الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

اختلفت درجاته حسب المعطيات ، مهما كان قبيل الإنسان في أعلى القيّم والقمم في كتابي التكوين والتشريع.

والنتيجة القاطعة عموم الحشر إلى ربهم ليلاقوا ربوبية الجزاء بعد ربوبية التكليف ، إذ لو لم تأتهم ربوبية الجزاء مع طليق الربوبية الفاضلة العادلة لكان نقصا فيها ونقضا لقضيتها.

وذلك قضية (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) كما هو قضية كامل الربوبية لكلّ شيء ، فهي تعرف ربها كما يعرفه الإنسان ، وتعرف الحشر كما يعرفه ، فإن الجهل بالمعاد كما الجهل بالمبدء يزيل التكليف.

والقول إن محللة الدواب والطير غير الظالمة ولا المظلومة ـ إذا ـ لا تحشر إذ لا ظلامة في هذا البين ، مردود بأن للذبيحة منها لصالح الإنسان ثواب كما الشهداء في سبيل الله ، ثم الصالحة من أعمالها لا بد وأن تجازى جزاء وفاقا.

ولأن تكليف الحيوان خفيف فجزاءها كذلك خفيف مادة ومدة فلا بقاء لها في جنة أو نار ، بل لا جنة لها ولا نار ، فانما جزاء وفاق قضية عدله تعالى وفضله.

ذلك! و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ) أيّا كان ومن أبرزه كحجة بالغة القرآن «من شيء» من هدى إلّا بيناه ، فالدين كامل كما التكوين كامل : «أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم انزل الله دينا تاما فقصر الرسول (ص) عن تبليغه وأداءه والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وفيه «تبيان كل شيء» (١).

__________________

(١) المصدر في نهج البلاغة في ذم اختلاف العلماء في الفتيا : ام انزل الله ...» وفيه ـ

٢١

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩) :

هؤلاء الأنكاد هم «صم» عن سمع الحق والهدى «وبكم» عن التصديق به وبلاغه إذ لا يتكلمون بخير ، عائشين (فِي الظُّلُماتِ) عن كافة منافذ الإدراك إنسانيا ، منبوذين في كلّ منابذ اللاإدراك ، ثالوث من عوامل التكذيب بآياتنا اختلقوها فغرقوا (فِي الظُّلُماتِ) التائهة بما قدموها (١).

وضابطة النجدين الربانيين أنه (مَنْ يَشَأِ اللهُ) ضلاله بما ضل جزاء له هنا «يضلله» ختما على قلبه (وَمَنْ يَشَأْ) هداه بما اهتدى يزيده هدى ويبقيه فيما يبتغيه من هداه حيث (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلّا حسب سعيه في ضلاله وهداه واستقامته ورداه ، أجل (يُضْلِلْهُ) ـ (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) و (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

وهنا (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وجاه (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) هو سمع الحق ولسان الحق في جو من النور خليص عن أية ظلمة.

وهنا (فِي الظُّلُماتِ) تحليق لعوامل الضلال عليهم بما حلّقوها ك (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٣٦ : ٩) (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا

__________________

ـ في عيون الأخبار بإسناده إلى عبد العزيز بن مسلم عن أبي الحسن الرضا (ع) قال يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم إن الله لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن وفيه تفصيل كلّ شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملا فقال عزّ وجلّ : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

(١) المصدر ٧١٦ عن تفسير القمي عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية يقول : «صم عن الهدى وبكم لا يتكلمون بخير في الظلمات يعني ظلمات الكفر ...».

٢٢

يَرْجِعُونَ) (٢ : ١٨) ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢ : ٧) (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (١٤ : ٢٧) (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢ : ٢٦) وإنما (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١٦).

ف «إن الذين كذبوا بآيات الله» آفاقية وأنفسية ، هذه المبثوثة في كلّ صحائف الوجود وصحفه ، وهذه المسجلة في القرآن العظيم ، إنما كذبوا بهذه وتلك حيث عطّلوا على أنفسهم كلّ أجهزة الاستقبال للحق ، غارقين في ظلمات الجهالات والتجاهلات!.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١) :

ذلك طرف طريف من النهج الربانية في خطاب الفطرة الإنسانية ، يواجهها ربنا في صورة من الصور الهائلة التي تهز القلوب فيتساقط عنها ركام الشرك.

فهنا استنباط لقضية الفطرة واستجاشة للرجوع إليها ، احتجاجا بحالات النصر حين تتقطع كلّ الأسباب ، وتحار دونه الألباب؟.

ف (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) هنا (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) ساعة الموت أو ساعة القيامة (أَغَيْرَ اللهِ) الذي به تشركون «تدعون» ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن له شريكا أو شركاء ، كلّا! «بل إياه» لا سواه «تدعون» أن يكشف الضر عنكم (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) كما في عذاب الاستئصال ان يكشفه كما كشف عن قوم يونس لمّا آمنوا ، أم ساعة الموت المعلّق أن يؤجّله ، وأما القيامة فلا ، «وتنسون» في حالات الاضطرار (ما تُشْرِكُونَ) بالله.

٢٣

ذلك «ولو أن الناس حين نزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد» (١).

أرأيت لما ذا «أرأيتكم» خطابا لجمع الواحد والجمع؟ خطاب الواحد قد يعني مع كلّ واحد من المكلفين الرسول (ص) و«كم» هم مجموعة المكلفين ، فهما ـ ذا ـ جمعان بفارق أن الأول على الأبدال والثاني على جمع الجمع ، فالمعني ـ إذا ـ أرأيت أنت أيّا كنت وحتى الرسول (ص) «رأيتكم» حيث المرئي كلّ المجموعة ، فإن عذاب الله لا يفرق بين مستحقيه إذا جاء.

فحين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة الصاخة ، حينذاك يضطرب الآلهة مع عابديها ، فتضل عنهم في ألوهتها ، وكما تتجه الفطر إلى الذي فطرها ، وهما حجتان بارعتان على توحيد الحق وحق التوحيد. فالقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله هو قلب هجير حجير ، لم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة وتؤثر فيها الحدة ، حيث تعطلت فيه أجهزة الاستقبال الفطرية ، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة الموعظة ، فالشدة ابتلاء من الله لعبده ، فمن كان حيا أيقظته وفتحت مغاليق قلبه ، وردته الى ربه وكانت هذه الزحمة له رحمة كتبها فيما كتب على نفسه ، ومن كان ميتا بما أمات نفسه لم تفده شيئا ، وإنما أفاد الحق حجة على غير المستفيد ، ولجّة بما كان عنه يحيد.

ذلك ، وقد يكشف عما يسأل : كيف بالإمكان أن يكشف الله عن الساعة إذا أتت إن شاء ولا مؤجّل لها كما لا معجّل إياها؟ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤ : ٣٠).

__________________

(١) في نهج البلاغة عن علي امير المؤمنين (ع).

٢٤

تكشف بأن المدعو عند العذاب أو الساعة هو الكشف عن العذاب أو عذاب الساعة دون الساعة نفسها ، وإن دعوا تأجيلها فلا يشاء كشفه إذ لا تؤجل كما لا تعجّل ، ثم لله المشية الطليقة في كشف الضر ، مهما لا يكشفه إلّا عن مستحقيه كما وعدهم بصورة حتمية أو إمكانية.

وتلك المشيئة الطليقة في حد ذاتها لا تنافي حتم القضاء لأهل الجنة وعلى أهل النار يوم القضاء : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٤٠ : ٥٠) :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣) :

أجل ، وكما أن الأخذ بالبأساء والضراء هو من عذاب العاجلة ، كذلك هو ذريعة للتضرع إلى الله وذكراه ... (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) بما (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) كما (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حتى حسبوه خيرا لهم فإنهم قرناءهم بما قرنوهم إلى أنفسهم فقيّضهم الله لهم : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤٣ : ٣٦) ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (٤١ : ٢٥) : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

هنا قسوة القلوب ظرف ظريف لتزيين الشيطان لهم أعمالهم ، وهي نفسها قضية العشو عن ذكر الرحمن والإعراض عنه قالا وحالا وأعمالا (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) (٣٩ : ٢٢) حيث تقسى عنه إهمالا فعنادا ثم يقسيها الله جزاء وفاقا : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٥ : ١٣) قسوة عن قسوة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) :

٢٥

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) :

الدابر أصله من دابرة الفرس وجمعها دوابر وهي ما يلي حافره من خلفه ، ودابرة الطائر هي الشاخصة التي خلف رجله وتدعى الصيصيّة أيضا.

فالمعني من «دابر القوم» هنا ـ والله أعلم ـ أنه قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم ، والتالون لهم في عينهم وضلالهم ، ومنه قطع نسلهم ، الّذين هم استمرار لظلمهم.

فهناك تذكار بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فنسوا ذكر الله بعد ما تذكروا بالبأساء والضراء ، وهنا عذاب بفتح أبواب كلّ شيء ليفتح عليهم العذاب ، إذا فالنقمة والنعمة لهم ابتلاء بفارق أن النقمة كانت تذكرهم ولكنهم تناسوا ، ولكن النقمة تنسيهم فتبقيهم على نسيانهم العصيان.

ذلك هو الناسي الفارغ قلبه عن ذكر الله ، الغافل في السراء والضراء ، ولكن المؤمن سراءه كضرائه له نبهة ، ف «عجبا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (١).

فنسيان الله بنسيان ما ذكر به الله يخلّف عذاب الاستدراج بإقبال الدنيا على الناسي: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) فالاستدراج والإملاء هما من أسباب ازدياد الإثم : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي

__________________

(١). رواه مسلم بسنده عن رسول الله (ص).

٢٦

لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨).

و«كان في مناجاة الله لموسى (ع) يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنا مقبلا فقل : ذنب عجلت عقوبته» (١).

ذلك لأن الغنى بلاء هو أبلى من الفقر (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

فدولة المال ودولة الحال في الدنيا ، وحتّى القيادة الروحية فضلا عن الزمنية ، بلاء ليس فوقه بلاء (٢) ، وليس إقبال الدنيا ككلّ دليل العصيان فهو من جزاءه ، إنما هو «إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ـ وهو مقيم على معاصيه ـ ما يحب ، فإنما هو استدراج كما قال الله (فَلَمَّا نَسُوا ...) (٣) ثم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧١٨ تفسير القمي عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (ع) قال : كان ...

(٢) المصدر عن أبي حمزة قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن قول الله (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) يعني فلما تركوا ولاية علي بن أبي طالب (ع) وقد أمروا به (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يعني دولتهم في الدنيا وما بسط لهم فيها ، وقوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) يعني بذلك قيام القائم (ع) حتّى كأنهم لم يكن لهم سلطان قط فذلك قوله «بغتة» فنزل خبر هذه الآية على محمد (ص) وفيه عن المجمع روى عن النبي (ص) انه قال : إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم تلا هذه الآية ، ونحوه ما روي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال : يا بن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمه فاحذره.

(٣) الدر المنثور ٣ : ١٢ عن عقبة بن عامر عن النبي (ص) قال : إذا رأيت ... ثم تلا رسول الله (ص): (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) وفيه عن عبادة بن صامت ان رسول الله (ص) قال : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم او فتح عليهم باب خيانة حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ...».

٢٧

وسائر إقبالها بلية واجبة الرقابة حتّى تنجح فيها.

هنا (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) تستغرق كلّ أبواب البلاء بالنعم دولة ودولة ، جاها ومالا وعرضا ظاهرا في عرضه العريض ، وهم في خضمّ معاصيهم بظنونهم على شيء فالله يثيبهم على معاصيهم ويفتح عليهم رحمته في مآسيهم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة واستغرقوا في متاعها بلا شكر ولا ذكر ، فازدادوا عصيانا وطغيانا (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) وفجأة حيث كان أخذهم على غرّة في سكرتهم يعمهون ، (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) : جائرون منقطعوا الرجاء عن كلّ خير ، عاجزون عن التفكر في أي اتجاه ، (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) : شديدو اليأس من معترض الحزن بأشده ، ترحا بالغا بعد فرح بالغ.

أجل ، وفتح أبواب كلّ شيء على الّذين نسوا ما ذكروا به هو في الحق سدّ لأبواب كلّ شيء ، حيث النّعمة تبدل عندهم نقمة ونعمة بما نسوا الله فأنساهم أنفسهم وهم لا يشعرون.

فهذه ضفّة أمام نعم الله المتواترة استدراجا فاستأصالا ، تواجهها ضفّة الإيمان الموعودة بنعم الرحيم الرحمان : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٧ : ٩٦).

فالبركات هنا وهناك في الصورة الظاهرة المادية مثل بعضها البعض ، ولكنها للمعرضين عن الله دركات ، ولأهل الله بركات فوق بركات (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

(فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) كلّ الأبواب المغلقة عليهم من زخرف الحياة الدنيا (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) حيث ظنوا أن الّذي نزل عليهم من البأساء والضراء ما كان انتقاما منهم ، إذ بدل الله بهما أن فتح عليهم أبواب نعمه التي كانوا يبغونها ولا يصلون إليها.

٢٨

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) تبّا بتّا (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كيف يداريهم ويجاريهم ولا يماريهم حتّى إذا لم تبق فيهم نافذة خير (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) آيسون من كلّ خير.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أبلاهم وابتلاهم ، وأبرز مكنونهم فأفناهم ، وخلّص دعاة الحق عن بأسهم ، ففلّسهم على بؤسهم ، فتعسا للقوم الكافرين.

و«القوم» ـ في قطع دابرهم وهو آخر فرد منهم ـ قومان ، قوم يعيشهم الزمن قبل آخر الزمن فالقطع في قطاعاتهم متقطع ، وقوم في آخر الزمن عند ظهور صاحب الزمن الحجة بن الحسن المهدي من آل محمد عليهم السلام ، فالقطع فيهم أجمع قاطع ، فليس هنالك حمد إلّا لله رب العالمين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هناك واقعا يحلق على كلّ الخليفة ، بعد ما كان حقا غير واقع إلّا نزرا قليلا.

فهناك أقوام من الضفة الأولى المتقطعة كقوم نوح وهود وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وقرون بين ذلك كثير ، أخذهم الله بذنوبهم رغم ازدهار حضاراتهم.

ومن ثم الضفة الثانية والأخيرة هم كلّ الظالمين في مطلع دولة المهدي عليه السلام فإنهم يقطع دابرهم عن بكرتهم فلا يبقى على وجه الأرض ظالم ، إذ تحلق دولة الحق المطلق على كافة الربوع ، اللهم عجّل فرجه وسهّل مخرجه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٤٦) :

إن معطي السمع والأبصار والقلوب هو ـ بطبيعة الحال ـ آخذها إن شاء (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) إنسانيا أم وحيوانيا فإنهما فيهما

٢٩

عطية الله (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) كذلك حتّى لا تفقه إنسانيا ولا تعيش حيوانيا ، إذا ف (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) بما أخذ من مثلث الإنسانية السامية ، طبعا لا إله يأتيكم به إن شاء إلّا الله كما لا آخذ إلّا الله ولا معطي إياها إلّا الله.

فالسمع والأبصار هما أهم منافذ الإدراك في الإنسان كحيوان وكإنسان ، والقلب حيوانيا وإنسانيا هو أصل حياته فيهما ، فالآخذ لهذه الثلاثة آخذ الحياة حيوانيا وانسانيا عن بكرتهما.

وذلك الأخذ المعروض هنا دليل أن لهذه الثلاثة قابلياتها وفاعلياتها في أصولها خلقيا ، إلّا أن يبطلها أهلوها فلا يستفيدوا منها ، ثم الله يأخذها عقوبة حاضرة على إهمالها.

هذا ومن غرائب الوفق العددي بين البصر ، والبصيرة والقلب والفؤاد أن كلا يذكر في القرآن (١٤٨) مرة ، مهما كانت مرّات الفؤاد (١٦) والباقية للقلب ، فإنهما في الحق واحد حيث الفؤاد هو القلب المتفئد إما بنور المعرفة أم بنار الجهالة.

«انظر» نظر البصيرة النافذة (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) متواترة على هؤلاء (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) عن الحق.

فلأنهم «يقولون هؤلاء شفعاءنا عند الله» والشفاعة بين الله وبين خلقه لو صدقت فيهم ليست ألوهية ، كما إن أخذ الله منكم ما أخذ ليس للشفعاء أن يسترجعوه بإصرار وإجبار لو لا أن الله يريد أن يأتي به مرة أخرى ، فأين ألوهتها ـ إذا ـ وهي لا تنفع كما لا تضر حتّى في حقل الشفاعة المدّعاة؟!.

فالله يصرّف الآيات تحويلا لها إلى أفهامهم ثمّ هم يصدفون عنها معرضين تحويلا لافهامهم عنها.

ويا له من مشهد تصويري قويم يجسّم لهم عجزهم وآلهتهم التي

٣٠

ألهتهم أمام بأس الله ، مشهد يهزّهم من الأعماق إن كانت لهم أعماق ، ولكن لا حياة لمن تنادي حيث يميلون عن آيات الله المصرّفة لهم كالبعير الّذي يصدف عمن يقوده إلى من ينحره.

ذلك ، ومن ثمّ مشهد العذاب الملموس بعد العذاب الّذي أهمه غير ملموس :

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧):

وطبعا لا ، حيث العذاب هو قضية الظلم ، وهل الظالم هنا إلّا المشرك بالله ومن أشبهه؟ ثم لا فارق بين بغتة العذاب أو جهرته في (هَلْ يُهْلَكُ) إذ لا دافع عن عذابه كيفما حصل.

فسواء أجاءهم العذاب بغتة وهم غارقون في أهواءهم لا يتوقعون ، أو جاءهم جهرة وهم صاحون متأهبون ، فإن الهلاك على أية حال حال بالظالمين دون سواهم.

ذلك! فما هو الحل في (فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨ : ٢٥)؟.

إنها للظالمين عذاب عاجل ولمن سواهم بلاء؟ يخفف عنهم عذابا في الآجل أم لهم ترفيع درجة.

وإنه عذاب يخص الظالمين بحق الرسل والرسالات وهو فوق «فتنة ...» وكما نشاهده للغابرين من الظالمين والله ينجي فيها غير الظالمين كعذاب الطوفان وما أشبه المسرود فصلا فاصلا في القرآن.

هنا قد بلغت موجة الحجج أقصى مدّها في عدّها وشدّها وتمت عرضا لهذه المشاهد المتتالية والتعقيبات الموحية المتعالية ، فلا كلام بعد التمام

٣١

ـ إذا ـ إلّا عرض هو مكرور على المكلفين ، بيانا لأصل الحجج والفصل بين الضفتين في هذا البين :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا(١) هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩) :

إنه لا شأن للمرسلين عن بكرتهم إلّا التبشير والإنذار بإذن الله ، وأما إتيان آية رسولية أو رسالية فليس من شأن الرسل ، ف (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) و (بِعِلْمِ اللهِ) لا تعدوه إلى سواه.

وليست وظيفة هؤلاء المرسلين إلّا حمل الرسالة الربانية إلى المرسل إليهم دونما زائد أو ناقص ، نقلا لهم إلى الرشد العقلي والمعرفي ، دون ادعاء أن لهم ما لله من شؤون ، ولا ضرب بهم في تيه الفلسفات الّذهنية والمجادلات اللاهوتية المختلقة ، التي استنفدت طاقات الإدراكات البشرية أجيالا بعد أجيال.

«فمن آمن» بالله وما أرسلوا به «وأصلح» ما فسد منه ومن سواه قدر المقدور عقيديا وعلميا وخلقيا وعمليا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من أية كارثة قارصة عذابا هنا وهناك (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من لذات عابرة ، أو اعترضتهم من هزّات غابرة.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وماتوا وهم كفار (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أحيانا هنا وفي كلّ الأحيان هناك (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) عن حد العبودية والطاعة ، تحللا إلى ما لا يحل ، وتغافلا عما يجب أو يحل.

٣٢

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)

٣٣

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩)

موجة بقية بهية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة والرسول ، بعد ما عبثت بها تصورات جاهلية فابتعدت عن حقيقة الرسالة والرسالة الحقيقة بالاتباع.

فقد أصبح الجاهليون ومن أشبههم يتطلبون إلى الرسول ما لا يجب من آيات الرسالة ، رفضا لما يتوجب منها لإثباتها ، خلطا بين الكهانة

٣٤

والسحر والآية البينة ، فقد جاءت العقيدة السليمة الاسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون ، تخليصا لصورة الرسالة وسيرتها عن صورتها المسطرة في الأوهام ، وسيرتها المتخيلة بين الأنام.

حقيقة للرسالة حقيقة بالاتباع ، خارجة عن إفراط المفرطين ترفيعا لها عما لها ، وعن تفريط المفرّطين تقريعا لها عما يحق فيها ، وترقيعا بخلق وخلق لا تحق لها :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) :

هنا سلبيات ثلاث بعدها إثباتية واحدة هي هي ـ فقط ـ الرسالة دون زائدة ولا ناقصة إلّا بائدة ناقضة.

١ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فهلّا تكون قضية «لا أقول» نفس السلبية الواقعية؟ أم (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ولكنه نهي عن أن يقوله؟.

لو أن عنده خزائن الله كواجب أو راجح رسولي أو رسالي لكان من المفروض أن يقوله تحديثا بنعمة ربه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وتثبيتا أكثر مما ثبت لرسالته ، ف «لا أقول» إذ ليس عنده خزائن الله لا أصليا ولا تخويلا ، فمطلق العندية هنا مسلوبة عنه.

فما خزائنه تعالى علما وقدرة ورحمة أمامية إلّا عنده نفسه سبحانه وتعالى عما يشركون ، ف (لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٦٣ : ٧) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٣٨ : ٩) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ

٣٥

الْمُصَيْطِرُونَ) (٥٢ : ٣٧) ـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧ : ١٠٠).

فخزائن الله ألوهية وربوبية ورحمة غير متناهية ليست هي إلّا عند الله ، لا يوكّل فيها أحدا ولا يخوّل ، فإن «عندي» تعم العندية الذاتية والتخويلية أماهيه مما تصدق عليه «عندي» وإن بعضا أو مثقال ذرة كأن يحصل سؤله من خزائنه بسؤاله دون رد ، حيث المستجاب دعاءه بإذن ودون إذن يصح قوله : (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) والمرسلون ومن يحذو محذاهم (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠ : ٣) وهذه الشفاعة ليست مشمولة ل «عندي» الخاصة بساحة الربوبية ، وهذه السلبية الطليقة للرسل أمام الله هي قضية الرسالة وحرمة الربوبية ، فكلّ أمر منهم باذنه تعالى حتى دعاءهم فضلا عن الشفاعة وأضرابها.

فليس الرسول (ص) قاعدا على خزائن الله ـ ولا واحدة منها ، فإنّ حكمها حكم الكلّ ـ قاعدا أي قعود ما يصدق عليه «عندي» ليغدق منها على من يشاء ، ولا يملك مفاتيح الغيب ولا هو ملك كما يتطلبون ، فلا هو إله عنده خزائن الألوهية أو يعلم الغيب ، ولا هو مخول موكّل ، بل ولا هو ملك مهما كان هو فوق كلّ ملك!.

٢ ـ (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) كضابطة رسولية أو رسالية مهما علّم غيبا كالوحي وما أشبه ، فلا أقول اني اعلم الغيب ، وقل (لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلو كان يعلم الغيب لكان المفروض عليه في موقف تثبيت رسالته ان يقوله! : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٨٨).

و«الغيب» المسلوب عنه (ص) هو الغيب الطليق ، الخاص بساحة

٣٦

الربوبية كغيب ذاته تعالى وصفاته وأفعاله ، وغيب وحيه وآيات وحيه وما أشبه.

إلّا أن من الغيب ما يطلع عليه رسله قضية الرسالة إثباتا وبلاغا لمادتها : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٧٢ : ٢٨) (١).

ومنه ما لن يطلع عليه أحدا من خلقه لاستحالته ذاتيا أو مصلحيا ، والضابطة المتكررة بالنسبة لمن سوى الله ومنهم رسل الله (لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ثم (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ...) تحيل لهم علم الغيب وإن كان بتعليم الله ، فإن استكثار الخير هو قضية طليقة لعلم الغيب بكلّ الحوادث الضارة والنافعة ، ولا فارق في «لاستكثرت» بين العلم الذاتي والكسبي ، حيث النتيجة في حقل «لاستكثرت ...» واحدة.

فلأن الآيات الرسالية وما أشبهها هي من خزائن الله قدرة وقيمومية ورحمة وعلما ، فالسالبان يسلبان عن الرسول القدرة والعلم بهذه الآيات الرسولية ، رغم علمه بتعليمه تعالى بآيات رسولية هي الوحي كله ، فهما إذا يسلبان عن إفراط الربوبية.

٣ ـ ثم (لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) سلب لتفريط العبودية الذي تشترطه الجاهلية للرسل أن يكونوا من الملائكة ، فإنه هو (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) على الإطلاق من الملائكة والجنة والناس أجمعين.

ذلك ، كما وهو إثبات للحاجيات البشرية التي هم يستنكرونها منه (ص) : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا

__________________

(١) للاطلاع على تفاصيل الغيب راجع تفسير الآية في سورة الجن ج ٢٩ من الفرقان.

٣٧

أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ...) (٢٥ : ٨).

وهذا السلب والإيجاب هما يسلبان تطلّبات المشركين أن يكون الرسول ملكا أو يكون ـ لأقل تقدير ـ معه ملك فيكون معه نذيرا.

إذا فما هو إلّا عوانا بين الأمرين ووسطا بين العالمين؟ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (٣ : ١٤٤) و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٣ : ١٢٨) ف:

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) لست إلّا حاملا لوحي ربي لا موكّل في شيء ولا مخوّل «متبعا لله مؤديا عن الله ما أمر به من تبليغ الرسالة» (١).

لذلك نقول لن تنسخ السنة الكتاب لأنه تخلّف عن وحي الكتاب ، ولو كان نسخ في حكم من الكتاب لكان يتكلفه الكتاب نفسه لأنه حجة باقية وضابطة قانونية ثابتة لا تتحمل تبصرة فيها تعمية لنصه أو ظاهره.

صحيح أن السنة وحي كما الكتاب وحي ولكنها ليست إلّا على هامش الكتاب شارحة له غير قارحة ، فالكتاب هو حبل الله المعتصم به وحيدا غير وهيد ، وكيف يكون هو المعتصم وهو في محط النسخ بالسنة التي ليست له إلّا فرعا له شارحة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٠ في كتاب التوحيد باسناده إلى احمد بن الميثمي انه سأل الرضا (ع) يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (ص) في الشيء الواحد فقال (ع) ان الله عزّ وجلّ حرم حراما وأحلّ حلالا وفرض فرائض فما جاء تحليل ما حرم أو تحريم ما أحلّ الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا نسخ نسخ ذلك فذلك شيء لا يسع الأخذ به لأن رسول الله (ص) لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله عزّ وجلّ ولا ليغير فرائض الله وأحكامه وكان في ذلك متبعا مسلما مؤديا عن الله عزّ وجلّ وذلك قول الله عزّ وجلّ : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) فكان (ع) متبعا مؤديا عن الله ما أمر به من تبليغ الرسالة.

٣٨

وهنا حصر إتباع الرسول (ص) بالوحي حسر عن إتباعه غير الوحي من عقلية نفسه أو عقلية الشورى فإنهما ليسا من وحي الله لتدخل الخطإ فيها.

إذا فلا اجتهاد للرسول يتوسل فيه بأية وسيلة حيث الوحي يغنيه ، وما الاجتهاد على أية حال إلّا للأعمى عن الوحي دون البصير بخالص الوحي حيث الوحي يكفيه.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فأنتم ترونني وتسمعونني ما يدل على بصارتي وبصيرتي ، وجربتم أنفسكم وسواكم بما يدل على عماكم (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أنه «لا يستوي الأعمى والبصير»!.

ذلك ، فاتباع الوحي وحده هداية وبصيرة ، والمتروك بغير الوحي أعمى عن البصيرة ، ولا دور للعقل وجاه الوحي إلّا تلقيه بصفاء ووفاء ، صفاء في تفهّمه ووفاء في تفهيمه ، وأما ان يستقل أمام الوحي كأنه يشاقه أو يكون إمامه ، فلا وألف كلا!.

وليس هذا تهديدا للعقل وتحديدا ، تمجيدا له عن التعقل ، إنما هو بيان حدّه في جزره ومدّه أنه ليس في صالح المعرفة إلى خضمّ الوحي ، تركا لمجاله بكلّ جلواته الصالحة الفالحة في مضمار الوحي ، وهو أوسع المجالات لجلواته وتجلّياته على الإطلاق.

فليس من العقل معارضة العقل مع الوحي أو تفوّقه عليه ، فصالح العقل هو العوان بين إفراطه في مشاقة الوحي أو تحلّله عنه ، وبين تفريطه بحق الوحي ألّا يتعقله كما يجب ، فهو في إفراطه قد يخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ، وفي تفريطه يتخربط في جمود وركود.

فالعقل وحده ـ على محدوديته وعدم تحليفه على كلّ معقول مأمول ـ قد يضطرب ـ وكثيرا ما هو ـ تحت ضغوط الأهواء والشهوات والنزعات ،

٣٩

وهذان هما حجر الأساس لاختلافات العقلاء حتى الفلاسفة في تشخيص الحقائق.

فحين يقول الله عن اعقل العقلاء (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) مهما كانت هوى عقله أم حصيلة الشورى الصالحة بين الرعيل الأعلى من العقلاء.

فما ذا ترى في سائر العقول الناقصة في ذواتها ، البائسة في تعقلاتها ، وحين تختص حجة الرسول (ص) بالوحي ، فكيف يكون العقل لمن سواه حجة كحجة الوحي ، اللهم إلّا استنباطا قاطعا للوحي ، فلا حجة ـ إذا ـ إلّا الوحي نفسه وما يستوحى منه سليما غير دخيل.

وان للوحي تجاه العقل سلبا وإيجابا ، سلبا عن انحراف المنهج ، وسوء الرؤية تخلفا عن المبلج ، والتواء الأهواء والشهوات ، وإيجابا للتجوال في الكون كله بصورة صالحة ووسيلة فالحة ليست إلّا وحي الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥١) :

الإنذار بالقرآن كأصل في الدعوة يعم كافة المكلفين (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (١٤ : ٥٢) ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ...) (٦ : ٩٢) (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٦ : ١٩).

ذلك ، ولكن تأثير الإنذار ليس إلّا فيمن يتحرى عن الحق أم لا يتجرأ عليه : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ...) (٣٥ : ١٨) (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٣٦ : ٧٠).

٤٠