقد كان لوط نبيا مع إبراهيم وإسماعيل ابنه ثم اليسع ويونس بعدهما.

ذلك ، وقد تنحل بهذه الآية بعض المسائل التي هي من معارك الآراء بين النافين والمثبتين أن ابن البنت يعتبر من ذرية والد البنت أم لا؟ فقد تقوّلت جماعة أنه لا ، وهي قولة ناشئة من الجاهلية التي ما كانت تعتبر البنت من الذرية فضلا عن ابنها ، واستند لذلك إلى الشعر الجاهلي (١) والرواية الجاهلية القائلة أن أبناء البنات من الأدعياء ف (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)(٢).

__________________

(١) هو«بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ١٨٨ مرسل الكليني عن العبد الصالح في حديث طويل قال : ومن كانت امه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فان الصدقات تحل له وليس له من الخمس شيء فان الله يقول : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) .. أقول : ونحن نقول ادعوا هؤلاء المختلقين لمثل هذه الرواية لآبائهم ، فكيف يعتبر أبناء البنات من الأدعياء؟ فهل الحسنان عليهما السلام من الأدعياء؟! ف (ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ ..).

يقول صاحب الجواهر في ١٦ : ٩١ عن هذه المرسلة في كتب المحمدين الثلاثة يكفي اتفاقهم على روايته جبرا لإرساله فضلا عن شهادة النظر في متنه والتأمل فيه وفيما اشتمل عليه من الأحكام المخالفة لمن جعل الله الرشد في خلافهم وعن عمل كافة الأصحاب عداه به ـ المرتضى ـ وان ذكر في بعض الكتب مستندا غيره الذين فيهم من لا يعمل بالقطعيات.

أقول : والموجود في اخبار الخمس هو الآل والذرية والعترة وذوي القرابة واهل بيت النبي (ص) ويقول في الجواهر بعد النقض والإبرام في استحقاق الخمس للمنتسبين بالأمهات الى هاشم أو إلى الرسول «ومن هنا كان الاحتياط في ترك أخذه الخمس ـ

١٢٣

ولا ينقضي العجاب من هؤلاء الذين يستندون إلى مثل هذه الرواية المخالفة لنص القرآن والموافقة لسنة جاهلية ، ولا سيما بشبه ضرورة إجماعية!.

هنا يعد عيسى (ع) في عداد ذرية إبراهيم وليس إلّا ابنا لحفيدته مريم عليهما السلام ، وهكذا يحتج أئمتنا عليهم السلام أنهم من ذرية محمد (ص) فكيف يكون عيسى بن مريم عليهما السلام ـ على بعده البعيد عن إبراهيم (ع) ـ من ذرية إبراهيم ، وليس الأئمة منذ الحسنين عليهما السلام على قربهم إلى محمد (ص) من ذريته (١)؟.

__________________

ـ والزكاة وإن كان الأقوى في النظر ما عرفت ـ يعني عدم استحقاق الخمس لهذه المرسلة الغريبة ـ ثم يشنع على صاحب الحدائق بقوله : لكن المحدث المزبور قد بالغ في اختيار ذلك لاختلال طريقته مشددا للإنكار على الأصحاب بتسجيع شنيع وخطاب فضيع حتى انه تجاوز ما يجب عليه من الآداب مع حفظة السنة والكتاب.

أقول : وطبيعة الحال في نصاب الخمس يقتضي استيعابه لكلّ المنتسبين الى الرسول أو الهاشم باب أوام وبذلك يحتل اصحاب الخمس القسم العظيم ، وإذا اختص بالمنتسبين بالآباء فقد نسأل كيف يختص نصف الخمس من كلّ الإفادات بعشر الفقراء ثم الزكاة التي معدلها ٦ / ١٠٠ من تسعة من الأموال تقسم بين ٩٠ / ١٠٠ من الفقراء.

(١) في الدر المنثور ٣ : ٢٨ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن أبي حرب بن أبي الأسود قال أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال بلغني انك تزعم ان الحسن والحسين من ذرية النبي (ص) تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ، قال : ألست تقرأ سورة الأنعام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ... وَيَحْيى وَعِيسى) قال : بلى ، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت.

وفي الدر المنثور ١ : ٧٤٣ في عيون الأخبار في جواب موسى بن جعفر عليهما السلام عن سند آل هارون الرشيد عن معنى الذرية قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ... وَيَحْيى وَعِيسى) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال : ليس لعيسى أب ، فقلت : إنما الحق بذراري ـ

١٢٤

لقد ذكر من ذكر هنا وأشير إلى غيرهم بمثلث : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) بعد ، واختص لكلّ شطر من الشطرات الثلاث المذكورة مواصفة خاصة ، فالأولى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وللثانية (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وللثالثة (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).

هكذا يظهر في بادئ الأمر ، ولكن الثلاث مشتركة في هذه الثلاثة ، ف (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) دون «نجزيهم» يعمم الجزاء لكلّ النبيين ، ثم (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) تشمل معهم من قبلهم وكلا من الصالحين المذكورين بعد وغير المذكورين ، ثم (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) يشمل كلّ الشطرات الثلاث ومن سواهم من المفضلين.

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٨٧) :

وبعضا من آباءهم وذرياتهم وإخوانهم ، أيضا هم من الموهوبين لإبراهيم (ع) اللهم إلّا نوحا ومن آباءه آدم وشيث وإدريس ، ومن ذرياته الأنبياء الذين كانوا قبل إبراهيم ، اللهمّ إلّا في سعة نطاق هذه الوهبة لتشمل الآباء إلى الذرية.

فلأن الأكثرية الساحقة من النبيين هم من ذرية إبراهيم فقد يصح (وَوَهَبْنا لَهُ) بل وكما تصح هذه الوهبة له في غير ذريته فإنهم من شدّات سلسلة النبوة الربانية في تاريخ الرسالات ككلّ ، فإنها وهبة لكلّ منهم مساندة ومساعدة في هذه الدعوة الرسالية ، ولا سيما إبراهيم (ع) لأنه عمود في موكب الرسالات إلّا خاتم المرسلين.

هنا (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعم كافة الرسل عن

__________________

ـ الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبي (ص) من قبل امنا فاطمة سلام الله عليها.

١٢٥

بكرتهم ، فإنها قضية كلّ رسالة ربانية.

وإنّما نكّر (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) دون تعريف ، خلاف (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) لأنه مشترك فيه بين كافة المهديين الرساليين ، وهم درجات في (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وأما (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فهنا «الاجتباء» تقدمة للهدي إلى صراط مستقيم ، حيث الجباية هي الجمع الجيد الجادّ ، ومنه جباية الخراج ، و (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢٨ : ٥٧).

وهنا مثلث من الاجتباء تعنيه (وَاجْتَبَيْناهُمْ).

١ ـ اجتباء كلّ في نفسه ونفسياته أن جمع الله متفرقاته ومتشتتاته ، إخلاصا لفطرته وعقليته وحسّه ، إخلاصا شخصيا.

٢ ـ ثم اجتباءه من بين نظراءه تفضيلا فضيلا.

٣ ـ ثم اجتباء الكلّ بين العالمين في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، موكب رسالي مجتبى بين العالمين من الجنة والناس ومن سواهم من المكلفين أجمعين.

ومن ثم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلكلّ هدى على حدّه ، وللكلّ هدى رسالية هي قضية رسالته في أبعادها.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨٨) :

«ذلك» التوحيد الحق دون أية ممارات ومجارات أو أنصاف حلول بينه وبين الشرك «ذلك» فقط (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ) الله «من يشاء» الهدى فيشاء له الهدى (١) «من عباده» (وَلَوْ أَشْرَكُوا) على فرض الحال (لَحَبِطَ

__________________

(١) عن تفسير العياشي عن العباس بن هلال عن الرضا (ع) أن رجلا أتى عبد الله بن

١٢٦

عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حال توحيدهم ، إذ لا فارق في إحباط الإشراك بين سابق سابغ سامق وسابق خانق ما حق ، ولكن :

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)(٨٩) :

أترى «هم» في «آتيناهم» هم المذكورون هنا بأسمائهم؟ ومن غير المذكور منهم من هم أهم منهم محتدا كالرسول الأعظم محمد (ص)!.

إنهم «هم» و (مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) ومحمد (ص) هو رأس الزاوية ، فهم الموكب الرسالي العالي ، الجامع بين مثلث (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) فليس كلّ رسول نبيا ، ولا كلّ نبي له كتاب ، فهم ـ إذا ـ الرعيل الأعلى من الرسل الجامعين لهذه الميزات الثلاث : كتاب شرعة مهما كانت فرعية كسائر كتابات السماء غير ما لأولي العزم منهم ، والحكم روحيا وزمنيا مهما صدّ الكثير منهم عن مظاهر الحكم الزمني ، والنبوة وهي هنا الرفعة بين المرسلين.

ولقد جمع هذا المثلث في حقل النبوة الإسرائيلية : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٤٥ : ١٦) واختص من بينهم المسيح بقول فصل : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٣ : ٧٩).

__________________

ـ الحسن فسأله عن الحج؟ فقال له : هذا جعفر بن محمد عليهما السلام قد نصب نفسه لهذا فاسأله فأقبل الرجل إلى جعفر (ع) فسأله فقال له : قد رأيتك واقفا على باب عبد الله بن الحسن فما قال لك؟ قال : سألته فأمرني أن آتيك وقال : هذا جعفر بن محمد عليهما السلام قد نصب نفسه لهذا فقال جعفر (ع) نعم ، أنا من الذين قال الله في كتابه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) سل عما شئت فسأله الرجل فأنبأه عن جميع مسائله.

١٢٧

وأخص الخواص في هذا الحقل الثلاثي هو الرسول الأعظم محمد (ص) وكما تدل عليه آيات كآية الميثاق : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١).

هؤلاء الرهط الكرام هم حقيقة حقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته ، ودعوة واحدة حملها نبي بعد نبي ، رسالة واحدة وأمة واحدة مهما اختلفت صور من طقوسها العملية عبادية وسواها.

(أُولئِكَ ... فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) :

«بها» هنا تعني مثلث (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) الكفرة الأنكاد من قوم لدّ «فقد وكلنا بها» إيمانا بها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم غيرهم من الناس ، كالأنصار المدنيين ، ومنهم من أسلم من الفرس وقد مدحهم رسول الله (ص) فيمن مدح في مختلف المجالات ، ومن أقواله فيهم : «رحم الله إخواني ..» ومنهم ـ كأفضلهم ـ أصحاب المهدي عجّل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه ، وسائر المؤمنين به.

فالدولة المهدوية العالمية هي الموكّلة بصورة مطبقة مطلقة بالإيمان والتطبيق لهذه الرسالة السامية ، فهي بشارة للمؤمنين بها على طول الخط (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)(٩٠) :

وترى الرسول إلى الرسل ورأس زاوية الرسالة والنبوة والإمامة كيف يؤمر أن يقتدي بهؤلاء النبيين الذين هم بأجمعهم أدنى منه في كلّ شيء؟.

١٢٨

هنا (هَداهُمُ اللهُ) تختص المقتدى به بهدى الله ، التي يحملها أنبياء الله ، تبيينا أن الرسل موكب واحد في حمل هدى الله ، ليس أحد منهم بدعا فيها اللهم إلّا في ميزات بدرجات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ..).

ومن هداهم الربانية عدم سؤالهم أجرا على أعباء الرسالة ، ف «قل» أنت الحامل الأخير لشرعة الله (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) اقتداء بسنة الرسالات الإلهية مهما كان المقتدي أقوى هدى من كلّ الرسل في كلّ الرسالات ، ف «إن هو» الرسول «وإن هو» القرآن (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) وليس للذكرى أجر فانها واجب أهله.

ذلك ، وبصورة عامة «لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء ، لأنه المنهج الأوضح والمقصد الأصح قال الله تعالى لأعز خلقه محمد (ص) : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب أولياءه وأنبياءه إليه» (١) ف «أحسن الهدى هدى الأنبياء» (٢) لأنها هدى الله.

فلما يؤمر رسول الهدى (ص) ان يقتدي بهدى الذين هداهم الله ، فأحرى لسواه وأوجب أن يقتدي بهداه فإنها أفضل الهدى وأكملها فانها خاتمة الهدى الرسالية من الله ، ثم الذين يحملون هداه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

__________________

(١) في مصباح الشريعة قال الصادق (ع) ولا طريق ..

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٤٤ في تفسير القمي خطبة له (ص) ، وفيه عن النهج «فاقتدوا بهدي نبيكم فانه أفضل الهدى».

١٢٩

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ

١٣٠

أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٩٤)

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(٩١) :

هنا (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) في ربوبيته برحيميته المقتضية لزاما بعث رسله ، وفي الحج (٧٤) والزمر (٦٧) (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) في توحيده وألّا شريك له في ألوهيته ، وهذه الآية بما بعدها مربوطة النياط بما قبلها من آيات الحجاج على المشركين الناكرين لرسالة البشر ، وأهل الكتاب الناكرين لهذه الرسالة الأخيرة ، وينكر ثالث أن النبوة وحي من الله على بشر سواء أكان النازل به ملكا أو بشرا!.

إذا ف (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) تحمل ثالوثا من النكران.

فمن الناس ـ وهم ثالث ثلاثة ـ من يخيل إليهم أن الوحي ارتقاء عقلي للإنسان ، دون إيحاء إلهي خاص ، فالنابغ من الإنسان نابع من عقليته البارعة ما يتسمى وحيا ، فما هو إلّا وحي العقل بنضوجه وارتقائه إلى مرقى الكمال الطليق لحد المعرفة الطليقة حيث لا يبقى له حاجب وستار عن الحقائق.

ولكنهم غفلوا عن أن ذلك خاص بنطاق الكليات العقلية ، فليس

١٣١

للعقل مهما نضج وعرج معارج الكمال أن يعرف جزئيات الموضوعات والأحكام الموحيات إلى الرسل ، ثم الأحكام لا تتبع كلها المصالح الواقعية فان قسما منها ابتلائية ، إضافة إلى سائر البراهين القاطعة إلى واقع الوحي الرسالي إلى الرسل.

وكما أن قدر الله حق قدره درجات ، كذلك عدم قدره حق قدره دركات ، تعم كافة التقصيرات بجنب الله عقيديا وعمليا وفي لفظ القول.

فقدر الشيء أو الشخص هو منزلته المتميز بها عن غيره ، والمنزلة الربوبية قضيتها ألا يسوى به سواه في أيّ من الأقدار ، فليوحّد في ألوهيته وكافة شؤون ربوبيته المقتضية إرسال رسله وابتعاث خلقه يوم الحساب لتحقيق كامل عدله بينهم.

فحق قدره ليس إلّا كما عرّف نفسه وبين في شرعته ، دون أن يوصف بقدر «فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك» (١).

إذا ف «إن الله عز وجل لا يقدر أحد قدره» (٢) في ذاته وصفاته وأفعاله ، والواجب على عباده أن يقدروا قدره فيما عرف به نفسه وفيما فرضه أو حرمه.

فحق قدره هو حق وصفه بما حققه تعالى من أوصافه دون انتقاص منها ولا مساس من كرامته ، وصفا معرفيا ووصفا لفظيا ووصفا عمليا ، وفي هذا المثلث يقدر الله حق قدره أم لا يقدر ، فلا نكلف بمعرفته كما هو ، ولا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٤٤ عن اصول الكافي عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ان الله لا يوصف وكيف يوصف وقد قال في كتابه (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فلا يوصف .. وفيه عن أبي جعفر عليهما السلام مثله.

(٢) المصدر عن إسحاق بن عمار قال قال ابو عبد الله (ع) ان الله ..

١٣٢

وصفه كما هو ، بل وعبادته كما يستحقه ، وذلك حق قدره بكماله وتمامه وما دونه عوان بين «قدروا» و«ما قدروا» ومن حق قدره فيما أنزل أن يحتل الموقع الأعلى من الدراسة فيه دون أن يجعل درسا جانبيا كما فعلته الحوزات الاسلامية ، فقد مركزوا كلّ كتاب وما قدروا كتاب الله حتّى هامشيا يفكر فيه ويتدبر.

فهم (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) مسّوا من كرامة ربانيته كأنه يجهل حاجة المكلفين إلى وحيه ، أو يبخل على علمه ، أو يعجز على علمه وسماحته ، أو يظلم على قدرته وسماحته وعلمه ، والقائلون (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) التاركون له ، هم أتباع لهم بل هم أضل منهم وأنكى. هنا (ما قَدَرُوا اللهَ) تعم كلّ القائلين (ما أَنْزَلَ اللهُ) ثم برهان ثان يخص أهل الكتاب منهم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ...)(١) وغير بعيد عن هؤلاء الأنكاد أن يتقولوا هذه القولة تعصبا ضد الإسلام وهم المفضّلون المشركين على المسلمين بنفس العصبية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٤ : ٥١) ، وهذه هي طبيعة الحال المتخلفة الشرسة للعصبية الجهلاء الحمقاء على حاضر الحال ، قومية أو طائفية أو إقليمية أمّاهيه ، أنها إذا أصبحت حجة على أصحابها ، ذريعة لتقبل أشباهها أنكروها عن بكرتها نكرانا للزاماتها.

فقد ينكر الكتابي كتابه إذا كان حجة لتصديق كتاب آخر ، كما قد ينكر حسه أو فطرته أو عقليته أو علمه إذا كانت ذريعة لما يتنكره من جديد.

ذلك وقد يدعون ـ كما اليهود ـ أن الرسول السابق على رسولهم كان

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي في الآية قال : لم يبلغوا من عظمة الله ان يصفوه بصفة (إِذْ قالُوا ...).

١٣٣

منهم في شرعتهم ، ردا على النصارى وتثبيتا لأصالتهم طول التاريخ الرسالي ، حتى نزل التنديد الشديد بهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ... ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣ : ٦٧).

ذلك ، فغير بعيد عن هؤلاء الأنكاد ـ في سلبياتهم وإيجابياتهم الحمقاء ـ أن ينكروا نزول الوحي على بشر بأسره ذريعة إلى نكران أفضل الوحي على محمد (ص) ، فهنا تبرز الحجة البالغة الإلهية تكذيبا لقولتهم : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ...)؟!.

ومكية الآية لا تنافي التعرض لأهل الكتاب إذا انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة وفيها أهل الكتاب ، كما وكانوا يبثون دعايات ويدسون بين المشركين المختلطين بهم سفرا وحضرا ، ثم الدعوة القرآنية عالمية تقتضي عامة الخطابات إن في مكة أو في المدينة.

لقد قال الأولون (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) (٣٦ : ١٥) استبعادا لرسالة البشر ، وأنكر الآخرون نزول كتاب بعد موسى وعيسى عليهما السلام كأن الله عاجز عنه بعدهما ف (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً)(١) وقد تركتم نوره وهداه وراء

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي (ص) فقال له النبي (ص) أنشدك بالذي انزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة ان الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه ويحك ولا على موسى؟ قال : ما انزل الله على بشر من شيء فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...).

وفيه اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من يهود الى ـ

١٣٤

ظهوركم (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) فاضية عن الوحي وهي فائضة بالوحي (قَراطِيسَ تُبْدُونَها) حيث لا يظهر فيها وحي إذ حرفتموه (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) منها ، الذي لم تقدروا على إمحاءه وتحريفه ، (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) في ذلك الوحي النور والهدى ، وسائر الوحي قبل التورات.

وهنا الخطاب في «تجعلونه» هو قضية الخطاب في «قل» ف (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) غيابا لا تناسب الخطاب ولا سيما العتاب الذي هو قضية الخطاب!.

ف «علمتم ..» برهان قاطع آخر على إنزال كتاب الوحي ، فإن من العلم ما ليس يكتسب بأية وسيلة متعوّدة وقد علّمتموه ، وهو الفاصل بينكم وبين المشركين الذين لا يعلمون ما علّمتم ، فالصيغة الحاكية عن المشركين في القرآن هي : (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) والحاكية عمن سواهم «أهل الكتاب» فلا سبيل لهؤلاء إلى نكران الوحي ، بحجة أولى «من أنزل ...» ولا ثانية «وعلمتم» ، ف : من أنزل ومن علم؟ :

(قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ، «قل الله» عنهم إذ يعتقدون ولا يلفظون به ذريعة لنكران ما ينكرون.

«قل الله» ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم واهتراءهم ، «ثم ذرهم» إلى نقمة الله (فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

وهكذا يواجه من يعاند الحق في حجاجه اللجاج أن يترك في خوضه الغامر دون أن يوسف عليه ويؤسى له ، حيث (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها

__________________

ـ النبي (ص) وهو محتسب فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا؟ فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ..) فجثا رجل من اليهود فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على احد شيئا فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ ...).

١٣٥

أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ، وذلك لا يقتضي ترك محاربتهم ، فإن «ثم ذرهم» هي فقط امر بتركهم في حقل الحجاج.

ذلك ، وكلّ جملة من هذه مستقلة في حقولها ، ف «قل الله» تستقل في كافة الحقول ، توحيدية وشركية وإلحادية ، وفي حقل التوحيد توكلا على الله لا سواه ، واستعانة بالله لا سواه ، أن يعيش الموحد «قل الله» قولا بالقال والحال والأعمال «ثم ذرهم» تركا لما سوى الله.

وفي حقل الإلحاد والإشراك (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

فحين لا ينفع قول الحق لا تترك أنت قول الحق بل (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ، وعلى أية حال أثّر القول الحق أمّا أثر ف «قل الله» قولا في نفسك وقولا في حقل الدعاية ، فعلى الداعية أن يعيش «قل الله» دون أن يتركه على أية حال.

ذلك ، فقد نرى أن ل (ما أَنْزَلَ اللهُ) أعداء جاهرين ظاهرين وآخرين يتقبلونه ولا يقبلون إليه.

فالقائل (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ينكره أولا ، يتقلّص ليتخلص منه على طول الخط ، ثم يوجه نكرانه بأن الله جلّ قدره هو فوق أن ينزل شيئا لهذا الخلق الضئيل.

ثم القائل (أَنْزَلَ اللهُ) قد يحرفه كما يحب واقعيا أم دعائيا كما فعله المحرفون الكلم عن مواضعه في كتاب موسى والمسيح عليهما السلام ، وفعل معهم القائلون أن القرآن محرّف!.

ثم القائل (أَنْزَلَ اللهُ) دون تحريف ، القائل بأن القرآن هو الدليل الأوّل يتركه قائلا : أين نحن وتفهّم كلام الله ، إن له أهلا خصوصا لا يحل تفسيره إلّا لهم.

١٣٦

ثم القائل (أَنْزَلَ اللهُ) مع التصديق أنه (بَيانٌ لِلنَّاسِ) يحمل عليه الآراء تقديسا للأجلاء المفتين بخلافه ، فليعن ما عنوه منه!.

وهكذا نرى (ما أَنْزَلَ اللهُ) ظليما أسيرا بأيدي الناس النسناس على مدار الزمن الرسالي ، فلو أن (ما أَنْزَلَ اللهُ) كان هو المحور الأصيل لمدراء شرعة الله والمتشرعين بها ، دونما حول عنه لم تحصل هذه الخلافات العارمة والاختلاقات المتشتتة.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٩٢) :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٤٢ : ٧)(١).

.. تلك كتب للماضين ، ماضين على مناهجها وغير ماضين «وهذا» القرآن العظيم (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) وكلّ كتب الله مباركة ولكن أين مبارك من مبارك؟.

فهذا المبارك تتم بركته ، وتطم كافة المكلفين في كلّ حقول العلم والمعرفة والعمل الصالح إلى يوم الدين ، ثم وليس بدعا من الكتب بل هو (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من كتب الوحي ، تصديقا لصادق وحيها وتكذيبا للكاذب من تحريف أو تجديف.

وقد تلمح «بين يديه» إضافة إلى وحدة السلسلة الكتابية للرسل ، أن هذا الكتاب ناظر إليها مهيمن عليها ، تصديقا لصادقها وتكميلا ، وتكذيبا لكاذبها (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥ : ٤٨) ، ثم :

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٥ : ١١٥ تجد تفصيل البحث حول اممية الدعوة القرآنية.

١٣٧

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) فمكة أم القرى في أصل التكوين اعتبارا بالكعبة المباركة حيث دحيت الأرض من تحتها ومكّت ، فكلّ القرى طارئة عليها وهي أمها ومخها ، فقد اشتقت «مكة» من تمككت العظم أخرجت مخه ، فهي مخ الأرض وأصلها ومنشؤها ، كما وأنها أوّل بيت وضع للناس : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ).

ذلك وكما أن الأرض هي أم الكرات كلها بمعنى سبقها عليها في خلقها فصبغها بسابغ المكان والمكانة لأصول المكلفين بين العالمين كما فصلت هذه السابقة السابغة في فصلت.

فهي أم القرى الرسالية في الكون كله ، أعم مما هي أم القرى الأرضية ، تحليقا لواجهتها الروحية الرسالية على مكانات الرسالات كلها أرضية وسماوية.

فلأن «القرى» في حقل الإنذار في القرى الرسالية ، وانها جمع محلي باللام وهو يفيد الاستغراق ، إذا فمستغرق القرى الرسالية ارضية وسماوية كلها تظل في ظل هذه الرسالة العالمية الكبرى دون إبقاء.

فلئن كان النص «مكة ومن حولها» لكان ظاهرا في الجزيرة العربية ، ولكنه (أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ف «القرى» الشاملة لكافة المجتمعات المكلفة بالرسالات في الكون كله ، تفسّر «من حولها» بمن حول هذه العاصمة الرسالية العالمية.

فسعة «القرى» هي فسحة هذه الدعوة ، ولأن «القرى» لا تختص بما حول مكة حيث تشمل ما تسمى قرية في أرض أو في سماء ، ف «حولها» تعني نفس «القرى» ومكة أمها كلها ، دون مثل الطائف (١)

__________________

(١) في تفسير العياشي عن علي بن أسباط قال قلت لأبي جعفر عليهما السلام لم سمي ـ

١٣٨

بل ان ما حولها طائف على العالمين أجمعين ، دون «طائف» ولا طائفة خاصة من العالمين.

فكما يعنى مما حول عاصمة الجمهورية الاسلامية كافة البلاد فيها ، ويعنى مما حول عاصمة الدولة المهدوية كافة من في الأرض وسائر المكلفين في أرجاء الكون ، كذلك ـ وبأحرى ـ (أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) في هذه الرسالة السامية ، فإن «القرى» التي هي حول «الأم» : العاصمة ـ هي مستغرق المجتمعات من كافة المكلفين من كلّ العالمين من أهل السماوات والأرضين.

هنا وفي الشورى (٧) (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) وفي أخرى (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) تشملان في ذلك الإنذار كافة البالغين من القرى المكلفة بشرائع الله ، وليس الإنذار إلّا بالقرآن كما التذكير (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فلا تختص الدعوة القرآنية بالعرب ، أم عرب الجزيرة ، ام القرى المجاورة لأم القرى في الجزيرة ، بل هي للناس كافة : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٣٤ : ٢٨) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٧ : ١٥٨) بل ولكلّ العالمين : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ١٠٧).

فقد تصيّد أعداء للإسلام من المستشرقين أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها ، مقتطعين آية أم القرى من القرآن كله ليخيّلوا إلى البسطاء أن هذه الدعوة كانت في بدايتها محصورة بهؤلاء الأميين ومجاوريهم ، ثم توسعت في الجزيرة كلها ثم همّ محمد (ص) أن تتخطاها إلى الناس كافة

__________________

ـ النبي الأمي؟ قال : نسب إلى مكة وذلك من قول الله (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) وام القرى مكة ومن حولها الطائف» أقول : هذا تفسير بأقرب المصاديق فلا تضيق به الآية الطليقة الشاملة لكلّ القرى في الكون كله.

١٣٩

وذلك بعد هجرته إلى المدينة وقيام دولته بها.

ولكنهم تغافلوا عن المعني من القرى في أم القرى ، كما تغافلوا ان آيات الأنبياء وسبأ والأعراف من أوليات المكيات بداية الدعوة.

وحين تكون الدعوة الإسلامية للناس وللعالمين كافة ، فالمتخلف عنها زعم اختصاصها بغيره خارج عن الناس وعن العالمين أجمعين ، فهو ـ إذا ـ في زمرة النسناس.

وهنا نقول لمثل «الحداد» يا حداد قف على حدك وخفف عن جزرك ومدك فما كتاب الله لعبة تلعب بها أنت وأمثالك (١).

فالقرآن هو وسيلة الدعوة الخالدة إلى يوم الدين ، دعوة بأهله الرساليين ، رسولا وأئمة معصومين ، ومن ثم علماء ربانيين دارسين في مدرسة القرآن العظيم ، محصورة الدعوة والدعاية في هذا المثلث ، إضافة إلى السنة الشارحة ، وكلّ ذلك لمكان «ولتنذر» دون «لينذر» هنا و (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) وما أشبه في غيرها ، فكامل الإنذار هو أن يكون بكتاب معصوم بمنذر معصوم أمن يتلو تلوه ويحذو محذاه ويرمي مرماه.

ذلك! فلا تعني «ما حولها» الحول المجاور لها ، ولا ـ فقط ـ مشارق الأرض ومغاربها ، لأن أم القرى هي العاصمة الكبرى للمملكة الرسالية ، ف «ما حولها» تعم كلّ قراها في الكون كله.

وهنا براهين اربعة تثبت وحي القرآن ، أولاها «مبارك» حيث يحمل كافة البركات المرجوة من عند الله تعالى ، فلا تجد بركة ربانية صالحة

__________________

(١) الأستاذ الحداد البيروتي رئيس مطارنة بيروت هو الذي ألف على إشرافه أربعة عشر كتابا ردا ـ بزعمه ـ على القرآن ومنها «الكتاب والقرآن» حيث ذكر فيه شطحات مثل أن القرآن دعوة عربية وليست عالمية.

١٤٠