الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

الأمر في كلّ ناصع واصب من العلوم والأفكار ، نابعة من منابع خليطة بكلّ غث وسمين وكلّ خائن وأمين!.

وكيف يقولون «درست»؟ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦).

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣) ـ (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٦)(١).

أجل إنه (ص) درس القرآن ولكن أين؟ في مدرسة الوحي القمة ، عند الله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، كما نعلم ذلك العلم السرّ في القرآن.

فكلّ تلميذ يعرف محتده الدراسي من درسه نفسه ، فيعرف من هو الذي علّمه ، ودرس القرآن لا يناسب إلّا ساحة الربوبية في أعلى قمم الوحي الرباني.

وهكذا كان المرسلون يستدلون لرسالتهم الربانية بربانية أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم كما نسمع رسل المسيح من الله قائلين أمام الناكرين : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (٣٦ : ١٦) حيث يوجّهون في ذلك البرهان العطيف اللطيف أنظار الناكرين إلى حالاتهم ومقالاتهم ، برهنة بها على محتد من أرسلهم.

__________________

(١) راجع الفرقان في تفسير هذه الآيات لزيادة الاطلاع على فرية الاكتتاب والدراسة المحمدية والرد عليها.

٢٠١

وترى ما هو المعطوف عليه ل «وليقولوا ...» وما هي المناسبة للمعطوفين المتناحرين؟ هنا معطوف عليه معروف من صوغ الكلام كه «اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وعشيا» و«إنه سحر يؤثر» أو شعر أو كهانة أم به جنة ، ولكي تكمل حجة الله البالغة على الذين يعلمون أو لا يعلمون ، ثم لا ضير إذا أن يقول المجاهيل : «درست» فاللّام في (وَلِيَقُولُوا ...) تعني ـ فيما تعنيه ـ غاية للمجاهيل في واجهة القرآن ، فإن كلّ محاولاتهم في إسقاط حجة القرآن البالغة داحضة فليقولوا درست أم أية قولة أو احتيالة ضده ، (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فقالة «درست» هي قالة الذين لا يعلمون تقصيرا منهم حسيرا وتحسيرا قصيرا لا يبلغون فيه إلى غايتهم المضللة ، وقد تكون اللام للغاية ، غاية للذين كفروا امتحانا لهم فامتهانا ، كما هي غاية للذين آمنوا ، غاية شاردة أو واردة.

ذلك ، وقد تصلح «درست» غاية ربانية إلى غايتهم حيث (نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢) ـ (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢ : ٢٦) (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٩ : ١٢٥) (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٧٤ : ٣١).

وقد تعني «اللام» في «ليقولوا» الأمر ، فهو أمر تعجيز ، أم بيان حال لهم تقتضي هذه القولة ، فلا عطف إذا مع أمر الأمر ، وقد تعني الواو كلا

٢٠٢

العطف والاستئناف جمعا بين الغاية والأمر ، والحاصل هو مثلث المحتملات.

اجل «وكذلك» العميق الهدى العريق المدى (نُصَرِّفُ الْآياتِ) حجة بالغة لا تبقى معه حجة لمن يقول «درست» وتكون حجة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

وهكذا تكون حجة الله البالغة قاطعة للأعذار حيث لا يتبقى معها أية عاذرة إلّا ماردة شاردة غادرة.

ذلك ، وكيف تعقل فرية درس القرآن بما ليس نابعا من بيئتهم ولا بيئة أهل الكتاب ، فلا عهد للبشر على طول زمن الرسالات ـ فضلا عن سواها ـ أن يجدوا ذلك المستوى السامق الشاهق الرفيع في صيغة التعبير وصبغة المعنى المعبر عنه ، فقد ينتهي ذلك التصريف الظريف في مختلف التحرّي عن الحق والتجري عليه ، إلى نتيجتين متقابلتين : «درست» و (لِنُبَيِّنَهُ ...) فأما الذين لا يريدون الهدى ، العائشون الردى ، فهؤلاء هم يحاولون أن يجدوا تعليلا لهذا القرآن ، وغايتها (دَرَسْتَ) المنكرة في كافة الأعراف كتابية وسواها ، إذ ما كان أحد من علماء الكتاب يعرف ذلك المستوى ، حيث المسافة شاسعة بينه وبين سائر الكتب السماوية فضلا عما سواها.

فالعلم ـ فطريا وعقليا وفكريا وتجريبيا ـ فضلا عن علم الكتاب ـ يصدق وحي القرآن : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أية مرحلة من مراحله هذه.

وأما الذين يقولون «درست» فقد درست عنهم معالم الهدى حيث تجاهلوا عن كلّ بنود العلم والمعرفة ، واثّاقلوا وأخلدوا إلى أرض الجهالة والغباوة.

وحين ينقسم المرسل إليهم بهذا القرآن فريقين إثنين ، يصدر أمر الله

٢٠٣

العلي العلوي أن يتبع ما أوحي إليه ، وكفاه حجة بالغة في كلّ الحقول ، صوغا لحياته ـ ككلّ ـ بصياغته ، وصبغا لها بصبغته ، إذ لا حجة له أبلغ من حجته طمأنة لخاطره الشريف بذلك الوحي الظريف الطريف دون فشل ولا فتور من تقولهم «درست» وما أشبه فانه هباء في العراء ونقش في الماء والهواء.

ف (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وما تلكم القيلات الغائلات على القرآن مما تغتاله.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦) :

«اتبع» رسوليا ورساليا (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من كتابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يوحي إليك غيره (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) بعد كامل الإنذار بحجج الله ، إعراضا عن الإشتغال بهم بعد الإياس ، وعن أن تأسف لهم أو عن أذاهم إذ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

و«من ربك» هنا دون «الله» أو (رَبِّ الْعالَمِينَ) تعبيرة قاصدة ، أن الذي رباك بتلك التربية الغالية هو الذي يرعاك في تلك الدعاية الرسالية ، دونما فشل ، فجدّ في مصيرك بمسيرك دونما أية وقفة فربك يرعاك ولن تجد من دونه ملتحدا.

وقد تعني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بعد أمر الإتباع ـ فيما عنت وقبل امر الإعراض ـ أن عليك أن تحور حور ذلك المحور الوحيد من التوحيد ، فلا يزعزعك الطوارئ القواصف ، ولا تحركك العواصف ، فلا يعني الإعراض عنهم ـ فيما عنى ـ الرضا بإشراكهم حين لا تؤثر فيهم دعوتك ، فعلى الداعية أن يعلّق أمله وعمله بالذين يسمعون الدعوة مهما

٢٠٤

قلوا ، دون تعليق على من سواهم مهما كثروا إذا فلّوا.

وتراه (ص) هنا ـ بعد ـ يؤمر بالإعراض عنهم حتى في مواصلة الدعوة؟ كلّا! فإنها ككلّ (عُذْراً أَوْ نُذْراً) فإنما الإعراض خاص بغير حقل الدعوة الرسالية : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٥ : ٩٤).

فذلك إعراض فيما تضر مواصلته : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ..) (٦ : ٦٨) فبعد ذلك واصلهم في دعوتكم حيث تفيد ـ لأقل تقدير ـ عذرا لك ووزرا لهم وقطعا لحجتهم في لجتهم.

وأعرض عن أذاهم فإن الله لهم بالمرصاد : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٢ : ٣٠) اللهمّ إلّا فيما تؤمر بجهادهم دفاعا وسواه.

وأعرض عن أن يؤثر في دعوتك المتواصلة تعنّتهم وعنادهم ، بل وعلى الداعية الربانية المزيد من قوة الدعوة حين يرى متصلبين في تكذيبها ، متألبين في إخفاق صداها واخناق مداها وإخماد نائرتها.

فالداعية المؤمنة يزداد قوة في دعوته حين يعرقل مسيره ومصيره بعراقيل المكذبين ، دون أن يفشل في دعوته أو يخمل في رعايته.

كذلك «واعرض» عن الرجاء فيهم أن يؤمنوا قطعا لآمالك عنهم إذ :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٧):

ف «لو» تحيل تلك المشيئة الإلهية المسيّرة لسلبية الإشراك تكوينا ، مهما شاء ألّا يشركوا تشريعا ، وكذلك المشيئة الموفّقة لهم لترك الإشراك ، فإنها تختص بمن شاء ترك الإشراك وتحرّى عن الحق ، فكما الله لا يشاء

٢٠٥

حملهم على الهدى ، كذلك لا يشاء توفيقهم لها حين يستحبون الردى على الهدى ، أم لا يشاءون الهدى (١).

فاعلم يا رسول الهدى أنهم ليسوا في إشراكهم بالله متغلبين على مشيئة الله ، ف (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) فان قضية الرحمة والحكمة الربانية التخيير بعد الدلالة دون إجبار وتسيير ، فمن استرحم الله رحمه ومن أعرض عن الله حرمه ، ضابطة ثابتة في حقلي الضلال والهدى.

ذلك (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحافظ عليهم شاءوا أم أبوا ، فانما أنا الحفيظ فيما يجب الحفاظ أم هو راجح ، ثم :

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) تكلّ أمر ضلالهم وهداهم ، فلا وكالة ولا حفاظة ولا نيابة للرسول (ص) ـ فضلا عمن سواه ـ على أحد في تكوين أو تشريع ، في تسيير أم توفيق أما ذا من غير رسالة الله حملا ودعوة ودعاية.

إذا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، ولا تأسف على ما يضلون فإن هم إلّا مضلي أنفسهم وما يشعرون.

ذلك! ومن الإعراض عنهم عدم مقابلتهم بمثل ما هم قائلون أو عاملون ، أو سبهم أم سب آلهتهم التي ألهتهم فيسبوا الله عدوا بغير علم :

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨):

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٦ عن مجمع البيان في تفسير اهل البيت عليهم السلام «لو شاء الله ان يجعلهم كلهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنة ولا إلى نار ولكنه أمرهم ونهاهم وامتنحهم وأعطاهم ماله عليهم به الحجة من الآلة والاستطاعة ليستحق الثواب والعقاب».

٢٠٦

السب لغويا هو الشتم الوجيع ، وهو النسبة السيئة غير الواقعة ، أو الواقعة التي تستحق الشر ، وأما السيئة الجاهرة الظاهرة أو التي يجب افشاءها حفاظا على الأهم فقد لا يسمى إظهارها بقال أو فعال سبا مهما حسبها صاحبها سبا.

ثم (الَّذِينَ يَدْعُونَ) قد تعم كلا العابدين (١) والمعبودين (٢) ، ف (الَّذِينَ يَدْعُونَ) هم من دون الله ، هم المعبودون (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) غير الله (مِنْ دُونِ اللهِ) هم العابدون ، وكلاهما يرجعان إلى عبادة ما سوى الله فهي ـ إذا ـ مصب السب المنهي عنه ، سبا للمعبودين أم والعابدين ولكن سب المعبودين هو الذي يحرض العابدين على أن يسبوا الله.

وليس التحريم هذا أصليا حيث إن هذه العبادة ـ والمعبودين ـ تستحق الشتم الوجيع ، بل هو مصلحي لحرمة الاستسباب (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(٣).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٧ في اصول الكافي بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) حديث طويل يقول فيه : وإياكم وسب اعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم.

(٢) المصدر عن تفسير القمي حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) قال سئل عن قول النبي ص) : ان الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء؟ فقال كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال : (وَلا تَسُبُّوا ...).

(٣) نور الثقلين ١ : ٧٥٧ في الكافي عن أبي جعفر عليهما السلام قال : في التوراة مكتوب فيما ناجى الله جل وعز به موسى بن عمران (ع) يا موسى اكتم مكتوم سري في سريرتك وأظهر في علانيتك المداراة عني بعدوي وعدوك من خلقي ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سر فتشرك وعدوك عدوي في سبي.

٢٠٧

وهذه ضابطة ثابتة أن الأمر المباح في نفسه بل والراجح أو الواجب ، وجاه الغير إذا سبّب محظورا أشد منه أصبح محظورا بذلك السبب ، ولا تشمل الواجبات الشخصية كأن تصلي وهي تسبّب الهزء من الدين ، أو تترك الخمر وهو يسبب ما أشبهه من هزء وسواه ، فإن فرائض الله سلبيا وإيجابيا ليست لتترك حيث تسبّب تخلفات الآخرين ، فهل تحرم الدعوة إلى الله ببالغ الحجة إذا سببت التكذيب بها من الكافرين؟!.

فإنما المحظور هو أن توجه إلى المتخلفين عن الله ، أو إلى معبوديهم خطابا وعتابا يسبب سبّ الله أم سواه من حرمات الله ، وبإمكانك أن تسكت أو تغيّر التعبير جدالا بالتي هي أحسن.

ذلك ، وليس سب الذين يدعون من دون الله من قضايا الدعوة إلى الله ، بل وقد يبعّدهم أكثر مما هم ، أو يحرضهم على سب الله عدوا بغير علم ، وهم معترفون بالله في أصله ، مهما أشركوا به ما سواه (١).

ذلك ، وأما حجاجات المرسلين وسواهم ، المذكورة في الكتاب والسنة (٢) التي تزري العابدين من دون الله والمعبودين ، فليست هي من

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٨ عن ابن عباس في قوله : (ولا تسبوا ..) قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سبب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله ان يسبوا أوثانهم (فيسبوا الله عدوا بغير علم).

(٢) ك (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) (٤ : ٤٦) فانه بيان واقع ان بعدهم الله بكفرهم بالله ، وكذلك «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٧٤ : ١٩) و (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (٨٠ : ١٧) و (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٢١ : ٦٧) و (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٦٨ : ١٣) فهذه كلها بيان للواقع دعوة إلى الحق وحظرا عن الباطل وتحذيرا عن وقعه بين اهل الحق ، فانما السب ما ليس في بيان الواقع والحق وتزييف الباطل ، فالدعوة الى الله لها متطلبات واقعية لا يحظر عليها ابدا.

٢٠٨

السب ، فإنها تحمل إيجاب الحق وسلب الباطل بالتي هي أحسن ، فمثل (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ) حيث تعني إبعاد العابد والمعبود عن الحق ، أو (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) إخبارا عن بعدهم عن الله أو (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) إظهارا للواقع المنكور لعامله حتى يجتنب ، كلّ ذلك لا تعدوا بيان الواقع المنكور في مقام الحجاج بلجاج المحتجّ عليه ، أم تسويله واحتياله للبسطاء اختلاسا لهم عن الحق المرام الى باطل المرام ، وليس فيها شتم وجيع فرية وما أشبه من خلاف الحق ، فسبيل الحق لا تتحمل خلاف الحق.

فانما طبيعة الحال في الحجاج التزييف ببرهان ، والمحظور هو السبّ دون برهان ، أو خليط منهما ، وأما البرهان المزيّف ، وهو طبيعة حال الحجاج ، فليس داخلا في النهي فانه تبيين للحق ، وإلّا لكانت الحجاجات الحقة كلها محظورة ، لأنها كلها تثبت الحق من ناحية وتبطل الباطل من أخرى ، فإحقاق الحق وإبطال الباطل بساطع البراهين المثبتة للحق ، المزيفة للباطل ليس شتما فضلا عن الوجيع.

ف «لا تسبوا ..» لا تعني ـ فيما عنت «لا تحتجوا» فإنما تشترط في الحجاج أن تكون بالتي هي أحسن ، قصدا إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره الكافرون ، أو احتسبوه سبا وليس به.

ولو أن كلّ تعريض بالكفار تلزمه الحجاج بالتي هي أحسن كان محظورا ، لحظر على كافة الدعوات الرسالية ، فإن قضيتها الأصلية إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وذلك يغيض الكافر البغيض للحق الحفيظ للباطل.

ثم وليس دور النهي في الآية أصل السب ، بل هو الاستسباب ، فأما السب اعتداء بالمثل ، أو السب بيانا لواقع السوء في الذي تسبه تنبيها له

٢٠٩

وللآخرين حتى لا يتدنس المجتمع ، أو السب الذي هو لزام الحجاج بالتي هي أحسن ، فلا محظور فيه مهما سببت سبّا هو أدنى من واقع الباطل المحتال المختال ، وعلى أية حال فرعاية الأهم في دوران الأمر بينه وبين المهم ضابطة ثابتة لا حول عنها ولا محيد.

فالحاصل أن بيان الواقع الذميم ولا سيما في الحجاج ليس سبا ، إنما السب هو نسبة الباطل كما هو لغويا هو الشتم الوجيع ، فليس كلّ وجيع شتما وليس كلّ شتم وجيعا ، إنما هو الفرية السوء فإنها وجيعة لكلّ أحد.

إذا فبيان الواقع السوء ولا سيما في مقام الحجاج المصلح للسيء أم وللآخرين ، ليس ذلك سبا مهما سبّب سبا ، وهنا دور تقديم الأهم على المهم.

فالغيبة أو الفرية محرمة بصورة طليقة ولا سيما مع الإهانة الزائدة وهي السب ، وأما بيان الواقع دونما إهانة زائدة فليس من السب في شيء ، فإنما السب هو نسبة الباطل غير الواقع بصورة موجعة كأن تقول لعابد الطاغوت ابن الفاعلة أم وللطاغوت الذي ليس وليد زنا ابن الفاعلة.

وترى سب الذين يدعون من دون الله إنما يحظر عليه إذا سبب ـ فقط ـ سب الله؟ وأما ولي الله فلا؟ وسبه لولايته لله هو سب الله!.

نعم ، إنه محظور كما السب الذي يسبب سب الله ، مهما كان الله نفسه تعالى وتقدس هو الأصل في ذلك الحظر (١).

ذلك وذكر مثالب أعداء الله حين يستجر مثالب على الله وأولياءه ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٧ عن عمر الطيالسي عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن قول الله «ولا تسبوا ...» قال فقال (ع) يا عمر هل رأيت أحدا يسب الله؟ قال : فقلت : جعلني الله فداك فكيف؟ قال : من سب ولي الله فقد سب الله.

٢١٠

كذلك محظور محظور ، ف «إذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم سبونا بأسمائنا ...»(١).

__________________

(١) المصدر ٨ : ٧٥ في عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا (ع) من الأخبار المتفرقة حديث طويل وفي آخره قال (ع): ان مخالفينا وضعوا اخبارا في فضائلنا وجعلوها على اقسام ثلاثة أحدها الغلو وثانيها التقصير في أمرنا وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا فإذا سمع الناس الغلو كفروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم سبونا بأسمائنا وقد قال الله تعالى : «وَلا تَسُبُّوا ...».

أقول : ولا يدخل في حقل السب هذا الذم العادل المنبّه القادح لمن هو قادح كما نجد في آيات عدة وروايات ، ومما ذم الامام امير المؤمنين (ع) بعض المستحقين للذم :

يقول في الأشعث بن قيس وقد اعترض عليه أثناء خطابه عن التحكيم ـ وكان من أصحابه ثم خرج عليه ـ : ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين ، حائل ابن حائل منافق ابن كافر ، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك منهما مالك ولا حسبك وإن امرء دل على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف ، لحريّ أن يمقته الأقرب ، لا يأمنه الأبعد» (الخطبة ١٩ / ٦٣).

وقال في مصقلة بن هبيرة الشيباني الخارج عليه بعد التحكيم الهارب إلى معاوية قبّح الله مصقلة ، فعل فعل السادة وفرّ فرار العبيد ، فما انطق مادحه حتى أسكته ، ولا صدّق واصفه حتى بكّته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره وانتظرنا بماله وفوره» (٤٤ / ١٠٢) وقال في مروان الحكم حيث أخذ أسيرا يوم الجمل فاستشفع الحسنين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين (ع) فكلماه فيه فخلى سبيله فقالا له : يبايعك يا أمير المؤمنين فقال (ع) : أو لم يبايعني بعد مقتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ، إنها كف يهودية لو بايعني بكفه لغدر بسبته ـ استه ـ أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما احمر» (٧١ / ١٢٨).

وقال (ع) لعثمان ينصحه : «فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث يشاء بعد جلال ـ

٢١١

وترى إن هم سبوا الله أم أهل الله دون سب منا إلا الدعوة إلى الله

__________________

ـ السن وتقضي العمر» (١٦٢ / ٢٩٢).

ويخبر عن حجاج الثقفي : أما والله ليسلّطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال ، يأكلّ خضرتكم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة : ـ الخنف ، التي لدغته حتى ماتت ـ.

وفي المغيرة بن الأخنس حين وقعت مشاجرة بينه (ع) وبين عثمان فقال الأخنس : ان أكفيكه فقال (ع) : يا ابن اللعين الأبتر ، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ، أنت تكفيني؟ فو الله ما أعز الله من أنت ناصره ، ولا قام من أنت منهضه ، أخرج عني أبعد الله نواك ، ثم أبلغ جهدك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت» (١٣٣ / ٢٤٧).

وقال (ع) للبرج بن سهر الطائي : اسكت قبحك الله يا أثرم ـ ساقط الثنية من الأسنان ـ فو الله لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلا شخصك ، خفيا صوتك ، حتى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز» (١٨٢ / ٣٣٣).

ومن كتاب له (ع) إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه : وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستنزل لبك ، ويستقل غربك : ـ يثلم حدثك ونشاطك ـ فاحذره فإنما هو الشيطان ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ، ويستلب غرّته : ـ ساذج عقله ـ وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر ابن الخطاب فلتة من حديث النفس ، ونزعة من نزعات الشيطان ، لا يثبت بها نسب ، ولا يستحق بها إرث ، والمتعلق بها كالواغل المدفع : ـ المحاجز ـ والنوط المذبذب» (٢٨٣ / ٥٠١).

ومن كتاب له (ع) إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله : «أما بعد فان صلاح أبيك ما غرني منك ، وظننت أنك تتبع هديه ، ونسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك ، لا تدع لهواك انقيادا ، ولا تبقي لآخرتك عتادا ، تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ، ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفد به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على خيانة ، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إنشاء الله» (٣١٠ / ٥٥٩).

٢١٢

فهلّا يجوز لنا سبّهم أو سب آلهتهم اعتداء بالمثل؟.

طبعا نعم حيث لا تشمله آية الحظر ، اللهم إذا ازدادوا به سبا لله ، ورعاية الأهم مفروضة على أي حال ، ولا أهمّ حظرا من سب الله ، فالاستسباب محرم على أية حال وكذلك التسابّ إذا سبب مزيد السب لله ولأهل الله.

ذلك وإذا سبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تركا لمعروف أو فعلا لمنكر ولا سيما سب الله فذلك الأمر والنهي منكران.

وترى كيف يسب المشرك الله وهو معترف بالله قائلا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)؟.

(مِنْ دُونِ اللهِ) لا يختص بالمشركين ، بل والذين يدعون المادة ناكرين وجود الله ، ثم والمشركون قد يسبون الله (عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) حين تسب آلهتهم «عدوا» : تجاوزا ، وتعاميا عما يعتقدون من ألوهية الله «بغير علم» جهلا أو تجاهلا مقصرا بجنب الله.

بل وقد يسب المسلم ربه حين يتغيّظ فلا يملك لسانه ف «يسب الله عدوا بغير علم» والعدو هو التجاوز عن الحد ، ولا تجاوز أحدّ وأعدى من سب الله!.

و (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) عدلا منا حكيما ، فتزيين الصالحات للصالحين جزاء بما أصلحوا ، وتزيين الطالحات للطالحين بما أفسدوا (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

والتزيين قد يكون واقعيا يستوي فيه المؤمن والكافر (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) (١٨ : ٧) (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (٢٤ : ٣١).

وأخرى ابتلائيا جزاء بالسيئات وهو أن يظهر عمل أو مال أو حال بمظهر

٢١٣

المرغوب من الشهوات الحاضرة ، مهما كانت قذرة حاذره.

وثالثة أن تزين هذه أكثر مما هي ، أماهيه من تزيينات غير واقعية تضلل.

فاللذات المنحرفة في أي حقل من حقولها ، انحرافا عن سليم الفطرة أو العقلية الإنسانية أو الحس أو العلم أو عن قضية الشرعة ، هي المزيّنة أصولها ، المنجرفة في شفا حفرها.

ثم اللذات الصادقة غير المنحرفة هي السليمة التي تصبح ذرائع لوصول الحق المرام : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (٤٩ : ٧).

إن تزيين السيآت قد ينسب إلى الشيطان وأخرى إلى الرحمن ، فحين ينسب إلى الشيطان فلأنه من هامة سعيه تضليلا لمن يستجيبه ، وحين ينسب الله إلى نفسه فلأنه لا يصد الشيطان عن ذلك التزيين ، بل : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٤٣ : ٣٩) (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٤١ : ٢٥).

لا فحسب ، بل (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) و (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٢ : ٧) ختما وغشاوة بما عموا وصموا وهم يعلمون.

أجل «كذلك» العدل الحكيم (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من أمة الخير وأمة الشر ، كلّا كما هواه وحواه وسعاه ، تزيين الخير للخيّرين وتزيين الشر

٢١٤

للشّريرين ، وذلك بعد الحجج البالغة في هدى النجدين لكلّ الإدراكات الصالحة ، فحين يبطل الإدراك الصالح بما عطّلوه عن صالح الإدراك فهنا يأتي دور إبطاله من الله ختما على القلوب والسمع والأبصار.

ذلك (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، إنباء معمقا مكرورا يستفاد من «ينبئهم» لمكان التفعيل ، أن تظهر لهم أعمالهم بمظاهرها المزينة وبحقائقها القبيحة ، ثم تمثلا لها بالعذاب.

وهنا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إشعار آخر أنهم كانوا مخيّرين فيما عملوا لا مسيّرين ، وأن التزيين كان من خلفيات أعمالهم القبيحة وهم كانوا يعلمون قبحها.

فليس تزيين الله لأعمال قباح أمرا بدائيا ، إنما هو جزاء وفاق على الذين يعملون السيآت وهم يعلمون ، ثم إذا أصروا فيها مكبين عليها (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) كأنها حسنة بما ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، فأولئك هم من «الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا

٢١٥

عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ

٢١٦

إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٢)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠٩) :

أقسام من هذه الأقسام نسمعها من المشركين وأضرابهم من الذين كفروا ، يستظهرون بها إضرابهم عن حق التوحيد والوحي والمعاد وهم

٢١٧

كاذبون ، فقد : (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) (٣٥ : ٤٢) في أصل البعث الرسولي : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (١٦ : ٣٨) تحررا وتحللا عن عبء الرسالات ، وهنا (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ..) ويكأنهم لم تأتهم آية ، والقرآن بنفسه أبرز الآيات وأحرزها فيما هو آت من سائر الآيات (١).

وجهد أيمانهم هو بالغها القمة المستطاعة منها بكلّ تأكيد وتسديد ، فقد حلفوا بالله وهم مشركون ، حلفا بما يصدقه الطرفان وذلك من جهد الإيمان حيث اليمين بالأوثان ليس من جهد الأيمان إذ لا يقبله المحلوف له الناكر إياه.

ولما ذا هنا وفيما أشبه «أقسموا» دون حلفوا وأيمنوا؟ لأن الحلف المؤكد ويمينه يقسم بين الحق والباطل في المدعى ، فكما أن سائر الحجج تقسم بينهما ، كذلك اليمين وهي حجة من لا حجة له سواها ، احتجاجا بالمقبول عند الطرفين ، فهو يقسم بين الحق والباطل ، كما يقسم بين المحق والمبطل حالفا وسواه.

فحين ينكر منكر أمّ الآيات الربانية وقمتها فهو بأحرى ينكر سائر

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٩ ـ اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال كلم رسول الله (ص) قريشا فقالوا يا محمد تخبرنا ان موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر وان عيسى كان يحيى الموتى وان ثمود كان لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله (ص) أي شيء تحبون ان آتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا قال فان فعلت تصدقوني قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله (ص) يدعو فجاء جبرائيل (ع) فقال له ان شئت أصبح ذهبا فان لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وان شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال : بل يتوب تائبهم فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا) ـ الى قوله ـ (يَجْهَلُونَ).

٢١٨

الآيات ، وهنا الجواب : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) وليست عندي حتى أستجيبكم فيما تقترحون ، فإنما هو الذي ينزلها كما يشاء لما يشاء من هدي العالمين حقا لا عوج فيه ولا حول عنه ، فإنه هو العارف بما يصلح العباد ويصلح أن يرشدهم إلى سبيل الرشاد : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٩ : ٥٠).

وهنا (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) إجابة تنازلية إلى جانب كونها واقعية ، ان لو تنازلنا ان القرآن ليس آية رسولية ، فالآيات كلها عند الله وليست عندي حتى تتطلبونها مني.

وهنا نتعرف إلى جانب من الكيان الرسالي سلبيا ان ليست الآيات عند الرسول مهما كان تخويلا أو تحويلا ، وإيجابيا (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

و«عند الله» هنا تعني عندية العلم والقدرة والتقدير لهذه الآيات الربانية ، فذلك المثلث مخصوص بالله وحده ، لا يعدوه إلى سواه ، فليس ـ إذا ـ عند من سواه ، لا أصيلا ولا بديلا أو وكيلا أم سواه ، حيث البديل الوكيل عنده ما عند الأصيل الموكّل مهما اختلف «عند» عن «عند» محتدا ، ولا تعني «عند الله» أن الآيات مقترحة وسواها كائنة عنده ماكنة بالفعل لديه ، وإنما تعني أن له ـ فقط ـ القدرة على تكوينها والعلم المحيط بها من قبل ومن بعد.

فعندية الزمان والمكان والواقع لهذه الآيات مرفوضة عن ساحة الربوبية ، وعندية العلم والقدرة والتقدير مفروضة قضية كامل الربوبية ، فهي كما (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وما أشبه من عنديات ربانية سامية.

وجواب ثان عن هرطقة اقتراح آيات يخاطب به المؤمنون الراغبون إلى مزيد آيات عسى أن يؤمن هؤلاء المقترحون : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ

٢١٩

لا يُؤْمِنُونَ) كما لم يؤمنوا بما جاءت أفضل الآيات الكافية عن سائرها وهو القرآن العظيم ، فالقصد من إنزال الآيات هو إمكانية التأثير ، إضافة إلى كونها صالحة كأصلح ما يكون ولكنّهم لا يؤمنون ، وليس كلامهم هذا إلّا عذرا غير عاذر.

ذلك ، وحتى لو أرادوا أن يؤمنوا بمقترحات الآيات ، فهو إيمان قاحل جاهل إذ رفضوا قبلها أفضل الآيات :

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠) :

فكما لم يؤمنوا بما جاءتهم من آية قاطعة أوّل مرة تقلبا لأفئدتهم وأبصارهم من عند أنفسهم ، فهناك جزاء وفاق حيث (نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تشبيها للعقوبة بالجريمة جزاء وفاقا.

ثم لا نهديهم أبدا بعد ما رفضوا أهدى الهدى ، بل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

أجل ، إن الأفئدة المتفئدة بنور المعرفة فطريا وعقليا وعلميا وعلى ضوء الوحي ، قد تقلّب افئدة متفئدة بنار الجهالة والحماقة ، حيث تغلق عليها أبوابها ومنافذها ، وكذلك الأبصار ، حيث «ننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها ، ونعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى» (١)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٨ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام .. وفيه قال علي بن أبي طالب (ع) ان أوّل ما يقلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه ثم لا يقبل خيرا ابدا كما لم يؤمنوا به اوّل مرة يعني في الذر والميثاق ونذرهم في طغيانهم يعمهون أي يضلون.

٢٢٠