الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) ، فان ضرر المكر راجع ـ أولا ـ إلى أنفسهم دون رادع ، ثم الله رادع مكرهم عن المؤمنين الصالحين ، مهما لم يردع عمن «زاغوا فأزاغ الله قلوبهم» فإنهم من ذاك النمط.

ذلك و (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) تحلّق على كافة الكبراء والمستكبرين بدولة الحال أو دولة المال ، والحاصلين على أية وسيلة من وسائل الاستكبار الاستعمار الاستثمار الاستحمار ، والاستبداد الاستخفاف الاستضعاف ، الأبواب السبع الجهنمية المفتحة من قبل الأكابر على سائر الناس.

وهنا «أكابر» مفعول ثان ل «جعلنا» والأول هو «مجرميها» ان «جعلنا مجرميها أكابر» حيث الاسم الأوّل هو في الأصل مبتدء فليكن معرفا.

ولأن الإجرام ليس إلّا على قدر الكبر ، فذلك الجعل يعني انه تعالى لم يمنع الأكابر عن اجرامهم الكبير (لِيَمْكُرُوا فِيها) كما يستطيعون حتى يخلص الغث من السمين والخائن من الأمين (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

وقد تعني اللام في «ليمكروا» العاقبة العاقبة لذلك الجعل اتوماتيكيا ، دون ان يريده الله توفيقا لهم في مكرهم ، كما لم يرد اجرامهم اللهم إلّا عدم الصد عما يفعلون ، فهي ك (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨) في قصة أخذ موسى من اليم ، إذ لم يقصدوا منه إلّا خيرا : (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٨ : ٩) أم هي غاية لهم مقصودة ، ف (جَعَلْنا ... لِيَمْكُرُوا) تعني ـ إذا ـ ما صددناهم عن مكرهم (لِيَمْكُرُوا فِيها) مخيرين غير مسيرين.

ذلك واكبر الاجرام ما إذا جمع ثالوث الذرايع اليه والدوافع له من دولة المال ودولة الحال والعلم بمختلف الأحوال ولا سيما ظاهرة علم الدين ،

٢٦١

فيا ويلاه من ذلك الاجرام المثلث حيث لا قبل له.

«ألا فالحذر الحذر من طاعة سادتكم وكبرائكم ، الذين تكبروا عن حسبهم ، وترفعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربهم ، وجاحدوا الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ، فإنهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم اركان الفتنة ، وسيوف اعتزاز الجاهلية» (١٩٠ / ٣٦١).

وهؤلاء الأكابر المجرمون ، وحماقى الطغيان المتفرعنون ، يحيلون إيمانهم بآية إلّا كما يشتهون :

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)(١٢٤) :

هذا من أمكر المكر حيث يخيّل إلى البسطاء أن صاحب آية غير ما أوتي رسل الله ليس من رسل الله ، وكأنهم من مصدقي رسل الله إذا صدقت رسالاتهم بآياتهم المتواصلة المتشابهة ، وأما إذا تخلفت آية عنها فليسوا هم بمصدقيها كآية القرآن العظيم ، ويكأنهم أعلم من الله بكيان الآية الرسولية التي تثبت الرسالة ، و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فحيثية الرسالة الختمية تتطلب آية خالدة تمشي مع الزمن وتهدي كلّ أهل الزمن ، فلو أن الله بعث خاتم الرسل بآيات الرسالات الأخرى ، المؤقتة لردح من الزمن الرسولي ، لكانت آية ناقصة ناقضة لخلود الرسالة.

صحيح أن الآيات الرسالية السابقة كانت عابرة غير باقية عبر كلّ رسالة إلّا أن الرسل اللّاحقين كانوا بآياتهم مصدقين لكلّ سابقة ، رسالات متواتية بآيات متشابكة يصدق بعضها بعضا ، ولكن الرسالة الأخيرة لا مصدق لها بعد ارتحال رسولها إلّا آيتها الخالدة : القرآن العظيم.

وهؤلاء الأكابر المجرمون المختلقون لهذه الشبهة الماكرة أصابوا بها

٢٦٢

القرآن صغارا كأنه آية صغيرة غير كافية أم ليست آية ، ف (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).

أجل ، ولو كانوا هم أولاء ـ كما يدعون ـ عالمين حيث تجعل رسالة الله ف (اللهُ أَعْلَمُ) منهم (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) لأنه هو الله العالم الغيب والشهادة ، وهو المرسل ـ كما يعلمون ـ سائر الرسل بسائر الآيات المعجزات.

وليست آية القرآن شاذة عن سائر الآيات إلّا في صورتها ، وأما سيرتها فهي أقوى وأبقى دلالة خالدة على خلود هذه الرسالة السامية ، فكيف تصبح الآية الأقوى والأبقى فعلية وفاعلية أبعد عن التصديق بعدم التشابه في صورتها مع الآيات الأخرى ، ويكأنها هي الأصيلة التي تقاس عليها غيرها.

ذلك ، ولو أن عدم التشابه الصوري بين آيات الرسالات يقضي على حجّية اللاحقة غير المشابهة للسابقة ، فلتكن الآية الأولى هي المصدّقة فقط ، ثم اللّاحقة لها كلها مطرودة لعدم التشابه الكامل ، ولا تشابه بين فلق البحر لموسى وإحياء الموتى لعيسى عليهما السلام!.

ولئن قالوا إن الأصيلة هي الأولى بازغة الرسالات ، يقال لهم بأية حجة هي الأصيلة والتالية ليست بها ، رغم أن الرسالات بآياتها متدرجة إلى أعلى فأعلى حتى تنتهي إلى علياها الوحيدة الخالدة كما القرآن العظيم.

وهنا (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) لا تختص بآية الرسالة ، بل هو الحيث الرسالي رسولا ورسالة بآياتها المثبتة لها وأصلها وزمانها ومكانها حيث الحيث هنا يحلّق على كلّ حقول الرسالة وأبعادها ، فقد نظر الله في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد وأصفاها واضفاها فاصطفاه لنفسه فأضفاه لرسالته الأخيرة التي تحمل الرسالات كلها ، وجعل لها آيتها

٢٦٣

الخالدة رسولية ورسالية : القرآن العظيم.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥٢).

فقد عنوا من قالتهم : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) المشابهة الطليقة بين الرسل بما أوتوا من آيات رسولية ، وآيات رسالية هي شرعتهم وكتاباتهم ، ووحدوية في الرسالات بكلّ أبعادها دون أي اختلاف صوري في الأحكام ولا الآيات ، مما ينقّص وينقض كلّ الرسالات بعد الأولى ، فإنها تختلف رسوليا ورساليا في بعض المظاهر الأحكامية وآياتهم ، وما أسخفه قولا هو بظاهره صالح حيث يتظاهر بوحدة الرسالات ، وفي باطنه مكر يجتث كلّ الرسالات عن جذورها : «أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا» (٤٣ : ٣٢).

ويا للهول من مكرهم الماكر الحاكر في خضمّه كلّ صنوف المكر ، أنهم وهم أكابر المجرمين الناكرين للرسالات كلها يرفعون علم الوحدوية الرسالية ، محتاطين في الأخيرة لأنها لا تشبه سائر الرسالات؟ زعم أن المتقدمة هي الأصيلة لقدمتها!.

وما قيلتهم الغيلة ، تلك الغائلة العليلة ، إلّا كقيلة اليهود : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ..) (٢٨ : ٤٨).

وقد تلمح (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أن تطلّبوا ـ فيما هم مقترحون ـ أن يؤتوا رسالة كما أوتي رسل الله ، و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ

٢٦٤

رِسالَتَهُ) جواب قاطع لا مرد له أن محطة الرسالة الربانية لا بد وأن تكون ربانية تناسب رسالة الله من القلوب الطاهرة الباهرة دون القلوب المقلوبة الباترة الهاترة (١) : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٧٤ : ٥٢) فقد أرادوا أن تجمع لهم القيادة الروحية الى القيادات الزمنية حتى يصبحوا أكابر في القيادتين ، فلا تعارضهم القيادات الروحية في كبريائهم وعلوائهم الظالم المظلم جو الإنسانية جمعاء.

والحق أن (اللهُ أَعْلَمُ ..) إجابة عن كلّ الشطحات الثلاث المحتملة لاقتراحهم «حتى نؤتى ما أوتي رسل الله» حيث الحيث تعم حيث الرسالة وآيتها الرسولية والرسالية ، مثلث من الحيثيات في حقل الرسالة كانت مقترحة على مدار الزمن الرسالي بصيغ مختلفة تجمعها بجواباتها هذه الجملة الجميلة الشاملة.

والقول إن تعميم الوحي لكافة المكلفين كان أصلح للإصلاح؟ غول وتأثيم من القول! ، حيث الرسالة والوحي أمانة ربانية لا تحل إلّا محلها المناسب لها ، والمناسبة للرسالة قابلية وفاعلية هي بين عصمة بشرية تحقيقا لكلّ المساعي تحليقا عليها للحصول على أصفى الصفاء ، ومن ثم عصمة ربانية كما يراه الله ويرضاه.

وكيف تليق هذه القلوب المقلوبة العفنة النتنة ، المستكبرة الرادة على الله رسالاته ، كيف تليق أن تكون حملة رسالات الله جمعا بين النور والظلام ، نقضا لحكمة الملك العلام؟ كلا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ..).

فأقل ما يشرط في مهابط الوحي والتنزيل التخلية عن كلّ مكر وغدر

__________________

(١) قال المفسرون قال الوليد بن المغيرة «والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد (ص) فاني اكثر منه مالا وولدا فنزلت هذه الآية».

٢٦٥

ثم التحلية بحلية الإيمان ، ومن ثم الإيمان القمة المصفاة عن أية كدرة ، وهؤلاء الكبراء المجرمون ماكرون وغادرون في قولتهم : «لن نؤمن» فكيف يحمّلون رسالة الوحي؟.

فهؤلاء الأكابر المجرمون سيصيبهم صغار عند الله ، كما خيّل إليهم أنهم كبار عند الله ، يجب عليه أن يكون عند متطلباتهم الجاهلة الغائلة ، صغار باستكبارهم وانهم جعلوا رسالة الله وحكمه صغارا يستصغرونه لحد يتطلبونه لأنفسهم الحضيضة البغيضة.

ويا ليتهم لمسوا جانبا من طبيعة الرسالة الربانية والوحي حتى لا يلفظوا بهذه الشطحات ، فالقلب المتجرد عن كافة الحظوظ الذاتية والعرضية ، المتحلي بحب الله ومرضاته ، والمتجلي لمعرفة الله وعبوديته ، المتفئد بنور الله ، هو اللائق لتحمل رسالة الله ، دون القلوب المقلوبة عن انسانيتها ، المتفئدة بنيران الشهوات والحيونات.

ثم الله هو وحده الذي يصطفي من أصفياءه من يصلح لحمل الرسالة ، بصالح القابلية والفاعلية الرسالية ، بالعصمة البشرية والإلهية ، دون الناس الصالحين أيا كانوا فضلا عن هؤلاء الطالحين الكالحين! ذلك :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢٥) :

والصدر هنا هو صدر الروح الكامن في صدر الجسم ، وهكذا العقل في المخ ، والقلب في القلب ، الذي هو نفسه في الصدر ، وكما يشرح صدر الجسم بسطا للحمه ونشرا ، كذلك صدر الروح الذي هو مصدر الإيمان والكفر وسيطا بين العقل والقلب ، فالفطرة والعقل والصدر والقلب

٢٦٦

هي مراكز المعرفة كلّ تلو الأخرى مترتبة في تنقل المعرفة الحقة والباطلة ، وإنما يذكر القلب أكثر بكثير من زملائه لأنه قلب الروح ، والمركز الرئيسي النهائي لكلّ محاصيل الروح بجنوده ، فهو امام الأئمة في كيان الإنسان ، ف «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» وهنا (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ ..) تفريع بياني ل (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).

وكما ينشرح الصدر ويلين لذكر الله وبذكر الله ، كذلك ـ وبأحرى ـ القلب : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ..) (٣٩ : ٢٣).

وليس الشرح إلّا للمعقد الغامض إيمانا وكفرا حيث هما قدر القدرة الخلقية معقّدان ، فالله يشرح الإيمان فينشرح كما يريده ، ويشرح الكفر فينشرح جزاء وفاقا.

ثم إن هداية الله وإضلاله ليسا فوضى جزاف ، فإنما يحل كلّ محلّه جزاء وفاقا ، وفي الهدى زيادة قضية فضل الله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) «بإيمانه» (١) وهو المريد لهدى الله ، المتحرّي عنها ، المحاول في إسلامه

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦٥ في عيون الأخبار بسند متصل عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال : سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) عن قول الله عزّ وجلّ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ ..) قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا الى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون الى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن اليه ومن يرد ان يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه في الدين يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

٢٦٧

لله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) إخراجا له عن مضايقه ومزالقه قدر ما أعدّ له حيث عدّل صدره (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وذلك الشرح مما لا يقدر عليه أي محاول له إلّا بما أعدّ له ثم الله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بدرجاته حسب الدرجات.

فأين شرح صدور الأنبياء كموسى (ع) وخاتم النبيين محمد (ص) حيث تطلبه موسى (ع) : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ...) (٢٠ : ٢٥) فاستجيب (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) يا موسى» وأعطاه محمدا (ص) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ..)؟ (٩٤ : ١) وقد يروى عن النبي (ص) أنه «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح له»(١).

وأين شرح سائر الصدور غير الحاصلة على ما حصلوا غير الواصلة إلى ما وصلوا؟ ، من شرح الصدور الحاصلة الواصلة؟!.

وحين (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)(فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) لا يضل عن هداه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٩ : ٢٢)(٢) ، ومن شرح

__________________

(١) لتوضيح أكثر حول العقل واللب والصدر والقلب والفؤاد راجع ج ٢٣ : ٣٢١ من الفرقان.

(٢) في الدر المنثور ٣ : ٤٤ ـ سئل النبي (ص) أي المؤمنين أكيس؟ قال : أكثرهم ذكرا للموت وأحسنهم لما بعده استعدادا ، وسئل (ص) عن هذه الآية (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)؟ قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله (ص)؟ قال : نور .. قالوا : فهل لذلك من إمارة يعرب بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».

أقول رواه عنه (ص) جماعة منهم جعفر المدائني عن رجل من بني هاشم عنه (ص) وعبد بن حميد عن الفضيل عنه (ص) وابن مسعود عنه (ص) وعبد الله بن السور وكان من ولد جعفر بن أبي طالب عنه (ص) ..

٢٦٨

الصدر «أن الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم ...» (١).

ذلك (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) عن الإسلام والنور (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) : ضيقا لا ينفتح لمحاصيل العقل السليم وسواها من هدى آفاقية أو أنفسية ، و«حرجا» «كالشيء المصمت الذي لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء (٢) فهو أضيق الضيق الذي لا مدخل فيه ولا مخرج عنه ، وأصل الحرج الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه ، والشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها رعية ولا وحشية ، وكذلك قلب الكافر.

فهي نهاية الضيق حيث لا مجال له ولا منفذ لنور المعرفة والإسلام حيث احتله كله الظلام.

و«حرجا» مصدرا دون «حرجا» صفة مشبهة ، تعني المبالغة في إحراجه لحد كأنه نفس الحرج ، صدر لا يستطيع أن يتنفس نفس الرحمن وإنما يتنحّس بنفس الشيطان (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) صاحبه «في السماء» والتصعّد هو صعوبة الصعود «في السماء» التي لا مجال للصعود فيها حيث لا مادة للتنفس فيها يستفيد منها صاحب الصدر المتنفس ، أم ولا وسيلة صالحة لذلك الصعود.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦٥ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : ان الله عزّ وجل ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٦٦ في تفسير العياشي قال ابو عبد الله (ع) لموسى بن أشيم : أتدري ما الحرج؟ قال : قلت : لا ، فقال بيده وضم أصابعه : كالشيء المصمت .. وفيه عنه (ع) في قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ...) قال : قد يكون ضيقا وله منفذ يسمع منه ويبصر والحرج هو اللثام الذي لا منفذ له يسمع به ولا يبصر منه.

٢٦٩

ذلك وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية من ضيق النفس وكربة الصدر والرهق المضني من التصعد في السماء.

وهنا «في السماء» دون «إلى السماء» لمحة إلى أن الصعود إلى السماء منه ميسور كما نتصعد إليه نحن بالطائرات والصواريخ ، ففي السماء ـ خارجا عن فضاء التنفس والممكن الصعود إليه منها بحالة غير محرجة ـ فضاء لا يمكّن الصاعد إليه للتنفس أو التلبث والتريّث إلّا بصورة محرجة مخرجة للإنسان عن طوقه ، وهذا من الملاحم القرآنية : إمكانية الصعود في السّماء ، وصعوبته من حيث مضائق النفس وسواها.

وهكذا يكون مثل من (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) ليس له مجال للتصعد إلى سماء المعرفة بوحي وسواه ، حيث الفطرة منه مستورة والعقلية معقولة بطوع الهوى ، والصدر ضيق حرج والقلب مقلوب ، والفؤاد متفئد بنيران الشهوات والحيونات ، حيث الله «نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله» (١) : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٤٣ : ٣٧).

وذلك رجس على تلك الصدور غير المؤمنة ، ف (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) رجس لا محيد عنه على أية حال و (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فالرجس يمثل لنا رينا وقذارة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) فكما أن القلوب ترين كذلك الصدور كلّ حسبها وبحساب تضيّقها.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦٥ عن أبي عبد الله (ع) ـ مضى صدره في شرح صدر المؤمن ـ وإذا أراد بعبد سوء نكت ... ثم تلا هذه الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ..)

٢٧٠

ولأن القلوب هي في الصدور : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فضيق الصدر الحرج يضيق القلب ، كما و«أن القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه اطمأن» (١).

وهكذا الله يطمئن القلوب المؤمنة أن يشرح الصدور وهي برّانيات القلوب ، تحصل فيها حصالة ما في الصدور «فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق وعقد قلبه عليه فعمل به ..» (٢) ويضيق الصدور فتضيق القلوب التي في الصدور ، ومن ميزّات المنشرح صدره للإسلام معرفة لطائف القرآن التي لا يعرفها وينتبه لها إلّا من شرح الله صدره للإسلام حيث

«صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه» (٣).

ذلك ، وهنا قيلات ـ هي ويلات على السذج المجاهيل ـ حول هذه

__________________

(١) المصدر في اصول الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : ان القلب ..

(٢) المصدر ٧٦٦ في روضة الكافي باسناده الى أبي عبد الله (ع) حديث طويل يقول فيه : واعلموا ان الله إذا أراد بعبد خيرا شرح الله صدره للإسلام فإذا أعطاه ذلك نطق ... فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه وكان عند الله ان مات على ذلك الحال من المسلمين حقا وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه وكان صدره ضيقا حرجا فان جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه فإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه ولم يعطه العمل به حجة عليه فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام وان يجعل ألسنتكم تنطق بالحق حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك.

(٣) المصدر ح ٧٦٧ في كتاب الاحتجاج عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه : ثم ان الله جلّ ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدث المبدلون من تغيير كلامه قسم كلامه ثلاثة اقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل وقسما لا يعرفه إلّا من صفا .. ممن شرح صدره للإسلام» أقول : «تغيير كلامه» يعني تغيير المعنى دون اللفظ لمكان صيانة القرآن عن التحريف بقاطع الأدلة.

٢٧١

الآية وأشباهها ، ك : ان الهداية والضلالة إنما هما من الله وليس للمهتدي والضال أية حيلة في هداية أو ضلال؟ والقرآن يجيب في عشرات من الآيات عن أمثال هذه الشطحات أن هذه الهداية والضلالة اللتين ينسبهما الله إلى نفسه ، إنهما ليستا بدائيتين دون سابقة ، بل هما جزاء ، ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤٧ : ١٧) (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) فإنما يريد الله أن يشرح صدور الذين هم في طريق الهدى فيؤيدهم ويوفقهم لها من فضله ، ويريد تضييق صدور الذين هم في طريق الردى مصرّين عليها فيسد عليهم أبواب الهدى فتحا لأبواب الردى جزاء وفاقا من عدله.

ففي البداية يزيّن الله الإيمان في قلوب المكلفين ، فإذا زاغت بما تخلفت أزاغها الله ، وإن صاغت وتابعت شروطا للإيمان هداها الله ، ف (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٢٧ : ٤) (.... وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٤٩ : ٧) وعلى الجملة : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦ : ١٠٨).

أجل (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وأما الذين يؤمنون فقد يشرح صدورهم للإسلام ، فليس من الله إلّا العدل بالنسبة للذين لا يؤمنون والفضل للذين يؤمنون : ف (مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

إذا (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) هو المهتدي أولا أو القابل لها في صميمه والساعي لها ، والهدى الثانية هي الإسلام لله حقا بعد ظاهر الإسلام والايمان ، ثم (مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) هو من الذين لا يؤمنون ، كما قال الله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

٢٧٢

فليس ذلك الموقف من المؤمن الهداية الأولى المتحري عنها ، ولا من الكافر الضلالة الأولى العامل لها ، إنما هما هدى بعد هدى وضلالة بعد ضلالة جزاء من ربك عطاء حسابا أو عقابا وفاقا.

ذلك ، ولأن المهتدي لا يسطع على طليق الهدى إلّا قدر ما يسطع فالله هو الذي يطلق هداه بما يشرح صدره للإسلام ، وكذلك الضال لا يسطع أن يجعل ضلاله طليقا فالله هو الذي يطلق ضلاله حتى لا يسطع ـ بعد ـ على هدى

ذلك ، والمنشرحة صدورهم ، النيرة قلوبهم : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى» (١٤٧ ح / ٥٩).

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) :

إن (صِراطُ رَبِّكَ) صراطان ، صراط ربوبيته الخاصة به : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١١ : ٥٦) (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (١٥ : ٤١).

وصراط جعله للسالكين إلى مرضاته : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وأين صراط من صراط؟.

والمعني هنا من (صِراطُ رَبِّكَ) هو الأول ، صراط الابتلاء لعباده شرحا لصدور وتضييقا لأخرى ، «مستقيما» لا عوج له إذ ليس ظلما بالعباد بل هو فضل لطائفة وعدل لآخرين.

وقد يعني (هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) اضافة إلى هذا ، الصراط الثاني فإنهما لا يختلفان في كونهما (صِراطُ رَبِّكَ) مهما اختص سلوك

٢٧٣

الأوّل به تعالى في ربوبيته والثاني بخلقه في مربوبيتهم.

و«ربك» دون (رَبِّ الْعالَمِينَ) وما أشبه ، لمحة إلى الصراط الثاني حيث الأوّل لا يختلف بالنسبة له تعالى في جميع المكلفين ، والثاني تختلف في درجاته ، أو يقال إن صراطه تعالى في ربوبيته تشريعا لهذه الشرعة الأخيرة يختلف عما لسائر الشرائع ، كما يختلف صراط السالكين في هذه الشرعة عما قبلهم.

و (صِراطُ رَبِّكَ) هنا بتلك الإضافة المطمئنة توحي بالثقة والطمأنينة المبشرة بالنهاية المرغوبة ، فهذه هي سنة الله في الهدى والضلالة ، وتلك هي شرعة الله في الحل والحرمة ، كلاهما من (صِراطُ رَبِّكَ) سواء في ميزان الله ، لحمة في سياق كتاب الله.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) في ذلك الصراط (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) الهدى عن الضلال.

فقوم يذكرون هم على صراط مستقيم من صراط ربك المستقيم فلهم ما لأصحاب الصراط المستقيم :

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٧) :

(دارُ السَّلامِ) وما أدراك ما هي دار السلام؟ إنها دار يدعوا الله إليها عباده الصالحين السالكين صراطه المستقيم «والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» (١٠ : ٢٥) وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته.

دار تستروح فيها أرواحهم بروح المعرفة والزلفى وروح الطمأنينة العليا ، سلاما طليقا يحلق على كيانهم ككلّ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) عندية الحضور كما يمكن ، ناظرين رحمته ، حاضرين عنايته ، لا تغيب عنهم ولا يغيبون

٢٧٤

عنها (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يلي أمرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولاية بولايتهم لله وحماية بحمايتهم شرعة الله.

ولأن «السلام» اسم من أسماء الله فقد تعني فيما عنت «دار الله السلام» ولكن قد تبعده (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حيث العبارة «لهم دار الله عند الله» أو يقال (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) : الله السلام ، ودار السلام «عند ربهم» لمكان ربوبيته المقتضية لكونه تعالى سلاما ولكون داره سلاما ، «وهو» الرب السلام والسلام الرب (وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ذلك ودارهم في كلّ النشآت الثلاث هي دار السلام مهما كان الأخرى هي أحرى بالسلام ، لأنها خالص السلام دون كالسه كما في الأولى.

ويا للمؤمنين المستقيمين على صراط مستقيم من تشريفات :

١ ـ أن (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) مختصة بهم قضية تقدم الظرف.

٢ ـ وأنها الدار المخصوصة بالسلام : الله ، أو السلامة الطليقة.

٣ ـ و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لمحة لامعة إلى قربهم إليه.

٤ ـ (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) إلى قربه الخاص إليهم برحمته الخاصة.

وذلك (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قلبا وقالبا حيث انقطعوا إلى الله عما سواه ، فما كان رجوعهم إلّا إليه ، ولا توكلهم إلّا عليه ، ولا أنسهم إلّا به ، ولا تخضّعهم إلّا له ، فلما تعلقوا به بكلّ كيانهم لم يتولوا إلّا إياه (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١٢٨) :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) : كلّ العالمين المكلفين ، مخاطبا الثقلين (يا

٢٧٥

مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) فما هو استكثارهم منهم؟ هل هو أنهم أكثر منهم؟ وليس موضع سؤال تنديد فإنه تعالى هو الذي خلقهم قبلهم (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) وهو الذي عمّرهم أكثر منهم! ثم العبارة الصالحة له ليست (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ) إذ لم يكونوا هم الذين أكثروا أنفسهم ، ولا (مِنَ الْإِنْسِ) بل «على الإنس»!.

فإنما استكثارهم استخدامهم كثيرا الإنس عدّة وعدّة وهم كفرة الجن وفسقتهم ، دون المؤمنين منهم فضلا عن مرسليهم ، إذا فالتنديد وارد مورده : أن الجن الضالين استكثروا من إضلال الإنس وكما قال الله : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٧٢ : ٦) إضافة إلى سائر طرق الإضلال الرّهق.

وهنا جواب معشر الجن مسكوت عنه إلى أولياءهم من الإنس : «وقال أولياءهم من الإنس» وهم الذين كانوا يتولونهم في حقل الضلالة : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) : متعة الحياة الضالة ، تعاونا في تلك المتعة اللعينة المعنية من حيونة الحياة ، الخليطة من شهوات الجن والإنس واللهوات.

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) وهو أجل الموت الذي ينقطع به التكليف ، ثم أجل البرزخ قضية (يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الخاصة بيوم الجمع وليس كذلك البرزخ.

إلّا أن البرزخ ليس أجلا في مجال التكليف ، وذلك التساءل يوم الجمع قضية ناره والأجل هو أجل الموت.

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) إخراجا لبعض عنها إلى الجنة إذا ذاق وبال أمره ، وإحراجا لآخرين إدخالا لهم لردح في الزمهرير ، وإفناء للنار مع أهل النار الآبدين ، وكلّ ذلك (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) حيث الحكمة العليمة تقتضي عدم التسوية بين أهل النار حيث هم

٢٧٦

مختلفون في استحقاق النار بين هذا المثلث بمراحل متفاضلة لكلّ ضلع ضليع.

وقد يلمح طليق (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) لإمكانية متعة الجنس ـ وما أشبه ـ بينهما ، إلى سائر المتع المحظورة ، من متع الخدمة والاستخدام والاستعلام في خفايا الأمور ، إلى سائر الشيطنات أعاذنا الله منها.

ذلك وفي رجعة أخرى إلى الآية نرى أن المشهد يبدأ معروضا في المستقبل (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ...) ولكن تقدير «يقول» يحوّل السياق من مستقبل ينتظر إلى واقع ينظر.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ ...) وكأنهم الآن حضور (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) تنديد شديد باستكثارهم في إضلالهم قصدا إلى تسجيل تلكم الجريمة النكراء في نفس الأجل المؤجل لهم.

ثم لا نجد هنا جوابا من الجن حيث المظلّل ليس له عذر ، ولكن قد يخيّل إلى المضلّل عذر ما زعم أنه مستضعف في ذلك الحقل : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ...) إقرار بالغفلة العاطلة والغفوة الباطلة التي جعلت فيهم مجالا لذلك الاستمتاع المزدوج ، مدخلا للشياطين إلى نفوسهم في (أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) فمن منفذ الاستمتاع دخل فيهم الشياطين ، حيث كانوا يتمتعون باستهواءهم والعبث بهم ، كما كان الإنس يتمتع بذلك الاستهواء ، وكأنها معاملة بين الجانبين في مختلف المتع المحظورة حتى (بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) محتوما أو معلقا ، مختوما أو مغلقا.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١٢٩) :

«وكذلك» الاستمتاع المتبادل (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) تولية للظالمين المضلّلين ولاية على الظالمين المضلّلين : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ

٢٧٧

الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٤٣ : ٣٧) ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٤١ : ٢٥).

وتولية للظالمين المضلّلين حيث يتبعون المضلّلين ، تواليا ظالما في هذا البين (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، فمكاسب السوء المغلّظ تجعل الأوّلين يسعون في إضلال الآخرين ، ومكاسب الآخرين في إحناء ظهورهم لركب الشياطين تجعلهم بهم مضلّلين ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) (٢٤ : ١١) ولا يظلمون نقيرا.

ذلك وكما يروى عن النبي (ص) قوله في حقل الولاية : «كما تكونون يولى عليكم» (١).

فالمؤمن ولي المؤمن أيّا كان وأيان ، والكافر ولي الكافر أيّا كان وأيان ، فليس الإيمان بالله بالتمني ولا بالتحلّي ، فلعمري لو عملت بطاعة الله ولم تعرف أهل طاعة الله لم يضرك ، ولو عملت بمعصية الله وتوليت أهل طاعة الله لم ينفعك.

فهنالك الله ولي الصالحين بما صلحوا وأصلحوا ، وهنا الظالمون بعضهم أولياء بعض (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فكلّ ولاية ـ إذا ـ مكسب لأهليها دون فوضى جزاف.

أجل و (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٤٦ ـ اخرج الحاكم في التاريخ والبيهقي في شعب الايمان من طريق يحيى بن هاشم ثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال : قال رسول الله (ص) : ...

٢٧٨

كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وهذه سنة ربانية لا حوّل عنها في الولاية خيّرة وشرّيرة ، إذ لا بد في نجاح الأهداف جماهيرية وفردية من ولاية ، كفاحا قاصدا لتحقيق المرام في أي مرام خيرا أو شرا.

ذلك ، فالحق أحرى بحق الولاية تحقيقا لدولة الحق وتسحيقا لدولة الباطل ، وهو من أهم الواجبات الجماعية لكتلة الإيمان ، سلبا لعرقلة الكفر فإيجابا لدولة الإيمان ، والله هو المستعان.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠) :

آية وحيدة في صراح التعبير عن كيان الرسالة بين معشر الجن والإنس ، يتساءلون فيها يوم الحساب عن إتيان رسل منهم.

ولأن معشر الجن والإنس هما صفتان اثنتان فقضية (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أن يكون رسلهم صنفين اثنين (١) مهما كان أصل الرسالة في الإنس ، اللهم إلّا عند اختتام الوحي بالرسول إلى العالمين أجمعين محمد (ص) حيث انقطع به الوحى (٢) فرسل الجن عنده لا يحملون وحيا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦٨ في عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا (ع) من خبر الشامي وما سأل عنه امير المؤمنين (ع) في جامع الكوفة حديث طويل وفيه سألته هل بعث الله تعالى نبيا إلى الجن؟ فقال : نعم بعث إليهم نبيا يقال له يوسف فدعاهم إلى الله فقتلوه.

(٢) المصدر عن أبي جعفر عليهما السلام قال في حديث طويل : ان الله عزّ وجلّ أرسل محمدا (ص) الى الجن والأنس.

٢٧٩

من الله ، إنما هم ممثّلون للرسول (ص) بين قبيلهم كما تدل عليه آيات الجن والأحقاف : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً). (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٧٢ : ٩) ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٦ : ٣٢) ولقد تكفي العصمة في الداعية لكي يكون أسوة للمدعوين دون اشتراط عصمة الرسالة ، مهما كان لدعاة الجن قبل الرسالة الأخيرة عصمة الرسالة ، فالعصمة للداعية على أية حال هي قاطعة الأعذار.

ف «هو الذي أسكن الدنيا خلقه وبعث إلى الجن والإنس رسله ليكشفوا لهم عن غطاءها وليحذروهم من ضراءها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليبصروهم عيوبها ، ولينهجوا عليهم بمعتبر من تصرف مصائبها وأسقامها وحلالها وحرامها وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة من جنة ونار وكرامة هوان» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦٨ عن نهج البلاغة عن علي امير المؤمنين (ع) ، وفيه ... واصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، ـ

٢٨٠